الاثنين، 10 يونيو 2019

ثيمة الموت // في نص الشاعر " قاسم محمد مجيد " دراسة بقلم الناقد : حسين الساعدي // العراق

(ثيمة الموت) في نص الشاعر "قاسم محمد مجيد" (نِصْف وَقْت، نَصِفُ مَوْت)
لَيْلَة اِحْتِضَارِهِ
لَبس سَأُعْتَهُ
كَيْ يَعْرِف بِالضَبْطِ فَرَّقَ التَّوْقِيت
فِي العَالَمِ الآخَرِ
قَالُوا... شُهُودٌ سَابِقُونَ
تَدْنُو المَنِيَةُ
حِينَ تَكُونُ الرُّوحُ
كَمَصِيرِ الرَّمْلِ فِي الرِّيحِ
لَا يُوجَدُ الكَثِيرُ مِنْ الضَّوْءِ هُنَا
وَتُنَزِّلُ فَتِيلَةُ المِصْبَاحِ بِهُدُوءٍ
وَالرَّبُّ
يَضَعُ يَدَ الغُفْرَانِ البَارِدَةِ
عَلَى جَبِينِكَ
مَلَكُ المَوْتِ اللامرئي
ذُو الاجنجة التارية. بِاِنْتِظَارٍ
الضَّغْط عَلَى زِرِّ اللَّقْطَةِ الأَخِيرَةِ
هَلْ مُرّ وَقْتٌ طَوِيلٌ ؟
أَنَا رَاوَغْتُ وَقَدَّمْتُ عَقْرَبَ السَّاعَةِ
نِصْفَ سَاعَةٍ لِلأَمَامِ
سَأَسْأَلُ عَن الوَقْتِ
لِأَوَّلِ مِيت أَرَاهُ
الموت ذلك اللغز المحير، والمعبر عن قلق وجودي أبدي للإنسان، تغلغل بعمق فى حياة الإنسان وفي معتقداته، وشغل حيزاً كبيراً من تفكيره، وجوهر أهتماماته، وهواجسه المأزومة، وضعفه الإنساني.
فالتراث الإنساني من (فلسفات ومعتقدات وديانات ومذاهب)، مليء بالآراء المتعلقة بمفهوم الموت وماهيته، فهو الوجه الآخر للحياة، حين نخضعها ــ الحياة ــ الى فكرة (الثنائيات المتقابلة)، فهو ــ الموت ــ الحقيقة المطلقة التي لايمكن إنكارها، ولم يختلف حولها البشر، بل هو الحتمية التي يدركها كل إنسان، والسفر الطويل الذي لا عودة منه ولا فرار، فلا حياة بدون الموت.
شكل الموت هاجساً لدى الشعراء الذين تعاملوا مع هذه اللفظة تعاملاً رمزياً، أكثـر مما هو فكرة ذاتية. فهناك الكثير من النصوص الشعرية المعاصرة، مثقلة بالموت وعناصره كالمرض والألم والحزن والقلق الوجودي. إذ (يصبح الموت ملازما للانفعال والتأمل في الشعر المعاصر لأنه ملازم للإحساس بالزمن فرديا وحضاريا، حيث العذاب الجسدي يتضامن مع الغياب الحضاري )، "محمد بنيس، الشعر العربي الحديث، بنياته وابدالاتها الشعر المعاصر ص212".
الموت يحمل عدة معانٍ، منها: ما ذكره بطرس البستانى فى مؤلفه (محيط المحيط)، أنواع ثلاث من الموت :
الاول، هو الموت الزماني، وهو مفارقة النفس للجسد .
الثاني، هو الموت الالهي، وهو مفارقة النفس لصحة المعرفة .
الثالث، الموت الأرادي، وهو مفارقة النفس شهوات الجسد .
كذلك يرد بدلالات متعددة ومنها، الدلالة اللغوية، الدلالة السايكولوجية، الدلالة الفلسفية، أضافة الى دلالته البيولوجية.
في الدلالة اللغوية للموت؛ أتفقت المعاجم العربية على أن الموت ضد الحياة، يذكر "ابن منظور" فى مؤلفه (لسان العرب) و "الزبيدي" فى (تاج العروس)، ان الموت :(هو خلق من خلق الله، وهو ضد الحياة). (لقد جاء في لغة العرب في مادة موت: عن الأزهر عن الليث، الموت خلق من خلق الله تعالى، غيره: الموت والموتان ضد الحياة والموات، بالضم: الموت. مات يموت موتا، ويمات، الأخيرة طائية)، "ابن منظور، لسان العرب، مادة موت".
اما في الأصطلاح، فهو لا يبتعد كثيراً عن معانيه اللغوية، فالمفهوم الديني للموت هو (خروج الروح من جسم الإنسان، والأنتقال إلى الحياة الاخرة).والمفهوم الفلسفي هو (تتحرر النفس من سجنها الجسدي).
في دلالته السايكولوجية لدى علماء النفس (غريزة تدميرية)، فعالم النفس "سيجموند فرويد" يرى في الموت (اشبه بدافع يوجه الى الداخل بوصفه نزعة مدمرة للذات)، "شاكر عبد الحميد، ليس لهولاء في الموت امل، مجلة الثقافية، العدد 2014/282".
ما هي الإشكالية التي يطرحها الشاعر "قاسم محمد مجيد" في هذا النص؟ وما هي الفكرة التي يريد إيصالها لنا؟.
الشاعر "قاسم محمد مجيد" في نصه (نِصْف وَقْتٍ، نَصِفُ مَوْت)، يحاول أن يعطي خاصية معينة، يرمي من خلالها إلى البحث عن أتجاهات (الزمن/الموت) وجدلية الترابط بينهما، وتحليلهما، بعيداً عن أنطباعاته الذاتية. فحاول أن يتخذ من تداخل الأزمنة الداخلية للنص، مجالاً لبلورة رؤيته الرمزية نحو الموت، الذي شكل هوية النص، فكان الثيمة الطاغية في النص والمؤثثة له.
نص الشاعر "قاسم محمد مجيد" عميق في معناه، ومبناه، وفي رؤيته، ورؤياه. بدءاً من عنوانه، حتى آخر سطر من جمله الشعرية . أنه يحمل أرهاصات خاصة خفية لدى الشاعر في أقترابه من دائرة الموت.
العنوان مرآة النص، فكما المرآة تعكس الصورة، كذلك العنوان يعكس مكنونات النص، فالشاعر "قاسم محمد مجيد" يستوقفنا من خلال عنوان النص (نِصْف وَقْت، نَصِفُ مَوْت)، الذي يبدو منفتحاً على الكثير من الدلالات، فهو عتبة النص الأولى التي تؤدي بالقارئ الى عوالم النص. ويحمل صورة ملخصة عن طبيعة النص، حيث شكل ثنائية متقابلة (الحياة/الموت) تعكس محتوى النص. يجسد في هذه الثنائية أفكاره بأسلوب إبداعي يتميز برمزيته الإيحائية، فالموت ثيمة أساسية فيه. وحضوره المتكرر في النص يعكس وطأة هاجس الموت سايكولوجياً، وأزمة شعور عند الشاعر، لانه يمثل؛
(مَلَكُ المَوْتِ اللامرئي
بِاِنْتِظَارٍ
الضَّغْط عَلَى زِرِّ اللَّقْطَةِ الأَخِيرَةِ)
العنوان يرتكز على شقين هما: الشق الاول (الزمن/الوقت)، اما الشق الثاني هو (الموت)، لذلك نرى هناك أقتران بين الزمن والموت في النص، فقد جاءت الأشارات مكثفة ومتعددة للزمن في النص، بدءاً بعنوان النص وأنتهاءً في آخر جملة شعرية فيه؛
( نِصْف وَقْت/لَيْلَة اِحْتِضَارِهِ/لَبس سَأُعْتَهُ/فَرَّقَ التَّوْقِيت/وَقْتٌ طَوِيلٌ/عَقْرَبَ السَّاعَةِ/نِصْفَ سَاعَةٍ/سَأَسْأَلُ عَن الوَقْتِ).
فالزمن في النص له دلالته على (الحياة)، فالشاعر أشبه من يبحث عن (عشبة الخلود) في مواجهة الموت. كما هو البحث عنها في "ملحمة كلكامش"، وهو البحث عن الخلود ومحاولة الإجابة عن سر الموت، من خلال تجربة البطل "كلكامش"، وموت إنسان عزيز عليه وهو "أنكيدوا". فالشاعر اراد ان يتغلب على حتمية الموت ولو بشكل مؤقت وظاهري.
(هَلْ مُرّ وَقْتٌ طَوِيلٌ ؟
أَنَا رَاوَغْتُ وَقَدَّمْتُ عَقْرَبَ السَّاعَةِ
نِصْفَ سَاعَةٍ لِلأَمَامِ
سَأَسْأَلُ عَن الوَقْتِ
لِأَوَّلِ مِيت أَرَاهُ)
الوقت احد اجزاء ثنائية (الزمن/الموت)، والزمن المعادل الموضوعي لـ(لحياة) في هذه الثنائية، فهو يشير إلى (المسافة الزمنية التي تفصل بين الأحداث، أو إنه يعبر عن نقطةٍ معينة على الخط الزمني)، التي تشتمل وحدات قياس الزمن واجزاءه (الثانية، الدقيقة، الساعة، اليوم، الأسبوع، ....)
فإذا أعتبر "نيوتن" (الزمن شيءٌ كونيٌّ مطلق، حيث إنّ تغيّرات الزمن ثابتة في شتّى أرجاء الكون)، فالموت في هذا الزمن الكوني، حقيقة مطلقة، قابع في العالم الباطني للانسان، والحياة فيه تراكم زمني ترتبط في نهاية الأمر بالموت.
لذا نجد ثيمة الموت تطل علينا من وراء جمل شعرية عديدة تحمل دلالات الموت، تروي تفاصيل الموت، الذي يهز الإنسان ويقلقه كلما شعر بهذا الغريب (الموت) يقترب منه، بأشكال متعددة، (موت عبثي)، (فقدان عزيز)...
إذن الذي جعل الشاعر يقدم هذه اللفظة (الموت) دون سواها، هو تأثير الواقع المعاش المحاصر بالموت من كل الجهات. فهو ــ الموت ــ يكمن في أنه لا يؤلم مَن أصابه، بل يؤلم مَن ظلوا يتذكرون مَن أُصيب به.
(لَا يُوجَدُ الكَثِيرُ مِنْ الضَّوْءِ هُنَا
وَتُنَزِّلُ فَتِيلَةُ المِصْبَاحِ بِهُدُوءٍ
وَالرَّبُّ
يَضَعُ يَدَ الغُفْرَانِ البَارِدَةِ
عَلَى جَبِينِكَ)
إلا أن هذا الموت لم يكن يعنيه الشاعر في حد ذاته، وهو الموت العضوي للجسد، بمعناه البيولوجي، والذي يدرك معناه جيدا. بل قد يقصد به (الموت الرمزي)، الذي يتمظهر في كل شيء، في الضمير، في المنظومة الأجتماعية، في القيم الأخلاقية، في العلاقات الإنسانية.
فقضية الموت مع الشاعر قضية وجودية، تكون في الأساس مفتاحاً لحياة أخرى أبدية. فثمة رؤية تأملية وبخيال واسع، وبلغة صوفية أحيانا، في تقصي أشكالية الموت، أستخدمها الشاعر في بناء مفرداته الشعرية. فالدلالة الفلسفية للموت؛ ترى أنه ظاهرة يجب أن تفهم وجودياً، لأنه (حق وجودي)، يقع بين (المعنى واللامعنى)، لأن (الوجود الانساني هو وجود نحو الموت بوصفه شعورا متناهيا محكوم عليه بالفناء والعدم الذي يتجلى في القلق الكامن داخل الانسان نتيجة عدم تحقيقه لإمكانيته التي لا يستطيع ان يحققها لانه ثمة حقيقة حتمية تقف عائقا امام تحقيقه لهذه الإمكانيات ألا وهي الموت)، "حقيقة الموت في، الفلسفة الغربية المعاصرة، الوجودية نموذجا، بن بوقرة عبلة".
وإذا أردنا أن نتأمله فلسفياً، فأن الفلسفة أعتبرته أمراً لا يمكن معرفة كنهه، ولا يدخل في نطاق إمكانية المعرفة. فقد
حاولت الوجودية كتيار فلسفي، أن تقدم تصوراً لمسألة الموت .. يقول "غابرييل مرسيل" أحد الفلاسفة الوجوديين:(إن الرغبة في تحليل مشكلة الموت لا تفرض علينا القبول بضرورته، فالموت ليس موضوع تأمل فكري، بل هو تجربة تعاش كما يتعايش المرء مع السر..)، فالدلالة الفلسفية للموت؛ أنه ظاهرة يجب أن تفهم وجودياً، لانه (حق وجودي)، يقع بين (المعنى واللامعنى)، لأن (الوجود الانساني هو وجود نحو الموت بوصفه شعورا متناهيا محكوم عليه بالفناء والعدم الذي يتجلى في القلق الكامن داخل الانسان نتيجة عدم تحقيقه لإمكانيته التي لا يستطيع ان يحققها لانه ثمة حقيقة حتمية تقف عائقا امام تحقيقه لهذه الإمكانيات ألا وهي الموت)، "حقيقة الموت في الفلسفة الغربية المعاصرة، الوجودية نموذجا، بن بوقرة عبلة".
نص الشاعر "قاسم محمد مجيد" مليء بالإشارات والإيماءات التي لا تنكشف مدلولاته بسهولة أو من القراءة الأولى، وإنما تحتاج إلى وقفة وتحليل عميق ومتابعة سياقات النص وصوره المتشابكة المترابطة من أول النص إلى آخره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق