الثلاثاء، 3 سبتمبر 2019

من وجع الخاصرة // بقلم الاديب // صالح هشام // المغرب



 من وجع الخاصرة: بقلم صالح هشام٠
أنادي أنا٠٠٠نوستالجيا زمن الغيوان الهارب٠
على بساط نغمات الهجهوج، تداعب أوتاره أنامل المرحوم عبد الرحمان باكو السحرية، وأنين فيلسوف الغيوان العربي باطمة رحمه الله، تجتاحني رغبة ممزوجة بعذوبة الحنين إلى الزمن الهارب في الاسترخاء، بالسكر حتى الثمالة بالإبحار في متاهات الذاكرة، أغمض عيني، وأترك نفسي تهرب من واقع ( جري علي نجري عليك) تحملني حكمة حكيم الحكماء على أجنحة سحرية في رحلة مكوكية بين الأمس واليوم، فأطوف في أمكنة الماضي، وأجوب ردهات الحاضر، فأجد الفرق شاسعا بين الزمنين، فذلك الزمن الهارب جماله في طعم مرارته، زمن جميل بوعيه الشقي المتمرد على أعراف وتقاليد واقع بلا حرية، مفروض بقوة الحديد والنار٠
أحلق بعيدا ل
خاطرةا ألوي على شيء، كطائر لتوه أفلت من قضبان قفصه الحديدية، أستحضر شريطا أشبه بحلم مصادر، أتذكرنا- نحن الصغار – نفلسف الأشياء، نفسر ونحلل ونفكك رغم طراوة العود، ونحن نندس في بعضنا البعض كخرفان تخشى قرع الشنان، تحت شجيرات قصيرة لا يكفيها ظلها، وهي تلتصق بالأرض فتؤثث فضاء بحيرة باريس الصغيرة، مدينة الهم والغم المفروض، لكنها مدينة الشهداء الشامخة شموخ من ماتوا في سبيل الاستقلال، دون أن تلين لهم شوكة أو تضعف لهم عزيمة٠ نتغنى برائعة الغيوان (أنادي أنا)، فتصل بنا نشوة شطحاتنا الصوفية دروة الانفعال، فنئن، ونكثر من الأنين، فيتحد أنينا بأنين حناجرالغيوان السحرية المطعم بإيقاعات السنتير والهجهوج، وهم في قمة إبداع مرثياتهم الحزينة لذلك الإنسان العربي المقهور، الذي ضاع حقه، وداسته الأقدام، ودمرت روابطه بوطنه وعلى أرضه، ويتحول أنيننا – في كثير من الأحيان- إلى نحيب، لكنه مكتوم، لأنه نحيب رجال يبكون بدل الدموع دما، كلما استفحل همنا، وتفاقم غمنا، وقطع الحزن منا الأحشاء٠ 
أتذكر (أنادي أنا)، وتلك المسجلة اللعينة تخذلنا، ونحن في قمة شطحتنا الغيوانية، إذ تنفد البطاريات، فتثقل حنجرة المرحوم العربي، وتضعف إلى أن تختفي نبرات صوته تماما، فيتوقف قلب المسجلة عن النبض، نتحسس جيوبنا بحسرة، لكنها تكون فارغة، نكتفي بترديد ( أنادي أنا)، فترددها جنبات بحيرة باريس الصغيرة، وجذوع الأشجار الشامخة، فنبحر بجماجمنا الصغيرة الحليقة في خلوتنا الصوفية التي لا تخلو من بعض المؤثرات العقلية (٠٠٠)٠ فنحلم٠٠٠ ونحلم٠٠٠ نحلم بأننا لا نحلم، نحلم بعنقاء العرب تبعث من تحت رمادها، ونسمع ملء السمع، ونرى ملء البصر صهيل خيول وصليل سيوف المعتصم تجلد جلود العلوج قبل نضج التين والعنب، وقد كنا لتونا حفظناها رائعة من روائع أبي تمام ( فتح عمورية )٠
كأهل الكهف، لا ندري كم دامت غيبوبتنا الغيوانية، ساعة، ساعات، يوم أو بعض يوم، ومنظرنا تحت أغصان الشجيرات القصيرة يضحك حد البكاء، ويبكي حد الضحك، فقد كنا فلاسفة بلا فلسفة، لكن كنا سقراطيي النزعة، لاينقصنا إلا ما علق بقاع كأسه٠ مجبرين، ننفصم عن واقعنا الموبوء، لأننا كنا نخاف عدوى الإصابة بوبائه، فنقتفي أطياف السعادة في قوافي العربي باطما، وبوجميع، وعمر السيد، ودندنات باكو، فتنسينا نغمات هجهوجه أنفسنا٠ تتساقط علينا أوراق الأشجار الميتة، تكاد تغطي أجسادنا الذابلة٠ ورغم ذلك، لا نستفيق من شطحاتنا الغيوانية التي لم نكن نرضاها إلا حلاجية، شطحات اتحاد وحلول بأمل متخم بالألم، لكننا نعتق أنفسنا من واقع ينخره الهم والغم، ولو كان ذلك مؤقتا٠ وكانت أشجار بحيرة وادي الهم/ زم تقف على رؤوسنا بصرامة كالعسس، وكأنها تحمينا من دوريات الشرطة التي تنغص علينا خلوتنا بسين وجيم بحثا عن إثبات الهوية٠ وتمتد خلوتنا الغيوانية حتى يمتص سواد الليل بياض النهار٠
وقتئذ، نقوم متثاقلي الحركة، ننفض عن رؤوسنا ما علق بها من أوراق ميتة، ونحن نردد جماعة ( أنادي أنا )، ومن حين لآخر يتحفنا أحد شعرائنا بسطور شعرية من بحيرة لامرتين بترجمة رديئة، وتمتصنا الدروب الضيقة، التي- للتو- بدأت مصابيحها المشنوقة أعلى الأعمدة الخشبية تتفل أضواءها الباهتة٠
تعبر( أنادي أنا ) متاهات ذاكرتي، فيمر أمام عيني شريط ذلك الزمن الهارب باهتا، أتمسك- جاهدا- بأطرافه، لكني أقبض على سراب أشباح أصدقاء ينعمون بالسكينة في لحودهم، ويتوسدون قبضة النسيان، ووجوه أصدقاء شاءت الأقدار أن تفرق جموعهم، كما دمرت الشجيرات القصيرة، وهي الشاهدة على طقوسنا الغيوانية في بحيرة لا تقل روعة وجمالا عن بحيرة لامارتين، بدورها فقدت كل معالم هذه الروعة والجمال٠ خيط واحد سيقاوم تعب الذاكرة، ويعيد ما تفرق من ذكرياتنا، إنه رائعة ( أنادي أنا )، ستظل تجمعنا، وإن لم يكن ذلك في الواقع، فعلى الأقل في ذاكرة تهلوس، وتهذي بلا انقطاع٠
لم نكن نعرف الفيس بوك، لكننا كنا أصدقاء أوفياء للكتاب، متيمين بروائع ناس الغيوان ٠٠٠فيروز٠٠٠ ومارسيل خليفة٠٠٠ ونعشق أشعار سميح القاسم وعبد الوهاب البياتي، ومظفر النواب، ونبحر في دروب جبران خليل جبران، ونبكي حد العويل مع أبطال ( ماجدولين٠٠٠ الفضيلة٠٠٠ للمنفلوطي٠٠٠ أو وتمضي الأيام ليوسف السباعي٠٠٠ وغيرهم كثير)، ونقتسم مع شخصيات الشريط الهندي فرحة انتصاراتها، وأحزان انكساراتها٠ مياه متنوعة امتصت منها جذورنا الحياة، خليط معرفي فتح أدمغتنا الصغيرة على إدراك واقعنا العربي البئيس، فنمت في نفوسنا ملكة النقد، وطورت مواقفنا السياسية كسائر الخلق، ربما لأننا لم نكن نعرف ما يسمى بموضة خفض السراويل على الأرداف، أو لغة الشات، أو تقليعات تسريحة الشعر المجنونة٠
معيننا الذي اغترفنا منه جعلنا نشيخ قبل الأوان، ونقفز فوق أعمارنا سنينا:
اغترفنا من تنوع فني زاخر، فرددنا أغاني الغيوان ٠٠٠ وفريد الأطرش ٠٠٠ وميراي ماثيو٠٠٠ وميشال ساردو٠٠٠ كما حفظنا رباعيات الخيام عن ظهر قلب٠ وتأثرنا برومانسية الأدب الفرنسي: فقرأنا روائع ألفرد دو ميساي٠٠٠ وألفرد دو فيني٠٠٠ ومدام دو ستايل ٠٠٠ وحللنا ببراعة - رغم حداثة سننا- شفرات رواية الأحمر والأسود ٠٠٠ وكفلاسفة صغار، ناقشنا العقد الاجتماعي، وتبادلنا الأفكار حول زرادشت نتشه، ودعاة التنوير٠ فيبس العود، واشتد العمود رغم طراوته٠
زمن جميل هارب، عشناه بكل أطيافه، فساهم في تكوين جيل السبعينات والثمانينات على المستوى الفكري والفني والإبداعي، هذا الجيل المهووس بكل مصادر المعرفة، والمتعطش للفن الملتزم، وربما كان ذلك سببا في حملنا هما أكثر ثقلا على أكتافنا: هم الوعي الشقي المبكر، فالظرف كان أكثر حساسية: قمع ممنهج يكبح جماح كل تفكير يخرج عن الدائرة المرسومة بدقة ٠
تذكرني ( أنادي أنا ) بأيام جريدة المحرر، كنا نشتريها خلسة، ونخفيها بين السروال والتبان، ونقرأها خلسة، فقارئها كان يعتبر خارجا عن القانون، وحاملها كان أشبه بمروج الحشيش، فهي لسان معارضة غير مرغوب فيها٠ أما قصائد مظفر النواب، فكنا نحفظها، ونملحها بروائع مديح الظل العالي لمحمود درويش، فنرمي مكتوبها في سلة المهملات، أو نحرقه تلافيا للشبهات٠
جيل (أ نادي أنا ) لم يكن يعرف ما يسمى اليوم بالعالم الأزرق، لم يكن يعرف ما يسمى بغرف الدردشة، لم يكن يعرف القنوات الفضائية، أو الهواتف الذكية، كان عالمه كتابا أو مجلة هادفة، وعندما يتعذر شراؤه هذا الكتاب، يكترىه ليوم أو يومين ببضع سنتيمات، فصاحب المكتبة كان يعرف قيمة الكتاب، ويحترم القراء، ويشجعهم على القراءة٠ وغالبا ما كان يهدينا كتبا رائعة مجانا٠
جيل ( أنادي أنا ) لم يكن يعرف معنى الحرية، هذه الحرية التي تحولت إلى فوضى عارمة تجتاح البيت، والشارع، والمدرسة، لم يكن يعرف تقليعة السروال الهابط٠ حريته كان ينتزعها من سلطة الأب، ومن الشارع، ومن المخزن انتزاعا، لكنها كانت حرية مقننة، يحسن استثمارها في ما يفيده٠
أتذكر أن التمتع بفلم هندي أو كراطي أو ويسترن، كان يعني قضاء ليلة أوليلتين على الأقل وراء القضبان، وفي ضيافة الشرطة، عندما نصادف ( الواشمة)، وهي تجوب شوارع وأزقة المدينة، وتمشط المكان بحثا عن كل من لا يتوفر على بطاقة هوية٠
جيل ( أنادي أنا ) جيل المعاناة٠٠٠ جيل الوعي الشقي٠٠٠ جيل التمرد على الأعراف البالية ٠٠٠ جيل المعرفة والفن الملتزم ٠٠٠ جيل الشيخوخة المبكرة٠

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق