قصة قصيرة
[العدالة ]
مضى ثلاثون عاماً على آخر لقاء بينهما عندما بَرُدَ الشاي في قدحيهما ،الوقت يتسارع والكلمات تباطأت ،كأنَّ لغة الحديث تعطّلت ،لم تبقَ فرصة لديهِ لاقتحام صمتها ،يبدو انهما وصلا للنهاية الحتمية وهي تخبرهُ بما عندها:
-محمود لا يمكننا الاستمراربحبٍّ مقومات بقائهِ هشّة لا تصمدُ مقابل متطلبات مجتمع أنتَ بحاجة الى نقلة كبيرة في حياتك الاجتماعية والاقتصادية ،فالفقر ليس مكاناً لنمو الحب وانكَ لاتمتلك شيئاً من مؤهلات الزواج
-ما رأيكِ ماجدة نعلن خطوبتنا الان وننتظر بضع سنين فربما تتبدّل احوالي
-كيف تتبدّل وانت بعد شهرٍ ستلتحق بالخدمة العسكرية والحرب قائمة ومستعرة ولايمكن التنبؤ بنهايتها،صدّقني لانّي احبكَ ساترككَ وذكركَ لن يغيب عنّي مهما حصل ،ولكني لااريد ان اكون خطيبة سابقة لكَ مما يزيد في وجعنا معاً.
انتهى اللقاء بوداع حزين لم تتكرّر رؤيتهما لبعضهما الّا في مناسبات عابرة رغم الرغبات الدفينة .
ماجدة تتزوج من مهندس ميكانيك توفّرت لهُ ظروف مادية مهيئة اوجدتها لهُ عائلتهُ دون جهدٍ منهُ.
في الضفة الاخرى يلتحق محمود بالخدمة العسكرية ليقضي سبع سنين من القهر والوجع والذل والضياع ومصير مجهول لم تتضح فيهِ غير صور الموت بعد كل معركة في حرب طاحنة احرقت مئاة الألوف من المتعبين حطباً لأيقادها .
تتوقف طبولها بشكل دراماتيكي لا يصدقهّ العقلاء ضحكاً على ذقون الاغبياء المصفقين للسلاطين دوماً وفي كل عصر .
بعد شهور يتزوج محمود زواجاً تقليديّاً ليتحمّل اعباء اربعة اولاد وزوجة لم يقترب منها فالمسافات بينهما شاسعة وازدادت اتساعاً مع تقادم الزمن فلا يجمعهما غير سقف الزوجية ،هي امرأة ساذجة رغم تعلمها ،لم تستطع استيعاب ما يدور براسهِ فعاش عمرهُ مكرهاً مغلولاً وسجيناً بمسؤلية اولادهِ التي تعاظمت على عاتقهِ ولم ينجح في محاولاته بان يجعلها امراة اخرى تقتلع منهُ جذور الماضي وتنسيه زمان ماجدة الغائبة الحاضرة في حياتهِ والتي انتقلت بعد عشر سنين مهاجرة الى امريكا بصحبة زوجها وابنيها بعد تفاقم ظروف الحصار الاقتصادي على وطنٍ امسى الجائعون فيهِ ينامون على لحم بطونهم .
تحولت ماجدة وذكرياتها الى قصيدة شعرٍ ابتدت بفراقها لتبقى طويلاً اغنية ً وموالاً من الشجن والاسى لا ينتهي لدى محمود .صارت قصائدهُ تنتشر في الصحف الالكترونية والمطبوعة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك).اصبح الشعر لديهِ قضية ً ورسالةً واضحةً وقويةً يانهُ شاعر عاشقٌ قديس في محراب العشق ممجّداً لحبّهِ العذري مشيعاً لثقافة انتظارهِ على امل عودتهِ داعياً للاعتذار لمن تحب ما دام هدفا وغاية ً لكي لا تفقدهُ ،تميّز شعرهُ بصدق المشاعر والبوح النبيل الذي يخترق القلوب رغم الحزن الذي يرافقهُ،ما ينشرهُ كان يظهر باسمهِ الصريح وكثيراً ما يذكر اسم ماجدة صريحاً لتصبح هي بعد حين من اكبر قرّائهِ ومن اصدقائهِ المقربين جداً،تتابعهُ بشغفٍ كبير وبخاصةٍ بعد انفصالها عن زوجها وانشغال ابنيها بحياتهما في مجتمعٍ لا يقيّد حركة مواطنيهِ ولا من ممارساتهم الشخصية في ظل احترام قوانينهم .في بدء تعارفهما اخفت شخصيتها الحقيقية لكنها سرعان ما صارحتهُ وهي عارفةٌ لهُ لتعود بهِ الى ذكريات عتيقة لم تغادرها وهو يرسمها لوحاتٍ تتجسّدُ فيها تفاصيل كانت بينهما ،كما انها ايقنت بان اللهفة للمال واكتنازهِ لايمكنهُ ان يعادل كنوز الحب التي لا تفنى وانّ حياتها الماضية كانت وهماً والحقيقة الوحيدة الباقية هو الحب الذي لم تعشهُ .لم يعد لها في امريكا تلك الروابط الوشيجة لبقائها غريبةً فتقرّر مغادرتها والعودة الى بغداد ومحمود بانتظارها .
عادت حاملة ً الخمسين عاماً وهو يكبرها بعامين ،هي امرأة لم تتمكن التجاعيد من ملامحها ، ولم يتغير سحر عينيها الجميلتين اللتين تخفيهما بنظارة ملازمة لها ،وشالها الازرق لم يغطِّ مقدمة شعرها الاسود الذي ما ظهر عليهِ ما يشير الى خضابهِ ، لم يترهل جسدها ظل متماسكاً مع حوادث الايام ،حنطيّةٌ تجتمع شفتاها على ثغرٍ دقيق يضيءُ عليهِ سراجان من خدّيها لحظة ابتسامها .ماجدة تتحدث الانكليزية بطلاقة وهي تحاول مجاراة محمود في لغتهِ الشعرية الفصيحة التي تعرفها عنهُ من زمنٍ بعيد .
حين وصولها العاصمة لم تفكر بالذهاب الى منزلها الذي اشترتهُ في مكان ٍ راقي وبتوكيل الى اختها المتبقية لها من عائلتها لان محمود كان بانتظارها وهي هنا من اجلهِ وهو ربما تغيرت ملامحهُ والشيب رسم لهُ هالةً من الوقار ولكن بين خصلاتهِ هموم من العوز والفاقة وخذلان الاقربين وندرة الاصدقاء وسط قلب متعب مرهق تعرّض للازمات والنوبات مع تعاظم الغدة الدرقية السامة وعيون ارهقت بالماء الابيض تعاونها النظارات عند القراءة والكتابة .لم يكن لدى محمود منهج وطموح لامتلاك المال وهو يعتبرهُ وسيلة لتمشية امور حياتهِ وليس غايةً يسعى اليها جاهداً وقاصداً رغم ان الكثير من معارفهِ تبدلت دنياهم حين اقبلت عليهم فربما لم تلتفت دنياهُ اليهِ وما اقبلت وربما هو لم يشأ الذهاب اليها .
الآن هو مع ماجدة وكأنها هي دنياهُ الحقيقية التي لم يكتم حبها يوما ً وان ْ هي كتمت حبهُ ولم تذعهُ في مجتمعٍ شرقيّ محافظ ٍ ويبدو ان مجتمع الغرب اتاح لها فرصة العمر لتكشف سرّها الدفين وهو السبب المباشر لانفصالها عن زوجها بعد اطلاعهِ على اتصالاتها وحواراتها الليلية المطولة مع محمود وهي في بلاد الغربة وبعد توصلها الى قناعات كبيرة بعدم الاستمرار بخداع الرجل فقلبها وروحها مشغولة بغيرهِ ،وما استطاع زوجها ان يمحو تاريخها وماضيها ،كما ان الاموال ما استطاعت ان تمنحها الحب الذي افتقدتهُ في غفلةٍ من الزمن لان محمود لم يكن مؤهلاً للفوز بها بسبب فقرهِ.
هما يجلسان الان وبينهما قدحا الشاي ولكنهما هذه المرة ساخنان كحديثهما :
-ماجدة سنترك الحديث عن الماضي فهو يؤلمنا
-اكيد محمود فالمستقبل سنصنعهُ بأرادتنا وكا قلتَ لي فأن العام الواحد بعد الخمسين يعدلُ عشرة اعوام من عمرنا الذي مضى
-ههههههههه،امازلتِ تذكرينها ؟قلتها قبل عامين ؟
-طبعاً اذكرها لانكَ جعلتَ منها ثقافةً اشعتها بين القراء ولاقت قبولاً كبيراً
-لم يبقَ امامنا غير تتويج صبرنا بأقامة زواجنا في مملكة حبنا الخالد
-كل التحضيرات مهيئة ولا ينقصنا سوى الانتقال الى بيت الزوجية
-انتظريني فقط بضعة ايام لتهيئة نفسي ،وعليَّ تقديم طلب اجازة للدائرة ،كما عليَّ ترتيب اوضاعي مع العائلة
-خذ وقتكَ وانا ساشتري بعض الحاجيات
محمود لم يعلم سرّهُ احدٌ غير ابنتهِ الكبرى آمال وكثيرا ما كانت قريبة من اوجاعهِ وحتى بمكنونات قصائدهِ فهي قارئتهُ الاولى والى حدٍّ كبير عارفة بحالهِ منذ اتّخذها صديقة لهُ .آمال حصلت على بكالوريوس الرياضيات وابوها ايضا مطّلعٌ على خفاياها ،ظلّ الامر سرّاً طي الكتمان لكنهُ حدّثها ذات ليلةٍ :
-آمال
-نعم بابا
-هي هنا في بغداد
-من ماجدة؟
-نعم ولابدَّ لي ان اعيش حياتي بعد موتي طويلاً
-تتزوجها اذن
-انتِ هنا وسنقول اني في ايفاد عملٍ الى لبنان
-كن بخير بابا ،اعتنِ بنفسكَ
هناك في دار ماجدة امتلأ المكان حباً وعشقاً وشعراً باجتماع الزوجين ،حتى النسائم تعطرت بشذى حبهما والسماء ترقبُ حفل عرسٍ تصفّقُ لهُ الملائكة ،الارض من تحتهما اثمرت رطباً بطعم علاقتهما العظيمة ،عندما حلَّ المساء في ليلة ٍ قمريةٍ تراقصت النجوم ابتهاجا بالفرح القادم ،فأعظم الحب ان يتوّجهُ جسدان طاهران يعلنانهُ بأذان مدوٍّ لأداء صلاتهِ في حضرة ملكوت السماء .التقت شفتاهما والرضاب امتزج بينهما وتداخلت انفاسهما حدّ التماهي ولكن القبلة لم تستطع خلع اردية الخجل وهي الترجمة الاولى للغة الحب فبقيَ الجسدان ظامئين دون فناء احدهما بالاخر .حاول محمود استرجاع قوتهِ ونشاطهِ فأذا هو يزداد بروداً وتراجعاً وماجدة يتّقدُ فيها الشوق والحرارة والاندفاع .
لم تتفاجأ ماجدة بما وجدتهُ لدى محمود فقالت :
-لا عليكَ هي الدهشة ُ والذهول وربما الخجل والحياء فأنت تنظر لجسد المرأة كياناً مقدّساً اليس كذلك؟
-نعم هو هكذا بالنسبة لي
-انتظر ساعة اخرى وستجمع افكارك لتهيئة نشاطكَ المعتاد وربما افضل مما كنت عليهِ
-اكيد ..........اكيد
الحياة التي عاشتها ماجدة في مدن الغرب جعلتها مطّلعةً على تفاصيل كثيرة تخصّ العلاقات الزوجية دون حرج في سماعها او قرائتها ولاغرابة ان تحمل معها ما يسعد هذه العلاقة من وسائل المنشطات والمقويات لتمنح الرجل الفاعلية والقوة ليعيش متعة مع من يحب وهي تعيشها ايضاً .
بعد انقضاء ساعة من ليلة عرسهما تقوم ماجدة بعمل قدحين من الشاي فتضع في قدح محمود قرصاً منشطاً يعمل بعد مرور ربع ساعة من تناولهِ ،ما فعلتهُ دون علمٍ منهُ بقصد توفير السعادة لهُ دون ان تشعرهُ بالفشل امامها وتمسّ رجولتهَ ،بعد نصف ساعة يذهبان الى مخدعهما ومحمود باعصاب متوهجة ومتلهفة واعضاء ساخنة اشتعلت الدماء فيهاولا تحتمل الانتظار ليلتقي الجسدان فيتحولان الى كيان ملتهبٍ فتروى ماجدة اطهر ماءٍ من فرات محمود ولكن هذا النهر توقف تدفّقهُ بعد برهة ليصير صحراء بعد خلوّهِ من نبض الحياة ليعلن موت محمود بين احضان حبيبتهِ المقدسة فلم تعد تسمع نبضات قلبهِ بعد ان فارق الحياة .
مات محمود وسط شعور ماجدة بالتجنّي عليهِ بذنبٍ لا يغتفر بانها هي التي قتلتهُ ولا يشفع لها ما تبرّرهُ لنفسها بانها ارادت لهُ الحياة التي يتمنّاها وتتمنّاها ،فلولا ذلك القرص المشؤوم لما فقدت محمود وانْ كانت امام الاخرين بريئة فهي امام نفسها قاتلة مع سبق الاصرار وليس بمقدور احدٍ ان يجد لها عذراً لجريمتها ما دام ضميرها يؤنّبها ليل نهار ،وحتى لو اذاعت سرّها فلا خلاص لها من عذاباتها ،ثمّ ما قيمة وجودها وبقائها بغير محمود وهو دنياها التي حلمت بها وضحّت من اجلها ،فبرحيلهِ لا معنى لوجودها .
ولكي تريح محمود وتريح نفسها تباشر في احدى الليالي وبعد مرور ايام على موتهِ بأطلاق النار على نفسها معتقدةً انّ بموتها تتحقّق العدالة .
.................................................................................................
كاظم مجبل الخطيب-العراق
[العدالة ]
مضى ثلاثون عاماً على آخر لقاء بينهما عندما بَرُدَ الشاي في قدحيهما ،الوقت يتسارع والكلمات تباطأت ،كأنَّ لغة الحديث تعطّلت ،لم تبقَ فرصة لديهِ لاقتحام صمتها ،يبدو انهما وصلا للنهاية الحتمية وهي تخبرهُ بما عندها:
-محمود لا يمكننا الاستمراربحبٍّ مقومات بقائهِ هشّة لا تصمدُ مقابل متطلبات مجتمع أنتَ بحاجة الى نقلة كبيرة في حياتك الاجتماعية والاقتصادية ،فالفقر ليس مكاناً لنمو الحب وانكَ لاتمتلك شيئاً من مؤهلات الزواج
-ما رأيكِ ماجدة نعلن خطوبتنا الان وننتظر بضع سنين فربما تتبدّل احوالي
-كيف تتبدّل وانت بعد شهرٍ ستلتحق بالخدمة العسكرية والحرب قائمة ومستعرة ولايمكن التنبؤ بنهايتها،صدّقني لانّي احبكَ ساترككَ وذكركَ لن يغيب عنّي مهما حصل ،ولكني لااريد ان اكون خطيبة سابقة لكَ مما يزيد في وجعنا معاً.
انتهى اللقاء بوداع حزين لم تتكرّر رؤيتهما لبعضهما الّا في مناسبات عابرة رغم الرغبات الدفينة .
ماجدة تتزوج من مهندس ميكانيك توفّرت لهُ ظروف مادية مهيئة اوجدتها لهُ عائلتهُ دون جهدٍ منهُ.
في الضفة الاخرى يلتحق محمود بالخدمة العسكرية ليقضي سبع سنين من القهر والوجع والذل والضياع ومصير مجهول لم تتضح فيهِ غير صور الموت بعد كل معركة في حرب طاحنة احرقت مئاة الألوف من المتعبين حطباً لأيقادها .
تتوقف طبولها بشكل دراماتيكي لا يصدقهّ العقلاء ضحكاً على ذقون الاغبياء المصفقين للسلاطين دوماً وفي كل عصر .
بعد شهور يتزوج محمود زواجاً تقليديّاً ليتحمّل اعباء اربعة اولاد وزوجة لم يقترب منها فالمسافات بينهما شاسعة وازدادت اتساعاً مع تقادم الزمن فلا يجمعهما غير سقف الزوجية ،هي امرأة ساذجة رغم تعلمها ،لم تستطع استيعاب ما يدور براسهِ فعاش عمرهُ مكرهاً مغلولاً وسجيناً بمسؤلية اولادهِ التي تعاظمت على عاتقهِ ولم ينجح في محاولاته بان يجعلها امراة اخرى تقتلع منهُ جذور الماضي وتنسيه زمان ماجدة الغائبة الحاضرة في حياتهِ والتي انتقلت بعد عشر سنين مهاجرة الى امريكا بصحبة زوجها وابنيها بعد تفاقم ظروف الحصار الاقتصادي على وطنٍ امسى الجائعون فيهِ ينامون على لحم بطونهم .
تحولت ماجدة وذكرياتها الى قصيدة شعرٍ ابتدت بفراقها لتبقى طويلاً اغنية ً وموالاً من الشجن والاسى لا ينتهي لدى محمود .صارت قصائدهُ تنتشر في الصحف الالكترونية والمطبوعة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي (الفيس بوك).اصبح الشعر لديهِ قضية ً ورسالةً واضحةً وقويةً يانهُ شاعر عاشقٌ قديس في محراب العشق ممجّداً لحبّهِ العذري مشيعاً لثقافة انتظارهِ على امل عودتهِ داعياً للاعتذار لمن تحب ما دام هدفا وغاية ً لكي لا تفقدهُ ،تميّز شعرهُ بصدق المشاعر والبوح النبيل الذي يخترق القلوب رغم الحزن الذي يرافقهُ،ما ينشرهُ كان يظهر باسمهِ الصريح وكثيراً ما يذكر اسم ماجدة صريحاً لتصبح هي بعد حين من اكبر قرّائهِ ومن اصدقائهِ المقربين جداً،تتابعهُ بشغفٍ كبير وبخاصةٍ بعد انفصالها عن زوجها وانشغال ابنيها بحياتهما في مجتمعٍ لا يقيّد حركة مواطنيهِ ولا من ممارساتهم الشخصية في ظل احترام قوانينهم .في بدء تعارفهما اخفت شخصيتها الحقيقية لكنها سرعان ما صارحتهُ وهي عارفةٌ لهُ لتعود بهِ الى ذكريات عتيقة لم تغادرها وهو يرسمها لوحاتٍ تتجسّدُ فيها تفاصيل كانت بينهما ،كما انها ايقنت بان اللهفة للمال واكتنازهِ لايمكنهُ ان يعادل كنوز الحب التي لا تفنى وانّ حياتها الماضية كانت وهماً والحقيقة الوحيدة الباقية هو الحب الذي لم تعشهُ .لم يعد لها في امريكا تلك الروابط الوشيجة لبقائها غريبةً فتقرّر مغادرتها والعودة الى بغداد ومحمود بانتظارها .
عادت حاملة ً الخمسين عاماً وهو يكبرها بعامين ،هي امرأة لم تتمكن التجاعيد من ملامحها ، ولم يتغير سحر عينيها الجميلتين اللتين تخفيهما بنظارة ملازمة لها ،وشالها الازرق لم يغطِّ مقدمة شعرها الاسود الذي ما ظهر عليهِ ما يشير الى خضابهِ ، لم يترهل جسدها ظل متماسكاً مع حوادث الايام ،حنطيّةٌ تجتمع شفتاها على ثغرٍ دقيق يضيءُ عليهِ سراجان من خدّيها لحظة ابتسامها .ماجدة تتحدث الانكليزية بطلاقة وهي تحاول مجاراة محمود في لغتهِ الشعرية الفصيحة التي تعرفها عنهُ من زمنٍ بعيد .
حين وصولها العاصمة لم تفكر بالذهاب الى منزلها الذي اشترتهُ في مكان ٍ راقي وبتوكيل الى اختها المتبقية لها من عائلتها لان محمود كان بانتظارها وهي هنا من اجلهِ وهو ربما تغيرت ملامحهُ والشيب رسم لهُ هالةً من الوقار ولكن بين خصلاتهِ هموم من العوز والفاقة وخذلان الاقربين وندرة الاصدقاء وسط قلب متعب مرهق تعرّض للازمات والنوبات مع تعاظم الغدة الدرقية السامة وعيون ارهقت بالماء الابيض تعاونها النظارات عند القراءة والكتابة .لم يكن لدى محمود منهج وطموح لامتلاك المال وهو يعتبرهُ وسيلة لتمشية امور حياتهِ وليس غايةً يسعى اليها جاهداً وقاصداً رغم ان الكثير من معارفهِ تبدلت دنياهم حين اقبلت عليهم فربما لم تلتفت دنياهُ اليهِ وما اقبلت وربما هو لم يشأ الذهاب اليها .
الآن هو مع ماجدة وكأنها هي دنياهُ الحقيقية التي لم يكتم حبها يوما ً وان ْ هي كتمت حبهُ ولم تذعهُ في مجتمعٍ شرقيّ محافظ ٍ ويبدو ان مجتمع الغرب اتاح لها فرصة العمر لتكشف سرّها الدفين وهو السبب المباشر لانفصالها عن زوجها بعد اطلاعهِ على اتصالاتها وحواراتها الليلية المطولة مع محمود وهي في بلاد الغربة وبعد توصلها الى قناعات كبيرة بعدم الاستمرار بخداع الرجل فقلبها وروحها مشغولة بغيرهِ ،وما استطاع زوجها ان يمحو تاريخها وماضيها ،كما ان الاموال ما استطاعت ان تمنحها الحب الذي افتقدتهُ في غفلةٍ من الزمن لان محمود لم يكن مؤهلاً للفوز بها بسبب فقرهِ.
هما يجلسان الان وبينهما قدحا الشاي ولكنهما هذه المرة ساخنان كحديثهما :
-ماجدة سنترك الحديث عن الماضي فهو يؤلمنا
-اكيد محمود فالمستقبل سنصنعهُ بأرادتنا وكا قلتَ لي فأن العام الواحد بعد الخمسين يعدلُ عشرة اعوام من عمرنا الذي مضى
-ههههههههه،امازلتِ تذكرينها ؟قلتها قبل عامين ؟
-طبعاً اذكرها لانكَ جعلتَ منها ثقافةً اشعتها بين القراء ولاقت قبولاً كبيراً
-لم يبقَ امامنا غير تتويج صبرنا بأقامة زواجنا في مملكة حبنا الخالد
-كل التحضيرات مهيئة ولا ينقصنا سوى الانتقال الى بيت الزوجية
-انتظريني فقط بضعة ايام لتهيئة نفسي ،وعليَّ تقديم طلب اجازة للدائرة ،كما عليَّ ترتيب اوضاعي مع العائلة
-خذ وقتكَ وانا ساشتري بعض الحاجيات
محمود لم يعلم سرّهُ احدٌ غير ابنتهِ الكبرى آمال وكثيرا ما كانت قريبة من اوجاعهِ وحتى بمكنونات قصائدهِ فهي قارئتهُ الاولى والى حدٍّ كبير عارفة بحالهِ منذ اتّخذها صديقة لهُ .آمال حصلت على بكالوريوس الرياضيات وابوها ايضا مطّلعٌ على خفاياها ،ظلّ الامر سرّاً طي الكتمان لكنهُ حدّثها ذات ليلةٍ :
-آمال
-نعم بابا
-هي هنا في بغداد
-من ماجدة؟
-نعم ولابدَّ لي ان اعيش حياتي بعد موتي طويلاً
-تتزوجها اذن
-انتِ هنا وسنقول اني في ايفاد عملٍ الى لبنان
-كن بخير بابا ،اعتنِ بنفسكَ
هناك في دار ماجدة امتلأ المكان حباً وعشقاً وشعراً باجتماع الزوجين ،حتى النسائم تعطرت بشذى حبهما والسماء ترقبُ حفل عرسٍ تصفّقُ لهُ الملائكة ،الارض من تحتهما اثمرت رطباً بطعم علاقتهما العظيمة ،عندما حلَّ المساء في ليلة ٍ قمريةٍ تراقصت النجوم ابتهاجا بالفرح القادم ،فأعظم الحب ان يتوّجهُ جسدان طاهران يعلنانهُ بأذان مدوٍّ لأداء صلاتهِ في حضرة ملكوت السماء .التقت شفتاهما والرضاب امتزج بينهما وتداخلت انفاسهما حدّ التماهي ولكن القبلة لم تستطع خلع اردية الخجل وهي الترجمة الاولى للغة الحب فبقيَ الجسدان ظامئين دون فناء احدهما بالاخر .حاول محمود استرجاع قوتهِ ونشاطهِ فأذا هو يزداد بروداً وتراجعاً وماجدة يتّقدُ فيها الشوق والحرارة والاندفاع .
لم تتفاجأ ماجدة بما وجدتهُ لدى محمود فقالت :
-لا عليكَ هي الدهشة ُ والذهول وربما الخجل والحياء فأنت تنظر لجسد المرأة كياناً مقدّساً اليس كذلك؟
-نعم هو هكذا بالنسبة لي
-انتظر ساعة اخرى وستجمع افكارك لتهيئة نشاطكَ المعتاد وربما افضل مما كنت عليهِ
-اكيد ..........اكيد
الحياة التي عاشتها ماجدة في مدن الغرب جعلتها مطّلعةً على تفاصيل كثيرة تخصّ العلاقات الزوجية دون حرج في سماعها او قرائتها ولاغرابة ان تحمل معها ما يسعد هذه العلاقة من وسائل المنشطات والمقويات لتمنح الرجل الفاعلية والقوة ليعيش متعة مع من يحب وهي تعيشها ايضاً .
بعد انقضاء ساعة من ليلة عرسهما تقوم ماجدة بعمل قدحين من الشاي فتضع في قدح محمود قرصاً منشطاً يعمل بعد مرور ربع ساعة من تناولهِ ،ما فعلتهُ دون علمٍ منهُ بقصد توفير السعادة لهُ دون ان تشعرهُ بالفشل امامها وتمسّ رجولتهَ ،بعد نصف ساعة يذهبان الى مخدعهما ومحمود باعصاب متوهجة ومتلهفة واعضاء ساخنة اشتعلت الدماء فيهاولا تحتمل الانتظار ليلتقي الجسدان فيتحولان الى كيان ملتهبٍ فتروى ماجدة اطهر ماءٍ من فرات محمود ولكن هذا النهر توقف تدفّقهُ بعد برهة ليصير صحراء بعد خلوّهِ من نبض الحياة ليعلن موت محمود بين احضان حبيبتهِ المقدسة فلم تعد تسمع نبضات قلبهِ بعد ان فارق الحياة .
مات محمود وسط شعور ماجدة بالتجنّي عليهِ بذنبٍ لا يغتفر بانها هي التي قتلتهُ ولا يشفع لها ما تبرّرهُ لنفسها بانها ارادت لهُ الحياة التي يتمنّاها وتتمنّاها ،فلولا ذلك القرص المشؤوم لما فقدت محمود وانْ كانت امام الاخرين بريئة فهي امام نفسها قاتلة مع سبق الاصرار وليس بمقدور احدٍ ان يجد لها عذراً لجريمتها ما دام ضميرها يؤنّبها ليل نهار ،وحتى لو اذاعت سرّها فلا خلاص لها من عذاباتها ،ثمّ ما قيمة وجودها وبقائها بغير محمود وهو دنياها التي حلمت بها وضحّت من اجلها ،فبرحيلهِ لا معنى لوجودها .
ولكي تريح محمود وتريح نفسها تباشر في احدى الليالي وبعد مرور ايام على موتهِ بأطلاق النار على نفسها معتقدةً انّ بموتها تتحقّق العدالة .
.................................................................................................
كاظم مجبل الخطيب-العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق