الأحد، 10 مايو 2020

اعمال النبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله المدينة: بقلم د. صالح العطوان الحيالي // العراق

اعمال النبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله المدينة
ــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي - العراق- 6- 5- 2020
تُعدّ الهجرة نهجاً مُتّبعاً للأنبياء والرسل -عليهم السلام- في سبيل نشر الدعوة إلى الله تعالى، وحمايتها من كيد وبغي المعادين لها، ولم تكن الهجرة قاصرةً على النبيّ محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم؛ بل إنّ عدداً من الأنبياء قبله قد هاجروا ممتثلين لأمر الله تعالى؛ لينشروا الدعوة بعيداً عن تضييق المضيقين أو منع المانعين، فهاجر أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السّلام- بعد كيد قومه له وتآمرهم عليه وعلى دعوته، وهاجر لوط -عليه السّلام- كما هاجر عمّه إبراهيم، وهاجر موسى -عليه السّلام- ومن آمن معه من بطش فرعون، وهاجر النّبيّ محمدٍ -صلّى الله عليه وسلّم- في سبيل نشر الدعوة.
تاريخ الهجرة النبوية
أذن الله -تعالى- لنبيّه بالهجرة إلى المدينة المنورة بعد ثلاث عشرة سنةٍ من البعثة والدعوة في مكة المكرمة، وورد عن ابن إسحاق أنّ الهجرة النبوية كانت في السابع والعشرين من شهر صفر من السنة الرابعة عشرة من بعثة النبي محمدٍ -عليه الصلاة والسلام-، أمّا وصوله إلى المدينة المنورة فكان في الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وذلك على اعتبار أنّ شهر محرّم الشهر الأول من السنة الهجرية.
هاجر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إلى المدينة المنورة برفقة صديقه أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وخلال هجرتهم مكثوا في غار ثور بضعة أيامٍ، وبعد انقضاء ثلاثة أيامٍ على مكوثهم في الغار، وهدوء الأحوال بعد بحث كفار قريش عنهم، توجّهوا في مسيرهم نحو المدينة المنورة، وأسّس مع المسلمين أول مسجدٍ أُقيم على التقوى بعد النبوة، ثمّ صلّى فيه، وهو مسجد قباء، وبعدها اتّجه مع أبي بكرٍ نحو المدينة، وهي يثرب سابقاً، وأدّى صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف، وبعد انتهاء الجمعة دخل الرسول المدينة المنورة، وكانوا أهل المدينة عالمين بخبر قدوم رسول الله إليهم من قبل، فبدأوا بالتجهيز لقدومه، وكان في استقباله عندما وصل ما يقارب خمسمئة صحابيٍ؛ فرحاً بقدومه، وفي ذلك اليوم سميّت يثرب بمدينة الرسول عليه الصلاة والسلام.
أعمال الرسول في المدينة المنورة
حينما وصل الرّسول -صلّى الله عليه وسلّم- للمدينة المنوّرة، قام ببعض الأعمال الأساسيّة والمهمّة، وفيما يأتي بيانها بشكلٍ مفصّلٍ:
بناء المسجد
ــــــــــــــ اول مؤسسة اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بإنشائها هي مؤسسة المسجد. فمنذ اليوم الذي وصل فيه إلى المدينة باشر ببناء المسجد، حيث شارك ببنائه بيده الشريفة، إلى جانب المسلمين حتى أتموا بنائه. ولم يكن المسجد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مجرد مكان للعبادة والتعبد وحسب، وإنما كان مركزاً للعبادة والتعليم والتوجيه الثقافي والتفقه بالدين. وكان مركزاً أيضاً للحكم والإدارة. وبقي المسجد كذلك زمناً طويلاً بعد وفاته.
فلم يكن لحكومة النبي صلى الله عليه وسلم مقر خاص أو قصر معين، وإنما كان المقر الوحيد والعام في الدولة هو المسجد. ولا تذكر مصادر السيرة النبوية أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بمهات إدراية وقيادية عندما كان في المدينة في منزله أو في مكان أخر غير المسجد. وإنما كان يمارس دوره قائداً ورجل سلطة، ويؤدي جميع مهماته المتعلقة بالدعوة والدولة والناس، في المسجد. ففيه كان يستقبل الوفود ويبتّ في أمور الحرب والسلم، ويقضي بين الناس، وفيه أيضا كان يكلف المبعوثين من قبله في مهمات دبلوماسية وسياسية وعسكرية وغيرها.
وكان أول مسجد بني في الإسلام هو مسجد "قباء"، في قرية قباء القريبة من المدينة المنورة. فقد كانت هذه القرية هي المحطة الأخيرة التي نزل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم خلال رحلة الهجرة قبل دخوله إلى المدينة، وبقي فيها أربعة أيام ينتظر قدوم الإمام علي عليه السلام، حيث كان لا يزال في مكة يؤدي الأمانات إلى أهلها نياية عن الرسول صلى الله عليه وسلم بتكليف منه.
وفي أثناء إقامة الرسول في قرية "قباء" أسس مسجد هذه القرية على أساس التقوى كما أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى :"لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه".
لما وصل النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلى قباء، مكث فيها عند بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلةً، وقد أسّس هناك مسجد قباء، ثمّ نزل في بيت الصحابيّ الجليل أبي أيوب الأنصاريّ، وقد ورد أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- مكث في بيته سبعة أشهرٍ، كان يصلّي حيث أدركته الصلاة، ثمّ أراد أن يبني مسجداً يكون وجهة له وللمصلّين من المسلمين، فاشترى نخلتين لغلامين من بني النجّار، فقطعهما المسلمون وأخذوا بصفّ الحجارة حول المكان؛ لتأسيس مكانٍ للمسجد، وقد كان بناء المسجد أوّلاً من الجريد، ثمّ جُدّد بعد ذلك من اللِّبن
وقال الواقدي إن المدّة كانت سبعة أشهرٍ، وقال غيره إنّها كانت أقلّ من شهرٍ، ورُوي غير ذلك، وكان ذلك أوّل عملٍ لرسول الله في المدينة، وساعده في البناء الصحابة رضي الله عنهم، وكانوا ينقلون اللِّبن معه، وكانت أرض المسجد عبارةٌ عن بيدر تمرٍ لغلامين يتيمين كانا في حجر أسعد بن زرارة، وقد ابتاعه رسول الله منهم حتى يقوم ببناء المسجد، وكان المسجد مصنوعاً من اللّبن، وأسقفه مغطّاةٌ بجريد النخل، وأعمدته من أخشاب النخل، وكان لبناء المسجد عدّة أهدافٍ، فلم يكن بناؤه فقط على الأساس الديني، وإنمّا تنوّعت الأهداف، وفيما يأتي ذكر بعضها:
التأكيد على ارتباط الدين والسياسة معاً، فكان المسجد بمثابة مكانٍ يمارس فيه القائد والحاكم مهامه، فالسياسة جزءٌ من الدين لا تنفصل عنه، ولو أنّ الأمر يناقض ذلك لأقام الرسول -عليه الصلاة والسلام- بيتاً للأمارة بشكلٍ مستقلٍ عن المسجد.
تثبيت الأصل التي تقوم عليه الدولة الإسلامية؛ الذي يتمثّل بالعلاقة مع الله تعالى، فهي الأساس الذي تقوم عليه أمور السياسة.
استقبال الوفود في المسجد، والاجتماع معهم فيه، للبحث فيما يتعلّق بأمور الحروب والإصلاحات والأسرى، وعقد الاتفاقات والتفاوضات معهم.
التشاور في أمور الغزوات قبل حدوثها.
عقد مجالسٍ لتعلّم العلوم الشرعية، وباقي العلوم الأخرى.
الحكم بين المتخاصمين داخل المسجد، حيث كان يعدّ داراً للقضاء.
ممارسة بعض الأنشطة الاجتماعية؛ فهو مأوى الفقراء، ومكانٌ لممارسة الأحباش لبعض الأنشطة الترفيهية.
لقد كان المسلمون في المدينة فئتين، مهاجرين وهو من ترك وطنهم الأصلي مكة، وأنصارا، وهم المسلمون من أهل المدينة الذين بايعوا الرسول (ص) على النصرة والجهاد. ولقد كان لكل من هاتين الفئتين ظروفها الخاصة المعنوية والنفسية والمعيشية، التي تختلف عن ظروف وأوضاع الفئة الأخرى. ولو أخذنا المهاجرين على حدى فإنهم كانوا من جماعات قبلية متنوعة ومن مستويات مختلفة فكريا واجتماعيا وماديا. كما كانوا يختلفون في تطلعاتهم ومشاعرهم وعلاقاتهم، وجمعياً تركوا أوطانهم وأصبحوا بلا مال وبلا مسكن.
أما الأنصار، لو نظرنا إليهم على حدى، فإنهم كانوا فئتين متنافستين، أوس وخزرج. وقد كانت الحروب ببنهما قائمة على قدم وساق إلى عهد قريب من دعوة النبي. وعندما هاجر النبي (ص) إلى المدينة أراد صهر الجميع، المهاجرون والأنصار، رغم كل هذه الاختلافات والتفاوت والتباين بينهم، في إطار واحد هو الإسلام، ليصبحوا مجتمعاً واحدا، وجسدا واحدا، في توادهم وفي تراحمهم وفي تعاونهم. وأن تتوحد جهودهم وأهدافهم وحركتهم ومواقفهم في الحياة. فكان المسجد الذي به ومن خلاله تحقيق كل هذه العوامل الضرورية لبناء المجتمع الإسلامي.
اهمية المسجد
ـــــــــ كان المسجد ولا يزال حتى الأن في عصرنا الراهن، بعد مرور مئات السنين، أفضل وسيلة لوحدة الثقافة والفكر والعقيدة والدين، حينما يفترض أن تكون الثقافة من مصدر واحد وتخدم هدفاً واحداً في جميع مراحل الحياة مع الشعور بالقدسية والإرتباط الروحي بالله عزّوجل.
والمسجد من ناحية أخرى، هو وسيلة لشيوع الصداقات بين المسلمين، وبث روح المحبة والمودة بينهم. فحين يلتقون مع بعضهم البعض عدة مرات يومياً في المسجد في جو روحي وحميم يشعرون من خلاله بالمساواة، وحينما تتساقط كل مظاهر الجاه والسلطة والمال وغيرها، ويقف الجميع بين يدي الله عزّوجل بخضوع وخشوع، الغني والفقير، الزعيم والإنسان العادي، العالم والجاهل، حين يقف الجميع كذلك في المسجد، فإنه لا بد من ترسخ أوصال المحبة والتأخي والتآلف بينهم. ويشعر كل منهم بأنه في مجتمع يبادله المودة والمحبة والتعاطف، وأن له إخواناً يهتمون به ويعيشون همومه وقضاياه ومشاكله. ويمكنه الاستناد إليهم في وقت الشدائد.
إن اهتمام الإسلام بالمسجد وإعطائه هذه الأولوية إلى درجة أن يكون أول عمل يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم في قرية قباء، ثم في المدينة المنورة، يدل بوضوح على أن الإسلام يريد منا أن نتعامل مع المسجد بصفته مؤسسة دينية ثقافية وفكرية وجهادية تماماً، كما تعامل معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه يجب أن يبقى المسجد مؤسسة يتخرّج منها المؤمنون الواعون والمجاهدون
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
ـــــــــــــــ آخى رسول الله بين المهاجرين والأنصار، ووثّق بينهم روابط المحبة، والألفة، والتكافل الاجتماعي، وكان على أساس الأخوّة الإسلامية، فكانت علاقاتهم بعد المؤاخاة مع بعضهم كالأخوة تماماً، يتقاسمون أمورهم، ويتعاونون مع بعضهم في أمور الخير، وما ينفع مجتمعهم، ويحبّون الخير لبعضهم، ويؤثرون على أنفسهم رغم ضيق عيشهم وصعوبة أحوالهم، فكانت أخوّتهم صادقةً وحقيقيةً، تقوم على الإيمان بالله تعالى، وعلى العقيدة السليمة في نفوسهم، وتمت المؤاخاة في بيت أنس بن مالك رضي الله عنه.
المعاهدة بين المسلمين واليهود
ـــــــــــــــــــ قام رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بكتابة الوثيقة أو الصحيفة التي تنظّم علاقة جميع المواطنين في المدينة على اختلاف دياناتهم وأصولهم، فكانت بين المسلمين من المهاجرين والأنصار مع بعضهم البعض، ومع قبائل يهود بني قريظة، وبني النضير، وبني قينقاع، واشتُهرت باسم وثيقة المدينة، وقد سمّاها بعض المعاصرين بدستور المدينة، واحتوت الوثيقة في داخلها على مجموعةٍ من البنود المتّفق عليها.
بناء السوق الإسلامي
ــــــــــــــــــ سعى الرسول -صلّى الله عليه وسلّم- أثناء مكوثه في المدينة إلى بناء سوقٍ إسلاميّ خاصٍّ بالمسلمين، مستقلٍّ عن الأسواق الأخرى، حيث إنّه لم يكن يعطِ أي حريّةٍ بممارسة أيّ عملٍ اقتصاديّ داخل المسجد، لحُرمته وقدسيّته، حيث يغلب على أيّ عملٍ اقتصاديّ ممارسته من قبل جميع الناس، وكثرة المعاملات التجارية التي تحصل فيه، واتّجه نظر رسول الله لبناء سوقٍ إسلاميّ؛ بسبب عدم وجود سوقٍ داخل المدينة خاصّ بالمسلمين ومعاملاتهم، وكان هناك سوقٌ يسيطر عليه اليهود، وهو سوق بني قينقاع، وكانوا هم من يسيطرون عليه، وعلى العمليات التي تتم داخله، ويمنعون المسلمين من الدخول إليه إلّا بدفع الخراج لهم، فكان أمر رسول الله ببناء السوق الإسلامي الذي يرأسه المسلمون، وقام بوضع الأسس الخاصّة بالعمل في داخله، من حيث كيفية البيع والشراء، وتحديد الأسعار.
مكانة المدينة المنورة
أعطى الله تعالى تشريفاً للمدينة المنوّرة، وجعلها من أفضل الأماكن بعد مكة المكرمة، ومن فضائلها
حُرمتها؛ فلا إزهاق للدم فيها، ولا قتال فيها.
سمّاها النبي -صلّى الله عليه وسلّم- طيبة وطابة.
مهبطٌ للوحي، حيث قال ابن حجر: (والحال أنّ الإقامة في المدينة خيرٌ لهم؛ لأنّها حرم الرسول صلّى اللهُ عليه وسلّم، وجواره، ومهبط الوحي، ومنزل البركات، لو كانوا يعلمون ما في الإقامة بها من الفوائد الدينية بالعوائد الأخروية التي يُسْتَحْقَرُ دونها ما يجدونه من الحظوظ الغائبة العاجلة بسبب الإقامة في غيرها).
دعاء النبي -صلّى الله عليه وسلّم- لها بالبركة.
عدم دخول الدجال إليها.
احتوائها على المسجد النبوي الشريف، الذي تشدّ الرحال إليه، والصلاة فيه مضاعفةٌ.
احتوائها على مسجد قباء، وأجر الصلاة فيه كأجر أداء عمرةٍ.
حماية الله تعالى لأهلها ممّن أرادوا بهم سوءاً.
المصادر
1- د.أحمد الخاني - "سيرة الرسول: من الهجرة إلى غزوة بدر
2- عبد الستار المرسومي - "هوية الدولة وإستراتيجيتها في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم"
3- مراد سلامة - "أسس بناء المدينة الفاضلة من خلال الهجرة النبوية
4- ابن هشام: السيرة النبوية
5-ابن كثير: البداية والنهاية
6- الصالحي: سبل الهدى والرشاد
7- الطبري - تاريخ الرسل والملوك

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق