امراة من اهل الجنة " ام ايمن بركة بنت ثعلبة الحبشية "
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق -19-6-2018
ام أيمن بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن الحبشية رضي الله عنها، حاضنة رسول الله محمد ومربيته من أيام أمه آمنة، ورثها الرسول من أمه، ثم أعتقها،
فبقيت ملازمة له طيلة حياتها.
أم أيمن بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن الحبشية رضي الله عنها، حاضنة رسول الله محمد ومربيته من أيام أمه آمنة، ورثها الرسول من أمه، ثم أعتقها،
فبقيت ملازمة له طيلة حياتها.
أسلمت مبكرا بعد خديجة وعلي وزيد، زوّجها الرسول عبيداً الخزرجي بمكة، فولدت له أيمن، ولما مات زوجها، زوجها الرسول زيد بن حارثة، فولدت له أسامة أصغر قائد في الإسلام ،هاجرت إلى المدينة، وخرجت يوم أحد بالسيف تدافع عن رسول الله عندما رأت الناس تفر من حوله.
كانت أم أيمن مولاة لعبد الله بن عبد المطلب، ولما توفي عبد الله ووضعت آمنة
مولودها، أخذته أم أيمن وظلت محتضنة به حتى بلغ أشده. فلما تزوج السيدة
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أعتقها. وكان الرسول يقول عنها: 'أم أيمن،
أمي بعد أمي'. .
سيرتها:
ــــــــــــ تُعدُّ أم أيمن من أولى المهاجرات في سبيل الله، إذ هاجرت (رضوان الله عليها) هجرتين، الأولى: إلى الحبشة، والثانية: إلى المدينة المنورة.
وكانت تحب النبي (ص) حبًا شديدًا وكان (ص) يبادلها بنفس الاحترام والتقدير حتى قال النبي (ص) فيها:(أم أيمن أُمي بعد أمي)، وقد بكت أم أيمن على وفاة النبي (ص) بكاءً كثيرًا، فسألوها لماذا تبكين وتكثرين البكاء عليه؟، فقالت: لا يبكيني موت رسول الله، ولكن أبكي على انقطاع الوحي.
وقد شهدت أم أيمن أُحدًا وحنينًا وخيبرًا، وكانت تسقي الماء وتداوي الجرحى، وكان رسول الله (ص) إذا نظر إليها يقول: (هذه بقية أهل بيتي).
كما روت أم أيمن كثيرًا من الأحاديث عن النبي (ص)، وروى عنها عدَّة من الصحابة.
منزلتها:
ــــــــــــــــ توجد روايات كثيرة تدل على علوِّ مكانتها، وأنها من أهل الجنة، نذكر منها ما يلي: روي عن الإمام الباقر (ع) أنه قال في أم أيمن: (أشهد أنّها من أهل الجنّة). وروي في رواية أخرى، أن أم أيمن عطشت عطشًا شديدًا بين مكة والمدينة، وأشرفت على الهلاك، فتضرعت إلى الله تعالى، وكانت صائمة، ولعلوِّ درجتها ومنزلتها عند الله استجاب لها ربها، فنزل عليها دلو من السماء، فشربت منه حتى رويت، وكانت تقول: ما أصابني بعد ذلك عطش، وقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر، فما عطشت بعد تلك الشربة.
أم أيمن: صفحة مِن صفحات الخلود تجلَّت في امرأة الأمسِ، وُلدَت على الرقِّ فلم يَشعر أحد بها، ولم يعبأ بميلادها إنسان، وعاشَت في مكة وهي بين أهلها مجهولة، لا ينظر المرء إلى سلعة ثمنها دراهِم مَعدودة؛ لذلك لم يَذكر التاريخ يومَها الذي ولدت فيه، والسنَة التي وُلدتْ فيها، بل ترَكها تدوِّن تاريخها بيدِها وتصنعه بجهادِها وجَلالِها، وكان من حسْن طالعها أن اتَّصل حبلُها بحبل محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن أصبَحت ضِمن ميراثه مِن أبيه عبدالله، مِن ذلك اليوم سعدت بجواره فكانت له نعم الخادِمُ الصادق، ولما بلغ الرسول مِن عمره المجيد السادسة، وماتَتْ أمُّه بالأبواء بعد قدومها مِن زيارة زوجِها عبدالله المدفون بالمدينة، قامت أم أيمن على حضانتِه - صلى الله عليه وسلم - تَحنو عليه حنوَّ الأب والأم معًا، وتَشمُّ فيه ريح الحبيبَين الذاهبَين في أطباق الثَّرى، وكلما مضى عام مِن حياته، رأتْ فيه شمسَها الصاحيَة وأملها الباسم، تسير معه تارةً بحسِّها، وطورًا بنفسِها، والرسول يَنتقِل مِن طَور الطفولة إلى طَور الشباب فالرُّجولة وهي معه، حتى إذا بلغ سنَّ الزواج وتزوَّج بخديجَة، زوَّجها عبيدًا المدنيَّ، فعاشت معه ما شاء الله أن تعيش ثم رحلَت معه إلى بلده يثرب، وأقامت فيها ما شاء الله لها أن تُقيم ورُزقت منه بولدها أيمن - رضي الله عنه - حتى إذا مات أبو أيمن جاءت إلى مكة ومعَها ولدها أيمن ونزلت عند رسول الله، وأقامت في جواره الكريم، ولكنه شغَله أن تنعَم بالحياة ما يَشغَل الأب مِن أمر بناته ورَحمِه، فقال لأصحابه: ((مَن سرَّه أن يتزوج امرأةً مِن أهل الجنة فليتزوَّج أم أيمن))، وكثيرًا ما كان الرسول يقول: ((أم أيمن أمي بعد أمي))، فليس بعد ذلك مِن أن يسعى الرسول في راحتِها، وأن يعمل لإسعادِها في ظلِّ زوج كريم، وقد تحقَّق لها ذلك بفضل الله فتزوَّجها زيد بن حارثة، وكان لها منه أسامة، قائد الإسلام الظافر وبطله الفاتح الذي مشَى في ركابه خليفة الرسول أبو بكر - رضي الله عنه - ولما قال له القائد أسامة: يا خليفة رسول الله إما أن أنزل أو تركَب، قال له: والله لا نزلتَ ولا ركبْتُ، وما ضرَّني أن أغبِّر قدمي ساعةً في سبيل الله.
أنجبَتْ بركة الحبشية أسامة القائد الذي انتَصر على الروم وأخَذ بثأر أبيه مِن قاتلِه في موقعة مؤتة سنة 8 هـ، وأصبح يَسير في ركابه الخليفة، ويَنقاد لقيادته رجال الصف الأول من المسلمين، كما أنجبت أيمن الذي ثبت كما ثبَت أخوه أسامة مع رسول الله في غزوة حُنَين التي حدثَت في 10 شوال سنة 8 هـ.
أما هي فكان لها شأنها في الإسلام: هاجَرت إلى الحبَشة وإلى المدينة، وفي هجرتها إلى المدينة فعَلتْ ما عجَز عنه أصحاب القوة مِن الرجال؛ تحدَّث التاريخ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما هاجَر مِن مكة إلى المدينة المنورة خرَجت في أثره مُهاجِرةً إلى الله ورسوله ماشيةً ليس معها راحلة، جائعة ليس معَها زاد، صائمة في يوم شديد حرُّه عظيم كربه، أصابَها مع جوعها العطَش حتى إذا كانت بالرَّوحاء أكرمها الله مِن عنده، فأنزل لها ما أزال به غصَّتها وما أذهب به كربَتها، وما أعاد عليها به حياتها؛ فأسقاها وأرْواها، قالت: كنتُ أطوف بعْدُ بالشمس كي أعطَش، وما عطشتُ بعدَها.
ولما أقام الرسول الأكرم بالمدينة المنورة لازمَته، ولما أمَر بالجهاد كانت معه في غزواته تقوم بما يقوم به نساء الهلال الأحمر في عَصرِنا، فكانت تطوف بالجرحى تُضمِّد جراحَهم وتُذهِب آلامهم، وتَمنحُهم مِن عطْف الأمومة وحَنانها فضْلَ ما يَمتلئ به قلبها الكريم، كانت مع رسول الله في غزوة أحد التي حدَثت في شوال سنة 3 هـ (يناير سنة 625م) ذات أثر لا يُنسى، ويدٍ لا تُنكَر، وكان لها في غزوة خيبر التي وقعت في شهر المحرم سنة 9 هـ (أغسطس سنة 628م) العمل الجليل الذي ملأتْ به نفوس المَكلومين أملاً ورجاءً وحنُوًّا، وفي غزوة حُنين التي كانت في 10 شوال سنة 8 هـ الأثر الخالد والدعاء الصادق والرجاء الحارّ في ربها، رآها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي تدعو ربها بلغتِها الأعجميَّة فتقول: "سبت الله أقدامكم"، فيقول لها الرسول مُداعبًا: ((اسكتي يا أم أيمن فإنك عسراء اللسان)).
ترى ماذا كان أمرها في هذه الغزوة وقد ضاقَت الأرض بما رَحُبَت، ولم يَثبُت مع الرسول إلا فئة قليلة مِن المسلمين، وفيهم ولَداها أسامة وأيمن، أكانت فَرِحةً بثباتِهما أم حزينة بهذا التمزيق الذي حدَث بين صفوف المسلمين، لا شكَّ أنها كانت باكية وضاحِكةً، وفَرِحةً وحزينةً، وداعيةً ومُناجيَةً، فَرِحةً مُستبشِرةً بثَبات ابنَيها، حزينةً على ما أصاب المسلمين مِن تشتيت وتمزيق لا تجد أمامها إلا نبيَّها تدعو الله بلغتها وتستعين به على النصر.ولقد أنساها قتْلَ ابنِها ما أتمَّ الله به نعمته على نبيِّه آخِر هذه الغزوة، وهوَّن عليها فقدَه - بقاءُ رسول الله لها، فلقد عاش رسول الله، وما زال يُناديها: ((يا أمه، يا أمه)) كلما رآها وتحدَّث إليها.بقيت السيدة أم أيمن بركة الحبشية بعد أن رجَعت مِن غزوة حُنين بالمدينة النبوية، ولم يَذكُرها التاريخ بعد حُنين في غزوة مِن الغزوات الباقيَة، والظاهر أنها أقامَت لا تَبرَح المدينة؛ فلقد أصبَحت كبيرة السنِّ قد أضعَفها الكِبَر، وأَضناها السَّقَم، بعد أن ذاقَت مِن الحياة أتراحَها وأفراحَها، وشَربت مِن مَعين الدنيا حُلوَها ومرَّها، وفقدت الزوج بعد الزوج، ثم مات فلذة الكبد ولدُها أيمن، ولم يَبقَ لها إلا أسامة وحبيبُها الأول رسول الله الكريم. وكان الرسول يُمازِحها كي يُدخل على نفسها الحزينة بعض الفرح؛ سألته مرَّة أن يَحمِلها، فقال لها: ((لا أحمل إلا على ولد الناقة))، فتقول له: إنه لا يُطيقني ولا أريده، فيقول مُتضاحِكًا: ((لا أحملك إلا على ولد الناقة))، وبَقيتْ في جوار الرسول تنعَم بحبِّه وعَطفِه ويَسعى إليها ليَزورها حتى انتقل - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، فبكته ما شاء الله، كانت نظرتها فوق ما تعوَّده الناس فهي تَبكيه - صلوات الله عليه - لأنه انقطَع بانتقاله نفْع الدُّنيا ونِعمة الوحي، وهُدى النبوة ونور الهداية.
تحدث التاريخ أن الرسول - صلوات الله عليه - لما انتَقل إلى الرفيق الأعلى قال أبو بكْر لعُمر - رضي الله عنهما -: سِرْ بِنا إلى أم أيمن؛ نَزورها كما كان رسول الله يَزورها، فلما رأَتهما بكَتْ، فقالا لها: ما يُبكيك؟! فقالت: ما أبكيه إني لأعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صار إلى خَيرٍ مما كان فيه، ولكني أبكي لخبَر السماء انقطَع عنَّا، فهيَّجَتهما على البكاء، فجعَلا يَبكيان معها.
وورى طارق بن شهاب - رضي الله عنه - قال: لما قُبض رسول الله بكَت أم أيمن، فقيل لها: ما يُبكيك؟ قالت: انقطع عنَّا خبر السماء، وبَقيَتْ أم أيمن في جوار أصحاب الرسول الأكرم تتنسَّم فيهم ريح النبوَّة، وتنعَم بولدها أسامة، وتجد فيه شجاعتها وجِلادها وشجاعَة أبيه وإخلاصه، ومات خليفة الرسول أبو بكر - رضي الله عنه - وهي تعيش لعبادتها طائعة لربها، ورأت عمر وقد تولى الخلافة الإسلامية وأقبلت الدنيا على المسلمين في عهده، واتَّسعَت فتوحاته، ودوى صوت الإسلام في الدنيا، وأصبح الإسلام يَسير مِن نصْر إلى نصر، ويَنتقِل مِن ظفَر إلى ظَفر، ولحق عمر بمحمد وصحبِه، ولما بلَغها موته بكتْ، فقيل لها: ما يُبكيك؟! قالت: "الآن وهى الإسلام". لله أنتِ يا برَكة؛ لكأنَّك تَنظُرين بنور الله، ولكأنَّك تتكشَّفين خبايا الحدَثيَن وتبصرين ما وراء الحجُب. نعم؛ لقد مات عُمر.. وأين عمر؟ فحقَّ لها أن تَبكيه، حقًّا إنها كانت تَزن الرجال بميزان الحق والعدل والشجاعة والإيمان، ولم يمضِ على موت عُمر إلا بعض الوقت حتى لحقتْ به ولَحقتْ بأحبابها محمد وأصحابه في خلافة عثمان سنة 24 هـ (نوفمبر سنة 644 م)، وبذلك انطَفأ السِّراج، وانتقَلت إلى جوار الله مع الصدِّيقين والصالِحين. فلله درُّ امرأة عاشَت جيلاً مِن الزمن فرفعَت به المرأة إلى حياة الخلود.
د.صالح العطوان الحيالي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق -19-6-2018
ام أيمن بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن الحبشية رضي الله عنها، حاضنة رسول الله محمد ومربيته من أيام أمه آمنة، ورثها الرسول من أمه، ثم أعتقها،
فبقيت ملازمة له طيلة حياتها.
أم أيمن بركة بنت ثعلبة بن عمرو بن حصن الحبشية رضي الله عنها، حاضنة رسول الله محمد ومربيته من أيام أمه آمنة، ورثها الرسول من أمه، ثم أعتقها،
فبقيت ملازمة له طيلة حياتها.
أسلمت مبكرا بعد خديجة وعلي وزيد، زوّجها الرسول عبيداً الخزرجي بمكة، فولدت له أيمن، ولما مات زوجها، زوجها الرسول زيد بن حارثة، فولدت له أسامة أصغر قائد في الإسلام ،هاجرت إلى المدينة، وخرجت يوم أحد بالسيف تدافع عن رسول الله عندما رأت الناس تفر من حوله.
كانت أم أيمن مولاة لعبد الله بن عبد المطلب، ولما توفي عبد الله ووضعت آمنة
مولودها، أخذته أم أيمن وظلت محتضنة به حتى بلغ أشده. فلما تزوج السيدة
خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أعتقها. وكان الرسول يقول عنها: 'أم أيمن،
أمي بعد أمي'. .
سيرتها:
ــــــــــــ تُعدُّ أم أيمن من أولى المهاجرات في سبيل الله، إذ هاجرت (رضوان الله عليها) هجرتين، الأولى: إلى الحبشة، والثانية: إلى المدينة المنورة.
وكانت تحب النبي (ص) حبًا شديدًا وكان (ص) يبادلها بنفس الاحترام والتقدير حتى قال النبي (ص) فيها:(أم أيمن أُمي بعد أمي)، وقد بكت أم أيمن على وفاة النبي (ص) بكاءً كثيرًا، فسألوها لماذا تبكين وتكثرين البكاء عليه؟، فقالت: لا يبكيني موت رسول الله، ولكن أبكي على انقطاع الوحي.
وقد شهدت أم أيمن أُحدًا وحنينًا وخيبرًا، وكانت تسقي الماء وتداوي الجرحى، وكان رسول الله (ص) إذا نظر إليها يقول: (هذه بقية أهل بيتي).
كما روت أم أيمن كثيرًا من الأحاديث عن النبي (ص)، وروى عنها عدَّة من الصحابة.
منزلتها:
ــــــــــــــــ توجد روايات كثيرة تدل على علوِّ مكانتها، وأنها من أهل الجنة، نذكر منها ما يلي: روي عن الإمام الباقر (ع) أنه قال في أم أيمن: (أشهد أنّها من أهل الجنّة). وروي في رواية أخرى، أن أم أيمن عطشت عطشًا شديدًا بين مكة والمدينة، وأشرفت على الهلاك، فتضرعت إلى الله تعالى، وكانت صائمة، ولعلوِّ درجتها ومنزلتها عند الله استجاب لها ربها، فنزل عليها دلو من السماء، فشربت منه حتى رويت، وكانت تقول: ما أصابني بعد ذلك عطش، وقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر، فما عطشت بعد تلك الشربة.
أم أيمن: صفحة مِن صفحات الخلود تجلَّت في امرأة الأمسِ، وُلدَت على الرقِّ فلم يَشعر أحد بها، ولم يعبأ بميلادها إنسان، وعاشَت في مكة وهي بين أهلها مجهولة، لا ينظر المرء إلى سلعة ثمنها دراهِم مَعدودة؛ لذلك لم يَذكر التاريخ يومَها الذي ولدت فيه، والسنَة التي وُلدتْ فيها، بل ترَكها تدوِّن تاريخها بيدِها وتصنعه بجهادِها وجَلالِها، وكان من حسْن طالعها أن اتَّصل حبلُها بحبل محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن أصبَحت ضِمن ميراثه مِن أبيه عبدالله، مِن ذلك اليوم سعدت بجواره فكانت له نعم الخادِمُ الصادق، ولما بلغ الرسول مِن عمره المجيد السادسة، وماتَتْ أمُّه بالأبواء بعد قدومها مِن زيارة زوجِها عبدالله المدفون بالمدينة، قامت أم أيمن على حضانتِه - صلى الله عليه وسلم - تَحنو عليه حنوَّ الأب والأم معًا، وتَشمُّ فيه ريح الحبيبَين الذاهبَين في أطباق الثَّرى، وكلما مضى عام مِن حياته، رأتْ فيه شمسَها الصاحيَة وأملها الباسم، تسير معه تارةً بحسِّها، وطورًا بنفسِها، والرسول يَنتقِل مِن طَور الطفولة إلى طَور الشباب فالرُّجولة وهي معه، حتى إذا بلغ سنَّ الزواج وتزوَّج بخديجَة، زوَّجها عبيدًا المدنيَّ، فعاشت معه ما شاء الله أن تعيش ثم رحلَت معه إلى بلده يثرب، وأقامت فيها ما شاء الله لها أن تُقيم ورُزقت منه بولدها أيمن - رضي الله عنه - حتى إذا مات أبو أيمن جاءت إلى مكة ومعَها ولدها أيمن ونزلت عند رسول الله، وأقامت في جواره الكريم، ولكنه شغَله أن تنعَم بالحياة ما يَشغَل الأب مِن أمر بناته ورَحمِه، فقال لأصحابه: ((مَن سرَّه أن يتزوج امرأةً مِن أهل الجنة فليتزوَّج أم أيمن))، وكثيرًا ما كان الرسول يقول: ((أم أيمن أمي بعد أمي))، فليس بعد ذلك مِن أن يسعى الرسول في راحتِها، وأن يعمل لإسعادِها في ظلِّ زوج كريم، وقد تحقَّق لها ذلك بفضل الله فتزوَّجها زيد بن حارثة، وكان لها منه أسامة، قائد الإسلام الظافر وبطله الفاتح الذي مشَى في ركابه خليفة الرسول أبو بكر - رضي الله عنه - ولما قال له القائد أسامة: يا خليفة رسول الله إما أن أنزل أو تركَب، قال له: والله لا نزلتَ ولا ركبْتُ، وما ضرَّني أن أغبِّر قدمي ساعةً في سبيل الله.
أنجبَتْ بركة الحبشية أسامة القائد الذي انتَصر على الروم وأخَذ بثأر أبيه مِن قاتلِه في موقعة مؤتة سنة 8 هـ، وأصبح يَسير في ركابه الخليفة، ويَنقاد لقيادته رجال الصف الأول من المسلمين، كما أنجبت أيمن الذي ثبت كما ثبَت أخوه أسامة مع رسول الله في غزوة حُنَين التي حدثَت في 10 شوال سنة 8 هـ.
أما هي فكان لها شأنها في الإسلام: هاجَرت إلى الحبَشة وإلى المدينة، وفي هجرتها إلى المدينة فعَلتْ ما عجَز عنه أصحاب القوة مِن الرجال؛ تحدَّث التاريخ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما هاجَر مِن مكة إلى المدينة المنورة خرَجت في أثره مُهاجِرةً إلى الله ورسوله ماشيةً ليس معها راحلة، جائعة ليس معَها زاد، صائمة في يوم شديد حرُّه عظيم كربه، أصابَها مع جوعها العطَش حتى إذا كانت بالرَّوحاء أكرمها الله مِن عنده، فأنزل لها ما أزال به غصَّتها وما أذهب به كربَتها، وما أعاد عليها به حياتها؛ فأسقاها وأرْواها، قالت: كنتُ أطوف بعْدُ بالشمس كي أعطَش، وما عطشتُ بعدَها.
ولما أقام الرسول الأكرم بالمدينة المنورة لازمَته، ولما أمَر بالجهاد كانت معه في غزواته تقوم بما يقوم به نساء الهلال الأحمر في عَصرِنا، فكانت تطوف بالجرحى تُضمِّد جراحَهم وتُذهِب آلامهم، وتَمنحُهم مِن عطْف الأمومة وحَنانها فضْلَ ما يَمتلئ به قلبها الكريم، كانت مع رسول الله في غزوة أحد التي حدَثت في شوال سنة 3 هـ (يناير سنة 625م) ذات أثر لا يُنسى، ويدٍ لا تُنكَر، وكان لها في غزوة خيبر التي وقعت في شهر المحرم سنة 9 هـ (أغسطس سنة 628م) العمل الجليل الذي ملأتْ به نفوس المَكلومين أملاً ورجاءً وحنُوًّا، وفي غزوة حُنين التي كانت في 10 شوال سنة 8 هـ الأثر الخالد والدعاء الصادق والرجاء الحارّ في ربها، رآها الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهي تدعو ربها بلغتِها الأعجميَّة فتقول: "سبت الله أقدامكم"، فيقول لها الرسول مُداعبًا: ((اسكتي يا أم أيمن فإنك عسراء اللسان)).
ترى ماذا كان أمرها في هذه الغزوة وقد ضاقَت الأرض بما رَحُبَت، ولم يَثبُت مع الرسول إلا فئة قليلة مِن المسلمين، وفيهم ولَداها أسامة وأيمن، أكانت فَرِحةً بثباتِهما أم حزينة بهذا التمزيق الذي حدَث بين صفوف المسلمين، لا شكَّ أنها كانت باكية وضاحِكةً، وفَرِحةً وحزينةً، وداعيةً ومُناجيَةً، فَرِحةً مُستبشِرةً بثَبات ابنَيها، حزينةً على ما أصاب المسلمين مِن تشتيت وتمزيق لا تجد أمامها إلا نبيَّها تدعو الله بلغتها وتستعين به على النصر.ولقد أنساها قتْلَ ابنِها ما أتمَّ الله به نعمته على نبيِّه آخِر هذه الغزوة، وهوَّن عليها فقدَه - بقاءُ رسول الله لها، فلقد عاش رسول الله، وما زال يُناديها: ((يا أمه، يا أمه)) كلما رآها وتحدَّث إليها.بقيت السيدة أم أيمن بركة الحبشية بعد أن رجَعت مِن غزوة حُنين بالمدينة النبوية، ولم يَذكُرها التاريخ بعد حُنين في غزوة مِن الغزوات الباقيَة، والظاهر أنها أقامَت لا تَبرَح المدينة؛ فلقد أصبَحت كبيرة السنِّ قد أضعَفها الكِبَر، وأَضناها السَّقَم، بعد أن ذاقَت مِن الحياة أتراحَها وأفراحَها، وشَربت مِن مَعين الدنيا حُلوَها ومرَّها، وفقدت الزوج بعد الزوج، ثم مات فلذة الكبد ولدُها أيمن، ولم يَبقَ لها إلا أسامة وحبيبُها الأول رسول الله الكريم. وكان الرسول يُمازِحها كي يُدخل على نفسها الحزينة بعض الفرح؛ سألته مرَّة أن يَحمِلها، فقال لها: ((لا أحمل إلا على ولد الناقة))، فتقول له: إنه لا يُطيقني ولا أريده، فيقول مُتضاحِكًا: ((لا أحملك إلا على ولد الناقة))، وبَقيتْ في جوار الرسول تنعَم بحبِّه وعَطفِه ويَسعى إليها ليَزورها حتى انتقل - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى، فبكته ما شاء الله، كانت نظرتها فوق ما تعوَّده الناس فهي تَبكيه - صلوات الله عليه - لأنه انقطَع بانتقاله نفْع الدُّنيا ونِعمة الوحي، وهُدى النبوة ونور الهداية.
تحدث التاريخ أن الرسول - صلوات الله عليه - لما انتَقل إلى الرفيق الأعلى قال أبو بكْر لعُمر - رضي الله عنهما -: سِرْ بِنا إلى أم أيمن؛ نَزورها كما كان رسول الله يَزورها، فلما رأَتهما بكَتْ، فقالا لها: ما يُبكيك؟! فقالت: ما أبكيه إني لأعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد صار إلى خَيرٍ مما كان فيه، ولكني أبكي لخبَر السماء انقطَع عنَّا، فهيَّجَتهما على البكاء، فجعَلا يَبكيان معها.
وورى طارق بن شهاب - رضي الله عنه - قال: لما قُبض رسول الله بكَت أم أيمن، فقيل لها: ما يُبكيك؟ قالت: انقطع عنَّا خبر السماء، وبَقيَتْ أم أيمن في جوار أصحاب الرسول الأكرم تتنسَّم فيهم ريح النبوَّة، وتنعَم بولدها أسامة، وتجد فيه شجاعتها وجِلادها وشجاعَة أبيه وإخلاصه، ومات خليفة الرسول أبو بكر - رضي الله عنه - وهي تعيش لعبادتها طائعة لربها، ورأت عمر وقد تولى الخلافة الإسلامية وأقبلت الدنيا على المسلمين في عهده، واتَّسعَت فتوحاته، ودوى صوت الإسلام في الدنيا، وأصبح الإسلام يَسير مِن نصْر إلى نصر، ويَنتقِل مِن ظفَر إلى ظَفر، ولحق عمر بمحمد وصحبِه، ولما بلَغها موته بكتْ، فقيل لها: ما يُبكيك؟! قالت: "الآن وهى الإسلام". لله أنتِ يا برَكة؛ لكأنَّك تَنظُرين بنور الله، ولكأنَّك تتكشَّفين خبايا الحدَثيَن وتبصرين ما وراء الحجُب. نعم؛ لقد مات عُمر.. وأين عمر؟ فحقَّ لها أن تَبكيه، حقًّا إنها كانت تَزن الرجال بميزان الحق والعدل والشجاعة والإيمان، ولم يمضِ على موت عُمر إلا بعض الوقت حتى لحقتْ به ولَحقتْ بأحبابها محمد وأصحابه في خلافة عثمان سنة 24 هـ (نوفمبر سنة 644 م)، وبذلك انطَفأ السِّراج، وانتقَلت إلى جوار الله مع الصدِّيقين والصالِحين. فلله درُّ امرأة عاشَت جيلاً مِن الزمن فرفعَت به المرأة إلى حياة الخلود.
د.صالح العطوان الحيالي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق