الأحد، 21 أغسطس 2016

كان يراهم // قصة قصيرة // للاديب د . المصطفى بلعوام // المغرب

كان يراهم...
/-
هادئا على غير عادته، يتصفح وجوها لم تمتص بعد تعب الليل. دموع والدته شحت تماما وعيناها تحترقان بحمرة تتسع كلما احتضرت الدقائق واحدة تلوى الأخرى، منكمشة على بعضها مخافة أن ينفلت منها جسدها مرة ثانية ويسقط كما سقط حلم ولدها على غفلة من الزمن . والده جالس على كرسي صغير، يبلسم تارة وينصت إلى دقات قلبه المريض تارة أخرى. أخته تغالب لعنة العمر من عينيها وزلات قدر عشقتها منذ مدة. تتحايل عليها كلما أصابها القنوط. عمه يلاعب مسماعه حول عنقه، واقف ببدلته البيضاء ينتظر مع ممرضته التي لا تفارقه إلا للحاجة القصوى.
كان يراهم...
والجسد ممدد على سرير صغير في حالة غيبوبة اصطناعية، العينان مغمضتان والوجه مشرق كأن الملائكة على مقربة من ملامحه. هنيهة، تدخل ثلة من الأطباء، تنهض الأم بمشقة، يوحي لها الأب بعجزه عن مصاحبتها، تسرع الأخت نحو كبيرهم. ظل الموت يقضم صمت عيونهم. يخرج العم من سكوته : - سيدي، كيف هو تشخيصه الحيوي الآن؟ ينظر إليه كبيرهم مستغربا . إيماءة منه كانت كافية لتمزق صمت الملائكة. 
الأم تصفع خديها بأعلى ما تبقى لها من قوة، أهو صراخ أو بكاء يطلع منها حادا مريرا... لا يهم ! ماعاد الفرق واضحا. الأب يهمس إلى نفسه : إنَّا لله وأنا إليه راجعون ! بينما الأخت تحس بدوخة في رأسها، وبقرب القفلة منها، شهقة أو شهقتان وتاتي السقطة.. يقترب منها العم واضعا يده على كتفها تحسبا... توا، نار جهنم تتقد؛ في التفاتة سريعة تجره من مسماعه، تصفعه ، تخدش وجهه صارخة : لا تقترب مني..أيها النجس.. أبعد يدك الرذيلة أيها الدنس... لا أحد يفهم ما يقع، الأم في حيرة من أمر ابنتها، الأب ينظر إلى العم ونبضات غصة في الحلق تعلو، والجسد مازال يداعب الملائكة كما بدأ..
كان يراهم..
شفتاه تتحركان بدون صوت، يداه عاجزتان عن احتضان أخته. يراها كما رآها حين جاءته تبكي جسدا تقطعت أوصال فرحته. لم يقل أي شيء ولم يفعل أي شيء، التحفا الصمت معا وتركاه ليوم آخر لم يأتِ أبدا. 
وجه الأخت يمتلئ ببقع حمراء كبيرة، العم يعيد مسماعه حول عنقه والممرضة التي لا تفارقه أبدا أصبحت الابتسامة لا تبرحها.
هو يراهم، يغمض عينيه، يفتحهما فيتململ الجسد من جديد. تنتبه الأخت إلى الحركة التي بدأت تدب فيه ، تقترب منه صارخة بأعلى بهجتها : أخي عاد.. أخي عاد..
يحدق فيها مليا، يرسل إليها غمزة خفيفة ثم يعود ليراهم من جديد..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق