فلسفة الانتقام في الفكر اليهودي وانعكاساتها في الأدب العبري / دراسة علمية الاولى من نوعها باللغتين العربية والعبرية(*)
الباحث : عبدالوهاب محمد الجبوري(**)
المقدمة
يعد أدب الحرب العبري واحدا من أهم المصادر المعرفية التي يمكن الاعتماد عليها في استحصال المعلومات عن التكوينات الداخلية للمجتمع الإسرائيلي والتي يصعب في أحيان كثيرة متابعتها وكشفها من خلال المصادر الأخرى كالكتابات السياسية والاجتماعية والفلسفية ..الخ وذلك لان الكتابات الأدبية العبرية تزودنا بالمعلومات المطلوبة في اتجاهات ثلاثة :
الأول: الوقوف على طبيعة الحالة العسكرية وروح العسكريتاريا لدى المستوطنين اليهود داخل فلسطين المحتلة ..
الثاني : التعرف على الواقع الاجتماعي والأنماط النفسية والاجتماعية السائدة داخل التجمع اليهودي ..
الثالث : استقراء القيم الرسمية الإسرائيلية التي تبثها الإيديولوجية السائدة في الأعمال الأدبية العبرية بشكل عام، الأمر الذي يمكننا من دراسة واقع الصراع المهيمن على المجتمع الإسرائيلي من كافة جوانبه من ناحية وعلاقته بالطرف العربي من ناحية ثانية ..
بناء على ما تقدم اعد الباحث دراسة علمية شاملة باللغتين العربية والعبرية تضم نماذج أساسية منتخبة من صور وأركان أدب الحرب العبري( القصة - الرواية - الشعر - المسرحية - المقالة - الفلم السينمائي ) مما يجعلها الدراسة الاولى من نوعها في الوطن العربي ، تم اختيارها لتكون موضحة للاتجاه الفلسفي الصهيوني في عموم هذا الأدب… وقد تحدثنا في القسم الأول من هذه الدراسة، التي نشرت سابقا ، عن صورة العربي في أدب الحرب العبري، وفي هذا القسم سنتحدث بمشيئة الله عن الانتقام والعدوانية في هذا الأدب العنصري الاستعلائي ..
اصول فلسفة الانتقام والعنف
معروف إن لزعماء اليهود أسلوب خاص في معالجة قضاياهم يتلخص في تلك المقولة الشهيرة لدافيد بن غوريون: ” لا يهم ما تقوله الشعوب الأخرى ، بل المهم هو ما يفعله اليهود “( ) وهو ما يفسر لماذا كانت إسرائيل اقل حساسية للرأي العالمي تجاه ممارساتها العدوانية نحو العرب، وقد أشار د. قدري حنفي في كتابه الإسرائيليون.. من هم؟ إلى دراسة قام بها الباحث الأمريكي باري بليخمان لتقييم ( الآثار المترتبة على الانتقامات الإسرائيلية ) خلص منها إلى إن الانتقام هو سلوك قومي إسرائيلي، وان إسرائيل تعتبر الانتقام صورة شرعية من صور السلوك القومي، كما أشار إلى إن التصريحات الإسرائيلية الرسمية تؤكد على إن هذه الانتقامات ( واجب ) و ( التزام ) وانه ( لا توجد بدائل أخرى )( ).
وفي محاولة لتلمس دوافع الروح العدوانية التي تمثل الإطار السلوكي للشخصية اليهودية نجد إن الفكر الديني اليهودي قد صاغ العقلية اليهودية في إطار من العنصرية التي تسبغ على اليهود صفات التبجيل والإكبار، في نفس الوقت الذي تتعامل فيه مع غير اليهود بأسلوب يؤكد إن الاستعلاء العنصري وعقدة الاضطهاد والرغبة في الانتقام هي أسس ثابتة في تكوين هذه الشخصية. وعقيدة اليهود قوامها مجموعة من الترهات والأكاذيب التي تزخر بها التوراة والتلمود وتعاليم حكمائهم، وهذه العقيدة هي التي صنعت اليهود، فجعلت منهم طائفة دينية فريدة في سلوكياتها الشاذة وأفكارها المريضة، التي تدعو إلى تحطيم كل العقائد والقيم والحضارات من اجل إقامة مجتمع عالمي أو ما يسمى بدولة جامعة يهوذا( )، ومطامع اليهود لم ولن تقف عند حد، وزعماؤهم يمضون في مخططات مدروسة بأسلوب علمي دقيق تغذي الوجدان اليهودي بمبررات العنف والوحشية والانتقام والتطرف العنصري في النظرة الصهيونية لغير اليهود واستباحة دماء وأموال الأجناس الأخرى وارتكاب كل جريمة في سبيل سيادة بني صهيون( )،
لذلك رأينا عند دراسة الأصول الدينية والتربوية لفلسفة العنف والحرب اليهودية إن التنشئة اليهودية تركز على آلية تنمية المشاعر النرجسية عند الفرد والمجموعة اليهودية والتي تستهدف تضخيم جانب التفاخر والتباهي والتعصب عندها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمقارنة مع الطرف الآخر، أي العرب، وتتزايد فعالية هذه الآلية من خلال توظيف المعطيات الدينية والتاريخية وقولبتها وإعادة تأويلها بما يخدم الوظيفة اليهودية الراهنة، لكن ما يحدث عمليا هو اندماج كامل للفرد في المجموعة، لكنه اندماج مشروط بتوفير الأمن( ) وهذا يعني إن هذا الهاجس يتضخم كلما ازدادت المقاومة العربية وثبت إنها عصية على منطق القوة،
من هنا فان هاجس الأمن يزيد من الاعتماد على المؤسسة العسكرية وتركيزها على التجنيد والخدمة في الجيش، وحسب مفهوم فلسفة الحرب اليهودية، فان توطيد هذه العلاقة بين الأمن والتجنيد يضعف إلى ابعد الحدود أية إمكانية لنشوء مشاعر التعاطف مع الآخر ( الضحية ) لأنه ببساطة يشكل مصدر الخطر الذي يهدد الأمن الإسرائيلي، وعليه فان أي سلوك مخالف لمنطلقات المشروع الصهيوني سيفسر على انه مشاركة في تقوية الآخر، وزيادة درجة خطرة على الأمن والاستقرار، من هنا تصبح سلوكيات التطرف في قمع الآخر والانتقام منه ( مبررة دائما ) بل تصبح قضية عادلة وتعبير عن حسن اندماج الفرد اليهودي ووطنيته( )، ففلسفة الانتقام اليهودية، إذن، تعتمد آلية الإسقاط كعملية تعرضية يلجأ إليها اليهود ضد العرب الذين يتحولون إلى أهداف لكراهيتهم يسقطون عليهم مشاعر الغضب والانتقام، والتي تتحول من خلال التبريرات الدينية، إلى فعل شرعي ومقدس كما حصل مع غولدشتاين الذي تحول إلى ( بطل ) بعد قيامه بمجزرة الحرم الإبراهيمي.
والانتقام عند بن غوريون وأمثاله من قادة إسرائيل ومفكريها يكتسب بعدا خاصا ويصبح غاية بحد ذاته ووسيلة ( بعث حضاري )، ومن اجل ذلك أسس جماعة الحارس والتي جعل شعارها ( بالدم والنار سقطت يهودا، بالدم والنار ستقوم يهودا )( )، هذا الشعار مبني على التصوير الجديد للشخصية اليهودية المحاربة، لذلك يقول بن غوريون: ” إن خير مفسر ومعلق على التوراة هو الجيش “( ).
وبهذا المعنى يكون الفكر اليهودي قد اعتمد على تراثه الديني والتاريخي والعسكري لتنمية روح الانتقام وتمجيد القوة واحتقار الضعف بهدف بلورة الشخصية اليهودية المطلوبة لعكس فلسفة هذا الفكر ووسائل تنفيذها.
الانتقام في الادب العبري
لقد تبنى الأدب العبري الحديث هذا الاتجاه الفلسفي وعزز من الرغبة في الانتقام ليجرد اليهودي من ( إنسانيته ) بعزله عن سائر البشر ومن ثم تجريد البشر من إنسانيتهم بدفعهم إلى التفرج على ما سمي بالمأساة اليهودية، وبالتالي جعل اليهودي شريكا من الناحية الأخلاقية في العنف الذي يحيق به وحول ( الاستشهاد ) اليهودي إلى مجرد مذبحة وقعت لشعب لا يرفض العنف الذي هو ضحيته( )، وأصبحت شعارات مثل الانتقام والثأر والإمساك بالسيف بدلا من الكتاب هي الشعارات التي ترددت كثيرا في الشعر العبري، ففي قصيدة شاؤول تشرنيخوفسكي( ) זאת תהיה נקמתנו " ليكن هذا ثأرنا " تعبير عن حقد مسموم لا يمكن لأي إنسان فهمه أو معرفة كنهه سوى اليهود وحدهم وهو تعبير أيضا عن إحساس بالألم يستلب من صاحبه إنسانيته ويعمق من كرهه وحقده للاغيار، فيقول:
( יום תתקע פגומת מאכלתך בגרון/ אחיך בן־אמך ותשחטנו/ כשחטך בחצרך ובמגרש הכפר/ את־בחיר־חזיריך בערבי פסחיך/ ואזנך קוטלה בנחרת גסיסתו/ מתענוג של חג ונגינתו/ יום נקם )( ) " سيأتي اليوم وتغرس حد سكينك في عنق/ أخيك، ابن أمك/ كأنك تذبح خنزيرك المفضل/ في عيد القيامة، في الفناء أو في ميدان القرية/ وسيكون رنين أنات موته مثل الموسيقى أو المهرجان في أذنيك المتلهفتين/ يا يوم الثأر ".
ومن اشهر قصائد تشرنيخوفسكي التي تقطر سماً زعافاً وحقداً ضد من ليسوا يهودا وتدعو إلى الانتقام منهم هي قصيدة ( باروخ المغنيستي )( )، والقصيدة طويلة للغاية ولكنها تبدأ بالحديث عن هذا الموضوع الشائع المتكرر في الأدب العبري، اضطهاد اليهود واستشهادهم: ( וברחובות קהל אכרים/ אמנם פרשים/ נאקות חלל בכי עוללים/ קול תחנוני־נשים/ שברי־כלים קרעי־בגד/ כתמי־דם ברפש/ קול הקוראים הכוס שחאם )( ) " في الشوارع جموع الفلاحين/ والحرفيين والفرسان/ أنات الموتى وبكاء الأطفال/ أصوات النساء/ الأواني محطمة وملابس مهلهلة/ الدماء تجري فوق الطين/ وصرخات تنادي فلتضربهم حتى الموت "( ).
وفي قصة ( חרבת חזעה )( ) " خربة خزعة " يقدم يزهار سميلانسكي نماذج من العنف والقسوة والانتقام وحركة الاقتحام الوحشي للقرية العربية حرقاً وسلباً وتدميراً ويتم ترحيل أهل القرية العربية بين مشاهد الإذلال والتعذيب، ويدور في هذه القصة جدال بين الكاتب وبين مجموعة من الأفراد الذين يؤمنون بآرائه من جهة وجماعة أخرى ممن يؤيدون الحرب والاحتلال والطرد والقتل من جهة أخرى، وتنتهي القصة باحتلال القرية العربية وتدميرها وتهجير سكانها.
وفي المقطع التالي من القصة، وأثناء انتظار الجنود اليهود أمر البدء بتنفيذ العملية ازداد شعورهم بالملل فأصبحت لديهم حاجة قوية للانتقام والتحطيم، فبدءوا ( يتسلون ) أولا بقتل الحيوانات: ( מה אתה אומר איזה כוח־חײם עצום יש לחמור. אמר האלחוטי.. אתמול דפקתי אחד בשלושה כדורים ולא מת.. עזוב.. לא יכול להיות.. בחײ אתמול, על יד המחנה.. יצאתי לבדוק את הכלי.. ראיתי אותו מסתובב לו אצל הגדר.. תיכף דבקתי אותו )( ) "
ماذا تقول في هذه القوة الخارقة للحياة عند الحمار، قال المخابر؟/ أمس رميت واحداً بثلاث اطلاقات ولم يمت!/ دعك من هذا، فهذا مستحيل/ اقسم، بالأمس وبالقرب من المعسكر خرجتُ لكي اجرب البندقية فرأيته يتجول عند السور وعلى الفور رميته ".
وفي قصيدة ( بقوة روحي ) يصور تشرنيخوفسكي الإنسان اليهودي الجديد، الغازي والفاتح والمنتقم والمؤمن بالعنف، بأنه قادر على معالجة الموقف عبر الانتقام بالسيف:
( يا سيفي، أين سيفي، سيفي المنتقم؟/ اعطني سيفي لانتصر على أعدائي/ أين أعدائي؟ لسوف اصرعهم/ وأحطمهم وأقطعهم إربا إربا/ سوف اجعل سيفي يشرب فخوراً من دمهم/ وستستحم خطواتي في دماء الصرعى/ سأقطع من يمين واحصد من شمال/ اعطني سيفي- فلن اغمده مرة أخرى/ حتى اذبح كل أعدائي )( ).
وفي قصيدة ( أيها المخربون.. الإرهابيون الصغار ) للشاعر العبري ابشلوم كور، نجد إن المنطق النازي يتحكم في مضمونها فيقرن الشاعر القتل بالانتقام ويقرن العدوان بالتوسع امتثالا للأساطير التوراتية، فيقول:
( توصلنا إلى نتيجة/ إننا يجب أن نقاتل وننتقم/ يجب أن نقتل/ كل الذين يبحثون لهم عن وطن/ يجب أن نقتل وننتقم/ حتى يكون لنا وطن/ من النهر إلى النهر )( ).
أما الشاعر حاييم نحمان بياليك فقد عبّر عن الانتقام من الشعوب غير اليهودية في العديد من قصائده وبصفة خاصة في مجموعة القصائد التي كتبها في أعقاب موجات الاضطهاد التي حلت بروسيا عام 1903 وعام 1905 واشهرها قصيدة ( בעיר ההרגה )( ) ، فهذه القصيدة عبارة عن سلسلة من الزيارات للمقابر التي دفن فيها ضحايا الاضطهاد، وللمعبد اليهودي، وتصل غضبة الشاعر إلى حد الاعتراض على رب إسرائيل حتى تصل إلى درجة الكفر، ويصف اليهود بالجبن والتخاذل وانه لا نجاة لهم إلا على ارض فلسطين والانتقام سواء من الشعوب أو حتى من الرب ذاته الذي يريد ويرغب في رؤيتهم ساخطين عليه( )، فيقول:
( ועתה מה־לך פה בן־אדם קום ברח המדברה
ונשׂאת עמך שמה את־כוס היגונים
וקרעת שם את־נפשך לעשרה קרעים
ואת־לבבך תתן מאכל לחרון אין־אונים
ודמעתך הגדולה הורד שם על קדקד הסלעים
ושאגתך המרה שלח- ותאבד בסערה )( )
" والآن لم أنت هنا يا ابن الإنسان قُم فاهرب إلى الصحراء،
واحمل معك إلى هناك كأس الأحزان
ومزقت هناك نفسك إلى عشر قطع
وقدم قلبك فداء للحنق بلا حول ولا قوة
واذرف دمعتك الكبيرة هناك على قمم الصخور
وأطلق صرختك المريرة التي ستضيع في العاصفة "
.
وتصل صرخـة الحقد والرغبة المدوية في الانتقام إلى ذروتها عند بياليك ( מגלת האש )( ) " سفر النيران " على لسان ذلك اليهودي الذي يحمل رسالة الحقد والكراهية والذي تتردد على لسانه أغنية الانتقام، ذلك السم العنصري الذي يفرضه الصهاينة على كل الشعوب، بمثابة انتقام لإحساسهم بالذل والاضطهاد( ):
( מתחום האבדון העלו לי שירת החרבן/ שחרה כאדי לבבכם/ שׂאוה בגוײם ופוצו בזעומי אלוה/ חתו גחליה על ראשם/ וזרעתם בה אבדן וכליה על כל־שדמותיהם/ ואיש איש סביב ארבע אמותיו/ וצלכם כי־יחלף עלי חבצלת גנתם/ … ושׂחוק קחו עמכם, שחוק מר כלענה אכזרי/ אשר בו תמיתו..)( ) "
من مهاوي الهلاك ارفعوا إليَّ نشيد الخراب/ اسود كفحم قلوبكم المحروقة/ احملوه إلى الأمم وانتشروا بين/ من غضب الله عليهم/ وصبوا جمراته فوق رؤوسهم/ وازرعوا به الخراب والدمار في حقولهم/ وليفعل كل منكم ذلك في جهات الأرض الأربع/ وظلكم يرف على زنابق حديقتكم/ وليأخذوا معكم ضحكة مرة كالعلقم/ ضحكة قاسية/ تنشرون بها الموت ".
وفي قصيدة الشاعرة العبرية ليئا كولدبرغ ( הגיהונום המאושר ) " الجهنم السعيدة " صرخات صريحة للانتقام الذي يشبه النيران التي تحرق فتقول:
( מחרבן משלהבת/ מנקם מאש/ כמו אש הצורבת/ האשר בדם/ מול שׂרפה ומול רצח/ מול רובה ומגלב )( ) "
من الخراب، من اللهب/ من الانتقام، من الذنب/ مثل النار التي تحرق/ السعادة في الدم/ أمام حريق وأمام اغتيال/ أمام بندقية وسوط "( ). وفي قصة للأديب ش. شالوم ( יומן בגליל ) " يوميات الجليل " نجد مقطعاً يؤجج روح العداء والغضب والانتقام لدى اليهود من خلال تأكيد وجود نار لا تنطفئ في داخل كل يهودي من جراء القصص التي يسمعها منذ طفولته عما فعله غير اليهود باليهود:
(דמינו, דמינו האללים מתחילים תוססים גועשים ומבקשים דרך לעצמם ואתם המון כלי זין של מכואבים אמיתײם ומדומים, של חששות וסברות ושל צו איום ונסתר אחד הבא על גבינו ביודעים ובלא יודעים ותוכו רצוף, צא והרג, צא והרוג, זכרונות עולים בקרבך, עינוײם שעונית בידי גוײם מסואבות, בזיוות וחירופים ששבעת, ספורים נוראים ששמעת מפי אב, מפי סבתא, ומפי ספר דמעות קדמון- הגם פה בארץ חײנו החדשים לא יבוא הקץ לכל אלה? הגם פה כדור משחק נחיה בידי כת זידונים פורעת ללא גמול, ללא מצור, ללא נקמה?)( ) "
دماؤنا الداكنة بدأت تغلي، تهيج، تبحث عن طريق لنفسها ومعها كثرة من الأسلحة لمتألمين حقيقيين وواهمين وخوف واعتقادات، أمر تهديد ونفي جاء علينا بعلم أو بدون علم وفي داخله عبارة تتكرر، اخرج واقتل اخرج واقتل، ذكريات تظهر قريبة منك والآلام التي عانيتها من قبل الاغيار القذرين، تشبعت من الاهانات والشتائم، ومن القصص المرعبة التي سمعتها من أبي وجدي ومن كتاب الدموع القديم: هل في هذه الأرض ستكون حياتنا الجديدة هكذا، أليس هناك حد لكل هذا؟ هل هنا أيضا سنكون كرة لعب بأيدي أشرار مشاغبين دون الأخذ بالثأر، دون التحصن ودون الانتقام؟ ".
وهنا يلجأ الأديب شالوم في قصيدته ذاتها إلى تأكيد فكرة إن اليهودي مهما كان إنسانا مسالما أو مثقفا- على حد تعبير الأدب العبري- فان عليه واجبا لا خيار له فيه وهو الانتقام، حيث تجردت قلوبهم من كل اثر للرحمة كرد فعل لما آلت إليه أوضاعهم نتيجة أعمالهم الشريرة، ويمكن اعتبار مقاطع الانتقام هذه تمثل نبوءة أدبية تعكس هذه الصور البشعة من صور أدب الحرب العبري:
( הנה אני אדם שלא הזיק מעולם לבעלי חי בכװנה תחלה תרביויות עמים למדתי לדעת ויש מהן שדומה כי ירדתי לעמקן ואני יודע גם ברגע הזה כי מותר האדם מן האדם אין וכי אחים אנחנו כלנו לטוב ולרע.. לשמחה ולאסון ובכל זאת נשבעתי לכם כי דמי מפעפעים בקרבי בחמת נקם כי נפשי נתערטלה מכל נדנוד של רחמים כי מפחד מפני עצמי בלילה הזה )( )
" ها انذا لم اوذ أبدا أي إنسان ولا حتى أي كائن حي عن قصد، في البداية تعلمت ثقافات شعوب كثيرة من اجل المعرفة، وهناك منها ما يخيل لي باني توغلت في أعماقها وأنا اعرف أيضا هذه اللحظة إن ليس هناك شخص افضل من شخص، وإننا جميعا إخوان على الخير والشر، في السراء والضراء، ومع كل ذلك فأنا اقسم لكم إن دمي يغلي في داخلي من حرارة الانتقام لان نفسي تجردت من كل أثر للرحمة لأنني خائف من نفسي في هذه الليلة ".
ولتأكيد هذه الرغبة في الانتقام يحث الأديب شالوم اليهود على قتل العرب وذبحهم وتدميرهم واحتقارهم:
( ויהי הסיף ותהא החרב בידינו, חרב נקמות, חרב אבודים, חרב בועטים בהפקרות הגלויות, מה הם שוחטים ברינה, אף אנו שוחטים ברינה, מה הם בשינים.. אף אנו בשינים מה הם רומסים ודורסים אף אנו רומסים ודורסים.. נגדשה הסאה מלאו ימי העינויים.. לא נתפרץ להיות כבשים עוד המובל לטבח בידי כל מחבל )( ) "
ويكون السيف ويكون الحسام بايدينا، سيف انتقام، سيف مفقودين، سيف نخرق به الفوضى السائدة، إذا ما هم ذبحوا بابتهاج، نحن أيضا نذبح بابتهاج، إذا ما هم احتقروا نحن أيضا نحتقر، إذا ما هم داسوا وسحقوا نحن أيضا ندوس ونسحق، لقد طفح الكيل.. انتهت أيام المعاناة، لا نندفع لنكون اكباشا مرة أخرى مساقين للذبح من قبل كل مخرب ".
ولا يتوقف الأديب شالوم عند هذا الحد من إثارة الحقد والانتقام ضد العرب، بل يعمل على التذكير الدائم بما يسمى أيام الاضطهاد والنكبة بهدف جعل اليهود في حالة رعب دائم من تكرار هذه ( المأساة ) إذا ما هم استسلموا للضغط الواقع عليهم ولم يعمدوا إلى تأجيج نار الحرب والانتقام في نفوس الأجيال القادمة:
( אתם רצחתם אותנו חינקתם אותנו, נתחתם את בשרנו להנאתכם אתם הגוײם ואת אחינו שרפתם על מדורות כל ההרים, את אחיותינו שמתם לזונות, לאשפה השלכתם את הראשים המותזים, לשמצה עשיתם את שמינו ולצה.. לאחר ששרפתם את השריפה בזירתם את האפר על מזבחות קדושתכם אתם הײתם הטהורים ואנחנו הטמאים, אתם הצדיקים ואנחנו הרשעים.. החושבים אתם ימחק עװנכם מספר הדורות? )( ) "
ا
نتم قتلتمونا، خنقتمونا، قطعتم لحمنا لمتعتكم، انتم أيها الاغيار أحرقتم إخواننا على محرقات الجبال ودفعتم إخواننا للزنى ورميتم رؤوسنا المقطوعة في المزابل وجعلتم من اسمنا سخرية واحتقاراً، وبعدها أوقدتم الحريق وذررتم الرماد على مذابح مقدساتكم.. كنتم انتم الطاهرون ونحن النجسون، انتم الأخيار ونحن الأشرار، ألا تعتقدون إن ليس هناك حكم وعقاب وانتقام في هذا العالم؟ وهل تعتقدون بان توالي الأجيال سيمحو ظلكم؟ ".
والمتتبع لدراسة تطور صورة الانتقام في أدب الحرب العبري الحديث- الشعر والقصة والرواية والمقالة والمسرحية- لوجد إن لهذه الصورة بدايات تاريخية تعود إلى فترة الجيتو في القرن التاسع عشر، ففي العقود الأخيرة من هذا القرن، ومع الانحسار التدريجي لحركة الهسكالاه، ظهرت مفاهيم قومية مبنية على الروح اليهودية وساهم الأدب العبري في التعبير عن هذه الروح القومية من خلال محاولة تصوير حال اليهود التعس في أوربا واضطهادهم المستمر نسبيا وبصورة خاصة في أوربا الشرقية خلال الثمانينيات من القرن التاسع عشر.
وبتركيز الشعر والقصة والرواية على الاضطهاد الموجه ضد اليهود واستذكار ما يسميه الأدب العبري الحديث بالإرث الثقافي اليهودي المتراكم، حاول هذا الأدب إيجاد ( الأمل القومي وبعثه من جديد )، وأول ما فعله الأدب العبري في هذا المجال هو توسعه في وصف الحالة المأساوية المرتبطة بحال اليهود في الشتات كجزء من حملته ودعوته للهروب من عالم الاضطهاد إلى ما اسماه بالعالم الفسيح، وبذلك هيأ الأدب العبري اليهود ودعاهم للتعلق بالأمل المتمثل في صهيون، ولذلك نجد ( حب صهيون ) يتكرر كثيرا في النتاجات الأدبية العبرية لتلك الفترة، وعلى التوازي مع هذه الدعوة ركز الأدب العبري على فكرة تميز اليهود عن باقي الأمم وعلوهم عنهم وقدرتهم على البقاء رغم ما يتعرضون له من اضطهاد وتشتت. وبهذا الطرح جسد الأدب العبري الحديث فكرة ما اسماه بإنقاذ اليهود من الشتات واعتبر إن ( حلم الإنقاذ ) سيتدفق عندما يكون اليهود مهيأين لذلك وراغبين فيه،
وقد عبّر الشاعر نفتالي هيرتس( ) عن فكرة تميز اليهود عن باقي الأمم وعلوهم عنهم فـي قصيدة ( עם עולם ) " شعب خالد ": ( لا أحد يستطيع أن يذبح/ أو يبدد شعبا ولد هكذا رجال:/ كاهن، لاوي، شاعر/ أنبياء يتذمرون ويحرسون/ وينحتون على الحجر وصايا الرب العشر المقدسة )( )
في حين تحدث الشاعر دافيد فرشمان( ) عن فكرة إنقاذ اليهود من الشتات في قصيدة مطلعها:
( عندما ينمو جيل جديد/ جيل سيفهم معنى الإنقاذ/ يرغب، يشتاق ويهنئ له/ عندئذ سيتم إنقاذك/ عندئذ ستنقذ ). ودعوة فرشمان هذه لقومه تعني العودة إلى الرب والتمسك بشرعيته وتراثه اليهودي لأنهم إن ابتعدوا عنه وعن وصاياه فكيف يأملون بالإنقاذ؟ فقط حين يغير اليهود من أنفسهم ويتخلون عن الاندماج والضياع بين الأمم تزال عنهم العقوبة التي فرضها الرب!.
وتتطور هذه الصور في الأدب العبري الحديث حيث يبقى تاريخ الاضطهاد الذي حل باليهود في أوربا موضوعا مفضلا لدى الكثير من الأدباء العبريين ومنهم حاييم نحمان بياليك الذي عبّر في قصيدته ( על השחיטה ) " حول الذبح " عن آراء الكثير من الأدباء العبريين في وصف اضطهاد الأمم لهم والمبالغة فيه، وهذه القصيدة هي من بين القصائد التي أكسبت بياليك لقب الشاعر القومي( )، ففي القصيدة يصف الشاعر بؤس اليهود الذين عادوا بلا أمل وهم في الشتات بيد الأمم يتطلعون إلى السماء من اجل الإنقاذ، فيقول:
( أيتها السماء ارحميني/ إذا الإله ما زال هناك/ وإذا كان هناك طريق ما زال/ وإذا لم أجده/ فصلي من اجلي/ وأنا أعيش بلا أمل/ فإلى متى؟ إلى متى؟ )( )، ثم ينتقل إلى تجسيم عملية القتل والتفصيل في عملية الذبح متنقلا في ذلك من حالة الفرد إلى حالة الجماعة، والشاعر بذلك يريد حث اليهود على رفض الاستسلام الذي عاشوا فيه والخنوع الذي مارسوه تجاه ما حل بهم من ناحية وكسب العطف على الوجود اليهودي ( المضطهد ) من ناحية ثانية.
ويصل الشاعر إلى نكران وجود عدالة سماوية توقف ما يحل باليهود أو على الأقل هي بطيئة غافلة عما يجري به وبقومه فيقول: ( إذا كانت هناك عدالة فلتظهر مرة/ فان ظهرت/ فقط حين لا أكون شيئا تحت الشمس/ فليرم عرشها وليبعثر/ وخلال أبدية الإثم/ لتتعفن السماء )( )، وهنا يأتي هذا الشاعر وغيره من الشعراء والأدباء اليهود فيصبون غضبهم على الاغيار الذين عاشوا بينهم واصفين إياهم بأقذر الصفات ( كما سيرد ذكره في مبحث صورة الإنسان العربي ) ومن هذه الصفات التي وردت في قصيدة بياليك: ( أما انتم أيها الخنازير المغرورة/ فكونوا كما انتم/ مصوا دمكم/ وعيشوا عليه )( ).
وبظهور الحركة الصهيونية ارتفع الأمل عند الأدباء العبريين بقرب خلاص الشعب من الشتات وصار شغلهم الشاغل ولادة الشعب اليهودي من جديد وعودته إلى صهيون( )، واخذوا يدعون صراحة قادة الفكر الصهيوني إلى التوجه إلى فلسطين واحتلالها باعتبارها من يحقق ذلك الحلم الذي عاشه اليهود لأجيال( ).
وقام الأدب العبري قبل احتلال فلسطين عام 1948 بتشجيع المهاجرين اليهود باتجاه فلسطين واستعمارها وحثهم على مواجهة الرفض العربي للاحتلال بالعمل والاستمرار في الريادة حتى يتحقق المشروع الصهيوني الكامل باستعمار البلاد، فيقول الشاعر دافيد شمعوني في إحدى قصائده لا تحزن/ لا تبكِ/ في وقت كهذا/ ولا تحنِ رأسك/ اعمل! اعمل/ أيها الحارث/ احرث/ أيها الباذر، ابذر بذورك/ في اللحظة العصيبة/ ضاعف جهدك/ ضاعف كدحك )( )،
كما ساهم الأدباء والشعراء أنفسهم في الريادة من خلال هجرتهم إلى فلسطين وانهماكهم بأدبهم ونتاجاتهم التي دعت إلى طرح المفاهيم العنصرية للحركة الصهيونية والدعوة إلى تكريس الاحتلال اليهودي لفلسطين وإعادة بناء ( إسرائيل الكبرى ) وكان لسان حال الأدباء والشعراء يعبر عن مهمة الأدب العبري التي هي تعليم اليهود شريعة البلاد الكاملة، أي التبشير بجميع ارض فلسطين ووحدتها مكررين نغمة الاحتفاظ بالأرض كحق تاريخي بالقوة والسلاح، ثم يسخر الأدب العبري من العرب والعادات العربية ويتهمهم بالحقد الأعمى بينما هم أبرياء لا يفكرون بإيذاء أحد، ومع هذه النغمة والتضليل والبراءة الزائفة تبدأ مرحلة الدعوة إلى قتل العرب وإبادتهم والانتقام منهم لأنهم بذلك فقط يحققون هدفهم الاستعماري بإقامة حلمهم الأسطوري من النيل إلى الفرات، وقد ساهمت حروب إسرائيل بعد عام 1948 ضد العرب في تعزيز صورة الانتقام في أدب الحرب العبري كما لاحظنا ذلك في عدد من النماذج الأدبية العبرية التي وردت في سياق هذا المبحث.
وصورة الانتقام هذه تتطابق مع المنطلقات التي حددها بن غوريون والتي تقول على إن التوافق مع العرب يتم من خلال استخدام القوة والعنف والانتقام بدعوى إن العرب غير قادرين على التعايش السلمي مع اليهود مبررا بذلك اللجوء المتكرر إلى استخدام القوة العسكرية التي وجد التعبير النموذجي لما سمي سياسة الردع العسكرية ( ).
ولا تقتصر فلسفة الانتقام- كصورة من صور أدب الحرب العبري- على استخدام وسائل العنف والقتل والتدمير فقط بل تأخذ أشكالا أخرى قد تكون اكثر إيلاما وقسوة وخطرا من الوسائل العسكرية ويحفل الأدب العبري بنماذج من هذا النوع اخترنا منها واحدا على سبيل المثال لا الحصر، وهو ما تحدث به أستاذ الفلسفة اليهودية الدكتور بن روبي( ) ردا على سؤال وجهه له الكاتب الإيطالي جيوفاني بابيني، يقول السؤال: قل لي لماذا اليهود كثيرو الجبن، مع ما هم عليه من ذكاء؟ ( )
أجاب د. روبي: اليهود جبناء؟!… لعلك تعني من الوجهة المادية، أما من الوجهة المعنوية والفكرية فثق يا سيدي بان اليهود ليسوا فقط شجعانا، بل جريئين إلى ابعد حد.. نعم إن اليهود ليسوا أبطالا على النحو البربري الذي تفهمون منه البطولة! ولم يكونوا كذلك حتى في عهد حيث كان في مقدورهم أن يكونوا أبطالا بربريين، بل داود ولا يزالون في مقدمة الشعوب التي اعتبرت قيمة الإنساناليهود دائما- يا سيدي- الحقيقية في تشغيل الفكر وترويض الذكاء.. أضف إلى ذلك، إن اليهود منذ نشأتهم في كل بقاع الأرض لم يكن لهم دولة أو حكومة ترأب ما تصدع من وحدتهم وما تفرق من شملهم، بل أمسوا طوائف ضئيلة بين جموع غفيرة تكن لهم الحقد والاحتقار.. فكيف تريد أن تنمو في الإسرائيليين معاني البطولة ورجولة الحرب والقتال؟
ولكي لا يبادوا، اضطروا بطبيعة الدفاع، إلى استنباط وسائل دفاعية فظفروا منها باثنتين جد قويتين هما: المال والذكاء، هذا علما بان حب المال لم يكن من طبيعة اليهود السابقين، فان معظم آدابهم منذ عهد الأنبياء كانت مكرسة لتمجيد الفقراء وحتى يكفوا عنهم أذى البشر، لم يكن أمامهم إلا أن يشتروهم بالمال، لعدم استطاعتهم محاربتهم بالحديد، فاخذوا يتسلحون بالذهب الذي هو أمضى وافعل من الحديد! وأصبحت الدولارات هي عتادهم الحربي! وهكذا اليهودي الذي اضطروه لان يصبح رأسماليا وجد نفسه إزاء الانحطاط الروحي والمعنوي لأوربا، سيدا من سادة العالم.. وأضاف بن روبي: نعم، لقد اضطروه لان يكون غنيا ثم أعلنوا إن للمال قيمة ما بعدها قيمة فاصبح فقير التوراة بالأمس، المسيطر على الأغنياء والفقراء اليوم..
وهكذا، فالوسائل التي لجأ إليها اليهود مبدئيا للدفاع عن أنفسهم، قد تطورت مع الزمن ثم تبلورت فإذا بها أصبحت ( أدوات انتقام ).. ثم لا تنسَ الذكاء، فان فعاليته أقوى تأثيرا من فعالية المال.. وهل بغير هذين السلاحين الجبارين، يستطيع اليهودي المهان المضطهد أن يثأر من أعدائه الكثيرين؟ وفي الواقع فقد انتقم، أيما انتقام، لقد هاجم أمثلتهم العليا ففضحها وأسقطها وجعلها هباء منثورا فمنذ اكثر من قرن، لم تكن غاية اليهودي غير تقويض الاعتبارات والدعائم التي قامت عليها المسيحية ونسف اعتقاداتهم وأفكارهم من الأساس! ومنذ اللحظة التي استطاع فيها اليهود أن يخططوا ويعملوا بحرية تامة غدا نصف البشر الروحي مهددا بالتداعي والزوال.
ولأهمية هذه الإجابات باعتبارها وثيقة تلقي الضوء على حقيقة الفكر اليهودي العنصري العدواني المشبع بروح الانتقام، ارتأى الباحث الاستطراد في عرض الجوانب الأخرى من هذه الأفكار والتعليقات التي تعكس فلسفة العنف والانتقام عند اليهود، يقول روبي مخاطبا الدكتور بابيني: دعني- يا سيدي- اضرب لك أمثلة، وافرز شواهد استمدها من واقع حياتنا: الرواية الرومانسية خلقت المثل الأعلى وأعادت المهابة والاحترام للكثلثة.. فجاء من دوسلدروف يهودي يدعى هيني، فاستخدم بنجاح شعره اللاذع في السخرية من الرومانتيكيين والمثل الأعلى، ظل الناس يعتقدون إن السياسة والأدب والدين والفن من ابرز الصيغ الفكرية وان ليس لها علاقة بالمال والمعدة حتى برز يهودي من تريف هو كارل ماركس وبرهن بقوة على إن هذه المصطلحات السامية تنشأ وتنمو على ادران الاقتصاد الدنيء.
ويضيف: في نهاية القرن التاسع عشر كانت أوربا تتيه بعصر تولستوي، ابسن ونيتشة وغيرهم، مؤكدة انه أزهى العصور الإنسانية، فيظهر يهودي من بودابست يدعى ماكس نورداو فيريكم بجلاء كيف إن شعراءكم وأدباءكم الذين طبقت شهرتهم الآفاق فاسدون ومفسدون وكيف إن حضارتهم شيدت على الزيف والكذب والخداع… كل منكم يظن أو يزعم انه رجل سوي يتحلى بمكارم الأخلاق والتقى فيتقدم يهودي من فريبرج هو حجة علم النفس اليوم، وهو سيجموند فرويد الذي كشف لكم إن في أنقى الناس وابرز الشخصيات الفاضلة ترددا ومراوغة وميلا إلى القتل والإجرام.. ونستطيع المتابعة على هذا المنوال وقتا طويلا… ولكن لنتحدث بإيجاز عن اثر اليهود في السياسة العالمية، فقد لا تعلم إن الذي قهر بسمارك الرهيب هو اليهودي ديزرائيلي وكليمنسو كان ساعده الأيمن واستمد لينين قوته من اليهودي تروتسكي.. وهنا توقف د. روبي قليلا ثم استأنف حديثه:
ثم لاحظ بأنني لم اذكر أمامك أسماء مبهمة ولم أحدثك بأشياء خيالية أو أمور ثانوية تافهة، فأوربا الفكرية اليوم تحت نفوذ عظماء اليهود الذين ذكرت لك الآن.. لقد نشأ كل منهم بين شعوب مختلفة واتبع كل منهم وجهة نظر تختلف عن الآخرين ولكن للجميع هدفا واحدا.. وغاية واحدة هي جعل الحقائق التي وثقت بها العقول موضع الشك.. وحط كل ما هو رفيع.. إن هذه السموم التي ننفثها منذ أجيال ليست إلا انتقام اليهودي الأكبر من العالم اليوناني واللاتيني والمسيحي.. لان اليونانيين جعلونا سخرية الأجيال والرومان شتتونا في الآفاق والمسيحيين تمادوا في اضطهادنا واستباحتنا.. نحن لم نلجأ إلى القوة في هدفنا الانتقامي، لأننا ضعفاء! ولكننا وجهنا حملة جبارة تلمع فيها معاول الهدم والتخريب فتمكنا من تقويض دعائم أثينا الأفلاطونية وروما الإمبراطورية والبابوية.. لقد تجرعنا كأس الانتقام حتى الثمالة.. انظر فنحن كرأسماليين نسيطر على بيوت المال وأسواق العالم الاقتصادية.. لقد اصبح المال في هذا العصر هو المعبود الحقيقي.. وقد غدوتم خدمنا في النظام الاقتصادي وضحايانا في النظام الفكري، إن الشعب الذي اتهموه بقتل الإله والأنبياء أراد فقدر على تحطيم أصنام الذكاء والمشاعر.. وقد وفق فاضطركم إلى الركوع أمام الصنم الأقوى الذي ثبت وحده دون باقي الأصنام واعني به المال!.. إن ذلنا الذي بدأ منذ استعبادنا واضطهادنا في بابل إلى انحدارنا في معركة باركوخبا ثم تجدد في عهد الجيتو حتى الثورة الفرنسية.. هذا الذل والاضطهاد قد دفع ثمنه غاليا واستوفى حقه أخيرا.. فاليهودي المنبوذ من بين جميع الأمم والشعوب يستطيع الآن التغني بنشيد الانتصار..
ومن ابشع ما كتب من قصائد في أدب الحرب العبري هي قصيدة الشاعر نتان زاخ بعنوان ( عن الرغبة في الدقة )( ) والذي يستهزئ من أولئك الذين يحصون خسائر ضحاياهم من العرب وغيرهم ويدعوهم ( ساخرا ) إلى توخي الدقة في حساب عددهم ويعتبر هذه الدقة مسألة ( لا اقل ) منها الرغبة في القتل والانتقام والاغتصاب، فيقول:
( حينئذ بُولغ في عدد الجثث/ هناك من عـد مائة وهناك من عد مئات/ وذلك قال: عددت (63)؟ جثة امرأة محروقة/ أما رفيقه فقال: لا، بل (11)؟ جثة/ والخطأ كان متعمدا ولغرض سياسي، ليس بالصدفة/ وإذا بدأت فعليَّ أن أقول أيضا/ انه لم تذبح إلا (8) نساء؟ إذ قتلت (2)؟ بالرصاص/ وواحدة مشكوك في أمرها وليس واضحا/ إذا كانت قد ذبحت أو اغتصبت أو مزقت سرتها فقط/ وفي أمر الأطفال أيضا لم نسمع بعد الكلمة الأخيرة/ إذ يعترف الجميع إن (6) صلبوا وواحدا عذب/ قبل أن يحطم رأسه ولكن من يقطع لنا وعدا/ بان من اختفوا وانقطعت آثارهم/ تم إلقاؤهم حقا في البحر جميعهم أو جزءا منهم/ إذ كيف نفسر لطخات الدم/ فممنوع أن نبالغ بهذه الأمور/ وعلينا أن نكون حذرين فالأمر يخص حياة الناس/ وقد تحصل، لا سامح الله، أخطاء في التقديرات/ ولقد حصلت فعلا يا صديقي المثقف/ هكذا اندلعت خلافات شديدة طيلة ذلك اليوم/ ولولا الرائحة الكريهة التي تفشت في المكان/ لكان بالإمكان بلوغ الدقة التامة أو بلوغ الضربات/ إذ إن الرغبة في الدقة إنسانية ليس اقل/ من الرغبة في القتل والاغتصاب وتحطيم الرؤوس وقتل/ عدوك وخصمك وجارك القريب والغريب المشبوه أو أي/ رجل أو امرأة أو طفل في العالم )( ).
***
(*) للراغبين بالحصول على مراجع الدراسة مراسلة الباحث على صفحته او عبر الماسنجر ، مع الشكر والتقدير .
(**) باحث متخصص باللغة العبرية والادب العبري وارامية التوراة ومتابع للغات العاربة ( السامية).
الباحث : عبدالوهاب محمد الجبوري(**)
المقدمة
يعد أدب الحرب العبري واحدا من أهم المصادر المعرفية التي يمكن الاعتماد عليها في استحصال المعلومات عن التكوينات الداخلية للمجتمع الإسرائيلي والتي يصعب في أحيان كثيرة متابعتها وكشفها من خلال المصادر الأخرى كالكتابات السياسية والاجتماعية والفلسفية ..الخ وذلك لان الكتابات الأدبية العبرية تزودنا بالمعلومات المطلوبة في اتجاهات ثلاثة :
الأول: الوقوف على طبيعة الحالة العسكرية وروح العسكريتاريا لدى المستوطنين اليهود داخل فلسطين المحتلة ..
الثاني : التعرف على الواقع الاجتماعي والأنماط النفسية والاجتماعية السائدة داخل التجمع اليهودي ..
الثالث : استقراء القيم الرسمية الإسرائيلية التي تبثها الإيديولوجية السائدة في الأعمال الأدبية العبرية بشكل عام، الأمر الذي يمكننا من دراسة واقع الصراع المهيمن على المجتمع الإسرائيلي من كافة جوانبه من ناحية وعلاقته بالطرف العربي من ناحية ثانية ..
بناء على ما تقدم اعد الباحث دراسة علمية شاملة باللغتين العربية والعبرية تضم نماذج أساسية منتخبة من صور وأركان أدب الحرب العبري( القصة - الرواية - الشعر - المسرحية - المقالة - الفلم السينمائي ) مما يجعلها الدراسة الاولى من نوعها في الوطن العربي ، تم اختيارها لتكون موضحة للاتجاه الفلسفي الصهيوني في عموم هذا الأدب… وقد تحدثنا في القسم الأول من هذه الدراسة، التي نشرت سابقا ، عن صورة العربي في أدب الحرب العبري، وفي هذا القسم سنتحدث بمشيئة الله عن الانتقام والعدوانية في هذا الأدب العنصري الاستعلائي ..
اصول فلسفة الانتقام والعنف
معروف إن لزعماء اليهود أسلوب خاص في معالجة قضاياهم يتلخص في تلك المقولة الشهيرة لدافيد بن غوريون: ” لا يهم ما تقوله الشعوب الأخرى ، بل المهم هو ما يفعله اليهود “( ) وهو ما يفسر لماذا كانت إسرائيل اقل حساسية للرأي العالمي تجاه ممارساتها العدوانية نحو العرب، وقد أشار د. قدري حنفي في كتابه الإسرائيليون.. من هم؟ إلى دراسة قام بها الباحث الأمريكي باري بليخمان لتقييم ( الآثار المترتبة على الانتقامات الإسرائيلية ) خلص منها إلى إن الانتقام هو سلوك قومي إسرائيلي، وان إسرائيل تعتبر الانتقام صورة شرعية من صور السلوك القومي، كما أشار إلى إن التصريحات الإسرائيلية الرسمية تؤكد على إن هذه الانتقامات ( واجب ) و ( التزام ) وانه ( لا توجد بدائل أخرى )( ).
وفي محاولة لتلمس دوافع الروح العدوانية التي تمثل الإطار السلوكي للشخصية اليهودية نجد إن الفكر الديني اليهودي قد صاغ العقلية اليهودية في إطار من العنصرية التي تسبغ على اليهود صفات التبجيل والإكبار، في نفس الوقت الذي تتعامل فيه مع غير اليهود بأسلوب يؤكد إن الاستعلاء العنصري وعقدة الاضطهاد والرغبة في الانتقام هي أسس ثابتة في تكوين هذه الشخصية. وعقيدة اليهود قوامها مجموعة من الترهات والأكاذيب التي تزخر بها التوراة والتلمود وتعاليم حكمائهم، وهذه العقيدة هي التي صنعت اليهود، فجعلت منهم طائفة دينية فريدة في سلوكياتها الشاذة وأفكارها المريضة، التي تدعو إلى تحطيم كل العقائد والقيم والحضارات من اجل إقامة مجتمع عالمي أو ما يسمى بدولة جامعة يهوذا( )، ومطامع اليهود لم ولن تقف عند حد، وزعماؤهم يمضون في مخططات مدروسة بأسلوب علمي دقيق تغذي الوجدان اليهودي بمبررات العنف والوحشية والانتقام والتطرف العنصري في النظرة الصهيونية لغير اليهود واستباحة دماء وأموال الأجناس الأخرى وارتكاب كل جريمة في سبيل سيادة بني صهيون( )،
لذلك رأينا عند دراسة الأصول الدينية والتربوية لفلسفة العنف والحرب اليهودية إن التنشئة اليهودية تركز على آلية تنمية المشاعر النرجسية عند الفرد والمجموعة اليهودية والتي تستهدف تضخيم جانب التفاخر والتباهي والتعصب عندها، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمقارنة مع الطرف الآخر، أي العرب، وتتزايد فعالية هذه الآلية من خلال توظيف المعطيات الدينية والتاريخية وقولبتها وإعادة تأويلها بما يخدم الوظيفة اليهودية الراهنة، لكن ما يحدث عمليا هو اندماج كامل للفرد في المجموعة، لكنه اندماج مشروط بتوفير الأمن( ) وهذا يعني إن هذا الهاجس يتضخم كلما ازدادت المقاومة العربية وثبت إنها عصية على منطق القوة،
من هنا فان هاجس الأمن يزيد من الاعتماد على المؤسسة العسكرية وتركيزها على التجنيد والخدمة في الجيش، وحسب مفهوم فلسفة الحرب اليهودية، فان توطيد هذه العلاقة بين الأمن والتجنيد يضعف إلى ابعد الحدود أية إمكانية لنشوء مشاعر التعاطف مع الآخر ( الضحية ) لأنه ببساطة يشكل مصدر الخطر الذي يهدد الأمن الإسرائيلي، وعليه فان أي سلوك مخالف لمنطلقات المشروع الصهيوني سيفسر على انه مشاركة في تقوية الآخر، وزيادة درجة خطرة على الأمن والاستقرار، من هنا تصبح سلوكيات التطرف في قمع الآخر والانتقام منه ( مبررة دائما ) بل تصبح قضية عادلة وتعبير عن حسن اندماج الفرد اليهودي ووطنيته( )، ففلسفة الانتقام اليهودية، إذن، تعتمد آلية الإسقاط كعملية تعرضية يلجأ إليها اليهود ضد العرب الذين يتحولون إلى أهداف لكراهيتهم يسقطون عليهم مشاعر الغضب والانتقام، والتي تتحول من خلال التبريرات الدينية، إلى فعل شرعي ومقدس كما حصل مع غولدشتاين الذي تحول إلى ( بطل ) بعد قيامه بمجزرة الحرم الإبراهيمي.
والانتقام عند بن غوريون وأمثاله من قادة إسرائيل ومفكريها يكتسب بعدا خاصا ويصبح غاية بحد ذاته ووسيلة ( بعث حضاري )، ومن اجل ذلك أسس جماعة الحارس والتي جعل شعارها ( بالدم والنار سقطت يهودا، بالدم والنار ستقوم يهودا )( )، هذا الشعار مبني على التصوير الجديد للشخصية اليهودية المحاربة، لذلك يقول بن غوريون: ” إن خير مفسر ومعلق على التوراة هو الجيش “( ).
وبهذا المعنى يكون الفكر اليهودي قد اعتمد على تراثه الديني والتاريخي والعسكري لتنمية روح الانتقام وتمجيد القوة واحتقار الضعف بهدف بلورة الشخصية اليهودية المطلوبة لعكس فلسفة هذا الفكر ووسائل تنفيذها.
الانتقام في الادب العبري
لقد تبنى الأدب العبري الحديث هذا الاتجاه الفلسفي وعزز من الرغبة في الانتقام ليجرد اليهودي من ( إنسانيته ) بعزله عن سائر البشر ومن ثم تجريد البشر من إنسانيتهم بدفعهم إلى التفرج على ما سمي بالمأساة اليهودية، وبالتالي جعل اليهودي شريكا من الناحية الأخلاقية في العنف الذي يحيق به وحول ( الاستشهاد ) اليهودي إلى مجرد مذبحة وقعت لشعب لا يرفض العنف الذي هو ضحيته( )، وأصبحت شعارات مثل الانتقام والثأر والإمساك بالسيف بدلا من الكتاب هي الشعارات التي ترددت كثيرا في الشعر العبري، ففي قصيدة شاؤول تشرنيخوفسكي( ) זאת תהיה נקמתנו " ليكن هذا ثأرنا " تعبير عن حقد مسموم لا يمكن لأي إنسان فهمه أو معرفة كنهه سوى اليهود وحدهم وهو تعبير أيضا عن إحساس بالألم يستلب من صاحبه إنسانيته ويعمق من كرهه وحقده للاغيار، فيقول:
( יום תתקע פגומת מאכלתך בגרון/ אחיך בן־אמך ותשחטנו/ כשחטך בחצרך ובמגרש הכפר/ את־בחיר־חזיריך בערבי פסחיך/ ואזנך קוטלה בנחרת גסיסתו/ מתענוג של חג ונגינתו/ יום נקם )( ) " سيأتي اليوم وتغرس حد سكينك في عنق/ أخيك، ابن أمك/ كأنك تذبح خنزيرك المفضل/ في عيد القيامة، في الفناء أو في ميدان القرية/ وسيكون رنين أنات موته مثل الموسيقى أو المهرجان في أذنيك المتلهفتين/ يا يوم الثأر ".
ومن اشهر قصائد تشرنيخوفسكي التي تقطر سماً زعافاً وحقداً ضد من ليسوا يهودا وتدعو إلى الانتقام منهم هي قصيدة ( باروخ المغنيستي )( )، والقصيدة طويلة للغاية ولكنها تبدأ بالحديث عن هذا الموضوع الشائع المتكرر في الأدب العبري، اضطهاد اليهود واستشهادهم: ( וברחובות קהל אכרים/ אמנם פרשים/ נאקות חלל בכי עוללים/ קול תחנוני־נשים/ שברי־כלים קרעי־בגד/ כתמי־דם ברפש/ קול הקוראים הכוס שחאם )( ) " في الشوارع جموع الفلاحين/ والحرفيين والفرسان/ أنات الموتى وبكاء الأطفال/ أصوات النساء/ الأواني محطمة وملابس مهلهلة/ الدماء تجري فوق الطين/ وصرخات تنادي فلتضربهم حتى الموت "( ).
وفي قصة ( חרבת חזעה )( ) " خربة خزعة " يقدم يزهار سميلانسكي نماذج من العنف والقسوة والانتقام وحركة الاقتحام الوحشي للقرية العربية حرقاً وسلباً وتدميراً ويتم ترحيل أهل القرية العربية بين مشاهد الإذلال والتعذيب، ويدور في هذه القصة جدال بين الكاتب وبين مجموعة من الأفراد الذين يؤمنون بآرائه من جهة وجماعة أخرى ممن يؤيدون الحرب والاحتلال والطرد والقتل من جهة أخرى، وتنتهي القصة باحتلال القرية العربية وتدميرها وتهجير سكانها.
وفي المقطع التالي من القصة، وأثناء انتظار الجنود اليهود أمر البدء بتنفيذ العملية ازداد شعورهم بالملل فأصبحت لديهم حاجة قوية للانتقام والتحطيم، فبدءوا ( يتسلون ) أولا بقتل الحيوانات: ( מה אתה אומר איזה כוח־חײם עצום יש לחמור. אמר האלחוטי.. אתמול דפקתי אחד בשלושה כדורים ולא מת.. עזוב.. לא יכול להיות.. בחײ אתמול, על יד המחנה.. יצאתי לבדוק את הכלי.. ראיתי אותו מסתובב לו אצל הגדר.. תיכף דבקתי אותו )( ) "
ماذا تقول في هذه القوة الخارقة للحياة عند الحمار، قال المخابر؟/ أمس رميت واحداً بثلاث اطلاقات ولم يمت!/ دعك من هذا، فهذا مستحيل/ اقسم، بالأمس وبالقرب من المعسكر خرجتُ لكي اجرب البندقية فرأيته يتجول عند السور وعلى الفور رميته ".
وفي قصيدة ( بقوة روحي ) يصور تشرنيخوفسكي الإنسان اليهودي الجديد، الغازي والفاتح والمنتقم والمؤمن بالعنف، بأنه قادر على معالجة الموقف عبر الانتقام بالسيف:
( يا سيفي، أين سيفي، سيفي المنتقم؟/ اعطني سيفي لانتصر على أعدائي/ أين أعدائي؟ لسوف اصرعهم/ وأحطمهم وأقطعهم إربا إربا/ سوف اجعل سيفي يشرب فخوراً من دمهم/ وستستحم خطواتي في دماء الصرعى/ سأقطع من يمين واحصد من شمال/ اعطني سيفي- فلن اغمده مرة أخرى/ حتى اذبح كل أعدائي )( ).
وفي قصيدة ( أيها المخربون.. الإرهابيون الصغار ) للشاعر العبري ابشلوم كور، نجد إن المنطق النازي يتحكم في مضمونها فيقرن الشاعر القتل بالانتقام ويقرن العدوان بالتوسع امتثالا للأساطير التوراتية، فيقول:
( توصلنا إلى نتيجة/ إننا يجب أن نقاتل وننتقم/ يجب أن نقتل/ كل الذين يبحثون لهم عن وطن/ يجب أن نقتل وننتقم/ حتى يكون لنا وطن/ من النهر إلى النهر )( ).
أما الشاعر حاييم نحمان بياليك فقد عبّر عن الانتقام من الشعوب غير اليهودية في العديد من قصائده وبصفة خاصة في مجموعة القصائد التي كتبها في أعقاب موجات الاضطهاد التي حلت بروسيا عام 1903 وعام 1905 واشهرها قصيدة ( בעיר ההרגה )( ) ، فهذه القصيدة عبارة عن سلسلة من الزيارات للمقابر التي دفن فيها ضحايا الاضطهاد، وللمعبد اليهودي، وتصل غضبة الشاعر إلى حد الاعتراض على رب إسرائيل حتى تصل إلى درجة الكفر، ويصف اليهود بالجبن والتخاذل وانه لا نجاة لهم إلا على ارض فلسطين والانتقام سواء من الشعوب أو حتى من الرب ذاته الذي يريد ويرغب في رؤيتهم ساخطين عليه( )، فيقول:
( ועתה מה־לך פה בן־אדם קום ברח המדברה
ונשׂאת עמך שמה את־כוס היגונים
וקרעת שם את־נפשך לעשרה קרעים
ואת־לבבך תתן מאכל לחרון אין־אונים
ודמעתך הגדולה הורד שם על קדקד הסלעים
ושאגתך המרה שלח- ותאבד בסערה )( )
" والآن لم أنت هنا يا ابن الإنسان قُم فاهرب إلى الصحراء،
واحمل معك إلى هناك كأس الأحزان
ومزقت هناك نفسك إلى عشر قطع
وقدم قلبك فداء للحنق بلا حول ولا قوة
واذرف دمعتك الكبيرة هناك على قمم الصخور
وأطلق صرختك المريرة التي ستضيع في العاصفة "
.
وتصل صرخـة الحقد والرغبة المدوية في الانتقام إلى ذروتها عند بياليك ( מגלת האש )( ) " سفر النيران " على لسان ذلك اليهودي الذي يحمل رسالة الحقد والكراهية والذي تتردد على لسانه أغنية الانتقام، ذلك السم العنصري الذي يفرضه الصهاينة على كل الشعوب، بمثابة انتقام لإحساسهم بالذل والاضطهاد( ):
( מתחום האבדון העלו לי שירת החרבן/ שחרה כאדי לבבכם/ שׂאוה בגוײם ופוצו בזעומי אלוה/ חתו גחליה על ראשם/ וזרעתם בה אבדן וכליה על כל־שדמותיהם/ ואיש איש סביב ארבע אמותיו/ וצלכם כי־יחלף עלי חבצלת גנתם/ … ושׂחוק קחו עמכם, שחוק מר כלענה אכזרי/ אשר בו תמיתו..)( ) "
من مهاوي الهلاك ارفعوا إليَّ نشيد الخراب/ اسود كفحم قلوبكم المحروقة/ احملوه إلى الأمم وانتشروا بين/ من غضب الله عليهم/ وصبوا جمراته فوق رؤوسهم/ وازرعوا به الخراب والدمار في حقولهم/ وليفعل كل منكم ذلك في جهات الأرض الأربع/ وظلكم يرف على زنابق حديقتكم/ وليأخذوا معكم ضحكة مرة كالعلقم/ ضحكة قاسية/ تنشرون بها الموت ".
وفي قصيدة الشاعرة العبرية ليئا كولدبرغ ( הגיהונום המאושר ) " الجهنم السعيدة " صرخات صريحة للانتقام الذي يشبه النيران التي تحرق فتقول:
( מחרבן משלהבת/ מנקם מאש/ כמו אש הצורבת/ האשר בדם/ מול שׂרפה ומול רצח/ מול רובה ומגלב )( ) "
من الخراب، من اللهب/ من الانتقام، من الذنب/ مثل النار التي تحرق/ السعادة في الدم/ أمام حريق وأمام اغتيال/ أمام بندقية وسوط "( ). وفي قصة للأديب ش. شالوم ( יומן בגליל ) " يوميات الجليل " نجد مقطعاً يؤجج روح العداء والغضب والانتقام لدى اليهود من خلال تأكيد وجود نار لا تنطفئ في داخل كل يهودي من جراء القصص التي يسمعها منذ طفولته عما فعله غير اليهود باليهود:
(דמינו, דמינו האללים מתחילים תוססים גועשים ומבקשים דרך לעצמם ואתם המון כלי זין של מכואבים אמיתײם ומדומים, של חששות וסברות ושל צו איום ונסתר אחד הבא על גבינו ביודעים ובלא יודעים ותוכו רצוף, צא והרג, צא והרוג, זכרונות עולים בקרבך, עינוײם שעונית בידי גוײם מסואבות, בזיוות וחירופים ששבעת, ספורים נוראים ששמעת מפי אב, מפי סבתא, ומפי ספר דמעות קדמון- הגם פה בארץ חײנו החדשים לא יבוא הקץ לכל אלה? הגם פה כדור משחק נחיה בידי כת זידונים פורעת ללא גמול, ללא מצור, ללא נקמה?)( ) "
دماؤنا الداكنة بدأت تغلي، تهيج، تبحث عن طريق لنفسها ومعها كثرة من الأسلحة لمتألمين حقيقيين وواهمين وخوف واعتقادات، أمر تهديد ونفي جاء علينا بعلم أو بدون علم وفي داخله عبارة تتكرر، اخرج واقتل اخرج واقتل، ذكريات تظهر قريبة منك والآلام التي عانيتها من قبل الاغيار القذرين، تشبعت من الاهانات والشتائم، ومن القصص المرعبة التي سمعتها من أبي وجدي ومن كتاب الدموع القديم: هل في هذه الأرض ستكون حياتنا الجديدة هكذا، أليس هناك حد لكل هذا؟ هل هنا أيضا سنكون كرة لعب بأيدي أشرار مشاغبين دون الأخذ بالثأر، دون التحصن ودون الانتقام؟ ".
وهنا يلجأ الأديب شالوم في قصيدته ذاتها إلى تأكيد فكرة إن اليهودي مهما كان إنسانا مسالما أو مثقفا- على حد تعبير الأدب العبري- فان عليه واجبا لا خيار له فيه وهو الانتقام، حيث تجردت قلوبهم من كل اثر للرحمة كرد فعل لما آلت إليه أوضاعهم نتيجة أعمالهم الشريرة، ويمكن اعتبار مقاطع الانتقام هذه تمثل نبوءة أدبية تعكس هذه الصور البشعة من صور أدب الحرب العبري:
( הנה אני אדם שלא הזיק מעולם לבעלי חי בכװנה תחלה תרביויות עמים למדתי לדעת ויש מהן שדומה כי ירדתי לעמקן ואני יודע גם ברגע הזה כי מותר האדם מן האדם אין וכי אחים אנחנו כלנו לטוב ולרע.. לשמחה ולאסון ובכל זאת נשבעתי לכם כי דמי מפעפעים בקרבי בחמת נקם כי נפשי נתערטלה מכל נדנוד של רחמים כי מפחד מפני עצמי בלילה הזה )( )
" ها انذا لم اوذ أبدا أي إنسان ولا حتى أي كائن حي عن قصد، في البداية تعلمت ثقافات شعوب كثيرة من اجل المعرفة، وهناك منها ما يخيل لي باني توغلت في أعماقها وأنا اعرف أيضا هذه اللحظة إن ليس هناك شخص افضل من شخص، وإننا جميعا إخوان على الخير والشر، في السراء والضراء، ومع كل ذلك فأنا اقسم لكم إن دمي يغلي في داخلي من حرارة الانتقام لان نفسي تجردت من كل أثر للرحمة لأنني خائف من نفسي في هذه الليلة ".
ولتأكيد هذه الرغبة في الانتقام يحث الأديب شالوم اليهود على قتل العرب وذبحهم وتدميرهم واحتقارهم:
( ויהי הסיף ותהא החרב בידינו, חרב נקמות, חרב אבודים, חרב בועטים בהפקרות הגלויות, מה הם שוחטים ברינה, אף אנו שוחטים ברינה, מה הם בשינים.. אף אנו בשינים מה הם רומסים ודורסים אף אנו רומסים ודורסים.. נגדשה הסאה מלאו ימי העינויים.. לא נתפרץ להיות כבשים עוד המובל לטבח בידי כל מחבל )( ) "
ويكون السيف ويكون الحسام بايدينا، سيف انتقام، سيف مفقودين، سيف نخرق به الفوضى السائدة، إذا ما هم ذبحوا بابتهاج، نحن أيضا نذبح بابتهاج، إذا ما هم احتقروا نحن أيضا نحتقر، إذا ما هم داسوا وسحقوا نحن أيضا ندوس ونسحق، لقد طفح الكيل.. انتهت أيام المعاناة، لا نندفع لنكون اكباشا مرة أخرى مساقين للذبح من قبل كل مخرب ".
ولا يتوقف الأديب شالوم عند هذا الحد من إثارة الحقد والانتقام ضد العرب، بل يعمل على التذكير الدائم بما يسمى أيام الاضطهاد والنكبة بهدف جعل اليهود في حالة رعب دائم من تكرار هذه ( المأساة ) إذا ما هم استسلموا للضغط الواقع عليهم ولم يعمدوا إلى تأجيج نار الحرب والانتقام في نفوس الأجيال القادمة:
( אתם רצחתם אותנו חינקתם אותנו, נתחתם את בשרנו להנאתכם אתם הגוײם ואת אחינו שרפתם על מדורות כל ההרים, את אחיותינו שמתם לזונות, לאשפה השלכתם את הראשים המותזים, לשמצה עשיתם את שמינו ולצה.. לאחר ששרפתם את השריפה בזירתם את האפר על מזבחות קדושתכם אתם הײתם הטהורים ואנחנו הטמאים, אתם הצדיקים ואנחנו הרשעים.. החושבים אתם ימחק עװנכם מספר הדורות? )( ) "
ا
نتم قتلتمونا، خنقتمونا، قطعتم لحمنا لمتعتكم، انتم أيها الاغيار أحرقتم إخواننا على محرقات الجبال ودفعتم إخواننا للزنى ورميتم رؤوسنا المقطوعة في المزابل وجعلتم من اسمنا سخرية واحتقاراً، وبعدها أوقدتم الحريق وذررتم الرماد على مذابح مقدساتكم.. كنتم انتم الطاهرون ونحن النجسون، انتم الأخيار ونحن الأشرار، ألا تعتقدون إن ليس هناك حكم وعقاب وانتقام في هذا العالم؟ وهل تعتقدون بان توالي الأجيال سيمحو ظلكم؟ ".
والمتتبع لدراسة تطور صورة الانتقام في أدب الحرب العبري الحديث- الشعر والقصة والرواية والمقالة والمسرحية- لوجد إن لهذه الصورة بدايات تاريخية تعود إلى فترة الجيتو في القرن التاسع عشر، ففي العقود الأخيرة من هذا القرن، ومع الانحسار التدريجي لحركة الهسكالاه، ظهرت مفاهيم قومية مبنية على الروح اليهودية وساهم الأدب العبري في التعبير عن هذه الروح القومية من خلال محاولة تصوير حال اليهود التعس في أوربا واضطهادهم المستمر نسبيا وبصورة خاصة في أوربا الشرقية خلال الثمانينيات من القرن التاسع عشر.
وبتركيز الشعر والقصة والرواية على الاضطهاد الموجه ضد اليهود واستذكار ما يسميه الأدب العبري الحديث بالإرث الثقافي اليهودي المتراكم، حاول هذا الأدب إيجاد ( الأمل القومي وبعثه من جديد )، وأول ما فعله الأدب العبري في هذا المجال هو توسعه في وصف الحالة المأساوية المرتبطة بحال اليهود في الشتات كجزء من حملته ودعوته للهروب من عالم الاضطهاد إلى ما اسماه بالعالم الفسيح، وبذلك هيأ الأدب العبري اليهود ودعاهم للتعلق بالأمل المتمثل في صهيون، ولذلك نجد ( حب صهيون ) يتكرر كثيرا في النتاجات الأدبية العبرية لتلك الفترة، وعلى التوازي مع هذه الدعوة ركز الأدب العبري على فكرة تميز اليهود عن باقي الأمم وعلوهم عنهم وقدرتهم على البقاء رغم ما يتعرضون له من اضطهاد وتشتت. وبهذا الطرح جسد الأدب العبري الحديث فكرة ما اسماه بإنقاذ اليهود من الشتات واعتبر إن ( حلم الإنقاذ ) سيتدفق عندما يكون اليهود مهيأين لذلك وراغبين فيه،
وقد عبّر الشاعر نفتالي هيرتس( ) عن فكرة تميز اليهود عن باقي الأمم وعلوهم عنهم فـي قصيدة ( עם עולם ) " شعب خالد ": ( لا أحد يستطيع أن يذبح/ أو يبدد شعبا ولد هكذا رجال:/ كاهن، لاوي، شاعر/ أنبياء يتذمرون ويحرسون/ وينحتون على الحجر وصايا الرب العشر المقدسة )( )
في حين تحدث الشاعر دافيد فرشمان( ) عن فكرة إنقاذ اليهود من الشتات في قصيدة مطلعها:
( عندما ينمو جيل جديد/ جيل سيفهم معنى الإنقاذ/ يرغب، يشتاق ويهنئ له/ عندئذ سيتم إنقاذك/ عندئذ ستنقذ ). ودعوة فرشمان هذه لقومه تعني العودة إلى الرب والتمسك بشرعيته وتراثه اليهودي لأنهم إن ابتعدوا عنه وعن وصاياه فكيف يأملون بالإنقاذ؟ فقط حين يغير اليهود من أنفسهم ويتخلون عن الاندماج والضياع بين الأمم تزال عنهم العقوبة التي فرضها الرب!.
وتتطور هذه الصور في الأدب العبري الحديث حيث يبقى تاريخ الاضطهاد الذي حل باليهود في أوربا موضوعا مفضلا لدى الكثير من الأدباء العبريين ومنهم حاييم نحمان بياليك الذي عبّر في قصيدته ( על השחיטה ) " حول الذبح " عن آراء الكثير من الأدباء العبريين في وصف اضطهاد الأمم لهم والمبالغة فيه، وهذه القصيدة هي من بين القصائد التي أكسبت بياليك لقب الشاعر القومي( )، ففي القصيدة يصف الشاعر بؤس اليهود الذين عادوا بلا أمل وهم في الشتات بيد الأمم يتطلعون إلى السماء من اجل الإنقاذ، فيقول:
( أيتها السماء ارحميني/ إذا الإله ما زال هناك/ وإذا كان هناك طريق ما زال/ وإذا لم أجده/ فصلي من اجلي/ وأنا أعيش بلا أمل/ فإلى متى؟ إلى متى؟ )( )، ثم ينتقل إلى تجسيم عملية القتل والتفصيل في عملية الذبح متنقلا في ذلك من حالة الفرد إلى حالة الجماعة، والشاعر بذلك يريد حث اليهود على رفض الاستسلام الذي عاشوا فيه والخنوع الذي مارسوه تجاه ما حل بهم من ناحية وكسب العطف على الوجود اليهودي ( المضطهد ) من ناحية ثانية.
ويصل الشاعر إلى نكران وجود عدالة سماوية توقف ما يحل باليهود أو على الأقل هي بطيئة غافلة عما يجري به وبقومه فيقول: ( إذا كانت هناك عدالة فلتظهر مرة/ فان ظهرت/ فقط حين لا أكون شيئا تحت الشمس/ فليرم عرشها وليبعثر/ وخلال أبدية الإثم/ لتتعفن السماء )( )، وهنا يأتي هذا الشاعر وغيره من الشعراء والأدباء اليهود فيصبون غضبهم على الاغيار الذين عاشوا بينهم واصفين إياهم بأقذر الصفات ( كما سيرد ذكره في مبحث صورة الإنسان العربي ) ومن هذه الصفات التي وردت في قصيدة بياليك: ( أما انتم أيها الخنازير المغرورة/ فكونوا كما انتم/ مصوا دمكم/ وعيشوا عليه )( ).
وبظهور الحركة الصهيونية ارتفع الأمل عند الأدباء العبريين بقرب خلاص الشعب من الشتات وصار شغلهم الشاغل ولادة الشعب اليهودي من جديد وعودته إلى صهيون( )، واخذوا يدعون صراحة قادة الفكر الصهيوني إلى التوجه إلى فلسطين واحتلالها باعتبارها من يحقق ذلك الحلم الذي عاشه اليهود لأجيال( ).
وقام الأدب العبري قبل احتلال فلسطين عام 1948 بتشجيع المهاجرين اليهود باتجاه فلسطين واستعمارها وحثهم على مواجهة الرفض العربي للاحتلال بالعمل والاستمرار في الريادة حتى يتحقق المشروع الصهيوني الكامل باستعمار البلاد، فيقول الشاعر دافيد شمعوني في إحدى قصائده لا تحزن/ لا تبكِ/ في وقت كهذا/ ولا تحنِ رأسك/ اعمل! اعمل/ أيها الحارث/ احرث/ أيها الباذر، ابذر بذورك/ في اللحظة العصيبة/ ضاعف جهدك/ ضاعف كدحك )( )،
كما ساهم الأدباء والشعراء أنفسهم في الريادة من خلال هجرتهم إلى فلسطين وانهماكهم بأدبهم ونتاجاتهم التي دعت إلى طرح المفاهيم العنصرية للحركة الصهيونية والدعوة إلى تكريس الاحتلال اليهودي لفلسطين وإعادة بناء ( إسرائيل الكبرى ) وكان لسان حال الأدباء والشعراء يعبر عن مهمة الأدب العبري التي هي تعليم اليهود شريعة البلاد الكاملة، أي التبشير بجميع ارض فلسطين ووحدتها مكررين نغمة الاحتفاظ بالأرض كحق تاريخي بالقوة والسلاح، ثم يسخر الأدب العبري من العرب والعادات العربية ويتهمهم بالحقد الأعمى بينما هم أبرياء لا يفكرون بإيذاء أحد، ومع هذه النغمة والتضليل والبراءة الزائفة تبدأ مرحلة الدعوة إلى قتل العرب وإبادتهم والانتقام منهم لأنهم بذلك فقط يحققون هدفهم الاستعماري بإقامة حلمهم الأسطوري من النيل إلى الفرات، وقد ساهمت حروب إسرائيل بعد عام 1948 ضد العرب في تعزيز صورة الانتقام في أدب الحرب العبري كما لاحظنا ذلك في عدد من النماذج الأدبية العبرية التي وردت في سياق هذا المبحث.
وصورة الانتقام هذه تتطابق مع المنطلقات التي حددها بن غوريون والتي تقول على إن التوافق مع العرب يتم من خلال استخدام القوة والعنف والانتقام بدعوى إن العرب غير قادرين على التعايش السلمي مع اليهود مبررا بذلك اللجوء المتكرر إلى استخدام القوة العسكرية التي وجد التعبير النموذجي لما سمي سياسة الردع العسكرية ( ).
ولا تقتصر فلسفة الانتقام- كصورة من صور أدب الحرب العبري- على استخدام وسائل العنف والقتل والتدمير فقط بل تأخذ أشكالا أخرى قد تكون اكثر إيلاما وقسوة وخطرا من الوسائل العسكرية ويحفل الأدب العبري بنماذج من هذا النوع اخترنا منها واحدا على سبيل المثال لا الحصر، وهو ما تحدث به أستاذ الفلسفة اليهودية الدكتور بن روبي( ) ردا على سؤال وجهه له الكاتب الإيطالي جيوفاني بابيني، يقول السؤال: قل لي لماذا اليهود كثيرو الجبن، مع ما هم عليه من ذكاء؟ ( )
أجاب د. روبي: اليهود جبناء؟!… لعلك تعني من الوجهة المادية، أما من الوجهة المعنوية والفكرية فثق يا سيدي بان اليهود ليسوا فقط شجعانا، بل جريئين إلى ابعد حد.. نعم إن اليهود ليسوا أبطالا على النحو البربري الذي تفهمون منه البطولة! ولم يكونوا كذلك حتى في عهد حيث كان في مقدورهم أن يكونوا أبطالا بربريين، بل داود ولا يزالون في مقدمة الشعوب التي اعتبرت قيمة الإنساناليهود دائما- يا سيدي- الحقيقية في تشغيل الفكر وترويض الذكاء.. أضف إلى ذلك، إن اليهود منذ نشأتهم في كل بقاع الأرض لم يكن لهم دولة أو حكومة ترأب ما تصدع من وحدتهم وما تفرق من شملهم، بل أمسوا طوائف ضئيلة بين جموع غفيرة تكن لهم الحقد والاحتقار.. فكيف تريد أن تنمو في الإسرائيليين معاني البطولة ورجولة الحرب والقتال؟
ولكي لا يبادوا، اضطروا بطبيعة الدفاع، إلى استنباط وسائل دفاعية فظفروا منها باثنتين جد قويتين هما: المال والذكاء، هذا علما بان حب المال لم يكن من طبيعة اليهود السابقين، فان معظم آدابهم منذ عهد الأنبياء كانت مكرسة لتمجيد الفقراء وحتى يكفوا عنهم أذى البشر، لم يكن أمامهم إلا أن يشتروهم بالمال، لعدم استطاعتهم محاربتهم بالحديد، فاخذوا يتسلحون بالذهب الذي هو أمضى وافعل من الحديد! وأصبحت الدولارات هي عتادهم الحربي! وهكذا اليهودي الذي اضطروه لان يصبح رأسماليا وجد نفسه إزاء الانحطاط الروحي والمعنوي لأوربا، سيدا من سادة العالم.. وأضاف بن روبي: نعم، لقد اضطروه لان يكون غنيا ثم أعلنوا إن للمال قيمة ما بعدها قيمة فاصبح فقير التوراة بالأمس، المسيطر على الأغنياء والفقراء اليوم..
وهكذا، فالوسائل التي لجأ إليها اليهود مبدئيا للدفاع عن أنفسهم، قد تطورت مع الزمن ثم تبلورت فإذا بها أصبحت ( أدوات انتقام ).. ثم لا تنسَ الذكاء، فان فعاليته أقوى تأثيرا من فعالية المال.. وهل بغير هذين السلاحين الجبارين، يستطيع اليهودي المهان المضطهد أن يثأر من أعدائه الكثيرين؟ وفي الواقع فقد انتقم، أيما انتقام، لقد هاجم أمثلتهم العليا ففضحها وأسقطها وجعلها هباء منثورا فمنذ اكثر من قرن، لم تكن غاية اليهودي غير تقويض الاعتبارات والدعائم التي قامت عليها المسيحية ونسف اعتقاداتهم وأفكارهم من الأساس! ومنذ اللحظة التي استطاع فيها اليهود أن يخططوا ويعملوا بحرية تامة غدا نصف البشر الروحي مهددا بالتداعي والزوال.
ولأهمية هذه الإجابات باعتبارها وثيقة تلقي الضوء على حقيقة الفكر اليهودي العنصري العدواني المشبع بروح الانتقام، ارتأى الباحث الاستطراد في عرض الجوانب الأخرى من هذه الأفكار والتعليقات التي تعكس فلسفة العنف والانتقام عند اليهود، يقول روبي مخاطبا الدكتور بابيني: دعني- يا سيدي- اضرب لك أمثلة، وافرز شواهد استمدها من واقع حياتنا: الرواية الرومانسية خلقت المثل الأعلى وأعادت المهابة والاحترام للكثلثة.. فجاء من دوسلدروف يهودي يدعى هيني، فاستخدم بنجاح شعره اللاذع في السخرية من الرومانتيكيين والمثل الأعلى، ظل الناس يعتقدون إن السياسة والأدب والدين والفن من ابرز الصيغ الفكرية وان ليس لها علاقة بالمال والمعدة حتى برز يهودي من تريف هو كارل ماركس وبرهن بقوة على إن هذه المصطلحات السامية تنشأ وتنمو على ادران الاقتصاد الدنيء.
ويضيف: في نهاية القرن التاسع عشر كانت أوربا تتيه بعصر تولستوي، ابسن ونيتشة وغيرهم، مؤكدة انه أزهى العصور الإنسانية، فيظهر يهودي من بودابست يدعى ماكس نورداو فيريكم بجلاء كيف إن شعراءكم وأدباءكم الذين طبقت شهرتهم الآفاق فاسدون ومفسدون وكيف إن حضارتهم شيدت على الزيف والكذب والخداع… كل منكم يظن أو يزعم انه رجل سوي يتحلى بمكارم الأخلاق والتقى فيتقدم يهودي من فريبرج هو حجة علم النفس اليوم، وهو سيجموند فرويد الذي كشف لكم إن في أنقى الناس وابرز الشخصيات الفاضلة ترددا ومراوغة وميلا إلى القتل والإجرام.. ونستطيع المتابعة على هذا المنوال وقتا طويلا… ولكن لنتحدث بإيجاز عن اثر اليهود في السياسة العالمية، فقد لا تعلم إن الذي قهر بسمارك الرهيب هو اليهودي ديزرائيلي وكليمنسو كان ساعده الأيمن واستمد لينين قوته من اليهودي تروتسكي.. وهنا توقف د. روبي قليلا ثم استأنف حديثه:
ثم لاحظ بأنني لم اذكر أمامك أسماء مبهمة ولم أحدثك بأشياء خيالية أو أمور ثانوية تافهة، فأوربا الفكرية اليوم تحت نفوذ عظماء اليهود الذين ذكرت لك الآن.. لقد نشأ كل منهم بين شعوب مختلفة واتبع كل منهم وجهة نظر تختلف عن الآخرين ولكن للجميع هدفا واحدا.. وغاية واحدة هي جعل الحقائق التي وثقت بها العقول موضع الشك.. وحط كل ما هو رفيع.. إن هذه السموم التي ننفثها منذ أجيال ليست إلا انتقام اليهودي الأكبر من العالم اليوناني واللاتيني والمسيحي.. لان اليونانيين جعلونا سخرية الأجيال والرومان شتتونا في الآفاق والمسيحيين تمادوا في اضطهادنا واستباحتنا.. نحن لم نلجأ إلى القوة في هدفنا الانتقامي، لأننا ضعفاء! ولكننا وجهنا حملة جبارة تلمع فيها معاول الهدم والتخريب فتمكنا من تقويض دعائم أثينا الأفلاطونية وروما الإمبراطورية والبابوية.. لقد تجرعنا كأس الانتقام حتى الثمالة.. انظر فنحن كرأسماليين نسيطر على بيوت المال وأسواق العالم الاقتصادية.. لقد اصبح المال في هذا العصر هو المعبود الحقيقي.. وقد غدوتم خدمنا في النظام الاقتصادي وضحايانا في النظام الفكري، إن الشعب الذي اتهموه بقتل الإله والأنبياء أراد فقدر على تحطيم أصنام الذكاء والمشاعر.. وقد وفق فاضطركم إلى الركوع أمام الصنم الأقوى الذي ثبت وحده دون باقي الأصنام واعني به المال!.. إن ذلنا الذي بدأ منذ استعبادنا واضطهادنا في بابل إلى انحدارنا في معركة باركوخبا ثم تجدد في عهد الجيتو حتى الثورة الفرنسية.. هذا الذل والاضطهاد قد دفع ثمنه غاليا واستوفى حقه أخيرا.. فاليهودي المنبوذ من بين جميع الأمم والشعوب يستطيع الآن التغني بنشيد الانتصار..
ومن ابشع ما كتب من قصائد في أدب الحرب العبري هي قصيدة الشاعر نتان زاخ بعنوان ( عن الرغبة في الدقة )( ) والذي يستهزئ من أولئك الذين يحصون خسائر ضحاياهم من العرب وغيرهم ويدعوهم ( ساخرا ) إلى توخي الدقة في حساب عددهم ويعتبر هذه الدقة مسألة ( لا اقل ) منها الرغبة في القتل والانتقام والاغتصاب، فيقول:
( حينئذ بُولغ في عدد الجثث/ هناك من عـد مائة وهناك من عد مئات/ وذلك قال: عددت (63)؟ جثة امرأة محروقة/ أما رفيقه فقال: لا، بل (11)؟ جثة/ والخطأ كان متعمدا ولغرض سياسي، ليس بالصدفة/ وإذا بدأت فعليَّ أن أقول أيضا/ انه لم تذبح إلا (8) نساء؟ إذ قتلت (2)؟ بالرصاص/ وواحدة مشكوك في أمرها وليس واضحا/ إذا كانت قد ذبحت أو اغتصبت أو مزقت سرتها فقط/ وفي أمر الأطفال أيضا لم نسمع بعد الكلمة الأخيرة/ إذ يعترف الجميع إن (6) صلبوا وواحدا عذب/ قبل أن يحطم رأسه ولكن من يقطع لنا وعدا/ بان من اختفوا وانقطعت آثارهم/ تم إلقاؤهم حقا في البحر جميعهم أو جزءا منهم/ إذ كيف نفسر لطخات الدم/ فممنوع أن نبالغ بهذه الأمور/ وعلينا أن نكون حذرين فالأمر يخص حياة الناس/ وقد تحصل، لا سامح الله، أخطاء في التقديرات/ ولقد حصلت فعلا يا صديقي المثقف/ هكذا اندلعت خلافات شديدة طيلة ذلك اليوم/ ولولا الرائحة الكريهة التي تفشت في المكان/ لكان بالإمكان بلوغ الدقة التامة أو بلوغ الضربات/ إذ إن الرغبة في الدقة إنسانية ليس اقل/ من الرغبة في القتل والاغتصاب وتحطيم الرؤوس وقتل/ عدوك وخصمك وجارك القريب والغريب المشبوه أو أي/ رجل أو امرأة أو طفل في العالم )( ).
***
(*) للراغبين بالحصول على مراجع الدراسة مراسلة الباحث على صفحته او عبر الماسنجر ، مع الشكر والتقدير .
(**) باحث متخصص باللغة العبرية والادب العبري وارامية التوراة ومتابع للغات العاربة ( السامية).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق