الأربعاء، 18 سبتمبر 2019

مخاض // كُتبَ النص بمداد الأستاذ // عبد القادر صيد // الجزائر

مخاض
أستميت قبل أن أنزل من بطن أمي إلى عالمهم كي لا أشبه أحدا منهم مهما كانت غرابته، فلولا تقليد الببغاء والقرد للإنسان ورفع وجهيهما إلى أعلى خلاف فطرتهما لما طالهما الانتفاص، ولما أصبحا سخرية في أمثال الناس عكس النملة التي تنطح عيناها الأرض غير عابئة بشفاه بني آدم حينما تمدحها في سماء أمثالهم، ولا مكترثة بأرجلهم حينما تدوسها على أرض واقعهم. سأخالف عمدا من يدهشني لأقترب من كينونتي، وأدهشها، فليس السر في الفخامة، وإنّما في التميّز، فكم في الحارة من أقوياء وأنيقين وأغنياء لكن واحد فيها فقط من يثير التساؤل بأسلوبه المختلف.
رغم محاولتهم إيهامي بأنني نكرة إلا أنّني أستعصي على الانخلاع من وجدانهم، وعوض أن أخوض رهبة أوديتهم سأضطرهم إلى الانغماس في سكون ساقيتي ليلا حينما تنام عيناي بينما تسهر أرجلهم وتختصم على ضفافها.. وعلى الرغم من أنهم يملكون قلوبا متنوعة فإن أصواتهم تصلني خارج بطن أمي بنغمة واحدة إلا دقات قلبها تبقى كل دقة بلغة مختلفة عن التي سبقتها والتي تليها وبوتيرة متصاعدة ولكن أفهمها كلها، وبما أنّه لا توأم معي لأترجم له معناها، فسأحتفظ بما أسمعه، وسأفاجئهم به عندما أكبر على الأرض لأنني لونطقت الآن لهربوا مني خوفا من منظري و هول مشهدي مع أنهم كلهم مروا على مرحلتي، ماالذي يخيفهم من عالمي والإنسان يخرج ملطخا بالدم ويغادر الأوفياء لمنشئهم بنفس المنظر مغسولين بماء الحياة.
سأحتفظ بكل ما أسمعه منهم لأعيده عليهم فيفرحون به لأنهم عثروا عن طريق المصادفة على من يعرض رغباتهم على لسانه ويتحمل أوزارهم ، فهم الأبرياء وأنا الآثم لأنني أتكلم عن نزوات القلب الواجبة الدفن وتجاوزات السلطان الواجبة الطاعة. سيحبونني كثيرا لأن مشكلتي الثلاثية مفصلة على مقاسهم، فمشكلتي مع المرأة على الأوراق ومع الحاكم بين القضبان، ومع المال في المطبعة، وأترك لهم مثلثهم البرمودي الذي يلتهم كل شيء. سيفرحون كثيرا عندما يعاينون شخصا ينزل إلى دنياهم محنطا يدخل المتحف بإرادته وهو على قيد الحياة، و في حالة فشله في مواصله دوره لن يخسروا معه شيئا لأن أوراق كتبه في الأخير تصلح أن تكون كفنا مثاليا.
اقترب المخاض يا أمّي، فألهميني الشجاعة لأجابه عالم الأشواك المتحالفة والورد المتخاصم، فالمصيبة أن الشوكة تعترف بشوكية صديقتها لأنهما الاثنين تزرعان ألما وتنزفان دما، بينما تنكر الوردة وردية صاحبتها لأنهما تصدران رائحتين مختلفتي اللون والتأثير ولكنهما طيبتان يبعثان الأمل.. تشعر الشوكة التي ربط القدر مصيرها بالوردة بقرابة مع شوكة العقرب أكثر من إبرة الممرض، فيصل شيء من هذه القرابة إلى الوردة فتحس بسم الشوق يلسع قلبك كلما شممتها. يعني استقبال الناس لي بالورد الظاهرالشوك الباطن، فألهميني الشجاعة لأواجههم بما تعلمته منك من حكمة وصبر لأكون رسول بطنك فعلا إلى عالم العقوق، فكلهم رأى ما رأيت وسمع ما سمعت، وكلهم نسي أو تناسى، ويستعجلون خروجي إليهم ثرثارا لأهدي لهم التبريرعلى طبق من ذهب. .
في المستشفى حزنت عندما ندم الأجنّة الطّيّبون الذين حذّرتهم من النزول إلى هذه الدنيا فخالفوني، ثم تراجعت عن تحذيري لغيرهم سيؤانسونني، وسأتنسّم عطرهم الذي سيتلاشى سريعا بين عتبة الدنيا التي مدخلها ومخرجها وجهان لباب واحد ظاهره الألم وباطنه النّدم، لكنّه سيسع ابتهالاتي فيه كما ترمي صحنا زجاجيا عصيا عن الانكسار وعصية ألحانه عن التقليد، ستعيد فقرات صوتي الحزين قرقعة اللحن، وستستعذبه لهواتهم التي ستحسّ بأنها سبق وأن اجترته قبل تورّط أجسماها في خوض هذه الحياة. وسأتنازل لهم عن أحلامي إذا قبلوا معها كوابيسي، وسأنام ماشيا أحفر أحلاما جديدة بحذائي لأفي ببيعي، وما أراه حينها سيكون حلالا عليّ لأنه كسب رجلي، لهم الأحلام القمرية ولي الطموحات الشمسية. ولهم العبارات التي تضيق بمعانيها، ولي الإشارات التي بها تضيق عباراتهم عنها، لأنهم يكتبونها بحبر الرماد الذي يتبرج بدقة متناهية على منحنيات أجسادهم وتأوهات رغباتهم التي تجهضها حروفي البركانية التي أجمعها بعد أن ضلت عني في تيه وادي الغواية أربعين سنة جمرية.
يجهض حرفي ويضع أوزاره قبل أن يصل إلى آذانهم، فترجع إليّ سحابته لتروي فكري من جديد، كل الأنهار التي تصب في البحر المتكبر متملقة ترجو عبثا البرزخ كي لا تختلط، ولكنها في النهاية تتلطخ شفاهها بالملح وتصاب بارتفاع ضغط الحبر الذي يصل مداه، ثم يصير أبيض فاقدا قدسيته التي أخفاها القرامطة ردها من الزمان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق