الاثنين، 28 نوفمبر 2016

منصة اطلاق / قصة قصيرة / للاديب عادل نايف البعيني / سوريا

هي حادثة وقعت أحداثها في بغداد يوما ما، فكأنت حديث العالم لأعوام ولا زالت، وستبقى.
......
منصّة إطلاق
استلقى ذات حزن مفكّرًا فيما مضى من حياته، مستعرضًا ما مرّ عليه في سنواته العجاف التي عاشها حتى اليوم، كانت سكاكين تتلوها أُخر، لم يعرف يوما جميلا يستحق الذكرى، حروب تتلوها حروب، ظلم واستبداد وطغيان، كان يسمع منذ طفولته التي أمضاها حافي القدمين، عاري الجسد إلا ما يستر غيرَ المباح، عن الذين عاثوا فسادًا في وطنه، منذ حكم الفرس مرورا بالتتار، حتى العثمانيين، والانكليز، كان أبوه يحسنُ سردها بمرارة، حتى غدت كمضغ الصبّر، يلوكها معه، ويبصق إذا بصق، ويركل إذا ركل، ولا يستحي من ترديد كلمات مقذعة، يطيب لوالده أن يقذف بها من آذوه وأذلوه. 
ماذا بوسعه أن يفعل اليوم، والمآسي لا تزال تنصبّ كوفود الماء على وطنه، على شعبه، على أطفاله، جوع وحرمان، وفساد، أجّجها من جعل من نفسه وليّا على هذا الشعب. ماذا بوسع يد واحدة أن تفعل، أ تصفّق ؟ وكل الأيادي ممدودةٌ للسماء تضرّعا، تدعو علانية بالخير، وفي السر على يد البطش بالكسر. فقد نامت رعاة الغنم، وتركت قطعانها للذئاب، وصار العيش الكريم على الحلم المحال. 
قال في نفسه ذات عهد عندما زارهم هولاكو تلك الزورة السوداء: "كيف نعيد صفاء دجلة من حبر المواجع، وننزع من أعلامنا صورة الدم الذي لم يجفّ بعد"
هل كان يحلم حلما مختلفا، حلما لم يسبقه إليه أحد، حلما ليس بمعنى ليت بل قابلٌ للتحقيق ، هل استطاع أن يخرج من كهف ذاته المظلم، ويبحث عن النور في منصّة إطلاق؟ هل عاد من التاريخ المزوّر، ليمحوَ أكاذيبه ويزيل شوائبه، ويعيد كتابته بأحرف من مسامير وجلدٍ؟ أينهض الآن بعد كل هذا الخسف، ويُنهضَ معه من غفا على وجع وقهر وجوع؟
جاء بمنصّته، كانت قلما ونعلاً، ووعدا بتغيير المعادلة، وأودع آماله وأحلامه وأمانيه، عند سَموءَل آخر، لم يسأل نفسه عمّن سيرثه، فقد كان شديد اليقين بأن الوارثين كثرٌ، سيتهافتون على ودائعه، لكنْ قليل منهم فقط سيأخذونها ليتابِعوا المشوار.. أمّا الباقون فسيعودون لاجترار الماضي الذي ما زالوا يرونه مشعّا.
كان وصوله كوصول أي طفل جاء إلى محل ألعابٍ ليتعلم التصويب، علّه يصيبُ فيربح، شبّت نارٌ خفيفة في شرايينه، عندما شاهد الدبّ يلعقَ العسل الذي سرقَه من خلايا نحل الوطن، كادت أنفاسُه تتوقف فلا يجري بعدها دمٌ، لكنّه تماسك، أمسك بيسراه على صَمّام قلبه مانعا إياه من النبض السريع، خشي أن يتوقف قبل أن يجهّز منصّة الإطلاق، غامت عيناه قليلا، استند على مقعدٍ انداح معه، ركّز نظارته، راح يقيس المسافات، يحدد عدسة التسديد، فجأة رأى الدبَّ كلبا، كلبا يعوي، لا من جوع بل من شبع، مما أكل ونهب من أقوات الناس، ومما شرب واستوقد من مياه وآبار لا يَملكها، فالخيرات لا زالت كثيرة، راح يعوي عن التعمير والخير والحرية، لأوطان المتعبين. 
ويعد حكامنا بارتقاء سلم الحضارة من خلاله.
عاد ليركّز نظارتيه دون اهتمامٍ. دبّا كان أم حصاناً هجينا.. أم كلبًا مسعورًا.. فجميعهم يصلحون ألعابا لأطفاله.
أشار بيده نحو الجائح أمامه وصاح بأعلى صوته: ( أنت كلبٌ) فانتفض أمام دهشة الحضور لدى سماع الصوت، نظر نحو مصدره، رأى رجلاً ونظارةً، وبسمةَ غضبٍ، ومنصّة إطلاق من لحم ودم، وينطلقُ الحذاءُ القذيفة نحو الأنياب التي تقطر دما، يطأطئُ قامتَه تحاشيا، وينحني حتى يكادَ يلامسُ نجاستَهُ، ثم ينتصبُ وقد علاه اصفرارٌ، كانت القذيفة الثانية أكثر دقةً، وأسرع انطلاقًا، وتوجّهت بكل ما تحملُ من حقدٍ وقهرٍ نحو الهدف، لكنّ يد الحارسِ المرافق تحرف النعلَ ليستقر على هدف أكبر من الرأس الفارغ، والوجه الأصفر، حرفتْه ليصيب إصابة مباشرة اثنتين وخمسين نجمة هي ذلك الخافقَ على بُرْجِ الطغيانِ الأبيض، فراح يهتز مرتعشا ومضطربا بنجومه، إلى أن همدَتْ منطفئةً، وارتفعت راية بيضاء وحمراء وخضراء غطّت كلَّ المكان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق