الثلاثاء، 5 يناير 2016

قصة قصيره / الأديب القاص رسمي رحومي الهيثي / حمامة شاقوفيان/ العراق



قصة قصيرة  //   حمامة شاقوفيان  //   رسمي رحومي الهيتي

يوشك هذا الزمن الذي انطلقت ذاكرته في طرقات التضاريس أن يؤسس لميلاد صرخات تستيققظ عند اعتابها ولادة اخرى ، لتستنهض كل أثقال التاريخ السابق واللاحق ، وتشهق في حضرة حلم مقترح يغادر حصار الامل الوسنان ويستقر في دائرة الرجاء على وسادة الأماني المفترضة عند آخر رعشة فجر وهي تقظ مضاجع الأسئلة !!
مملكة كانت احلامنا ، وقلاعنا محصنة بمحض طغيان الارادة التي استولت على شظايا الوهج المنفلت من نيران مودتنا !.. هل باغتنا الضياء الأول لنستعجل صلاة لم يؤذن لها ؟!
ما كان لهؤلاء المجتمعين ان يدركوا حجم الترتيبات الاحترازية والأمنية التي أتخذت لحماية هذا المقر الذي وجد أنفسهم المجتمعون فيه بعد تلقيهم أمراً ملزماً بالحضور والانصات الى ما سيتلى عليهم من اوامر وقرارات وتوجيهات !!
حاضرة كل صنوف الجيش .. المشاة ، المدفعية ، الدروع ، والطيران ، كذلك الشرطة موجودة بتشكيلاتها ..
الشرطة المحلية ، النجدة ، السرية ، كذلك شرطة المرور !!... والهدف الشاقوفة !

-           وما الشاقوفة ؟
-           الشاقوفة مكان في الازمنة ، وليس زمن في الامكنة !
-           ماذا تقصد ؟ سأل البروفسور
-           انا لا اقصد ، بل اعني !
-           نحن هنا نبحث في ميثولوجيا التاريخ ، لا تاريخ الميثولوجيا .
-           حسن ، يا سيدي البروفسور ، فلا تعارض من حيث المبدأ اذا توخينا رفع اللبس عن صيرورة المكان الذي يتماهى مع نسيج الزمن بتراتيب مجمل الوجود ، على ان عناصر الاثنين بشكلان جوهر الفكرة !!
-           استمر .


-           الشاقوفة عندنا هي مقهى شيدناها نحن الهيتيون على ضفاف النهر من جذوع النخيل وجريد سعفه ، واردنا لها ان تكون اكاديمية ليست اقل شأناً من تلك التي انشأها افلاطون في بساتين اكاديموس عند ضواحي أثينا ، وليست أقل شأناً من تلك التي انشأها رثيليو في فرنسا ، على أن هيت أقدم من أثينا وباريس !!
-           هل استمر ؟
-           نعم ، نعم ،
-           كنا فيها نثقف بعضنا على ان عصارة التاريخ المتمثل بأزمان مدينتنا سيتصارع يوماً ما بالقرب من " شاقوفتنا " مع رأس الطاغوت اللاهث طعماً بزيت وقود العصر !
 وكانت الحقيقة تغوص في قعر الصمت فيما تطفو على السطح دعوات الذبح والقتل وهي تنتهك طراوة الاحلام ، الوجوه تلبس اللثام وتخفي في ملامحها رائحة الخوذ الفولاذية المصنوعة في الغرب الاقصى أو اقصى الغرب .
-           سنكمل حديثنا في وقت لاحق ، الى اللقاء .
-           الى اللقاء .
 كنا والليل يجثم بحلكته على صدرونا في انتظار رسول ياتينا بأخبار أو وصايا نفترض انها ستشيع الدفء فينا ، وان كان لبعض الوقت .
-           انا " خاجيك " جئتكم من الجبل ، سأرحل غداً وبمقدور من يرغب الصعود معي الى هنالك أن يتهيأ ، هل نحن في الشاقوفة ؟
-           بالضبط ، اجابه صبحي .
-           من سينطلق معي الى الجبل ؟
-           أنا ورافع عبد السلام وفاضل حسين ، اجابه صبحي يعقوب الذي كان واثقاً من اجابته وكأنهم اتفقوا على ذلك .
هكذا نبدأ مشاريعنا .. في كل مرة نشطب على امانينا ونجترح سفراً يرتهن الى تقلبات طقوس مجهولة مشدودة الى مسالك قد لا تفضي الا الى وحشة تطوقها أشباح بزي مخيف .


في رحيلنا الاول ، لم يكن قد رفرف على اجنحتنا البنفسج بعد ، حتى باغتنا الرعاع بالفاجعة ! حينها اشتكت الشوارع من ظلمة الارصفة ، واستحال ازيز الرصاص الى اعراف تآلفت مع الخديعة الغادرة وهي تؤسس للقتل الصامت في أجندة الانقلابيين وهم يدكون رحم الاشهر التسعة بكل عهر اسلافهم لاغتيال اشارات النبوءة !!
لم يكن مجئ " خاجيك بغداسار " الى الشاقوفة مفاجئاً لنا ، انها الزيارة الثالثة او الرابعة ، وهو في كل مرة يعود مصطحباً معه الراغبين في الالتحاق بالجبل .
لم يأت دوري في هذه المسيرة التي كنت اعد لها العدة ومـــــنذ وقت طويل ... كنت على مدى الأيام الماضية اتمنى ان يشملني هذا المجد !! انا المطلق سراحي بكفالة جراحي .. انا المتيقظ في خدر الآخرين ، انا القابض على المسرات في اول احلام البشر !! انا ابن تلك " الشاقوفة " التي انخرطت طوعاً في زفة عرس استحال الى كارثة !
" ان الجماعة بدأوا ينشطون " قال خاجيك وأضاف :- خذوا اقرأوا وسترون ماذا يجري .
حين دفع الينا خاجيك برزمة من الاوراق ، أرتأينا ان ننتقل الى احد البيوت ، فأن السهرة ستكون دسمة مع هذه الوريقات النبيلة !!
بسبب زياراته المتكررة الينا ، بالاضافة الى معرفتي السابقة به ولطبيعة مهامه أطلقت عليه اسم " الحمامة " ! ولم يخف " خاجيك " سروره لهذه التسمية ، وفي ذات مرة سألته مداعباً :- لماذا لم يكن اسم ابوك كما هو شأن جماعتكم ؟ 
-           ماذا تقصد ؟
-           مثلاً اسطيفان ، هاكوبيان ...
في البدء ابتسم خاجيك ثم اطلق ضحكة مجلجلة ، أضفت قدراً من البهجة الى جلستنا الجادة تلك ، حينها ايقنت ان سؤالي لم يكن دقيقاً بما فيه الكفاية ، وكان ذلك بسبب عدم معرفتي بتفاصيل اللغة الأرمنية .
تطوق الشاقوفة أربع نخلات عاليات ، اكبرهن مقطوعة الرأس !
واثنتين أخرتين لم تكونا أحسن حالاً من الاولى ، بينما كانت النخلة الرابعة وكأنها تغالب قدراً عصياً وهي تتسامق معلنة بعناد اسطوري

حكاية أخرى للخصب والعطاء في خضرة سعف طري وحبات من التمر تنوء بها اعذاق قوية !!  
في كل مرة يأتي خاجيك فانه لم يخف عشقه وحبه للشاقوفة ، وهو ينظر اليها ليست كمقهى مشيدة على ضفة النهر ، بل هو يعدها غير ذلك ، ويذهب بعيداً حين يضفي عليها بعداً فلسفياً يتداخل ويتخارج مع رؤية السلطات المتعاقبة لرواد الشاقوفة ، وبالاحرى لساكنيها !! 
-           أذن خاجيك شاقوفيان !! قال خاجيك
-           بل " حمامة شاقوفيان " !! أجبته
-           أحسنت ... رائع ، قال الجميع وكان صوت خاجيك هو الاعلى .
الرفاق في شمال الوطن ـ تقول اوراق الحمامة ـ أستطاعوا تأسيس ثلاث قواعد انصارية !
-           الاولى تشكلت في " ناوزنك " ، قال شاقوفيان وهو بذلك يوفر علينا قراءة تلك الاوراق التي وان كانت واضحة الا ان كلماتها متناهية الصغر ، كذلك قاعدة أخرى في منطقة هورامان بالقرب من مدينة حلبجة ، واخرى  في " بهدنان "
 ومن الاخبار السيئة أعتقال د . صباح و د . صفاء !!
-           أذن من تبقى من القيادة في الداخل ؟ سأل صبحي يعقوب
-           أبرز من ظل " أم علي " !!
 صعقنا جميعاً حين سمعنا باسم " ام علي " ليس لأننا كان نستكثر على سيدة شيوعية ان تقود التنظيم ، ولكن كان علينا ان نعرف حجم الهجمة الشرسة واللئيمة التي تشن على كافة الرفاق ، على اننا لم نكن نعرف من هي " ام علي " ولم نجرأ على السؤال عن اسمها الحقيقي !
لم يمض وقت طويل على التحاق آخر دفعة من المقاتلين الأنصار ، حين بدأت تتوالى الاخبار التي تتحدث عن العمليات التي ينفذها أولئك الابطال في الجبال والوديان والقصبات ، كذلك أخبار استشهاد عدد من رواد الشاقوفة . 



كان جسد الأرض يصرخ والنخيل يرتجف ، والحمام يطوقه حزام الرعب والخوف... ورقة أخرى تسقط على رصيف الانتظار المر لتودع روابي البطولة في استشهاد البطل اسماعيل يوسف زايد ...


 تتكور المرارة عند مذاق الدم القادم وهي تعلن استشهاد " خاجيك بغداسار " او بالأصح " حمامة شاقوفيان " ... وداعاً ايها الزاجل عند طراوة الفجر ، وانت تمارس رقصك الدامي في حضرة الغجر ... سلاماً !!
مثل الكوابيس صارت الأحلام ، ومنها يفيض عذاب الألم ... اصبح التوهج خافتاً في مستقر الذات التي كانت تمني أوجاعها بمقدم سحاب ماطر، ولامطر يسكت دعاء المزارع !!
بحجم ورقة دفتر " البافره " كانت الورقة التي اعلنت عن قدوم الصاعقة فقد أعتقلت " عايدة ياسين " ..." وباكة ، باكة الموت من ياخذ الوادم ، باكة ، باكة " ..
أنتقل الخبر من البصرة حتى عقرة وشقلاوة ، وكانت الاذاعات مسموعة عند الحدود ، والبرقيات تتوالى ، فيما كان الصمت لدنا وخبيثاً في أروقة الامميات الثلاث !!
من تكون " عايدة " ؟!! هل نسأل " ام علي " ؟!
ام نؤجل ذلك ونحفظه في قاموس اسرار تتناسل في رحلتنا المضنية والشاقة والشريفة في آن واحد .
كان علي ان امسك بوصلة طريق آخر وجدته على متن ليلة حالكة الظلمة ، عندما تسللت خارج الوطن المتخم بالحدود ، ولأجد نفسي وجها لوجه مع ذلك البروفسور العتيد وهو يشرف على اطروحتي لنيل شهادة الدكتوراه الموسومة " حمامة شاقوفيان " ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق