ركمجة
كانت الطائرة على ارتفاع عشرة آلاف قدم ، ثم انحرف مسارها قليلاً الى جهة اليمين .. اقتربتْ منك المضّيفة .. فتاة في العشرين من العمر، رشيقة القوام، ذات وجه متورد، وشعر قصير ، وترتدي قميصاً شفاف. ابتسمت لك ، ثم أنحنت عليك لتشد حزام الأمان .. فغمرك عطرها وشعرتَ بحقيقة انك مسافر ، ستواجهك عدة صور للحياة.. ستراها مختلفة جداً .. أفضل أو أسوأ.. أوسع أو أضيق.. سهلة أم قاسية.. لكنك في الآخر، ستدمن عليها .. وستجدها لا تتعدى كونها تجربة طويلة ، مجهولة .
في مساء اليوم التالي، جرجرك الشريط الساحلي..تسارعت قدماك .. تعثرتْ بذهنك عدة أفكار ..شدّتك عدة صور .. بدا لك الكون ممتداً .. وتلونت الحياة ببريق خاص ..
سألت نفسك :
ماذا لو اني قَدِمتُ قبل هذا الوقت.. ماذا لو تخلّصتُ من قضبان توحدي ، وهربتُ باتجاه السور و.. تسلقته.. لو اني فعلتُ هذا في ذلك الحين ، لسقطتُ حتماً على أرض ما ، أية ارض كانت.. ولتدحرجتُ ببطء كبيضة إوز.. ولفقَستُ بأسرع مما لو كنت في موطني.. فكل ما وراء السور ينضح بالخصوبة .. وكنت سأولد هناك، في بيئة جديدة لا أجوع فيها ولا أعرى…."ومن اتبع هداى لا يضلّ ولا يشقى..!"
تجلس لوحدك..
تتلمس جسمك البارد..
البارد جداً من الوجه حتى القدمين.. وبارداً عند شحمتى الإذن وارنبة الأنف . لكن أعضاءك بدأت تسخن بالتدريج .. تسخن بهدوء .. كبداية حريق مكبوت كان سينشب بداخلك . لم تعتد السفر من قبل.. ولم تبتعد عن موطنك الام طوال عمرك الذي جاوز الثلاثين .. تتذكر أغنية قديمة .. تعلو وجهك ابتسامة.. الاغنية مثيرة للضحك وللبكاء في آن واحد.. والابتسامة هي الاولى في بلاد الغربة.. لقد ذكّرتك سنين عمرك الضائعة ، بإغنية ياس خضر ..عمر واتعدى الثلاثين(...) !
تسمع صوت أثيري:
"من إغتال سنينك؟ وماذا ترك لك الجناة ؟ مُذ فتحت عينيك وأنت تعاني الأسر .. لكنك الان بعيداً .. فلقد اجتزت ثلاثة خطوط عرض، او اكثر.. وعليك ان تنسَ كل شيئ.. قد لا تستسلم بسهولة لاجواء العالم الجديد .. لا بأس بذلك.. وما عليك إلا ان تشذب مشاعرك التالفة.. كمزارع حاذق"
يمرّ من أمامك شاب ملتحي ، بصحبته آخر.. َتجمعُ بين الاثنين بشرة واحده .. ولغة واحدة هي لغة بلاد العُربِ "...اوطاني من الشام لبغدان" ألان تغيرت الحال فلا الشام هي الشام !.. ولا بغداد هي بغدان..! يتطلع بوجهك ، يخاطبك:
-عليك ان تنسَ كل شيئ خلف ظهرك..
انت تحس به يقرأ ما بداخلك ..
-نحن هنا منذ ستة أشهر..
قالها بوجه مبتسم! وبدا سعيداً ، وانت مُذ هبطت لم تبتسم غير مرة واحدة!
-لقد تطبعنا مع الوضع تماماً..
وانت تعتقد بانه ملتزم لشكله ولحيته الطويلة!
-هنا موطن الحرية ، تستطيع ان تفعل ما شئت!
-اذا لم تستحِ.. إفعل ما شئت..!
أنت اكملت له الجملة ، هكذا كما تعودت سماعها من السياسيين في بلدك !
هو يسمعك ، ويضحك .. ثم يهمس بأذنيك ، ويذهب.
تخرج قصاصة الورق التي دسّها في جيبك ، تحاول فكّ رموزها.. أحرفها تثير الخوف بداخلك .. وتحس بأسياخ مدببة تخترق جسمك .. غمامة رمادية تمر فوق رأسك .. فتملأ تجاويف دماغك برذاذ ثقيل.. ترفع ذراعيك بمستوى الرأس .. وبقوة تضغط بإصبعي السبابة على صدغيك.. تخفض ذراعيك.. تمد َقدمك اليسرى ، وتطويها.. تقوم ثم تقعد .. إنك تعاني من ضيق في صدرك.. تفتح أزرار قميصك ، وتعود تغلقها .. تفتح فاك، كانك تريد أن تقول شيئا.. لكنك تتراجع عن ذلك .. تيار ساخن يهاجمك من الداخل.. يسري بجسمك من أسفل صاعدا حتى فروة رأسك .. بات رأسك ينبض بالحرارة .. تقلب الأفكار .. ترسل نظراتك الى البحر.. البحر لونه ازرق .. تغيب لحظات لم تعرف مداها.. كنت تريد تفريغ كل شحنات الشد خارج رأسك.. تفتح فاك من جديد.. تريد ان تصرخ بمن أمامك ومن خلفك ، بمن فوقك ومن بين جنبيك ..
تشعر بالتشاؤم.. تخاف من ظلك .. وظلك الاخر الذي يتبع أثرك.. "انت متابع ومطارد "
تقوم بتثاقل من مكانك، تبحث عن مكان آخر آمن .. صرت وسط مجموعة تهيأت للنزول الى البحر .. الامواج بدأت تأتي راكضة باتجاه الساحل .. تعثر على خيمة صغيرة فتدخلها آمناً ، تنام على جنبك .. ترى فتاتين قادمتين نحوك .. تقتربان منك ، تقتحمان عليك الخيمة.. تحشران جسديهما في الجهة المقابلة لك..انت تُخفي وجهك بيديك متظاهراً بالنوم.. تَطفلتْ عليكَ حباتٌ من الرمل الساخن ، تناثرتْ على جبينك.. تشعر بالحرج ، تداري إحراجك وتشغل عينيك بلوحي التزلج، المركونين بباب الخيمة .. تقدّر أطوالها وألوانها وسمك الخشب المستخدم .. وإذ أنت قد عرفت بأن الخيمة محجوزة ، تدرك حالاً فشل خطتك.. مما يزيد في إحراجك ، وتشعر كأن الخيمة قد بدأتْ تضيق عليك .. عنذاك تستأذن مسرعاً وتخرج .. تنادي عليك احداهما محاولة اللحاق بك..الا انك تتجاهلها، ولم تلتفتَ اليها حتى.. بينما تستمر هي بالجري خلفك .. لكنك تبقَ مستمراً في تجاهلها .. حتى اذا دنت منك أكثر ، تعلقت باكتافك .. فتوقفتَ.. واستدرت نحوها مرغما.. وصرتَ تقف بمواجهتها .. تستقبلك بابتسامة عفوية .. تمسكُ بكفيك.. فتشعر بتوهج باطن كفّيها.. لكنها تسارع مبتعدةً عنك بعد ان تسلمك حقيبتك اليدوية التي فيها أوراقك النقدية واوراق أخرى والتي نسيتها داخل الخيمة..
تفكر :
" الحرية لا توجد في خيمة صغيرة..!"
يذهلك سماع أصوات وهتافات في الشارع القريب، الهابط من الجبل باتجاه الساحل .. ميّزتَ من بين المشتركين فتاة شقراء تشبه المضّيفة تشيعك بابتسامة من فوق رؤوس المتظاهرين .. ولم تعرف ِلمَ أصبحت قريبة جداً منك.. لكنك تدرك انها تعيش في ذهنك ، تجوب بين تلافيفه .. تناور في اسعادك بابتسامة او ضحكة أو حركة ما.. أشياء كثيرة لم تألفها سابقاً ، أثارت بها حواسك..
تضحك على نفسك فقد أصبحت بيئة خصبة للركمجة .. هذه الفتاة ربما تريد ان تستغلك أيضاً..إستقبلتَ الامر كوجبة شهية مضى على تناولها فترة طويلة.. تحركت يميناً وشمالاً من أجل رؤيتها ..لكنْ ظهور الشاب الملتحي ، حال دون ذلك!
عند ذاك ، أصبحت تدرك أن شبح ذلك الشاب الثقيل يطاردك أينما ذهبت ، ولو بقى هكذا فسوف يفسد عليك كل شيئ.. يفسد متعتك ورغبتك في البحث .. انت لا تعرف ما يريده ذلك الشاب؟ وهل جاء معك على متن الطائرة أم لا؟
وبدا لك الامر أكثر خطورة:
أخرجت القصاصة الورقية من جيبك، دعكتها باصابعك ..ومزقتها عدا رقم هاتفه، سجلته في جهازك النقال .. سجلت اول شخص مجهول ، بارع في الركمجة !
يعود الصوت من جديد:
"عليك ان تغادر الفندق؟ أو تُخفي نفسك بين المتظاهرين."
-انتظر لحظة ، من فضلك؟
قال مسؤول صالة الاستقبال في الفندق..
كان هناك رجلان يطلبان معلومات عن أحد النزلاء ، وكان عربي الجنسية .. وحينما دققا جواز سفره .. لمحتَ صورته وأنت جالس في مكانك.. نفس الشاب الملتحي الذي تكررت رؤيته عدة مرات !
حينما قررت ان تنظمَّ للمتظاهرين ، دعاة الحرية، كانت هناك ومضة من الضوء أخذت تشع في ذهنك.. وتشعرك بالنشوة.. الحرية أمل مرتبط بوجودك .. ابتداءاً من اسمك ، محيطك الذي تختاره او لا تختاره ، النظام المفروض عليك ويوجهك كيف يشاء..
بين المتظاهرين، تحس بالدفء كأن حملاً ثقيل انزاح عن ظهرك.. الغمامة الرمادية قد انقشعت وغابت ..عاد إليك بعض صفاؤك الذهني ، وارتخت عضلات وجهك .. لكنه صفاء نسبي ، فما زال صاحب القصاصة ، يتصدر المتظاهرين !
لفت سمعك ، صفير مدوي لباخرة ذات مقدمة شامخة أشبه بالتايتانك.. على متنها مجموعة من الشبان والشابات يرفعون إعلام بلدهم.. كنت مستغرباً لذلك .. الباخرة جذبت خيالك ، فتخيلت نفسك معتلياً مقدمتها وتصورت نفسك كأنك خارج من ذاتك مؤقتاً.. وعيناك مغمضتان.. وتمتد الذراعان الى أقصى الجانبين..والهواء يشد رداءك الى الوراء.. تشعر بوجود الفتاة الشقراء أمامك.. ويوشك وجهها ان يلامس وجهك، وتحس بدفق انفاسها.. أخذت ذؤابات شعرها تصفع وجهك بخفة.. وتسري كالتيار حول عنقك..
تصارع تيار إرادتك .. تتجنب فتح عيناك ، كأنك لا تريد ان تواجه الواقع وأصبحت تفهم ان:
"الحرية لا توجد الا في التخيلات والاحلام !"
تسمع نباح مجموعة من كلاب راكبي وراكبات الامواج في المرآب، على الرصيف المقابل .. الباخرة تقترب.. انت تسمع هديرها الان ، على متنها تجمع جمهور كبير ، تستذكر آخر تظاهرة في بلدك .. ترى ملامح وجوههم تبدو معروفة لديك .. تتذكر أسماؤهم ، ذاك فلان.. وتلك فلانة …. تقرأ شعارات بعضها تطالب بالكرامة وأخرى بالكراسي.. انت تقرأ الاخرى دون ان تراها ..
يعلو نباح الكلاب من خلف الحاجز الحديدي للمرآب .. ويهتاج البحر وتعلو أمواجه.. فترى عدة أشخاص يركبون الموج قبل غيرهم .. يزداد نباح الكلاب...ويقترب أحد الكلاب من آخر .. ويسر اليه بحديث غير مفهوم..
يتشاور العربيان وهما في قبضة رجال الشرطة..
تتحدث الفتاتان بينهما بحديث خاص .. ربما عن فوائد الركمجة في تنمية الأجسام .. والعقول!
لغط كثير يملأ المكان .. وأصوات المتظاهرين في الشارع وفوق ظهر الباخرة تتعالى وكأنها تأتي من بعيد .. بعيد عبر خطوط العرض التي عبرتها ، ومن بواطن وأطراف موطنك الام .. كل شيئ اصبح مشوشاً وغير واضح .. ولكن ما هو واضح ان باخرة المتظاهرين ما زالت تسير والكلاب (...) باقية في أماكنها على الساحل..!
كانت الطائرة على ارتفاع عشرة آلاف قدم ، ثم انحرف مسارها قليلاً الى جهة اليمين .. اقتربتْ منك المضّيفة .. فتاة في العشرين من العمر، رشيقة القوام، ذات وجه متورد، وشعر قصير ، وترتدي قميصاً شفاف. ابتسمت لك ، ثم أنحنت عليك لتشد حزام الأمان .. فغمرك عطرها وشعرتَ بحقيقة انك مسافر ، ستواجهك عدة صور للحياة.. ستراها مختلفة جداً .. أفضل أو أسوأ.. أوسع أو أضيق.. سهلة أم قاسية.. لكنك في الآخر، ستدمن عليها .. وستجدها لا تتعدى كونها تجربة طويلة ، مجهولة .
في مساء اليوم التالي، جرجرك الشريط الساحلي..تسارعت قدماك .. تعثرتْ بذهنك عدة أفكار ..شدّتك عدة صور .. بدا لك الكون ممتداً .. وتلونت الحياة ببريق خاص ..
سألت نفسك :
ماذا لو اني قَدِمتُ قبل هذا الوقت.. ماذا لو تخلّصتُ من قضبان توحدي ، وهربتُ باتجاه السور و.. تسلقته.. لو اني فعلتُ هذا في ذلك الحين ، لسقطتُ حتماً على أرض ما ، أية ارض كانت.. ولتدحرجتُ ببطء كبيضة إوز.. ولفقَستُ بأسرع مما لو كنت في موطني.. فكل ما وراء السور ينضح بالخصوبة .. وكنت سأولد هناك، في بيئة جديدة لا أجوع فيها ولا أعرى…."ومن اتبع هداى لا يضلّ ولا يشقى..!"
تجلس لوحدك..
تتلمس جسمك البارد..
البارد جداً من الوجه حتى القدمين.. وبارداً عند شحمتى الإذن وارنبة الأنف . لكن أعضاءك بدأت تسخن بالتدريج .. تسخن بهدوء .. كبداية حريق مكبوت كان سينشب بداخلك . لم تعتد السفر من قبل.. ولم تبتعد عن موطنك الام طوال عمرك الذي جاوز الثلاثين .. تتذكر أغنية قديمة .. تعلو وجهك ابتسامة.. الاغنية مثيرة للضحك وللبكاء في آن واحد.. والابتسامة هي الاولى في بلاد الغربة.. لقد ذكّرتك سنين عمرك الضائعة ، بإغنية ياس خضر ..عمر واتعدى الثلاثين(...) !
تسمع صوت أثيري:
"من إغتال سنينك؟ وماذا ترك لك الجناة ؟ مُذ فتحت عينيك وأنت تعاني الأسر .. لكنك الان بعيداً .. فلقد اجتزت ثلاثة خطوط عرض، او اكثر.. وعليك ان تنسَ كل شيئ.. قد لا تستسلم بسهولة لاجواء العالم الجديد .. لا بأس بذلك.. وما عليك إلا ان تشذب مشاعرك التالفة.. كمزارع حاذق"
يمرّ من أمامك شاب ملتحي ، بصحبته آخر.. َتجمعُ بين الاثنين بشرة واحده .. ولغة واحدة هي لغة بلاد العُربِ "...اوطاني من الشام لبغدان" ألان تغيرت الحال فلا الشام هي الشام !.. ولا بغداد هي بغدان..! يتطلع بوجهك ، يخاطبك:
-عليك ان تنسَ كل شيئ خلف ظهرك..
انت تحس به يقرأ ما بداخلك ..
-نحن هنا منذ ستة أشهر..
قالها بوجه مبتسم! وبدا سعيداً ، وانت مُذ هبطت لم تبتسم غير مرة واحدة!
-لقد تطبعنا مع الوضع تماماً..
وانت تعتقد بانه ملتزم لشكله ولحيته الطويلة!
-هنا موطن الحرية ، تستطيع ان تفعل ما شئت!
-اذا لم تستحِ.. إفعل ما شئت..!
أنت اكملت له الجملة ، هكذا كما تعودت سماعها من السياسيين في بلدك !
هو يسمعك ، ويضحك .. ثم يهمس بأذنيك ، ويذهب.
تخرج قصاصة الورق التي دسّها في جيبك ، تحاول فكّ رموزها.. أحرفها تثير الخوف بداخلك .. وتحس بأسياخ مدببة تخترق جسمك .. غمامة رمادية تمر فوق رأسك .. فتملأ تجاويف دماغك برذاذ ثقيل.. ترفع ذراعيك بمستوى الرأس .. وبقوة تضغط بإصبعي السبابة على صدغيك.. تخفض ذراعيك.. تمد َقدمك اليسرى ، وتطويها.. تقوم ثم تقعد .. إنك تعاني من ضيق في صدرك.. تفتح أزرار قميصك ، وتعود تغلقها .. تفتح فاك، كانك تريد أن تقول شيئا.. لكنك تتراجع عن ذلك .. تيار ساخن يهاجمك من الداخل.. يسري بجسمك من أسفل صاعدا حتى فروة رأسك .. بات رأسك ينبض بالحرارة .. تقلب الأفكار .. ترسل نظراتك الى البحر.. البحر لونه ازرق .. تغيب لحظات لم تعرف مداها.. كنت تريد تفريغ كل شحنات الشد خارج رأسك.. تفتح فاك من جديد.. تريد ان تصرخ بمن أمامك ومن خلفك ، بمن فوقك ومن بين جنبيك ..
تشعر بالتشاؤم.. تخاف من ظلك .. وظلك الاخر الذي يتبع أثرك.. "انت متابع ومطارد "
تقوم بتثاقل من مكانك، تبحث عن مكان آخر آمن .. صرت وسط مجموعة تهيأت للنزول الى البحر .. الامواج بدأت تأتي راكضة باتجاه الساحل .. تعثر على خيمة صغيرة فتدخلها آمناً ، تنام على جنبك .. ترى فتاتين قادمتين نحوك .. تقتربان منك ، تقتحمان عليك الخيمة.. تحشران جسديهما في الجهة المقابلة لك..انت تُخفي وجهك بيديك متظاهراً بالنوم.. تَطفلتْ عليكَ حباتٌ من الرمل الساخن ، تناثرتْ على جبينك.. تشعر بالحرج ، تداري إحراجك وتشغل عينيك بلوحي التزلج، المركونين بباب الخيمة .. تقدّر أطوالها وألوانها وسمك الخشب المستخدم .. وإذ أنت قد عرفت بأن الخيمة محجوزة ، تدرك حالاً فشل خطتك.. مما يزيد في إحراجك ، وتشعر كأن الخيمة قد بدأتْ تضيق عليك .. عنذاك تستأذن مسرعاً وتخرج .. تنادي عليك احداهما محاولة اللحاق بك..الا انك تتجاهلها، ولم تلتفتَ اليها حتى.. بينما تستمر هي بالجري خلفك .. لكنك تبقَ مستمراً في تجاهلها .. حتى اذا دنت منك أكثر ، تعلقت باكتافك .. فتوقفتَ.. واستدرت نحوها مرغما.. وصرتَ تقف بمواجهتها .. تستقبلك بابتسامة عفوية .. تمسكُ بكفيك.. فتشعر بتوهج باطن كفّيها.. لكنها تسارع مبتعدةً عنك بعد ان تسلمك حقيبتك اليدوية التي فيها أوراقك النقدية واوراق أخرى والتي نسيتها داخل الخيمة..
تفكر :
" الحرية لا توجد في خيمة صغيرة..!"
يذهلك سماع أصوات وهتافات في الشارع القريب، الهابط من الجبل باتجاه الساحل .. ميّزتَ من بين المشتركين فتاة شقراء تشبه المضّيفة تشيعك بابتسامة من فوق رؤوس المتظاهرين .. ولم تعرف ِلمَ أصبحت قريبة جداً منك.. لكنك تدرك انها تعيش في ذهنك ، تجوب بين تلافيفه .. تناور في اسعادك بابتسامة او ضحكة أو حركة ما.. أشياء كثيرة لم تألفها سابقاً ، أثارت بها حواسك..
تضحك على نفسك فقد أصبحت بيئة خصبة للركمجة .. هذه الفتاة ربما تريد ان تستغلك أيضاً..إستقبلتَ الامر كوجبة شهية مضى على تناولها فترة طويلة.. تحركت يميناً وشمالاً من أجل رؤيتها ..لكنْ ظهور الشاب الملتحي ، حال دون ذلك!
عند ذاك ، أصبحت تدرك أن شبح ذلك الشاب الثقيل يطاردك أينما ذهبت ، ولو بقى هكذا فسوف يفسد عليك كل شيئ.. يفسد متعتك ورغبتك في البحث .. انت لا تعرف ما يريده ذلك الشاب؟ وهل جاء معك على متن الطائرة أم لا؟
وبدا لك الامر أكثر خطورة:
أخرجت القصاصة الورقية من جيبك، دعكتها باصابعك ..ومزقتها عدا رقم هاتفه، سجلته في جهازك النقال .. سجلت اول شخص مجهول ، بارع في الركمجة !
يعود الصوت من جديد:
"عليك ان تغادر الفندق؟ أو تُخفي نفسك بين المتظاهرين."
-انتظر لحظة ، من فضلك؟
قال مسؤول صالة الاستقبال في الفندق..
كان هناك رجلان يطلبان معلومات عن أحد النزلاء ، وكان عربي الجنسية .. وحينما دققا جواز سفره .. لمحتَ صورته وأنت جالس في مكانك.. نفس الشاب الملتحي الذي تكررت رؤيته عدة مرات !
حينما قررت ان تنظمَّ للمتظاهرين ، دعاة الحرية، كانت هناك ومضة من الضوء أخذت تشع في ذهنك.. وتشعرك بالنشوة.. الحرية أمل مرتبط بوجودك .. ابتداءاً من اسمك ، محيطك الذي تختاره او لا تختاره ، النظام المفروض عليك ويوجهك كيف يشاء..
بين المتظاهرين، تحس بالدفء كأن حملاً ثقيل انزاح عن ظهرك.. الغمامة الرمادية قد انقشعت وغابت ..عاد إليك بعض صفاؤك الذهني ، وارتخت عضلات وجهك .. لكنه صفاء نسبي ، فما زال صاحب القصاصة ، يتصدر المتظاهرين !
لفت سمعك ، صفير مدوي لباخرة ذات مقدمة شامخة أشبه بالتايتانك.. على متنها مجموعة من الشبان والشابات يرفعون إعلام بلدهم.. كنت مستغرباً لذلك .. الباخرة جذبت خيالك ، فتخيلت نفسك معتلياً مقدمتها وتصورت نفسك كأنك خارج من ذاتك مؤقتاً.. وعيناك مغمضتان.. وتمتد الذراعان الى أقصى الجانبين..والهواء يشد رداءك الى الوراء.. تشعر بوجود الفتاة الشقراء أمامك.. ويوشك وجهها ان يلامس وجهك، وتحس بدفق انفاسها.. أخذت ذؤابات شعرها تصفع وجهك بخفة.. وتسري كالتيار حول عنقك..
تصارع تيار إرادتك .. تتجنب فتح عيناك ، كأنك لا تريد ان تواجه الواقع وأصبحت تفهم ان:
"الحرية لا توجد الا في التخيلات والاحلام !"
تسمع نباح مجموعة من كلاب راكبي وراكبات الامواج في المرآب، على الرصيف المقابل .. الباخرة تقترب.. انت تسمع هديرها الان ، على متنها تجمع جمهور كبير ، تستذكر آخر تظاهرة في بلدك .. ترى ملامح وجوههم تبدو معروفة لديك .. تتذكر أسماؤهم ، ذاك فلان.. وتلك فلانة …. تقرأ شعارات بعضها تطالب بالكرامة وأخرى بالكراسي.. انت تقرأ الاخرى دون ان تراها ..
يعلو نباح الكلاب من خلف الحاجز الحديدي للمرآب .. ويهتاج البحر وتعلو أمواجه.. فترى عدة أشخاص يركبون الموج قبل غيرهم .. يزداد نباح الكلاب...ويقترب أحد الكلاب من آخر .. ويسر اليه بحديث غير مفهوم..
يتشاور العربيان وهما في قبضة رجال الشرطة..
تتحدث الفتاتان بينهما بحديث خاص .. ربما عن فوائد الركمجة في تنمية الأجسام .. والعقول!
لغط كثير يملأ المكان .. وأصوات المتظاهرين في الشارع وفوق ظهر الباخرة تتعالى وكأنها تأتي من بعيد .. بعيد عبر خطوط العرض التي عبرتها ، ومن بواطن وأطراف موطنك الام .. كل شيئ اصبح مشوشاً وغير واضح .. ولكن ما هو واضح ان باخرة المتظاهرين ما زالت تسير والكلاب (...) باقية في أماكنها على الساحل..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق