الأحد، 21 أغسطس 2016

بعد حين // قصة قصيرة // للاديب د . المصطفى بلعوام // المغرب

بعد حين ..
/-
شيء ما يركض في عينيها الغائرتين، حارق وعنيد ما يلبث أن يخط له طريق التيه على خديها. دمعة، دمعتان وحشرجة تغالب غصة الموت في الحلق. مثل إسفلت الخيبة بعد طول انتظار، تتربع على هامة الصمت. رجلاها تخيطان الخطوات في مربع يضيق أكثر فأكثر كلما زاد وخز الإبر وانتشر على طول جسدها. تسوي بدقة متناهية عصابة اعوجت قليلا على حافة رأسها وشفتاها تتراقصان بأحرف متناثرة. ثم تفتح صرتها الصغيرة التي لا تفارقها أبدا. بالكاد تمرر أنفها من على فوهتها، ينقشع وجهها على صور لذيذة . المنزل هو المنزل لم يتغير، كل الأشياء الموزعة فيه مازالت تبعثر عقارب الزمن الجميل . بغثة، تسقط الصرة على الأرض، تقفز منتبهة إلى اختفاء ما تزاحم أمام عينيها، فتلعب فكرة طائشة برأسها، تحاصرها كما تطرد وسوسة الشيطان الأمار بعناق الأحبة. تطلق آهة مبللة بريق الغضب وترى نفسها تخاطب نفسها :
- ولد ! مجرد ولد ! لا يعرف كيف ينظف ..
تستشعر صوتا يطن بأذنيها، لا تأبه به لكن نبرته تزداد حدة. تلتفت مكرهة فإذا به يداعبها :
- ما بك الحاجة ! هل أنت على سفر ؟
- ليته سفر بلا رجعة !
- العني الشيطان يا أمي !
- ولد ! مجرد ولد ....
الولد ما زال يقشر عياءه بقهوة الصباح. يلاعب دخانها بأفكار يقلبها على وجوهها. هو ما قصد تجريحها وليس غبيا..كل شيء جائز إلا قفل أبواب الجنة. رآهما يتقدمان إتجاهه، طفح الدم من وجهه متوجسا..الجدة كمشة أعصاب مكهربة، تنتزع عصابتها من على رأسها، تدوس عليها والرضاب يتوج فمها :
- أنا في عاركم آجدودي ! يا أولاد الشرفاء في الأرض والسماء ..
تتملكه الدهشة، يتابع بعينيه أمه التي تندفع بكاء نحو الغرفة ، يحاول اللحق بها لولا نظرة الأب الفولاذية التي سمرته في موضعه. يحدق مليا في الجدة وتخترقه لأول مرة أحاسيس غريبة : ماذا لو ألوي عنقها وأسلخها من كلماتها الرهيبة..أتركها تنتفض جيفة كدجاجة منتوفة الريش. ثم تنتهي وينتهي ...الأب يبدد فكرته آمرا زوجته : 
- هات الصينية والبراد ! 
ثم يأخذ الجدة من ذراعها ويتوجهوا جميعا صوب صالة صغيرة .
بين عيونهم يدفق صمت
وبين أفكارهم خيوط يتيمة في مهب البوح ..
تسمع الجدة صوتها الجاف يقول :
- أصبحت كصرتي ..لا أساوي أي شيء في هذه الخرابة..
- إخزي الشيطان آلحاجة ! أنت الكل في الكل ! أنت الخير والبركة !
بسخرية ترد وهي تعيد عصابتها على رأسها :
- عيل ! والله عيل ! مازال الميكروب عالقا بمؤخرته .. يريد أن يمارس علي شطارته !
يحمر وجه الأب بغثة، قلب الولد يهبط بين قدميه، بينما الجدة تحس أنها ظفرت بجولتها الأولى. تتناول كأس الشاي مرتشفة منه جرعة خفيفة ثم تغرس عينيها في عيني الأب مستنكرة :
- ألم تتعهد لي بعدم تغيير كرسي المرحاض المسطح ؟ هذا العيل... عيل ..تتركه يفعل ما يشاء ؟
يشعر الولد أنها حاصرته بالسؤال ..يجيب أو لا يجيب..يطرق برأسه إلى الأرض ويرفعه قليلا مجيبا في رفق :
- كنت أعتقد جدتي أن كرسي المرحاض المطول سيفرحك أكثر. طوله يريحنا من القرفصة المتعبة.. إنه كالكرسي العادي..
ترد معاتبة :
- أنا لم أشتك لك منه.. كيف أتوضأ الآن أيها الشاطر ؟
لم يعرف كيف خرجت الكلمات دفقة واحدة :
- أما أنا فقصبتا رجلاي لم يعودا يطيقان !
ولا كأي الفرص النادرة تردف :
- بالطبع ! عِوَض أن تبحث لك عما يفيدك وتبحث عن عمل...
ثم تضيف :
- لكن العيب على أبويك !
يتبادل وأمه نظرات خاطفة. وما إن يحاول النهوض حتى يبادره الأب :
- اجلس ! أين أنت ذاهب مرة أخرى ؟ 
ترتسم على وجه الجدة ملامح السخرية، تبتسم ثم ترمي علكة في فمها. تلوكها في البداية بخفة محنك على اللعب بالفك الأسفل وترخي رجلاها لطرد الخمول الذي ألم بهما. ترغم نفسها على كتم سعال دفين. تشهق، تدعك بيدها حنجرتها، لا شيء يطلع من البلعوم... يتأملها الولد، صور مباغتة تهاجمه، يجفل في مكانه وشيء ثقيل يهوى على راْسه . يقول الأب بصوت أجش :
- أسرع ! العلكة احترنت في حنجرتها.
يظل الولد شاردا كأن الأمر يعنيه ولا يعنيه إلى أن يدفعه الأب مغتاظا :
- تحرك أيها المستوه ! هيا ساعدني على إحناء رأسها !
يضرب بيده على رقبتها فتتقيأ الجدة العلكة. وجهها شاحب يتبخر الدم منه، تدفنه بين يديها ضاغطة بأسنانها على شفتها السفلى. ثم تلتفت إلى الولد قائلة :
- كنت تترقب أن أفعلها ؟
- تفعلين ماذا ؟
- ........
من عيونهم يتكلم الصمت
وعلى أفكارهم تتقاطع الخيوط الرثة.
تتمدد الجدة بعض الوقت، تنهض متجهة نحوها والصرة بيدها. يتبعها الولد، يحمل انتظاره على مضض والدقائق على عجل لا تنتظر..ينقر على باب المرحاض نقرات خفيفة، يسمع خشخشات واهنة من داخله..الجدة لا تجيب...يخدش مرة ثانية واضعا أذنه على صفحة الباب. لا نأمة تبلغه. يأتي الأب هو الآخر ، يعتصما بالانتظار ، تراودهما شكوك غريبة ...ولكأنما فكرة طائشة لطمتهما، يسرعان في كسرالباب بقوة وهما يصرخان....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق