ذات الأثر
منذ عام، وحيدةً تجلس على شرفة الوجع، تتأمل حالها، محدّقة بالرصيف؛ لعله يأتي. الموعد يقترب، الغياب المبكر يتناسل عتمةً وألماً، تؤمان لا ينفكان أنْ يغادرا رصيفَ المبكى، ظلّه وعيناها. الرصيف يعانق دموعَها المنحدرة فوق خدّ الأسى، يحمل أنفاس زوج، تقاسمت أشلاءه شظايا عبوة عمياء؛ ليغادر مكانه مثخَناً بجراح الوداع الأخير، مشيّعاً بدعوات العابرين. تعانق أم حسين كلّ ليلة صدى صوته، تتدثّر بعباءة المكانِ الذي عشقه لخدمة العابرين إلى النور دون خوف، غادرها محرّراً نفسه من أعباء الخنادق. تقطع صمت الوحشة وحدها، تجفّف دمع عينيها بأحلام موؤدة. امرأة صامتة تضرب الفاقةَ بعصا الهمَّة، لا تستكين إلّا لهدوء الليل، عطشى لتلكَ الصور الجميلة، صور هي أقرب من الليل ذاته، تتعثّر ببقايا عطره، ترتجف يداها عند ملامسة خزانة ملابسه، تهيم مع الذكرى، فتطفو فوق دخان همسه، يهزّها الفجر؛ فتصحو على صمتها، تترك ذكرياتها على حافة سرير بائس، وتمضي ليوم جديد، تجنّد كبرياءها، تداعب أبناءَها الصغار. كانت تتعذّب بقدر حبّها لهم، تفترس دروب الوحشة، ترسم لهم أملاً تنبثق من تحتهِ الحياة. حصون الفقر تحاصرها من كلّ مكان، الفقر يرتدي ملامح الموت، يرعبها كلّ يوم، تأخذها موجة حيرة واضطراب عبر فوضى الزمن، زمن فقد ملامحَ الماضي الجميل. كانت تبحث وسط ظلام المدينة عن قلب يهبط بها لوناً حاراً يكمل بها لوحةَ الرصيف المبعثرة فوقَ ثنايا الروح؛ لعلّها تعيد خيمة الضيافة لسابق عهدها، لكن دون جدوى، تمتلئ فراغات يومها بالألم، فتغادر يومها، تعانق حلكة الليالي، بعدما يهبط النوم فوق جفون أبنائها. تتوغل في صخب غربتِها دون نصير، تلهث الطرق من وقع خطواتها التائهة في فضاء المجهولِ، يفوح المكان بكلماته الطيبة، ولأنّها لا تملك غير الذكرى، راحت تقلّب صفحاتها بهدوء، تنقشع أمامها سحب الليل، تلتحف أيامَه وتغرق في حضنه الدافئ، حتى يدركها الفجر. مازالت كلماته تهتف بها عشقاً للطقوس الجميلة:
- كلّ شيء يأفل إلّا خدمة الزائرين.
داهمها اليأس بقوة، تطلق صيحات الوجع، تتشبّث بخيوط غزلتها الدعوات، إلّا أنّ اليأس تفجّر لتصبح ضحية يغلّفها الأسى؛ فتمرّ باكية آخر أحلامها. ليل جديد يتّخذ زينته، لكنّها تجافيه، الحسرات تغزو أنفاسها، صدى مواكب الزائرين يخترق سمعها، مآتم الأحزان غزت الطرقات، البيوت امتلأت بالطعام والشراب، الناس تعدّ كلَّ شيء لخدمة الزوار العابرين، ترجلت من صهوة دموعها كي تتفقد أبناءها الثلاث، دفنت نفسها تحت غطاء الحزن، مغادرة الذكرى. في صبيحة أوّل أيام الحزن الذي انتظرته بلهفة، غادرت صمتها بمرارة، غارقة بحزنها، تنظر إلى مكان زوجها الصامت، العتمة تمتدّ بقدر مساحة الماضي، تثير غبار نداءاتِ الزوج الغائب، وحين هبّت رائحة الخطى، لم ترَ غير بقايا جرح متّشح بالعتاب، أدركت أنّ زوجها لن يعود، أوصدت باب غرفتها، زلزلت عرش الدموع؛ لتقيم العزاء وحدَها، إلّا أنّ ابنَها البكر، قرعَ باب الفجر بهمة أبيه بعدما رأى الحزن يلتهم ما تبقى من أمّه الحنونة، عمد إلى أن يحمل الأمر على كاهله، لبس طاقيته السوداء، تحزّم بحبل الرجولة، اصطحب أخوه حاملاً راية خضراء، غرزها في المكان نفسه، أخته تجري خلفهما، تتعثّر بخطواتها، أخذ يسقي العابرين ماءً، صوته الوديع يحلّق في الأفق:
- هلا بزوار أبي عبدِالله ...
هكذا كان أبوه يستقبل الزائرين. أمّه الغارقة في حزنها تستفيق على الصوت الآتي من المكان نفسه:
- إنّه صوت الغائب، صوت أبي حسين...
تقفز من مكانها مذعورة، تطلّ بوجهها من خلف النافذةِ، تحدّق بالمكان، أبناؤها الصغار يقتحمون أفواج العابرين نحو النور، تجهش بالبكاء، تلتَفّ بعباءتها، تقتفي أثرهم.
منذ عام، وحيدةً تجلس على شرفة الوجع، تتأمل حالها، محدّقة بالرصيف؛ لعله يأتي. الموعد يقترب، الغياب المبكر يتناسل عتمةً وألماً، تؤمان لا ينفكان أنْ يغادرا رصيفَ المبكى، ظلّه وعيناها. الرصيف يعانق دموعَها المنحدرة فوق خدّ الأسى، يحمل أنفاس زوج، تقاسمت أشلاءه شظايا عبوة عمياء؛ ليغادر مكانه مثخَناً بجراح الوداع الأخير، مشيّعاً بدعوات العابرين. تعانق أم حسين كلّ ليلة صدى صوته، تتدثّر بعباءة المكانِ الذي عشقه لخدمة العابرين إلى النور دون خوف، غادرها محرّراً نفسه من أعباء الخنادق. تقطع صمت الوحشة وحدها، تجفّف دمع عينيها بأحلام موؤدة. امرأة صامتة تضرب الفاقةَ بعصا الهمَّة، لا تستكين إلّا لهدوء الليل، عطشى لتلكَ الصور الجميلة، صور هي أقرب من الليل ذاته، تتعثّر ببقايا عطره، ترتجف يداها عند ملامسة خزانة ملابسه، تهيم مع الذكرى، فتطفو فوق دخان همسه، يهزّها الفجر؛ فتصحو على صمتها، تترك ذكرياتها على حافة سرير بائس، وتمضي ليوم جديد، تجنّد كبرياءها، تداعب أبناءَها الصغار. كانت تتعذّب بقدر حبّها لهم، تفترس دروب الوحشة، ترسم لهم أملاً تنبثق من تحتهِ الحياة. حصون الفقر تحاصرها من كلّ مكان، الفقر يرتدي ملامح الموت، يرعبها كلّ يوم، تأخذها موجة حيرة واضطراب عبر فوضى الزمن، زمن فقد ملامحَ الماضي الجميل. كانت تبحث وسط ظلام المدينة عن قلب يهبط بها لوناً حاراً يكمل بها لوحةَ الرصيف المبعثرة فوقَ ثنايا الروح؛ لعلّها تعيد خيمة الضيافة لسابق عهدها، لكن دون جدوى، تمتلئ فراغات يومها بالألم، فتغادر يومها، تعانق حلكة الليالي، بعدما يهبط النوم فوق جفون أبنائها. تتوغل في صخب غربتِها دون نصير، تلهث الطرق من وقع خطواتها التائهة في فضاء المجهولِ، يفوح المكان بكلماته الطيبة، ولأنّها لا تملك غير الذكرى، راحت تقلّب صفحاتها بهدوء، تنقشع أمامها سحب الليل، تلتحف أيامَه وتغرق في حضنه الدافئ، حتى يدركها الفجر. مازالت كلماته تهتف بها عشقاً للطقوس الجميلة:
- كلّ شيء يأفل إلّا خدمة الزائرين.
داهمها اليأس بقوة، تطلق صيحات الوجع، تتشبّث بخيوط غزلتها الدعوات، إلّا أنّ اليأس تفجّر لتصبح ضحية يغلّفها الأسى؛ فتمرّ باكية آخر أحلامها. ليل جديد يتّخذ زينته، لكنّها تجافيه، الحسرات تغزو أنفاسها، صدى مواكب الزائرين يخترق سمعها، مآتم الأحزان غزت الطرقات، البيوت امتلأت بالطعام والشراب، الناس تعدّ كلَّ شيء لخدمة الزوار العابرين، ترجلت من صهوة دموعها كي تتفقد أبناءها الثلاث، دفنت نفسها تحت غطاء الحزن، مغادرة الذكرى. في صبيحة أوّل أيام الحزن الذي انتظرته بلهفة، غادرت صمتها بمرارة، غارقة بحزنها، تنظر إلى مكان زوجها الصامت، العتمة تمتدّ بقدر مساحة الماضي، تثير غبار نداءاتِ الزوج الغائب، وحين هبّت رائحة الخطى، لم ترَ غير بقايا جرح متّشح بالعتاب، أدركت أنّ زوجها لن يعود، أوصدت باب غرفتها، زلزلت عرش الدموع؛ لتقيم العزاء وحدَها، إلّا أنّ ابنَها البكر، قرعَ باب الفجر بهمة أبيه بعدما رأى الحزن يلتهم ما تبقى من أمّه الحنونة، عمد إلى أن يحمل الأمر على كاهله، لبس طاقيته السوداء، تحزّم بحبل الرجولة، اصطحب أخوه حاملاً راية خضراء، غرزها في المكان نفسه، أخته تجري خلفهما، تتعثّر بخطواتها، أخذ يسقي العابرين ماءً، صوته الوديع يحلّق في الأفق:
- هلا بزوار أبي عبدِالله ...
هكذا كان أبوه يستقبل الزائرين. أمّه الغارقة في حزنها تستفيق على الصوت الآتي من المكان نفسه:
- إنّه صوت الغائب، صوت أبي حسين...
تقفز من مكانها مذعورة، تطلّ بوجهها من خلف النافذةِ، تحدّق بالمكان، أبناؤها الصغار يقتحمون أفواج العابرين نحو النور، تجهش بالبكاء، تلتَفّ بعباءتها، تقتفي أثرهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق