عبير البراري ..
كل مرة تعاتب عليه وصوله المتأخر إلى الفصل ، يتضرج وجهه خجلا ، و تشع من عينيه الصافيتين المتلألئتين نظرات خاطفة مغشاة بالأسى و الالتباس ، كمن تتعاقب عليه بلا انقطاع ومضات النشوة و الألم ، يفرج عن ابتسامة ، و يتعلل بمساعدة والده المريض في أعمال الحقل.. تسعى جاهدة أن تفحمه بأن الحياة زاهية و زاخرة بالوعود ، و أن الحِلم يُكسب الإنسان من الفضائل ما لا يُقدر ، و يلقنه أسمى دلالات السخاء في العطاء .. و ما عليه إلا أن يمتلك قوة التحمل ، فمهما تكن وطأة المعيش اليومي ، فهي أرحم من الأوهام !
... ظل مقعده في الفصل فارغا طوال ثلاثة أيام ، و خلف غيابه صمتا غريبا .. سألتْ عنه زملاءه ، دون أن تظفر من أحدهم بما يسكن مشاعرها الملتاعة ، شيئا فشيئا انتابتها مخاوف مرعبة .. بغتة ، تذكرت أنه أخبرها ذات يوم عن موقع مسكنه بتخوم المدينة ، جهة الشرق ، قرب الوادي .. قبل العصر بقليل ، لم تعلم أي حبور عظيم سيغزو جوانحها بعد لحظات ، و هي تهتدي أخيرا إلى كوخه المحفوف بزريبة السدر..
يتكور على نفسه فوق حصير من " السمار " ، غافيا بأعضائه ، لكن دواخله متيقظة .. لم يهدأعن إصدار آهاته و أنّاته ، و رأسه مسند إلى ركبة أمه .. عادت بظهرها إلى الخلف ، و جالت ببصرها في الكوخ ، و على ساكنيه المنبعثين من عوالم منسية ، ثم تطلعت إليه و كأنها ترمقه لأول مرة .. أسيرة الأحاسيس المضطرمة التي ألجمتها رهبة المفاجأة ، أدركت أخيرا ، في حضرته الطفولية ، أنها قضت حياتها تطارد السراب رغم قوتها الداخلية التي لا تخذلها .. أطرقت ، ثم ساءلت نفسها عمن هو أحق بامتلاك قوة التحمل ، أهي أم هو ؟! صبي في عمر الزهور، يعود كل يوم مرضى المشفى الذين لا يسأل عنهم أحد ، أو نسيهم أهلهم هناك .. أو هكذا !.. طورا ، قبل الانصراف إلى المدرسة ، و تارة أخرى ، بعد نهاية فترتها.. يغسل ملابسهم ، يقتسم معهم طعامه الهزيل ، يساعدهم على التوجه إلى دورة المياه .. و يبدد سحب وحدتهم بنظراته الدافئة ، و جمله المتقطعة ، و حركاته الراشدة !
... بالمشفى ، رحيل " دادا نجمة " التي ترقد بالغرفة الأخيرة على اليمين ، خلّف في قلبه الصغير ما يخلفه بركان هائج يدمدم بتعويذة اللعنة ! يستحيل أن تنازع طفلا في شعوره بالحب .. صورتها في مخيلته كالندبة في المحيا الوسيم ..
تطلعت إليه من وراء العبرات ، و اجتاحتها دعة بهية ، كأنها آبت إلى رحم أمها .. و قالت له : هل تسمح لي بشرف مرافقتك غدا ، لزيارة أصدقائك الذين يتوقون إلى قدومك بالمشفى ؟!
كمن جرفه شلال الأمس ، احتمى بالصمت .. ثم قال لها في نفسه : إنني موفور الحظ ، لأنني أهنأ بحب والدتين !!
إدريس الهراس / المغرب .
كل مرة تعاتب عليه وصوله المتأخر إلى الفصل ، يتضرج وجهه خجلا ، و تشع من عينيه الصافيتين المتلألئتين نظرات خاطفة مغشاة بالأسى و الالتباس ، كمن تتعاقب عليه بلا انقطاع ومضات النشوة و الألم ، يفرج عن ابتسامة ، و يتعلل بمساعدة والده المريض في أعمال الحقل.. تسعى جاهدة أن تفحمه بأن الحياة زاهية و زاخرة بالوعود ، و أن الحِلم يُكسب الإنسان من الفضائل ما لا يُقدر ، و يلقنه أسمى دلالات السخاء في العطاء .. و ما عليه إلا أن يمتلك قوة التحمل ، فمهما تكن وطأة المعيش اليومي ، فهي أرحم من الأوهام !
... ظل مقعده في الفصل فارغا طوال ثلاثة أيام ، و خلف غيابه صمتا غريبا .. سألتْ عنه زملاءه ، دون أن تظفر من أحدهم بما يسكن مشاعرها الملتاعة ، شيئا فشيئا انتابتها مخاوف مرعبة .. بغتة ، تذكرت أنه أخبرها ذات يوم عن موقع مسكنه بتخوم المدينة ، جهة الشرق ، قرب الوادي .. قبل العصر بقليل ، لم تعلم أي حبور عظيم سيغزو جوانحها بعد لحظات ، و هي تهتدي أخيرا إلى كوخه المحفوف بزريبة السدر..
يتكور على نفسه فوق حصير من " السمار " ، غافيا بأعضائه ، لكن دواخله متيقظة .. لم يهدأعن إصدار آهاته و أنّاته ، و رأسه مسند إلى ركبة أمه .. عادت بظهرها إلى الخلف ، و جالت ببصرها في الكوخ ، و على ساكنيه المنبعثين من عوالم منسية ، ثم تطلعت إليه و كأنها ترمقه لأول مرة .. أسيرة الأحاسيس المضطرمة التي ألجمتها رهبة المفاجأة ، أدركت أخيرا ، في حضرته الطفولية ، أنها قضت حياتها تطارد السراب رغم قوتها الداخلية التي لا تخذلها .. أطرقت ، ثم ساءلت نفسها عمن هو أحق بامتلاك قوة التحمل ، أهي أم هو ؟! صبي في عمر الزهور، يعود كل يوم مرضى المشفى الذين لا يسأل عنهم أحد ، أو نسيهم أهلهم هناك .. أو هكذا !.. طورا ، قبل الانصراف إلى المدرسة ، و تارة أخرى ، بعد نهاية فترتها.. يغسل ملابسهم ، يقتسم معهم طعامه الهزيل ، يساعدهم على التوجه إلى دورة المياه .. و يبدد سحب وحدتهم بنظراته الدافئة ، و جمله المتقطعة ، و حركاته الراشدة !
... بالمشفى ، رحيل " دادا نجمة " التي ترقد بالغرفة الأخيرة على اليمين ، خلّف في قلبه الصغير ما يخلفه بركان هائج يدمدم بتعويذة اللعنة ! يستحيل أن تنازع طفلا في شعوره بالحب .. صورتها في مخيلته كالندبة في المحيا الوسيم ..
تطلعت إليه من وراء العبرات ، و اجتاحتها دعة بهية ، كأنها آبت إلى رحم أمها .. و قالت له : هل تسمح لي بشرف مرافقتك غدا ، لزيارة أصدقائك الذين يتوقون إلى قدومك بالمشفى ؟!
كمن جرفه شلال الأمس ، احتمى بالصمت .. ثم قال لها في نفسه : إنني موفور الحظ ، لأنني أهنأ بحب والدتين !!
إدريس الهراس / المغرب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق