الذوق والذائقة الجمالية العربية ٠
وجهة نظر نقدية / صالح هشام٠
قبل أن أتطرق إلى موضوع الذائقة الجمالية، أرى أنه من المفيد جدا أن أعرج على التعريف بمفهوم الذائقة: فهي اسم فاعل من الفعل (ذاق ، يذوق ) وهي قوة تمييز طبعية بين طبائع الأشياء وتذوقها، سواء كان ذلك سلبيا أو إيجابيا، سواء تميزت هذه الأشياء بالمرارة أو الحلاوة، بالقبح أو الجمال، ومنه (كل نفس ذائقة الموت) فالذوق- إذن - ليس مقصورا على الجانب الجمالي فقط في هذه الأشياء المتذوقة٠ وهذه القدرة على التمييز لا تقتصر على الإنسان فحسب، وإنما تتعلق بباقي الكائنات الحية الأخرى من طيرأو حيوان، إذ هي بدورها تستسيغ الحسن فتعشقه وتقبل عليه، كالعيس تبالغ في المشي طربا على إيقاع الحادي، والأغنام تبالغ في الرعي مستعذبة شبابة الراعي، لكنها تخاف قرع الشنان فتنفر وتفر منه٠
وقد أسندت الذائقة إلى الجمال على سبيل النسب، إذ تصبح من خلاله جزء من الجمال، على مستوى هذا التركيب، والأولى في اعتقادي أن تسند إلى الجمال على سبيل الفاعلية ( ذائقة الجمال ) فيسند اسم الفاعل إلى مفعوله٠ وأما الجمال فهو كل ما يمكن أن يثير في النفس رعشة القبول والاستحسان، وتحقيق الإدهاش حد الشعور باللذة، وإن يبقى مفهوم الجمال من المفاهيم المعقدة جدا، إذ يرقى إلى مستوى أعلى درجات القيم الإنسانية ( كالحق، والعدل، والحرية، والخير)٠ ولا يقتصر الجمال على المدرك بالحواس الخمسة تذوقا، وإنما كل ما من شأنه خلق لذة الإعجاب والرضى، من أفعال وسلوكات وتصرفات تجاه النفس و الآخر٠ لا أريد أن أنجرف في الحديث عن الجمال بمفهومه الصوفي الذي يرقى إلى الكمال، وإنما سأتطرق إليه كجمال عرضي متبدل، و متغير٠ والمتحكم في الإحساس والشعور به هو تلك الظروف والملابسات اللحظية غير التابثة٠ فما تراه جميلا في وقت من الأوقات قد لا تستسيغه، في أوقات أخرى٠ فمفهومه يبدو نسبيا، وتذوق الجمال هو ذلك الإحساس الجميل، كالشعور بلذة خمرة بدون خمر، أو لذة طرب بدون مطرب ، سواء كان مدركا بالحواس الخمسة: من لمس وشم وبصر و ذوق وسمع وغيرها، فقد يتذوق الجمال المدرك بالعقل كذلك، في المواضيع الفنية والفكرية والسلوكية٠ ومادام الشعور بالجمال، يكاد يكون غريزيا في الكائن الحي، تحكمه هذه القوة والقدرة على التمييز بين القبيح والحسن، بين الجيد والرديء، فإنه يستوجب تهييء البيئة المناسبة التي تساعد على تنمية هذا الذوق والإحساس بالجمال٠
فالذائقة الجمالية مثلها مثل الجمرة التي تكون مشتعلة، لكنها سرعان ما تخبو وتنطفيء، إذا ما كانت بذرة زرعت في بيئة فاسدة، لا تساعد على صقل وتهذيب هذه الذائقة٠ وهذا ما سنراه في محاورهذا الموضوع:
إن الله سبحانه وتعالى خلق الجمال في كل شيء، في كل مظاهر الحياة بدء من تغريد البلبل فوق الفنن، إلى خرير الساقية، وحفيف القش الذي يتلاعب به نسيم الصباح، إلى ظلام الليل وإطلالة القمر، إلى وميض البرق وقعقعة الرعد، فأينما تولي وجهك إلا وتجد الجمال في أبهى تجلياته لا تحده حدود٠ لكن للتفاعل مع هذا الجمال المتجلي في مظاهر الطبيعة والفكرة العلمية، والصورة الشعرية، والايقاع الموسيقي، واللوحة الزيتية، لا بد من تربية الإنسان / المتلقي على هذا الشعور الرائع الذي يبعث الحياة في النفس، والإحساس بجمال هذه المظاهر، وما دامت الذائقة وتذوق الجمال قدرة غريزية تمييزية في الإنسان، فالبيئة المناسبة الخالية نسبيا من الأدران والأمراض الاجتماعية، تساهم بشكل أو بآخر في تنمية هذه الذائقة وصقلها وتدريبها، وإن كانت ذائقة شخصية كبصمات الأصابع لا يمكن أن يشترك فيها اثنان أبدا، فهذا الإحساس بجمال الأشياء من حولنا كفيل بجعل الإنسان قادرا على وضع ذاته في مكانته الإنسانية، وفي أرقى مراتبها العليا التي متعه الله سبحانه وتعالى بها وجعله في أحسن تقويم، إذ يتجاوز ذلك الإحساس الغريزي الذي قد يشترك فيه مع باقي الكائنات الحية الأخرى، في برها وبحرها وسمائها وأرضها، وهذه البيئة المناسبة التي تساعد على تنمية الذائقة الجمالية والشعور والإحساس بكل ما هو جميل، تستوجب احترام كل ما هو جميل في هذا الكون الجميل، وهذا لن يتأتى لنا إلا إذا ربينا النشء على حب الجمال، ورسخنا في ذهنه أن الله سبحانه وتعالى (جميل ويحب الجمال )٠
فمنذ صغر الطفل ونعومة أظافره، نكون ملزمين بتربيته على احترام المحيط الذي يعيش فيه: فيستطيبه ويشعر بجماله، ولعل الإحساس بهذا الجمال يجعله أكثر حرصا وحفاظا عليه، لأنه يحس أنه منه، بدء من البيت إلى المدرسة إلى الشارع٠ فنربي أذنه على أن يطرب لإيقاع خرير الماء، فيحترم النهر، وحفيف الأوراق فيقدس الشجرة، وأن يستطيب رائحة الزهرة في الحديقة، فيحنو عليها ويهتم بها، وهذا -بشكل أو بآخر- سينعكس إيجابا على سلوكاته وتصرفاته وطرق احترامه غيره، فننجح في تكوين الإنسان الذي يحترم الطبيعة، ويتذوق جمالها فيعشقها٠ فنحصنه من الأذى بكل أنواعه لنفسه ولغيره، وكما نربيه على تذوق جمال مظاهر الطبيعة، نربيه كذلك على تذوق واحترام الفكرة، وتذوق جمال الكلمة الراقية بدء من السطر الشعري إلى النتفة إلى القصيدة٠
ولعل التربية على التذوق وتنمية الذائقة الجمالية، تذكي في روحه حب النقد
وإبداء الرأي الحر، والاستقلال بالشخصية، والتفاعل الإيجابي مع كل ما يشعر به من جمال المحسوسات والمعقولات٠ والمقصود بتهييء البيئة المناسبة، يتجلى في التركيز بصفة خاصة على مدرسة فنانة تحب الفن وجميلة تعشق الجمال، وترسخه كمبدأ من مباديء هذا الجيل المتعطش للتربية على القيم العليا، هذا الجيل الذي نمده بأسباب القدرة على التمييز واستساغة الجمال وتذوقه، مدرسة تفكر فيه كإنسان له ما يحب وله ما يكره، لا أن نحشوه بذلك الكم الهائل من المعارف والمعلومات التي سرعان ما يطويها النسيان فلا تترك في نفسه أثرا يذكر٠
ولكن -للأسف- فإن فاقد الشيء لا يعطيه، ففي أغلب المجتمعات العربية نجد أن المدرسة فاقدة لأهلية التربية على الذوق السليم والذائقة الجمالية، ولا أرجع سبب هذا إلى ضعف ذائقة الساهرين على حقل تربية الأجيال، وإنما مرده بالأساس لضعف مقررات مدرسية قررت (بضم القاف) دون أن تهتم بميولات الأجيال الناشئة، هذه المقررات التي تكتفي بممارسة سلطة الحشو والتلقين٠ وهذا لا يمكنه -بأي حال من الأحوال- أن يساعد على تربية الجيل على حب الجمال واحترام مظاهره، أوعلى أن ينمي فيه روح التذوق، في غياب هامش معقول من الحرية الشخصية للطفل في اختياراته واحترام ما يحب وما يتذوق٠ إننا نلمس في أغلب مدارس المجتمعات العربية افتقارا يكاد يكون مطلقا للحوافز والدوافع التي تساعد هذا النشء على تنمية ميولاته الفنية، إذ نكاد نقصي من مقرراتنا الدراسية : التربية الموسيقية، أوالتربية التشكيلية، أوالأنشطة المسرحية وغيرها، وفي أحسن الأحوال إذا اعتمد ذلك فإنه يكون بشكل جد خجول، إذ تعتبر هذه المواد تكميلية أو من الكماليات، دون أن يضع المقرر( بضم الميم ) في ذهنه أن هذه المواد من الحاجيات التي ينتفع بها النشء، شأنها في ذلك شأن الماء والهواء، وشخصية الإنسان تتكامل بماهو مادي وما هوروحي، فلا يعقل تغليب جانب على آخر٠
فهذا الخلل الكبيرعلى مستوى المنظومة التربوية العربية لا يمكنه أن يساهم في صقل ذائقة الجيل الجمالية، والتي تكون أصلا متضعضعة، إن لم نقل منعدمة نظرا لغياب الدعم الأسري، وتفشي الإهمال في الوسط المدرسي الحاضر في التربية، ويتجلى ذلك في الأوساط التقليدية المحافظة التي ما تزال تعتبر الدندنة الموسيقية سوء أدب أوقلة حياء٠ فتكون ميولات الطفل الجمالية تحوم في الأرض وما يلقن له يرفرفرف في السماء، فتعوق هذه التناقضات التربية الصحيحة التي تكون قادرة على تكوين شخصية إنسان سوي فاعل ومتفاعل وعاشق المحيط الذي يعيش فيه٠
فمن خلال هذا النوع من التربية نجهز على اختياراته، ونمارس عليه القمع والتسلط، ونحن نجهل أو نتجاهل أن ( لكل عصر رجاله ) ولكل شخص ذائقته الجمالية الخاصة٠ فلنسلحه بالمباديء والأسس التربوية الأولية ونتركه يبحر في هذا العالم اللامتناهي، يحدد ما يستحسنه وما يرفضه، لكن دون أن نهمل المراقبة التربوية الصارمة٠
فالتربية التي لا تنبني على أسس ميولات الطفل الذوقية مع توفير هامش الحرية التي تمكنه من التفاعل الإيجابي مع محيطه، لا يمكن أن ننتظر منها المساهمة في تربية الذوق والذائقة الجمالية لهذا الجيل الذي أصبحت تربيته تخضع للسرعة و المكننة الآلية لا أقل ولا أكثر٠يقول أحد الحكماء: للجمال مصدران،المرأة والطبيعة٠ ففي الطبيعة تتجلى كل مظاهر الجمال، التي تشعرالمتلقي المتذوق بلذة جمالها، وقد لا تكون له يد في ذلك، والمرأة رمز لجمال خلق الله سبحانه وتعالى في مخلوقه الذي فضله عن سائر الكائنات، وقلده زمام أمور الدين والدنيا، وجعله خليفة له في الأرض، وأنزله منزلة كرامة وعزة، لا منزلة مذلة وعقاب كما يعتقد البعض، لكن لا بد من التساؤل : ما هي انعكاسات الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية على مجتمعاتنا العربية في الوقت الراهن؟ وما هو تأثير هذا الواقع العربي المثخن بالجراح على التربية الذوقية بصفة خاصة؟
إن مجتمعاتنا العربية وبدون استثناء، تمر بظروف تاريخية عصيبة جدا منذ فترة طويلة، فهي تعاني من ويلات الحروب، والتشتت والتشرذم، وتحت وطأة هذه الظروف القاسية دمر هذان المصدران للجمال، فالطبيعة تحترق، وتتشظى مظاهر جمالها تحت رحمة وابل القنابل العنقودية، وأزيز الطائرات، وزمجرة الدبابات، والمرأة رمز جمال الإنسان، تتشظى أشلاء في كل لحظة وحين، تحت سقف بيتها، فهذا الوضع سيساهم -حتما- بشكل كبير في إقبارالذائقة الجمالية، وقتل الشعور بالجمال في نفس هذا الإنسان العربي صغيره وكبيره، شيبه وشبابه، فكيف ننتظر من طفل صغير تساوى عنده الدم بجرعة الماء، أن يحس بجمال الشجرة، والقذيفة الطائشة تقتلعها من الجذور؟ كيف لهذا الطفل وحتى هذا الكبير أن يتذوق حلاوة الحياة ومنزله ينهد فوق رأسه في كل لحظة وحين، فيرى أجساد أبنائه الممزقة يمتصها غبار منزله المنهار، وهو نفسه يشعر بأنه مشروع قبر مجهول آجلا أو عاجلا، فالذي يصارع من أجل البقاء على قيد الحياة، قد تموت فيه الذائقة الفنية و يخنق في نفسه التذوق الجمالي للأشياء من حوله، فكسرة خبزه تفقد طعمها، وإن كانت تملأ معدته، وتحفظه من الموت جوعا إلى حين٠
هذا – في نظري - واقع الذائقة الجمالية عند الإنسان العربي، الذي أصبح مجبرا على تصنع هذه الذائقة، وممارسة نفاق تذوقي للجمال في كل شيء، وحتى في حياته الأسرية٠ فالذي يقطر قلبه دما لا يمكن أبدا أن تقطر شفتاه عسلا، فهذا الواقع الآسن يدمر إنسانية الإنسان، ويشيؤه شيئا بلا قيمة تذكر، فيحول فيه الشعور بالجمال رغبة أكيدة في موت سريع، يتوخى منه الخلاص من كابوس تتساوي فيه ألوان قوس قزح في بؤبؤ عينيه، ويختلط عليه صراخ الصغير بولولة أمه٠ فهذا الإنسان العربي المغلوب على أمره، تصبح ذائقته الجمالية - بهذا المفهوم- من الكماليات، ومن المفاهيم المتجاوزة، لا من الحاجيات التي ينتفع بها، لأنه فقد خاصية من خصائصه الإنسانية التي تميزه على الحيوان، ألا وهي خاصية الذوق والذائقة، والإحساس بجمال الحياة وروعة الطبيعة، وجلال الملكوت اللامتناهي٠
لكن ربما يمكنه أن يتذوق ملوحة البحر، وسيتذوق سمك القرش ملوحة لحمه، وهو في تغريبته الهلالية هروبا من موت مفترض، إلى موت محتوم، تستوي فيه صفحة الماء فوق رأسه ورؤوس صغاره٠
فالإنسان كما هو معروف ابن بيئته تؤثر فيه ويؤثر فيها، وتتحكم في كل مقوماته النفسية، وذائقته الجمالية ليست بمنأى عن هذا التأثير والتأثر، سواء كان سلبيا أو إيجابيا، وهو في هذا العالم الذي يغلي كالمرجل على صفيح ساخن، تتشظى الذائقة الجمالية، وتخرج عن طوع هذا الإنسان التائه في يم من الضجيج، الذي يفقد كل الأشياء طعمها، فيمارس - مجبرا لا مخيرا- التكلف والتصنع في ممارسة نفاق التذوق الجمالي٠
وقد تنعدم أسباب الذائقة الجمالية في هذه البيئة التي تكاد تكسرالرقبة بسرعتها وصخبها وضجيجها، فيتظاهر بهذه الخاصية التي أصبحنا نفتقدها، حيث تساوى كل شيء، وفقد الجمال جمال بريقه، فلم يعد لنا الوقت الكافي لتذوق جمال ما يحيط بنا، فتتكسر الذائقة الجمالية على محراب هذا الضجيج والصخب، وعلى أنقاضها تظهر ذائقة جمالية لا ذائقة لها، ذائقة مزيفة توحي بواقع مزيف في كل مظاهره وسلوكات أفراده، فهذه المرأة لم تعد مصدرا من مصادر الجمال، فقد تم تشييئها، وأصبحت تملأ الإعلانات الإشهارية المنشورة على قارعة الطريق، وتجوب صورها -عارية أو شبه عارية - القنوات الفضائية العالمية باسم روح العصر والحداثة، فيضيع تأثير جمالها في النفس، ويفقد إنسان العصر الحديث الإحساس بجمالها، كما يفقد الإحساس والشعور بجمال مظاهر الطبيعة من حوله، والتي فقدت -بدورها- كل مقوماتها الجمالية، ورتابة طلوع الشمس -حتما- تحطم الإدهاش والغرابة، وتقتل الشعور بلذة الرؤية٠
الاثنين ٢٨نونبر ٢٠١٦
وجهة نظر نقدية / صالح هشام٠
قبل أن أتطرق إلى موضوع الذائقة الجمالية، أرى أنه من المفيد جدا أن أعرج على التعريف بمفهوم الذائقة: فهي اسم فاعل من الفعل (ذاق ، يذوق ) وهي قوة تمييز طبعية بين طبائع الأشياء وتذوقها، سواء كان ذلك سلبيا أو إيجابيا، سواء تميزت هذه الأشياء بالمرارة أو الحلاوة، بالقبح أو الجمال، ومنه (كل نفس ذائقة الموت) فالذوق- إذن - ليس مقصورا على الجانب الجمالي فقط في هذه الأشياء المتذوقة٠ وهذه القدرة على التمييز لا تقتصر على الإنسان فحسب، وإنما تتعلق بباقي الكائنات الحية الأخرى من طيرأو حيوان، إذ هي بدورها تستسيغ الحسن فتعشقه وتقبل عليه، كالعيس تبالغ في المشي طربا على إيقاع الحادي، والأغنام تبالغ في الرعي مستعذبة شبابة الراعي، لكنها تخاف قرع الشنان فتنفر وتفر منه٠
وقد أسندت الذائقة إلى الجمال على سبيل النسب، إذ تصبح من خلاله جزء من الجمال، على مستوى هذا التركيب، والأولى في اعتقادي أن تسند إلى الجمال على سبيل الفاعلية ( ذائقة الجمال ) فيسند اسم الفاعل إلى مفعوله٠ وأما الجمال فهو كل ما يمكن أن يثير في النفس رعشة القبول والاستحسان، وتحقيق الإدهاش حد الشعور باللذة، وإن يبقى مفهوم الجمال من المفاهيم المعقدة جدا، إذ يرقى إلى مستوى أعلى درجات القيم الإنسانية ( كالحق، والعدل، والحرية، والخير)٠ ولا يقتصر الجمال على المدرك بالحواس الخمسة تذوقا، وإنما كل ما من شأنه خلق لذة الإعجاب والرضى، من أفعال وسلوكات وتصرفات تجاه النفس و الآخر٠ لا أريد أن أنجرف في الحديث عن الجمال بمفهومه الصوفي الذي يرقى إلى الكمال، وإنما سأتطرق إليه كجمال عرضي متبدل، و متغير٠ والمتحكم في الإحساس والشعور به هو تلك الظروف والملابسات اللحظية غير التابثة٠ فما تراه جميلا في وقت من الأوقات قد لا تستسيغه، في أوقات أخرى٠ فمفهومه يبدو نسبيا، وتذوق الجمال هو ذلك الإحساس الجميل، كالشعور بلذة خمرة بدون خمر، أو لذة طرب بدون مطرب ، سواء كان مدركا بالحواس الخمسة: من لمس وشم وبصر و ذوق وسمع وغيرها، فقد يتذوق الجمال المدرك بالعقل كذلك، في المواضيع الفنية والفكرية والسلوكية٠ ومادام الشعور بالجمال، يكاد يكون غريزيا في الكائن الحي، تحكمه هذه القوة والقدرة على التمييز بين القبيح والحسن، بين الجيد والرديء، فإنه يستوجب تهييء البيئة المناسبة التي تساعد على تنمية هذا الذوق والإحساس بالجمال٠
فالذائقة الجمالية مثلها مثل الجمرة التي تكون مشتعلة، لكنها سرعان ما تخبو وتنطفيء، إذا ما كانت بذرة زرعت في بيئة فاسدة، لا تساعد على صقل وتهذيب هذه الذائقة٠ وهذا ما سنراه في محاورهذا الموضوع:
إن الله سبحانه وتعالى خلق الجمال في كل شيء، في كل مظاهر الحياة بدء من تغريد البلبل فوق الفنن، إلى خرير الساقية، وحفيف القش الذي يتلاعب به نسيم الصباح، إلى ظلام الليل وإطلالة القمر، إلى وميض البرق وقعقعة الرعد، فأينما تولي وجهك إلا وتجد الجمال في أبهى تجلياته لا تحده حدود٠ لكن للتفاعل مع هذا الجمال المتجلي في مظاهر الطبيعة والفكرة العلمية، والصورة الشعرية، والايقاع الموسيقي، واللوحة الزيتية، لا بد من تربية الإنسان / المتلقي على هذا الشعور الرائع الذي يبعث الحياة في النفس، والإحساس بجمال هذه المظاهر، وما دامت الذائقة وتذوق الجمال قدرة غريزية تمييزية في الإنسان، فالبيئة المناسبة الخالية نسبيا من الأدران والأمراض الاجتماعية، تساهم بشكل أو بآخر في تنمية هذه الذائقة وصقلها وتدريبها، وإن كانت ذائقة شخصية كبصمات الأصابع لا يمكن أن يشترك فيها اثنان أبدا، فهذا الإحساس بجمال الأشياء من حولنا كفيل بجعل الإنسان قادرا على وضع ذاته في مكانته الإنسانية، وفي أرقى مراتبها العليا التي متعه الله سبحانه وتعالى بها وجعله في أحسن تقويم، إذ يتجاوز ذلك الإحساس الغريزي الذي قد يشترك فيه مع باقي الكائنات الحية الأخرى، في برها وبحرها وسمائها وأرضها، وهذه البيئة المناسبة التي تساعد على تنمية الذائقة الجمالية والشعور والإحساس بكل ما هو جميل، تستوجب احترام كل ما هو جميل في هذا الكون الجميل، وهذا لن يتأتى لنا إلا إذا ربينا النشء على حب الجمال، ورسخنا في ذهنه أن الله سبحانه وتعالى (جميل ويحب الجمال )٠
فمنذ صغر الطفل ونعومة أظافره، نكون ملزمين بتربيته على احترام المحيط الذي يعيش فيه: فيستطيبه ويشعر بجماله، ولعل الإحساس بهذا الجمال يجعله أكثر حرصا وحفاظا عليه، لأنه يحس أنه منه، بدء من البيت إلى المدرسة إلى الشارع٠ فنربي أذنه على أن يطرب لإيقاع خرير الماء، فيحترم النهر، وحفيف الأوراق فيقدس الشجرة، وأن يستطيب رائحة الزهرة في الحديقة، فيحنو عليها ويهتم بها، وهذا -بشكل أو بآخر- سينعكس إيجابا على سلوكاته وتصرفاته وطرق احترامه غيره، فننجح في تكوين الإنسان الذي يحترم الطبيعة، ويتذوق جمالها فيعشقها٠ فنحصنه من الأذى بكل أنواعه لنفسه ولغيره، وكما نربيه على تذوق جمال مظاهر الطبيعة، نربيه كذلك على تذوق واحترام الفكرة، وتذوق جمال الكلمة الراقية بدء من السطر الشعري إلى النتفة إلى القصيدة٠
ولعل التربية على التذوق وتنمية الذائقة الجمالية، تذكي في روحه حب النقد
وإبداء الرأي الحر، والاستقلال بالشخصية، والتفاعل الإيجابي مع كل ما يشعر به من جمال المحسوسات والمعقولات٠ والمقصود بتهييء البيئة المناسبة، يتجلى في التركيز بصفة خاصة على مدرسة فنانة تحب الفن وجميلة تعشق الجمال، وترسخه كمبدأ من مباديء هذا الجيل المتعطش للتربية على القيم العليا، هذا الجيل الذي نمده بأسباب القدرة على التمييز واستساغة الجمال وتذوقه، مدرسة تفكر فيه كإنسان له ما يحب وله ما يكره، لا أن نحشوه بذلك الكم الهائل من المعارف والمعلومات التي سرعان ما يطويها النسيان فلا تترك في نفسه أثرا يذكر٠
ولكن -للأسف- فإن فاقد الشيء لا يعطيه، ففي أغلب المجتمعات العربية نجد أن المدرسة فاقدة لأهلية التربية على الذوق السليم والذائقة الجمالية، ولا أرجع سبب هذا إلى ضعف ذائقة الساهرين على حقل تربية الأجيال، وإنما مرده بالأساس لضعف مقررات مدرسية قررت (بضم القاف) دون أن تهتم بميولات الأجيال الناشئة، هذه المقررات التي تكتفي بممارسة سلطة الحشو والتلقين٠ وهذا لا يمكنه -بأي حال من الأحوال- أن يساعد على تربية الجيل على حب الجمال واحترام مظاهره، أوعلى أن ينمي فيه روح التذوق، في غياب هامش معقول من الحرية الشخصية للطفل في اختياراته واحترام ما يحب وما يتذوق٠ إننا نلمس في أغلب مدارس المجتمعات العربية افتقارا يكاد يكون مطلقا للحوافز والدوافع التي تساعد هذا النشء على تنمية ميولاته الفنية، إذ نكاد نقصي من مقرراتنا الدراسية : التربية الموسيقية، أوالتربية التشكيلية، أوالأنشطة المسرحية وغيرها، وفي أحسن الأحوال إذا اعتمد ذلك فإنه يكون بشكل جد خجول، إذ تعتبر هذه المواد تكميلية أو من الكماليات، دون أن يضع المقرر( بضم الميم ) في ذهنه أن هذه المواد من الحاجيات التي ينتفع بها النشء، شأنها في ذلك شأن الماء والهواء، وشخصية الإنسان تتكامل بماهو مادي وما هوروحي، فلا يعقل تغليب جانب على آخر٠
فهذا الخلل الكبيرعلى مستوى المنظومة التربوية العربية لا يمكنه أن يساهم في صقل ذائقة الجيل الجمالية، والتي تكون أصلا متضعضعة، إن لم نقل منعدمة نظرا لغياب الدعم الأسري، وتفشي الإهمال في الوسط المدرسي الحاضر في التربية، ويتجلى ذلك في الأوساط التقليدية المحافظة التي ما تزال تعتبر الدندنة الموسيقية سوء أدب أوقلة حياء٠ فتكون ميولات الطفل الجمالية تحوم في الأرض وما يلقن له يرفرفرف في السماء، فتعوق هذه التناقضات التربية الصحيحة التي تكون قادرة على تكوين شخصية إنسان سوي فاعل ومتفاعل وعاشق المحيط الذي يعيش فيه٠
فمن خلال هذا النوع من التربية نجهز على اختياراته، ونمارس عليه القمع والتسلط، ونحن نجهل أو نتجاهل أن ( لكل عصر رجاله ) ولكل شخص ذائقته الجمالية الخاصة٠ فلنسلحه بالمباديء والأسس التربوية الأولية ونتركه يبحر في هذا العالم اللامتناهي، يحدد ما يستحسنه وما يرفضه، لكن دون أن نهمل المراقبة التربوية الصارمة٠
فالتربية التي لا تنبني على أسس ميولات الطفل الذوقية مع توفير هامش الحرية التي تمكنه من التفاعل الإيجابي مع محيطه، لا يمكن أن ننتظر منها المساهمة في تربية الذوق والذائقة الجمالية لهذا الجيل الذي أصبحت تربيته تخضع للسرعة و المكننة الآلية لا أقل ولا أكثر٠يقول أحد الحكماء: للجمال مصدران،المرأة والطبيعة٠ ففي الطبيعة تتجلى كل مظاهر الجمال، التي تشعرالمتلقي المتذوق بلذة جمالها، وقد لا تكون له يد في ذلك، والمرأة رمز لجمال خلق الله سبحانه وتعالى في مخلوقه الذي فضله عن سائر الكائنات، وقلده زمام أمور الدين والدنيا، وجعله خليفة له في الأرض، وأنزله منزلة كرامة وعزة، لا منزلة مذلة وعقاب كما يعتقد البعض، لكن لا بد من التساؤل : ما هي انعكاسات الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية على مجتمعاتنا العربية في الوقت الراهن؟ وما هو تأثير هذا الواقع العربي المثخن بالجراح على التربية الذوقية بصفة خاصة؟
إن مجتمعاتنا العربية وبدون استثناء، تمر بظروف تاريخية عصيبة جدا منذ فترة طويلة، فهي تعاني من ويلات الحروب، والتشتت والتشرذم، وتحت وطأة هذه الظروف القاسية دمر هذان المصدران للجمال، فالطبيعة تحترق، وتتشظى مظاهر جمالها تحت رحمة وابل القنابل العنقودية، وأزيز الطائرات، وزمجرة الدبابات، والمرأة رمز جمال الإنسان، تتشظى أشلاء في كل لحظة وحين، تحت سقف بيتها، فهذا الوضع سيساهم -حتما- بشكل كبير في إقبارالذائقة الجمالية، وقتل الشعور بالجمال في نفس هذا الإنسان العربي صغيره وكبيره، شيبه وشبابه، فكيف ننتظر من طفل صغير تساوى عنده الدم بجرعة الماء، أن يحس بجمال الشجرة، والقذيفة الطائشة تقتلعها من الجذور؟ كيف لهذا الطفل وحتى هذا الكبير أن يتذوق حلاوة الحياة ومنزله ينهد فوق رأسه في كل لحظة وحين، فيرى أجساد أبنائه الممزقة يمتصها غبار منزله المنهار، وهو نفسه يشعر بأنه مشروع قبر مجهول آجلا أو عاجلا، فالذي يصارع من أجل البقاء على قيد الحياة، قد تموت فيه الذائقة الفنية و يخنق في نفسه التذوق الجمالي للأشياء من حوله، فكسرة خبزه تفقد طعمها، وإن كانت تملأ معدته، وتحفظه من الموت جوعا إلى حين٠
هذا – في نظري - واقع الذائقة الجمالية عند الإنسان العربي، الذي أصبح مجبرا على تصنع هذه الذائقة، وممارسة نفاق تذوقي للجمال في كل شيء، وحتى في حياته الأسرية٠ فالذي يقطر قلبه دما لا يمكن أبدا أن تقطر شفتاه عسلا، فهذا الواقع الآسن يدمر إنسانية الإنسان، ويشيؤه شيئا بلا قيمة تذكر، فيحول فيه الشعور بالجمال رغبة أكيدة في موت سريع، يتوخى منه الخلاص من كابوس تتساوي فيه ألوان قوس قزح في بؤبؤ عينيه، ويختلط عليه صراخ الصغير بولولة أمه٠ فهذا الإنسان العربي المغلوب على أمره، تصبح ذائقته الجمالية - بهذا المفهوم- من الكماليات، ومن المفاهيم المتجاوزة، لا من الحاجيات التي ينتفع بها، لأنه فقد خاصية من خصائصه الإنسانية التي تميزه على الحيوان، ألا وهي خاصية الذوق والذائقة، والإحساس بجمال الحياة وروعة الطبيعة، وجلال الملكوت اللامتناهي٠
لكن ربما يمكنه أن يتذوق ملوحة البحر، وسيتذوق سمك القرش ملوحة لحمه، وهو في تغريبته الهلالية هروبا من موت مفترض، إلى موت محتوم، تستوي فيه صفحة الماء فوق رأسه ورؤوس صغاره٠
فالإنسان كما هو معروف ابن بيئته تؤثر فيه ويؤثر فيها، وتتحكم في كل مقوماته النفسية، وذائقته الجمالية ليست بمنأى عن هذا التأثير والتأثر، سواء كان سلبيا أو إيجابيا، وهو في هذا العالم الذي يغلي كالمرجل على صفيح ساخن، تتشظى الذائقة الجمالية، وتخرج عن طوع هذا الإنسان التائه في يم من الضجيج، الذي يفقد كل الأشياء طعمها، فيمارس - مجبرا لا مخيرا- التكلف والتصنع في ممارسة نفاق التذوق الجمالي٠
وقد تنعدم أسباب الذائقة الجمالية في هذه البيئة التي تكاد تكسرالرقبة بسرعتها وصخبها وضجيجها، فيتظاهر بهذه الخاصية التي أصبحنا نفتقدها، حيث تساوى كل شيء، وفقد الجمال جمال بريقه، فلم يعد لنا الوقت الكافي لتذوق جمال ما يحيط بنا، فتتكسر الذائقة الجمالية على محراب هذا الضجيج والصخب، وعلى أنقاضها تظهر ذائقة جمالية لا ذائقة لها، ذائقة مزيفة توحي بواقع مزيف في كل مظاهره وسلوكات أفراده، فهذه المرأة لم تعد مصدرا من مصادر الجمال، فقد تم تشييئها، وأصبحت تملأ الإعلانات الإشهارية المنشورة على قارعة الطريق، وتجوب صورها -عارية أو شبه عارية - القنوات الفضائية العالمية باسم روح العصر والحداثة، فيضيع تأثير جمالها في النفس، ويفقد إنسان العصر الحديث الإحساس بجمالها، كما يفقد الإحساس والشعور بجمال مظاهر الطبيعة من حوله، والتي فقدت -بدورها- كل مقوماتها الجمالية، ورتابة طلوع الشمس -حتما- تحطم الإدهاش والغرابة، وتقتل الشعور بلذة الرؤية٠
الاثنين ٢٨نونبر ٢٠١٦
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق