الباحث عن الحقيقة: الصحابي سلمان الفارسي رضي الله عنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 22-6-2018
سلمان الفارسي (المتوفي سنة 33 هـ) صحابي، ومولى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأحد رواة الحديث النبوي، وهو أول الفرس إسلامًا؛ أصله من بلاد فارس، ترك أهله وبلده سعيًا وراء معرفة الدين الحق؛ فانتقل بين البلدان ليصحب الرجال الصالحين من القساوسة، إلى أن وصف له أحدهم ظهور نبي في بلاد العرب، ووصف له علامات ليتحقق منه. اتفق سلمان مع قوم من بني كلب لينقلوه إلى بلاد العرب، فغدروا به وباعوه إلى يهودي من وادي القرى، ثم اشتراه يهودي آخر من يثرب من بني قريظة، ورحل به إلى بلده.
وعند هجرة النبي محمد إلى يثرب، سمع به سلمان، فسارع ليتحقق من العلامات، فأيقن أنه النبي الذي يبحث عنه. فأسلم، وأعانه النبي محمد وأصحابه على مُكاتبة مالكه، حتى أُعتق. بعد عتقه، شهد سلمان مع النبي محمد غزوة الخندق، وهو الذي أشار على النبي محمد بحفر الخندق لحماية المدينة من قريش وحلفائها، ثم شهد معه باقي المشاهد. وبعد وفاة النبي محمد، شهد سلمان الفتح الإسلامي لفارس، وتولى إمارة المدائن في خلافة عمر بن الخطاب إلى أن توفي في خلافة عثمان بن عفان
كان اسمه روزبه في بلاد فارس، واسم أبيه خشفوذان من دهاقين فارس ـ وقيل من أساورتها ـ ومن كبار الزرادشتيين في أصبهان، له إمرة على بعض الفلاحين من أبناء أصفهان. كان واسع الحال يملك بعض المزارع شأن غيره من الطبقة الوسطى في المجتمع الفارسي آنذاك، وكانت لولده سلمان مكانة خاصة في نفسه جعلته يستأثر بالنصيب الأكبر من اهتماماته.
وقد تحدّث سلمان نفسه عن رحلته طلبا للحقيقة قائلا: كنت ابن دهقان (شيخ القرية في بلاد فارس) قرية جي من أصفهان، وبلغ من حبّ أبي لي أن حبسني في البيت كما تُحبس الجارية، فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن (خادما) بيت النار، فأرسلني أبي يوما إلى ضيعة له، فمررت بكنيسة النصارى، فدخلت عليهم، فأعجبتني صلاتهم، فقلت: دين هؤلاء خير من ديني، فسألتهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فهربت من والدي حتى قدمت الشام، فدخلت على الأسقف (من وظائف النصرانية، وهو فوق القسيس ودون المطران) فجعلت أخدمه وأتعلم منه، حتى حضرته الوفاة، فقلت: إلى من توصي بي؟ فقال: قد هلك الناس، وتركوا دينهم إلا رجلا بالموصل فالحق به، فلما قضى نحبه لحقت بذلك الرجل فلم يلبث إلا قليلاً حتى حضرته الوفاة، فقلت: إلى من توصي بي؟ فقال: ما أعلم رجلاً بقي على الطريقة المستقيمة إلا رجلاً بنصيبين، فلحقت بصاحب نصيبين..ثم احتضر صاحب نصيبين، فبعثني إلى رجل بعمورية من أرض الروم، فأتيته وأقمت عنده، واكتسبت بقيرات وغنيمات، فلما نزل به الموت قلت له: بمن توصي بي؟ فقال: قد ترك الناس دينهم، وما بقي أحد منهم على الحق، وقد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام ، يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين، لها نخل، قلت: فما علامته؟ قال: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، قال: ومر بي ركب من كلب، فخرجت معهم، فلما بلغوا بي وادي القرى ظلموني وباعونى من يهودي، فكنت أعمل له في زرعه ونخله، فبينما أنا عنده إذ قدم ابن عم له، فابتاعني منه، وحملني إلى المدينة.
من عادات العرب الفخر بأنسابهم ولكن لصاحبنا اليوم شأن أخر وفخر آخر عندما سأل عن نسبه، حيث قيل أنه لما اجتمع مع نفر من الأعراب فسألوه عن نسبه، حيث يقول هذا: “أنا قرشي”، وذاك يقول: “أنا قيسي”، وذاك يقول: “أنا تميمي”، فقال: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم.
أنه سلمان الخير ، سلمان المحمدي ،ابن الإسلام، أبو عبد الله الفارسي، سابق الفرس إلى الإسلام، صحب النبي – صلى الله عليه وسلم – ذاك الشاب الآتي من بلاد فارس باحثا عن الهداية دافعا ثمنها مقدما من حريته.
هو روزبه بن يوذخشان بن مورشلا بن بهبوذان بن فيروز بن شهرك هذا أسمه عند الولادة ولد في أصبهان ببلاد فارس في قرية تسمى “جي” وكان أبوه دهقان “الرئيس الديني” لتلك القرية وكان روزبه أحب الخلق عند أبيه لذا حبسه ببيته وأجهد في المجوسية حتى صار قاطن النار أي خادمها الذي يوقدها، لا يتركها تخبو ساعة، ولكن كان لله أرادة أخرى تخالف ما أراده له أبوه فلم يكن ذاك دينه ولا دوره الذي خلق من أجله فسبب له الأسباب كي يخرجه من تلك الدار وهذا العالم.
فيروي لنا صاحبنا بداية قصته فيقول: كانت لأبي ضيعة عظيمة، فَشُغِلَ في بنيان له يوماً، فقال لي: يا بني إني قد شُغِلتُ في بنيان هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فأطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي، ولم آتها، فقلت لهم: أين أَصلُ هذا الدين؟، قالوا: بالشام.فرجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلتُه عن عمله كلِّه، فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟، ألم أكن عهدتُ إليك ما عهدت؟، قال: قلت: يا أبت مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قلت: كلا والله، إنه خير من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيداً، ثم حبسني في بيته
قال: فَبَعَثْتُ إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني بهم، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم، فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام.
فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟، قالوا: الأسقف في الكنيسة، قال: فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك وأصلي معك، قال: فادخل فدخلت معه، قال: فكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء، اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وَوَرِق (فضة)، قال: وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعَت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئاً، قالوا: وما علمك بذلك؟ قال: قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبداً، فصلبوه، ثم رجموه بالحجارة، ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه بمكانه .
يقول سلمان: فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه، قال: فأحببته حباً لم أحبه مَن قبله، وأقمت معه زماناً، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان! إني كنت معك، وأحببتك حباً لم أحبه أحداً من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟، قال: أي بني! والله ما أعلم أحداً اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصِل وهو فلان، فهو على ما كنت عليه فالْحَقْ به .
قال: فلما مات وغُيب، لحقت بصاحب الموصل ، وكان له مع صاحب الموصل نفس الشأن مع سابقه ولما حضرته الوفاة سأله إلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟ فأخبره عن رجل بنصيبين فذهب إليه، فكان له معه نفس الشأن كسابقيه حتى حضرته الوفاة، فأعاد عليه نفس السؤال فأخبره عن رجل بعمورية، قال: فلما مات وغيب، لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بُقَيْرَاتٌ وَغَنَيمَةٌ، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان إلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟
فقال له: إني يا بني لا أعرف أحداً على مثل ما نحن عليه ولكن قد أظلك زمان نبي، من بني إسماعيل مبعوث على دين إبراهيم عليهما الصلاة والسلام وهذا النبي سوف يخرجه قومه من أرضه مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بهذه البلاد فافعل، ومات الرجل ودفن وخرج سلمان يبحث عن النبي المنتظر (رسول الله ) وبينما هو في الطريق إذ خرج عليه نفر كانوا في تجارة لهم فطلب إليهم أن يحملوه معهم إلى بلاد العرب ويعطيهم ما معه من بقرات وغنيماته ولكنهم حين وصلوا إلى وادي القرى باعوه إلى رجل من اليهود فأصبح سلمان عبداً مملوكاً لهذا التاجر اليهودي .
ورغم ألم الرق والعبودية على حر كسلمان إلا أنه حين نظر حوله ووجد النخيل تفاءل واستبشر خيراً بأن تكون هذه البلدة هي التي سيهاجر إليها النبي المنتظر، ثم باع التاجر اليهودي سلمان إلى قريب له يعيش في يثرب وهكذا دخل سلمان المدينة المنورة عبداً مملوكاً لهذا التاجر اليهودي الجديد وهو من بني قريظة ويعيش في المدينة، ولم يخفف عن سلمان وقع الرق والعبودية إلا وجوده في هذه المدينة التي كان يعلم أنها مدينة النبي المنتظر كما وصفها له الأسقف النصراني .
وبُعث رسول الله بدين الحق في مكة واضطهدته قريش وأخرجته مهاجراً إلى المدينة فسمع به سليمان، وذات صباح وبينما كان سلمان يعمل في حديقة اليهودي حين حضر إليه قريب له فأخذ يقص عليه قصة الرجل الذي تجتمع إليه الناس في قباء ويزعمون أنه نبي، فما أن سمع سلمان ذلك حتى انتفض بدنه بشدة حتى ظن أنه سوف يقع على سيده . . . ونزل من على النخلة وأخذ يستفسر عن ذلك النبي المنتظر فغضب منه سيده فلكمه لكمة شديدة. ولكن سلمان أخذ بعض العنب وذهب به إلى رسول الله ، وحدَّثَ سلمان نفسه لا بد وأنه الرسول المنتظر الذي أخبر عنه وظل له أن يتأكد من علامته التي يعرفها فهو لا يأكل الصدقة، فقال سلمان لرسول الله : لقد بلغني أنك رجل صالح وأنك ومن معك غرباء هنا ومعي طعام كنت قد خرجت به للصدقة ورأيت أن أعطيه لكم فقال رسول الله لأصحابه: (كلوا منه) وأمسك يده فلم يتناول منه شيئاً، فقال سلمان لنفسه:( هذه أولى العلامات ) ثم دخل الرسول المدينة فأسرع إليه سلمان بهدية وقدمها إليه وهو يقول له: (إنها هدية لك لأني رأيتك لا تأكل من الصدقات) فأكل منها رسول الله و أكل أصحابه معه، فقال سلمان لنفسه:( والله أنها العلامة الثانية)، ثم جئت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو ببقيع الغرقد، قال: وقد تبع جنازة من أصحابه، عليه شملتان له، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ استدبرته، عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، قال: فألقي رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: تحول، فتحولت، فقصصت عليه حديثي .
ولكن ظل سلمان عبداً عند اليهودي ففاتته غزوة بدر وغزوة أُحد، حين اشتد على سلمان الرق جاء إلى رسول الله معتذراً عن عدم قدرته في المشاركة في الغزوات وألمه لتخلفه عنه لأنه عبد مملوك لا يملك أمره. هنا قال رسول الله : ((كاتب اليهودي على ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية من الفضة)) والتفت إلى أصحابه وقال لهم: ((أعينوا أخاكم جزاكم الله خيراً)) فجمعوا له ثلاثمائة ودية ثم أمره أن يرجع إلى اليهودي فيحفر لها بأرضه وسوف يأتي رسول الله ويضعها بيديه الشريفـتين وبقي المال فأعطاه رسول الله مثل البيضة ذهباً فأدى بها ما عليه من مال، وهكذا تحرر سلمان من العبودية.
* غزوة الخندق
فيها تجلت عبقرية سلمان ففي شهر شوال من العام الخامس من الهجرة (الموافق مارس 627م) جاءت جيوش قريش إلى المدينة مقاتلة تحت قيادة أبي سفيان، ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب، وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم في الأمر، فتقدم سلمان وألقى من فوق هضبة عالية نظرة فاحصة على المدينة، فوجدها محصنة بالجبال والصخور محيطة بها، بيد أن هناك فجوة واسعة يستطيع الأعداء اقتحامها بسهولة، وكان سلمان قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدعها، فتقدم من الرسول واقترح أن يتم حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة، وبالفعل بدأ المسلمون في حفر هذا الخندق الذي صعق قريش حين رأته، وعجزت عن اقتحام المدينة.
وعن كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول الله خطَّ الخندق، وجعل لكل عشرة أربعين ذراعًا، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلاً قويًّا، فقال المهاجرون: سلمان منا. وقالت الأنصار: لا، بل سلمان منا. فقال رسول الله : “سلمان منا آل البيت”. وخلال حفر الخندق اعترضت معاول المسلمين صخرة عاتية لم يستطيعوا فلقها، فذهب سلمان إلى الرسول مستأذنا بتغيير مسار الحفر ليتجنبوا هذه الصخرة، فأتى الرسول مع سلمان وأخذ المعول بيديه، وسمى الله وهوى على الصخرة فإذا بها تنفلق ويخرج منها وهجا عاليا مضيئا وهتف الرسول مكبرًا: ” الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، ولقد أضاء الله لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وإن أمتي ظاهرة عليها ” ثم رفع المعول ثانية وهوى على الصخرة، فتكررت الظاهرة وبرقت الصخرة، وهتف الرسول : ” الله أكبر أعطيت مفاتيح الروم، ولقد أضاء لي منها قصور الحمراء، وإن أمتي ظاهرة عليها ” ثم ضرب ضربته الثالثة فاستسلمت الصخرة وأضاء برقها الشديد، وهلل الرسول والمسلمون معه وأنبأهم أنه يبصر قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض، وصاح المسلمون “هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله”.
* تواضعه وزهده ..
لقد كان سلمان الفارسي يرفض الإمارة ويقول إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين فافعل. في الأيام التي كان فيها أميرًا على المدائن وهو سائر بالطريق، لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل من التين والتمر، وكان الحمل يتعب الشامي، فلم يكد يرى أمامه رجلا يبدو عليه من عامة الناس وفقرائهم حتى قال له احمل عني هذا فحمله سلمان ومضيا، وعندما بلغا جماعة من الناس فسلم عليهم فأجابوا وعلى الأمير السلام فسأل الشامي نفسه أي أمير يعنون؟ ودهش عندما رأى بعضهم يتسارعون ليحملوا عن سلمان الحمل ويقولون عنك أيها الأمير فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي فسقط يعتذر ويأسف واقترب ليأخذ الحمل، ولكن رفض سلمان وقال لا حتى أبلغك منزلك.
سئل سلمان يوما ماذا يبغضك في الإمارة ؟ فأجاب (حلاوة رضاعها، ومرارة فطامها).
* وفاته
جاء سعد بن أبي وقاص يعود سلمان في مرضه، فبكى سلمان، فقال سعد ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض. فأجاب سلمان والله ما أبكي جزعا من الموت، ولا حرصا على الدنيا، ولكن رسول الله عهد إلينا عهدا، فقال ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب ؛ وهأنذا حولي هذه الأساود! فنظر سعد فلم ير إلا جفنة ومطهرة، فقال سعد: يا أبا عبد الله اعهد إلينا بعهد نأخذه عنك فقال: يا سعد اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند حكمك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت.
و كان سلمان يملك شيئاً يحرص عليه كثيراً، ائتمن زوجته عليه؛ وفي صبيحة اليوم الذي قُبض فيه ناداها هلمي خَبيَك الذي استخبأتك فجاءت بها، فإذا هي صُرّة مِسك أصابها يوم فتح جلولاء، احتفظ بها لتكون عِطره يوم مماته؛ ثم دعا بقدح ماءٍ نثر به المسك وقال لزوجته انضحيه حولي، فإنه يحضرني الآن خلق من خلق الله، لا يأكلون الطعام وإنما يحبون الطيب. فلما فعلت قال لها اجفئي علي الباب وانزلي ففعلت ما أمر، وبعد حين عادت فإذا روحه قد فارقت جسده، وكان ذلك في عهد عثمان بن عفان. وقد تولّى دفنه والصلاة عليه وتجهيزه علي بن أبي طالب وكان رضي الله عنه يلقبه بـ”لقمان الحكيم”، وسئل عنه بعد موته فقال ذاك أمرؤ منا وإلينا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم؟ أوتي العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف.
رضي الله عن سلمان الفارسي وعن صحابة رسول الله أجمعين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 22-6-2018
سلمان الفارسي (المتوفي سنة 33 هـ) صحابي، ومولى للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأحد رواة الحديث النبوي، وهو أول الفرس إسلامًا؛ أصله من بلاد فارس، ترك أهله وبلده سعيًا وراء معرفة الدين الحق؛ فانتقل بين البلدان ليصحب الرجال الصالحين من القساوسة، إلى أن وصف له أحدهم ظهور نبي في بلاد العرب، ووصف له علامات ليتحقق منه. اتفق سلمان مع قوم من بني كلب لينقلوه إلى بلاد العرب، فغدروا به وباعوه إلى يهودي من وادي القرى، ثم اشتراه يهودي آخر من يثرب من بني قريظة، ورحل به إلى بلده.
وعند هجرة النبي محمد إلى يثرب، سمع به سلمان، فسارع ليتحقق من العلامات، فأيقن أنه النبي الذي يبحث عنه. فأسلم، وأعانه النبي محمد وأصحابه على مُكاتبة مالكه، حتى أُعتق. بعد عتقه، شهد سلمان مع النبي محمد غزوة الخندق، وهو الذي أشار على النبي محمد بحفر الخندق لحماية المدينة من قريش وحلفائها، ثم شهد معه باقي المشاهد. وبعد وفاة النبي محمد، شهد سلمان الفتح الإسلامي لفارس، وتولى إمارة المدائن في خلافة عمر بن الخطاب إلى أن توفي في خلافة عثمان بن عفان
كان اسمه روزبه في بلاد فارس، واسم أبيه خشفوذان من دهاقين فارس ـ وقيل من أساورتها ـ ومن كبار الزرادشتيين في أصبهان، له إمرة على بعض الفلاحين من أبناء أصفهان. كان واسع الحال يملك بعض المزارع شأن غيره من الطبقة الوسطى في المجتمع الفارسي آنذاك، وكانت لولده سلمان مكانة خاصة في نفسه جعلته يستأثر بالنصيب الأكبر من اهتماماته.
وقد تحدّث سلمان نفسه عن رحلته طلبا للحقيقة قائلا: كنت ابن دهقان (شيخ القرية في بلاد فارس) قرية جي من أصفهان، وبلغ من حبّ أبي لي أن حبسني في البيت كما تُحبس الجارية، فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن (خادما) بيت النار، فأرسلني أبي يوما إلى ضيعة له، فمررت بكنيسة النصارى، فدخلت عليهم، فأعجبتني صلاتهم، فقلت: دين هؤلاء خير من ديني، فسألتهم: أين أصل هذا الدين؟ قالوا: بالشام، فهربت من والدي حتى قدمت الشام، فدخلت على الأسقف (من وظائف النصرانية، وهو فوق القسيس ودون المطران) فجعلت أخدمه وأتعلم منه، حتى حضرته الوفاة، فقلت: إلى من توصي بي؟ فقال: قد هلك الناس، وتركوا دينهم إلا رجلا بالموصل فالحق به، فلما قضى نحبه لحقت بذلك الرجل فلم يلبث إلا قليلاً حتى حضرته الوفاة، فقلت: إلى من توصي بي؟ فقال: ما أعلم رجلاً بقي على الطريقة المستقيمة إلا رجلاً بنصيبين، فلحقت بصاحب نصيبين..ثم احتضر صاحب نصيبين، فبعثني إلى رجل بعمورية من أرض الروم، فأتيته وأقمت عنده، واكتسبت بقيرات وغنيمات، فلما نزل به الموت قلت له: بمن توصي بي؟ فقال: قد ترك الناس دينهم، وما بقي أحد منهم على الحق، وقد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم عليه السلام ، يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين، لها نخل، قلت: فما علامته؟ قال: يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، قال: ومر بي ركب من كلب، فخرجت معهم، فلما بلغوا بي وادي القرى ظلموني وباعونى من يهودي، فكنت أعمل له في زرعه ونخله، فبينما أنا عنده إذ قدم ابن عم له، فابتاعني منه، وحملني إلى المدينة.
من عادات العرب الفخر بأنسابهم ولكن لصاحبنا اليوم شأن أخر وفخر آخر عندما سأل عن نسبه، حيث قيل أنه لما اجتمع مع نفر من الأعراب فسألوه عن نسبه، حيث يقول هذا: “أنا قرشي”، وذاك يقول: “أنا قيسي”، وذاك يقول: “أنا تميمي”، فقال: أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم.
أنه سلمان الخير ، سلمان المحمدي ،ابن الإسلام، أبو عبد الله الفارسي، سابق الفرس إلى الإسلام، صحب النبي – صلى الله عليه وسلم – ذاك الشاب الآتي من بلاد فارس باحثا عن الهداية دافعا ثمنها مقدما من حريته.
هو روزبه بن يوذخشان بن مورشلا بن بهبوذان بن فيروز بن شهرك هذا أسمه عند الولادة ولد في أصبهان ببلاد فارس في قرية تسمى “جي” وكان أبوه دهقان “الرئيس الديني” لتلك القرية وكان روزبه أحب الخلق عند أبيه لذا حبسه ببيته وأجهد في المجوسية حتى صار قاطن النار أي خادمها الذي يوقدها، لا يتركها تخبو ساعة، ولكن كان لله أرادة أخرى تخالف ما أراده له أبوه فلم يكن ذاك دينه ولا دوره الذي خلق من أجله فسبب له الأسباب كي يخرجه من تلك الدار وهذا العالم.
فيروي لنا صاحبنا بداية قصته فيقول: كانت لأبي ضيعة عظيمة، فَشُغِلَ في بنيان له يوماً، فقال لي: يا بني إني قد شُغِلتُ في بنيان هذا اليوم عن ضيعتي، فاذهب فأطلعها، وأمرني فيها ببعض ما يريد، فخرجت أريد ضيعته، فمررت بكنيسة من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها وهم يصلون، وكنت لا أدري ما أمر الناس لحبس أبي إياي في بيته، فلما مررت بهم وسمعت أصواتهم، دخلت عليهم أنظر ما يصنعون، قال: فلما رأيتهم أعجبتني صلاتهم، ورغبت في أمرهم، وقلت: هذا والله خير من الدين الذي نحن عليه، فوالله ما تركتهم حتى غربت الشمس، وتركت ضيعة أبي، ولم آتها، فقلت لهم: أين أَصلُ هذا الدين؟، قالوا: بالشام.فرجعت إلى أبي، وقد بعث في طلبي، وشغلتُه عن عمله كلِّه، فلما جئته قال: أي بني أين كنت؟، ألم أكن عهدتُ إليك ما عهدت؟، قال: قلت: يا أبت مررت بناس يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، فوالله ما زلت عندهم حتى غربت الشمس، قال: أي بني ليس في ذلك الدين خير، دينك ودين آبائك خير منه، قلت: كلا والله، إنه خير من ديننا، قال: فخافني، فجعل في رجلي قيداً، ثم حبسني في بيته
قال: فَبَعَثْتُ إلى النصارى فقلت لهم: إذا قدم عليكم ركب من الشام تجار من النصارى فأخبروني بهم، قال: فقدم عليهم ركب من الشام تجار من النصارى، فأخبروني بهم، فقلت لهم: إذا قضوا حوائجهم، وأرادوا الرجعة إلى بلادهم فآذنوني بهم، فلما أرادوا الرجعة إلى بلادهم أخبروني بهم، فألقيت الحديد من رجلي، ثم خرجت معهم حتى قدمت الشام.
فلما قدمتها قلت: من أفضل أهل هذا الدين؟، قالوا: الأسقف في الكنيسة، قال: فجئته، فقلت: إني قد رغبت في هذا الدين، وأحببت أن أكون معك، أخدمك في كنيستك، وأتعلم منك وأصلي معك، قال: فادخل فدخلت معه، قال: فكان رجل سوء، يأمرهم بالصدقة ويرغبهم فيها، فإذا جمعوا إليه منها أشياء، اكتنزه لنفسه ولم يعطه المساكين، حتى جمع سبع قلال من ذهب وَوَرِق (فضة)، قال: وأبغضته بغضاً شديداً لما رأيته يصنع، ثم مات، فاجتمعَت إليه النصارى ليدفنوه، فقلت لهم: إن هذا كان رجل سوء، يأمركم بالصدقة ويرغبكم فيها، فإذا جئتموه بها اكتنزها لنفسه ولم يعط المساكين منها شيئاً، قالوا: وما علمك بذلك؟ قال: قلت: أنا أدلكم على كنزه، قالوا: فدلنا عليه، قال: فأريتهم موضعه، قال: فاستخرجوا منه سبع قلال مملوءة ذهباً وورقاً، قال: فلما رأوها قالوا: والله لا ندفنه أبداً، فصلبوه، ثم رجموه بالحجارة، ثم جاؤوا برجل آخر فجعلوه بمكانه .
يقول سلمان: فما رأيت رجلاً لا يصلي الخمس أرى أنه أفضل منه، أزهد في الدنيا ولا أرغب في الآخرة، ولا أدأب ليلاً ونهاراً منه، قال: فأحببته حباً لم أحبه مَن قبله، وأقمت معه زماناً، ثم حضرته الوفاة، فقلت له: يا فلان! إني كنت معك، وأحببتك حباً لم أحبه أحداً من قبلك، وقد حضرك ما ترى من أمر الله، فإلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟، قال: أي بني! والله ما أعلم أحداً اليوم على ما كنت عليه، لقد هلك الناس وبدلوا، وتركوا أكثر ما كانوا عليه إلا رجلاً بالموصِل وهو فلان، فهو على ما كنت عليه فالْحَقْ به .
قال: فلما مات وغُيب، لحقت بصاحب الموصل ، وكان له مع صاحب الموصل نفس الشأن مع سابقه ولما حضرته الوفاة سأله إلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟ فأخبره عن رجل بنصيبين فذهب إليه، فكان له معه نفس الشأن كسابقيه حتى حضرته الوفاة، فأعاد عليه نفس السؤال فأخبره عن رجل بعمورية، قال: فلما مات وغيب، لحقت بصاحب عمورية، وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي، فأقمت مع رجل على هدي أصحابه وأمرهم، قال: واكتسبت حتى كان لي بُقَيْرَاتٌ وَغَنَيمَةٌ، قال: ثم نزل به أمر الله، فلما حضر قلت له: يا فلان إلى مَنْ توصي بي؟ وما تأمرني؟
فقال له: إني يا بني لا أعرف أحداً على مثل ما نحن عليه ولكن قد أظلك زمان نبي، من بني إسماعيل مبعوث على دين إبراهيم عليهما الصلاة والسلام وهذا النبي سوف يخرجه قومه من أرضه مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة وبين كتفيه خاتم النبوة فإن استطعت أن تلحق بهذه البلاد فافعل، ومات الرجل ودفن وخرج سلمان يبحث عن النبي المنتظر (رسول الله ) وبينما هو في الطريق إذ خرج عليه نفر كانوا في تجارة لهم فطلب إليهم أن يحملوه معهم إلى بلاد العرب ويعطيهم ما معه من بقرات وغنيماته ولكنهم حين وصلوا إلى وادي القرى باعوه إلى رجل من اليهود فأصبح سلمان عبداً مملوكاً لهذا التاجر اليهودي .
ورغم ألم الرق والعبودية على حر كسلمان إلا أنه حين نظر حوله ووجد النخيل تفاءل واستبشر خيراً بأن تكون هذه البلدة هي التي سيهاجر إليها النبي المنتظر، ثم باع التاجر اليهودي سلمان إلى قريب له يعيش في يثرب وهكذا دخل سلمان المدينة المنورة عبداً مملوكاً لهذا التاجر اليهودي الجديد وهو من بني قريظة ويعيش في المدينة، ولم يخفف عن سلمان وقع الرق والعبودية إلا وجوده في هذه المدينة التي كان يعلم أنها مدينة النبي المنتظر كما وصفها له الأسقف النصراني .
وبُعث رسول الله بدين الحق في مكة واضطهدته قريش وأخرجته مهاجراً إلى المدينة فسمع به سليمان، وذات صباح وبينما كان سلمان يعمل في حديقة اليهودي حين حضر إليه قريب له فأخذ يقص عليه قصة الرجل الذي تجتمع إليه الناس في قباء ويزعمون أنه نبي، فما أن سمع سلمان ذلك حتى انتفض بدنه بشدة حتى ظن أنه سوف يقع على سيده . . . ونزل من على النخلة وأخذ يستفسر عن ذلك النبي المنتظر فغضب منه سيده فلكمه لكمة شديدة. ولكن سلمان أخذ بعض العنب وذهب به إلى رسول الله ، وحدَّثَ سلمان نفسه لا بد وأنه الرسول المنتظر الذي أخبر عنه وظل له أن يتأكد من علامته التي يعرفها فهو لا يأكل الصدقة، فقال سلمان لرسول الله : لقد بلغني أنك رجل صالح وأنك ومن معك غرباء هنا ومعي طعام كنت قد خرجت به للصدقة ورأيت أن أعطيه لكم فقال رسول الله لأصحابه: (كلوا منه) وأمسك يده فلم يتناول منه شيئاً، فقال سلمان لنفسه:( هذه أولى العلامات ) ثم دخل الرسول المدينة فأسرع إليه سلمان بهدية وقدمها إليه وهو يقول له: (إنها هدية لك لأني رأيتك لا تأكل من الصدقات) فأكل منها رسول الله و أكل أصحابه معه، فقال سلمان لنفسه:( والله أنها العلامة الثانية)، ثم جئت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو ببقيع الغرقد، قال: وقد تبع جنازة من أصحابه، عليه شملتان له، وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه ثم استدرت أنظر إلى ظهره، هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رآني رسول الله – صلى الله عليه وسلم ـ استدبرته، عرف أني أستثبت في شيء وصف لي، قال: فألقي رداءه عن ظهره، فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: تحول، فتحولت، فقصصت عليه حديثي .
ولكن ظل سلمان عبداً عند اليهودي ففاتته غزوة بدر وغزوة أُحد، حين اشتد على سلمان الرق جاء إلى رسول الله معتذراً عن عدم قدرته في المشاركة في الغزوات وألمه لتخلفه عنه لأنه عبد مملوك لا يملك أمره. هنا قال رسول الله : ((كاتب اليهودي على ثلاثمائة نخلة وأربعين أوقية من الفضة)) والتفت إلى أصحابه وقال لهم: ((أعينوا أخاكم جزاكم الله خيراً)) فجمعوا له ثلاثمائة ودية ثم أمره أن يرجع إلى اليهودي فيحفر لها بأرضه وسوف يأتي رسول الله ويضعها بيديه الشريفـتين وبقي المال فأعطاه رسول الله مثل البيضة ذهباً فأدى بها ما عليه من مال، وهكذا تحرر سلمان من العبودية.
* غزوة الخندق
فيها تجلت عبقرية سلمان ففي شهر شوال من العام الخامس من الهجرة (الموافق مارس 627م) جاءت جيوش قريش إلى المدينة مقاتلة تحت قيادة أبي سفيان، ورأى المسلمون أنفسهم في موقف عصيب، وجمع الرسول أصحابه ليشاورهم في الأمر، فتقدم سلمان وألقى من فوق هضبة عالية نظرة فاحصة على المدينة، فوجدها محصنة بالجبال والصخور محيطة بها، بيد أن هناك فجوة واسعة يستطيع الأعداء اقتحامها بسهولة، وكان سلمان قد خبر في بلاد فارس الكثير من وسائل الحرب وخدعها، فتقدم من الرسول واقترح أن يتم حفر خندق يغطي جميع المنطقة المكشوفة حول المدينة، وبالفعل بدأ المسلمون في حفر هذا الخندق الذي صعق قريش حين رأته، وعجزت عن اقتحام المدينة.
وعن كثير بن عبد الله المزني، عن أبيه، عن جده أن رسول الله خطَّ الخندق، وجعل لكل عشرة أربعين ذراعًا، فاحتج المهاجرون والأنصار في سلمان، وكان رجلاً قويًّا، فقال المهاجرون: سلمان منا. وقالت الأنصار: لا، بل سلمان منا. فقال رسول الله : “سلمان منا آل البيت”. وخلال حفر الخندق اعترضت معاول المسلمين صخرة عاتية لم يستطيعوا فلقها، فذهب سلمان إلى الرسول مستأذنا بتغيير مسار الحفر ليتجنبوا هذه الصخرة، فأتى الرسول مع سلمان وأخذ المعول بيديه، وسمى الله وهوى على الصخرة فإذا بها تنفلق ويخرج منها وهجا عاليا مضيئا وهتف الرسول مكبرًا: ” الله أكبر أعطيت مفاتيح فارس، ولقد أضاء الله لي منها قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وإن أمتي ظاهرة عليها ” ثم رفع المعول ثانية وهوى على الصخرة، فتكررت الظاهرة وبرقت الصخرة، وهتف الرسول : ” الله أكبر أعطيت مفاتيح الروم، ولقد أضاء لي منها قصور الحمراء، وإن أمتي ظاهرة عليها ” ثم ضرب ضربته الثالثة فاستسلمت الصخرة وأضاء برقها الشديد، وهلل الرسول والمسلمون معه وأنبأهم أنه يبصر قصور سورية وصنعاء وسواها من مدائن الأرض، وصاح المسلمون “هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله”.
* تواضعه وزهده ..
لقد كان سلمان الفارسي يرفض الإمارة ويقول إن استطعت أن تأكل التراب ولا تكونن أميرا على اثنين فافعل. في الأيام التي كان فيها أميرًا على المدائن وهو سائر بالطريق، لقيه رجل قادم من الشام ومعه حمل من التين والتمر، وكان الحمل يتعب الشامي، فلم يكد يرى أمامه رجلا يبدو عليه من عامة الناس وفقرائهم حتى قال له احمل عني هذا فحمله سلمان ومضيا، وعندما بلغا جماعة من الناس فسلم عليهم فأجابوا وعلى الأمير السلام فسأل الشامي نفسه أي أمير يعنون؟ ودهش عندما رأى بعضهم يتسارعون ليحملوا عن سلمان الحمل ويقولون عنك أيها الأمير فعلم الشامي أنه أمير المدائن سلمان الفارسي فسقط يعتذر ويأسف واقترب ليأخذ الحمل، ولكن رفض سلمان وقال لا حتى أبلغك منزلك.
سئل سلمان يوما ماذا يبغضك في الإمارة ؟ فأجاب (حلاوة رضاعها، ومرارة فطامها).
* وفاته
جاء سعد بن أبي وقاص يعود سلمان في مرضه، فبكى سلمان، فقال سعد ما يبكيك يا أبا عبد الله ؟ لقد توفي رسول الله وهو عنك راض. فأجاب سلمان والله ما أبكي جزعا من الموت، ولا حرصا على الدنيا، ولكن رسول الله عهد إلينا عهدا، فقال ليكن حظ أحدكم من الدنيا مثل زاد الراكب ؛ وهأنذا حولي هذه الأساود! فنظر سعد فلم ير إلا جفنة ومطهرة، فقال سعد: يا أبا عبد الله اعهد إلينا بعهد نأخذه عنك فقال: يا سعد اذكر الله عند همك إذا هممت، وعند حكمك إذا حكمت، وعند يدك إذا قسمت.
و كان سلمان يملك شيئاً يحرص عليه كثيراً، ائتمن زوجته عليه؛ وفي صبيحة اليوم الذي قُبض فيه ناداها هلمي خَبيَك الذي استخبأتك فجاءت بها، فإذا هي صُرّة مِسك أصابها يوم فتح جلولاء، احتفظ بها لتكون عِطره يوم مماته؛ ثم دعا بقدح ماءٍ نثر به المسك وقال لزوجته انضحيه حولي، فإنه يحضرني الآن خلق من خلق الله، لا يأكلون الطعام وإنما يحبون الطيب. فلما فعلت قال لها اجفئي علي الباب وانزلي ففعلت ما أمر، وبعد حين عادت فإذا روحه قد فارقت جسده، وكان ذلك في عهد عثمان بن عفان. وقد تولّى دفنه والصلاة عليه وتجهيزه علي بن أبي طالب وكان رضي الله عنه يلقبه بـ”لقمان الحكيم”، وسئل عنه بعد موته فقال ذاك أمرؤ منا وإلينا أهل البيت، من لكم بمثل لقمان الحكيم؟ أوتي العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحرا لا ينزف.
رضي الله عن سلمان الفارسي وعن صحابة رسول الله أجمعين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق