قصة قصيرة
[ ليلة بائسة ]
تحوّل البيت الى موحشاتٍ من الذكريات ،يستنطق أركانهُ الصامتة مستصرخاً فلا تجيبهُ غير دموعٍ محترقة تستحيلُ الى رمادٍ من الشوق ، الأمنيات تصبح ضالةً حين الطرقات لا تؤدي اليها لتتركَ ,وجعاً داخل النفس يتفاقم مع تقادم الايام. وحيدٌ والبيت كان مليئاً بحضورها،بعيونها ، ببسمتها،بصوتها حين تناديه زماناً:
-مصطفى
-نعم ماجدة
-متى مناقشة الرسالة ؟
-هذه الايام ان شاء الله
قبل عشرة اعوام تخرّجا من كلية العلوم،كان مصطفى الاول على دفعته،عُيّن معيداً في كليته، يحصل بعدها على شهادة الماجستير ،جرتْ الامور مثلما خطّطا لها ومشروع عمرهما المشترك تهيّأت له جميع الظروف لإقامته بعد مراحل الحب الكبيرة التي أسّسا لها وعاشاهاوكأنهما صنعا لحبّهما مساراً اخترق كلّ المصدّات والمعوّقات،ويعتقد المتتبّع لهما بأنهما امتلكا الحبّ بعقليهما ،ربما لأنهما على يسرٍ من الحال او أنّ المشتركات بينهما على قدرٍ كبيرمن التكافؤ يراها البعض كما معادلة فيزياوية تساوى طرفاها دون حاجة الى عوامل مساعدة لتنشيطها.
حين يكونا معاً تزدحم مشاعر الودّ بينهما لتصل اعلى درجات مراتبها ،وهو لا يرهقها بحديث دراسته.
برنامج متكامل في علاقتهما حتى توّجت بزواج يتحدّث عنه الاخرون نموذجاً ناجحاً.
مع احتفالهما لاطفاء شمعته الاولى توقد بينهما عيون ابنتهما "نهى" شمعة اخرى بولادتها
لم ينسَ مصطفى يوماً طموحه بنيل الدكتوراه ليكتمل نصاب حياته الزاخرة بالمنجزات.
يعاود مصطفى الحديث مع زوجته:
-كنتِ الى جانبي وشكراً أجدها قليلة بحقّك
-ومن أكون بغيركَ
في احد الصباحات يركن مصطفى سيارته مترجّلاً لشراء هدية عيد ميلاد ابنته فيدخل سوقاً مكتضّةً بهكذا حاجيات وهو مزدحم بالمتبضّعين والجميع منشغلٌ يفتّش عن ما يريد اقتناءه.وليت تلك المقتنيات تعرف من لايشتريها وجاء للعبث فيها فتنطق عن بعدٍ لتردّ الايادي المدنّسة بخرابها ، ليتها استصرخت لتسمع السماء صرختها حين صاح أحدهم:
-الله اكبر....الله اكبر
اختلطت الاجساد مع لحظات الانفجار بلعب الاطفال وهدايا الميلاد،غيمة سوداء من الدخان تملأ المكان تخترقها ألسنة النار،أنفاسٌ وأنّاتٌ لأحياء يلوّحون بأيديهم للمسعفين،أرجلٌ،رؤوسٌ،أيادٍ لايستدلّ على اصحابها ،دماءٌ حوّلت الاسفلت الاسود الى ساحة حمراء ،صراخات تستغيث من آلامها ،هرع وفزع يبدّدهُ المنقذون وهم يحملون المروءة على اكتافهم مخترقين ساحة الموت من أجل حياة الاخرين .
حين استيقظ مصطفى من التخدير متلمّساً جسدهُ الجديد وقعت عيناه على عيني زوجته والدموع تملؤهما راح يسألها:
-ها ماجدة!! هذه دموعكِ حزناً أم فرحاً؟
-طبعاً مصطفى هي للفرح بسلامتكِ
-كيف للفرح وأنا الآن بلا قدمٍ ولا ساق
-أنا معكَ ولن أتركك
-وهل أتكىء على كتفيكِ ماذا تقولين ؟
يغادر مصطفى المستشفى والى جانبه زوجته قاصدين منزلهما وهذه المرّة عليه اجتياز عتبة الباب ب"عكّازه" بعدما فقد قدمه اليمنى وكأنّه مكروهٌ عليه الدخول بقدمه اليسرى .أثناء رقوده في المستشفى وبعد اجراء العملية دار حديث بينه وبين الطبيب الذي اجراها له :
-دكتور نحن رجال وأودّكَ تجيبني
-تفضل دكتور مصطفى
-أجدَ نفسي بكامل قواي ونشاطي كرجل
-نعم دكتور ما جرى ليس له تأثير على نشاطكَ الجنسي وخوفاً من تفاقم الكنكرين " Gangerene"
-وكيف لفارس أن يمتطي جواده وهو عاجز عن ركوبه وأنا اليوم حتى عند قضاء حاجتي في الحمام ألجأ الى المقعد الغربي وبصعوبة كبيرة أقضيها
-لا تتشاءم دكتور وهل تريد الوسامة حتى عند معاشرة زوجتكَ
-أجدني نصف رجل بمشاعر ملتهبة ورغبة كبيرة ونشاط متّقد وأعصاب قوية ولكن وسائل تحقيقها غير ممكنة ومستحيلة ،فأنا نصف ميّتٍ ونصف حيّ.
صار الوقت بالنسبة لمصطفى لا يعني شيئاً ومعظمه يقضيه امام التلفاز او امام حاسوبه الشخصي ،الساعات تمرُّ رتيبة مملّة وزوجته مشغولة بدوامها الوظيفي نهاراً ومساءً مع متطلبات بيتها وابنتها فزوجها نادراً ما يطلب منها خدمة او مساعدة وكأنّ أقرب من ينادي عليه هو عكازه المعدني،اعتاد الجلوس والمكوث طويلاً في غرفة الضيوف وحين يداهمه النعاس يلجأ الى غرفة النوم دون ايقاظ ماجدة التي تستغرق في نومها قبل منتصف الليل.
جميع المشاوير خارج المنزل تنجزها ماجدة بمفردها ومن الصعب أن يرافقها مصطفى فلا هو قادرٌ على قيادة السيارة ولا على الجلوس الى جانبها فهذا يرهقه جداً ويرهقها أيضاً،وحتى وظيفته انقطع عنها متقاعداً بعدما استحال عليه تحرّكه امام الطلاب في قاعة كبيرة كما تعذّر عليه أن يكتب بيده اليمنى وهي تتّكىء على العكاز وربما لو كان ما فقده في يسراه لهان الأمر قليلاً.
تراكمت الهموم على مصطفى وتعدّدت اسبابها ومناشئها ،يطيّب خاطره على بلواه صديق عمره الذي لم يتوفّق في دراسته بعد حصوله على دبلوم الميكانيك لكنّ مصطفى بقي وفيّاً ومتمسّكاً بصداقته وأغلب قراراته يعود قبل إتّخاذها لصديقه وكثيراً ما يطلق عليه "الحكيم" ، زاره هذا الصديق ليطمئنّ عليه ومحدّثاً إيّاه على انفراد قائلاً:
-كيف أصبحت أخي مصطفى ؟
-أصبحتُ غريباً مهاناً ذليلاً مكسوراً محبطاً
-أما دعتكَ أليها لحدّ الآن؟
-وهل يدعى من لا يجيب؟
-وأنتَ ألم تطلب منها ذلك لأنّ المرأة تحبّ دائما من يدعوها وهذه من طبيعتها التكوينية والنفسية
-لكنها كانت تدعوني في احيان كثيرة قبل الحادثة
-مصطفى لا تتعبني معكَ جرّب هذه الليلة وتذكّر أنّ حياة الزوجية لا حياء فيها حين يلتقي الجسدان ولا نرجسية او مكابرة حين توحّدهما ولا خجل في المباحات أصلاً.
مصطفى يدرك جيداً أنّ صديقه ناصحٌ ولقد خبر الحياة جيدا واستوعب الى حدٍّ كبيرٍ متناقضاتها ومتضادّاتها وهومثقف موسوعي في معظم المجالات وما تمكّن اخفاقه الدراسي من أنْ يحبط فيه نفساً كبيرةً تسعى لكمال الاشياء قدرما يستطيع وهو يشعر بما عليه صديقه من وجعٍ كبير .
يخلع مصطفى في تلك الليلة أردية التردّد والمخاوف ،يقترب شيئاً فشيئاً،يمدُّ يدهُ،يلمسُ جسدها البارد ،يقلّبُ شعرها الداكن ،يشمّهُ،يقترب أكثر ليطبقَ شفتيه على شفتيها ،يلثمها تقبيلاً طويلاً لكنها لا ترجع اليه ما استودع عند ثغرها بحرارتها المعهودة لديه ،واذا فرغ وأعاد محاولاته مرات اخرى وجدها أشدّ برودة من سابقاتها ،وامتثالاً لرغبته الشديدة وتهيّج أعضائه يبدأ بالتحرّك على السرير على يديه زاحفاً ولكنه ما تمكّن من امتطاء شهوته الجامحة ليستحيل الوصول الى مبتغاه فتعود جميع اسلحته المهاجمة خاسرةً بعد أن خذلها الطريق.كميّات هائلة من الاعصاب الملتهبة والرغبات بقيت في خزائنها ،عادت خائبة فلا أحدٌ يأخذُ بيدها كما غريق تحت كمّه درر البحر ولكن لا يدٌ تمتدُّ لهُ لتنتشله.
كيف للطبائع أن تتغيّر ثوابتها والاخلاق تتبدّل مع ظروف اشخاصها ،متى قيم الوفاء والتضحية نظهرها ؟هل في ترف الحياة أم في مصائبها وعسرها ؟ هل يمكن أن نتوهّم كثيراً بمن عشنا معهم عمراً وشاركونا زماناً افراحنا ؟اذا خذلتنا اقدارنا فهل تلك دواعٍ كافية ليخذلنا المقرّبون من اهلنا ؟أيّة مرحمةٍ ترتجى من اللئام والبخلاء بعدما منحناهم خير ما عندنا وفقدنا من أجلهم زهرة العمر ؟أننتظر من الذي مال عنّا ولا ينظرنا أن نمعن النظر في عيونه الجاحدة ؟.
بعد تلك الليلة البائسة مع زوجته يستجمع مصطفى كلّ افكاره المشتّتة ليكوّن رؤية واضحة ومتكاملة توصله الى قناعة كاملة وفي احد المساءات يخاطب زوجته:
-لو سمحتِ هناك موضوع مهم عليكِ سماعه
-تفضّل اسمعكَ
-اليوم ستنالين حريتكِ ويفكُّ قيدكِ وربما أنال حرّيتي أيضاً
-وهل نحن سجينان ؟ ماذا تقصد ؟
-ماجدة أنتِ طالق ...طالق...طا.........لق
-نعم ماذا؟
-قلتها ثلاثاً والرابعة او العاشرة لا تعني شيئاً
انقضى ذلك المساء منذ عام وخاتمته الفراق ،ومصطفى مازال يتنقّل وحيداً في بيته ومعه عكازه الوفي الذي لايفارقه حتى يسمع طرقاتٍ على الباب دون انتظارٍ منهُ لأحدٍ فصديقه عوّدهُ أن يتّصل به قبل قدومه فمن يا ترى يطرق هذا المساء.القادمون كانوا ثلاثاً يحملون دهشة وذهولاً ألقتْ بظلالها على ملامح مصطفى لكن صديقه حاول أن يجد مدخلاً للمشهد المربك والشائك جداً قائلاً:
-كيف حالك مصطفى ؟
-الحمد لله احمد
-كلّنا نخطأ وخيرنا من يسامح
-ماذا هناك احمد ؟
-هذه ابنتكَ نهى وهذه ماجدة تعرفها
-نعم كنتَ اعرفها
-هي أخطأت
-وأنا لم أخطىْ
-كأنّكَ اصبحتَ قاسي القلب
-اخبرني احمد ماذا هناك بالضبط ؟
-ماجدة مصابة بالسرطان ولا أحدٌ تبقّى لها ولا لنهى يرعاها
-ماذا تقول ؟ متى حصل لكِ حبيبتي ماجدة ؟
تعود ماجدة معزّزة الى بيتها دون أن يخدش زوجها كبريائها وقبل ذلك كان صديقه الكبير يحاوره وهما منفردان لا يسمعهما أحدٌ:
-مصطفى
-نعم احمد
-انا أعلم أنّ كذبة السرطان لم تنطلِ عليك ولم تصدّقها ولكنّكَ فقط لتبيّنَ لماجدة أنّكَ صدّقتها حتى لا تشعرها بالمذلّة والهزيمة امامكَ ولكي تبقى مكانتها مترفّعة ومقامها عالٍ في نظركَ وهذه اجدها رجولةً حقيقية تفوّقت كثيراً على مأساة تلك الليلة البائسة
-احمد انتَ فيلسوف ولا أقدرُ عليك ولكن ما لقيته عندي فلأنّي أحبّ ماجدة بصدق .
[ ليلة بائسة ]
تحوّل البيت الى موحشاتٍ من الذكريات ،يستنطق أركانهُ الصامتة مستصرخاً فلا تجيبهُ غير دموعٍ محترقة تستحيلُ الى رمادٍ من الشوق ، الأمنيات تصبح ضالةً حين الطرقات لا تؤدي اليها لتتركَ ,وجعاً داخل النفس يتفاقم مع تقادم الايام. وحيدٌ والبيت كان مليئاً بحضورها،بعيونها ، ببسمتها،بصوتها حين تناديه زماناً:
-مصطفى
-نعم ماجدة
-متى مناقشة الرسالة ؟
-هذه الايام ان شاء الله
قبل عشرة اعوام تخرّجا من كلية العلوم،كان مصطفى الاول على دفعته،عُيّن معيداً في كليته، يحصل بعدها على شهادة الماجستير ،جرتْ الامور مثلما خطّطا لها ومشروع عمرهما المشترك تهيّأت له جميع الظروف لإقامته بعد مراحل الحب الكبيرة التي أسّسا لها وعاشاهاوكأنهما صنعا لحبّهما مساراً اخترق كلّ المصدّات والمعوّقات،ويعتقد المتتبّع لهما بأنهما امتلكا الحبّ بعقليهما ،ربما لأنهما على يسرٍ من الحال او أنّ المشتركات بينهما على قدرٍ كبيرمن التكافؤ يراها البعض كما معادلة فيزياوية تساوى طرفاها دون حاجة الى عوامل مساعدة لتنشيطها.
حين يكونا معاً تزدحم مشاعر الودّ بينهما لتصل اعلى درجات مراتبها ،وهو لا يرهقها بحديث دراسته.
برنامج متكامل في علاقتهما حتى توّجت بزواج يتحدّث عنه الاخرون نموذجاً ناجحاً.
مع احتفالهما لاطفاء شمعته الاولى توقد بينهما عيون ابنتهما "نهى" شمعة اخرى بولادتها
لم ينسَ مصطفى يوماً طموحه بنيل الدكتوراه ليكتمل نصاب حياته الزاخرة بالمنجزات.
يعاود مصطفى الحديث مع زوجته:
-كنتِ الى جانبي وشكراً أجدها قليلة بحقّك
-ومن أكون بغيركَ
في احد الصباحات يركن مصطفى سيارته مترجّلاً لشراء هدية عيد ميلاد ابنته فيدخل سوقاً مكتضّةً بهكذا حاجيات وهو مزدحم بالمتبضّعين والجميع منشغلٌ يفتّش عن ما يريد اقتناءه.وليت تلك المقتنيات تعرف من لايشتريها وجاء للعبث فيها فتنطق عن بعدٍ لتردّ الايادي المدنّسة بخرابها ، ليتها استصرخت لتسمع السماء صرختها حين صاح أحدهم:
-الله اكبر....الله اكبر
اختلطت الاجساد مع لحظات الانفجار بلعب الاطفال وهدايا الميلاد،غيمة سوداء من الدخان تملأ المكان تخترقها ألسنة النار،أنفاسٌ وأنّاتٌ لأحياء يلوّحون بأيديهم للمسعفين،أرجلٌ،رؤوسٌ،أيادٍ لايستدلّ على اصحابها ،دماءٌ حوّلت الاسفلت الاسود الى ساحة حمراء ،صراخات تستغيث من آلامها ،هرع وفزع يبدّدهُ المنقذون وهم يحملون المروءة على اكتافهم مخترقين ساحة الموت من أجل حياة الاخرين .
حين استيقظ مصطفى من التخدير متلمّساً جسدهُ الجديد وقعت عيناه على عيني زوجته والدموع تملؤهما راح يسألها:
-ها ماجدة!! هذه دموعكِ حزناً أم فرحاً؟
-طبعاً مصطفى هي للفرح بسلامتكِ
-كيف للفرح وأنا الآن بلا قدمٍ ولا ساق
-أنا معكَ ولن أتركك
-وهل أتكىء على كتفيكِ ماذا تقولين ؟
يغادر مصطفى المستشفى والى جانبه زوجته قاصدين منزلهما وهذه المرّة عليه اجتياز عتبة الباب ب"عكّازه" بعدما فقد قدمه اليمنى وكأنّه مكروهٌ عليه الدخول بقدمه اليسرى .أثناء رقوده في المستشفى وبعد اجراء العملية دار حديث بينه وبين الطبيب الذي اجراها له :
-دكتور نحن رجال وأودّكَ تجيبني
-تفضل دكتور مصطفى
-أجدَ نفسي بكامل قواي ونشاطي كرجل
-نعم دكتور ما جرى ليس له تأثير على نشاطكَ الجنسي وخوفاً من تفاقم الكنكرين " Gangerene"
-وكيف لفارس أن يمتطي جواده وهو عاجز عن ركوبه وأنا اليوم حتى عند قضاء حاجتي في الحمام ألجأ الى المقعد الغربي وبصعوبة كبيرة أقضيها
-لا تتشاءم دكتور وهل تريد الوسامة حتى عند معاشرة زوجتكَ
-أجدني نصف رجل بمشاعر ملتهبة ورغبة كبيرة ونشاط متّقد وأعصاب قوية ولكن وسائل تحقيقها غير ممكنة ومستحيلة ،فأنا نصف ميّتٍ ونصف حيّ.
صار الوقت بالنسبة لمصطفى لا يعني شيئاً ومعظمه يقضيه امام التلفاز او امام حاسوبه الشخصي ،الساعات تمرُّ رتيبة مملّة وزوجته مشغولة بدوامها الوظيفي نهاراً ومساءً مع متطلبات بيتها وابنتها فزوجها نادراً ما يطلب منها خدمة او مساعدة وكأنّ أقرب من ينادي عليه هو عكازه المعدني،اعتاد الجلوس والمكوث طويلاً في غرفة الضيوف وحين يداهمه النعاس يلجأ الى غرفة النوم دون ايقاظ ماجدة التي تستغرق في نومها قبل منتصف الليل.
جميع المشاوير خارج المنزل تنجزها ماجدة بمفردها ومن الصعب أن يرافقها مصطفى فلا هو قادرٌ على قيادة السيارة ولا على الجلوس الى جانبها فهذا يرهقه جداً ويرهقها أيضاً،وحتى وظيفته انقطع عنها متقاعداً بعدما استحال عليه تحرّكه امام الطلاب في قاعة كبيرة كما تعذّر عليه أن يكتب بيده اليمنى وهي تتّكىء على العكاز وربما لو كان ما فقده في يسراه لهان الأمر قليلاً.
تراكمت الهموم على مصطفى وتعدّدت اسبابها ومناشئها ،يطيّب خاطره على بلواه صديق عمره الذي لم يتوفّق في دراسته بعد حصوله على دبلوم الميكانيك لكنّ مصطفى بقي وفيّاً ومتمسّكاً بصداقته وأغلب قراراته يعود قبل إتّخاذها لصديقه وكثيراً ما يطلق عليه "الحكيم" ، زاره هذا الصديق ليطمئنّ عليه ومحدّثاً إيّاه على انفراد قائلاً:
-كيف أصبحت أخي مصطفى ؟
-أصبحتُ غريباً مهاناً ذليلاً مكسوراً محبطاً
-أما دعتكَ أليها لحدّ الآن؟
-وهل يدعى من لا يجيب؟
-وأنتَ ألم تطلب منها ذلك لأنّ المرأة تحبّ دائما من يدعوها وهذه من طبيعتها التكوينية والنفسية
-لكنها كانت تدعوني في احيان كثيرة قبل الحادثة
-مصطفى لا تتعبني معكَ جرّب هذه الليلة وتذكّر أنّ حياة الزوجية لا حياء فيها حين يلتقي الجسدان ولا نرجسية او مكابرة حين توحّدهما ولا خجل في المباحات أصلاً.
مصطفى يدرك جيداً أنّ صديقه ناصحٌ ولقد خبر الحياة جيدا واستوعب الى حدٍّ كبيرٍ متناقضاتها ومتضادّاتها وهومثقف موسوعي في معظم المجالات وما تمكّن اخفاقه الدراسي من أنْ يحبط فيه نفساً كبيرةً تسعى لكمال الاشياء قدرما يستطيع وهو يشعر بما عليه صديقه من وجعٍ كبير .
يخلع مصطفى في تلك الليلة أردية التردّد والمخاوف ،يقترب شيئاً فشيئاً،يمدُّ يدهُ،يلمسُ جسدها البارد ،يقلّبُ شعرها الداكن ،يشمّهُ،يقترب أكثر ليطبقَ شفتيه على شفتيها ،يلثمها تقبيلاً طويلاً لكنها لا ترجع اليه ما استودع عند ثغرها بحرارتها المعهودة لديه ،واذا فرغ وأعاد محاولاته مرات اخرى وجدها أشدّ برودة من سابقاتها ،وامتثالاً لرغبته الشديدة وتهيّج أعضائه يبدأ بالتحرّك على السرير على يديه زاحفاً ولكنه ما تمكّن من امتطاء شهوته الجامحة ليستحيل الوصول الى مبتغاه فتعود جميع اسلحته المهاجمة خاسرةً بعد أن خذلها الطريق.كميّات هائلة من الاعصاب الملتهبة والرغبات بقيت في خزائنها ،عادت خائبة فلا أحدٌ يأخذُ بيدها كما غريق تحت كمّه درر البحر ولكن لا يدٌ تمتدُّ لهُ لتنتشله.
كيف للطبائع أن تتغيّر ثوابتها والاخلاق تتبدّل مع ظروف اشخاصها ،متى قيم الوفاء والتضحية نظهرها ؟هل في ترف الحياة أم في مصائبها وعسرها ؟ هل يمكن أن نتوهّم كثيراً بمن عشنا معهم عمراً وشاركونا زماناً افراحنا ؟اذا خذلتنا اقدارنا فهل تلك دواعٍ كافية ليخذلنا المقرّبون من اهلنا ؟أيّة مرحمةٍ ترتجى من اللئام والبخلاء بعدما منحناهم خير ما عندنا وفقدنا من أجلهم زهرة العمر ؟أننتظر من الذي مال عنّا ولا ينظرنا أن نمعن النظر في عيونه الجاحدة ؟.
بعد تلك الليلة البائسة مع زوجته يستجمع مصطفى كلّ افكاره المشتّتة ليكوّن رؤية واضحة ومتكاملة توصله الى قناعة كاملة وفي احد المساءات يخاطب زوجته:
-لو سمحتِ هناك موضوع مهم عليكِ سماعه
-تفضّل اسمعكَ
-اليوم ستنالين حريتكِ ويفكُّ قيدكِ وربما أنال حرّيتي أيضاً
-وهل نحن سجينان ؟ ماذا تقصد ؟
-ماجدة أنتِ طالق ...طالق...طا.........لق
-نعم ماذا؟
-قلتها ثلاثاً والرابعة او العاشرة لا تعني شيئاً
انقضى ذلك المساء منذ عام وخاتمته الفراق ،ومصطفى مازال يتنقّل وحيداً في بيته ومعه عكازه الوفي الذي لايفارقه حتى يسمع طرقاتٍ على الباب دون انتظارٍ منهُ لأحدٍ فصديقه عوّدهُ أن يتّصل به قبل قدومه فمن يا ترى يطرق هذا المساء.القادمون كانوا ثلاثاً يحملون دهشة وذهولاً ألقتْ بظلالها على ملامح مصطفى لكن صديقه حاول أن يجد مدخلاً للمشهد المربك والشائك جداً قائلاً:
-كيف حالك مصطفى ؟
-الحمد لله احمد
-كلّنا نخطأ وخيرنا من يسامح
-ماذا هناك احمد ؟
-هذه ابنتكَ نهى وهذه ماجدة تعرفها
-نعم كنتَ اعرفها
-هي أخطأت
-وأنا لم أخطىْ
-كأنّكَ اصبحتَ قاسي القلب
-اخبرني احمد ماذا هناك بالضبط ؟
-ماجدة مصابة بالسرطان ولا أحدٌ تبقّى لها ولا لنهى يرعاها
-ماذا تقول ؟ متى حصل لكِ حبيبتي ماجدة ؟
تعود ماجدة معزّزة الى بيتها دون أن يخدش زوجها كبريائها وقبل ذلك كان صديقه الكبير يحاوره وهما منفردان لا يسمعهما أحدٌ:
-مصطفى
-نعم احمد
-انا أعلم أنّ كذبة السرطان لم تنطلِ عليك ولم تصدّقها ولكنّكَ فقط لتبيّنَ لماجدة أنّكَ صدّقتها حتى لا تشعرها بالمذلّة والهزيمة امامكَ ولكي تبقى مكانتها مترفّعة ومقامها عالٍ في نظركَ وهذه اجدها رجولةً حقيقية تفوّقت كثيراً على مأساة تلك الليلة البائسة
-احمد انتَ فيلسوف ولا أقدرُ عليك ولكن ما لقيته عندي فلأنّي أحبّ ماجدة بصدق .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق