قراءة نقدية :بقلم الأستاذ صالح هشام/ الرباط/ المغرب !
جماليات اللغة في [ ولادة ] للقاص عبد الكريم الساعدي !
نص [ولادة] رحلة انفلات من قبضة العتمة الى الغوص في معترك التيه ، إبحار فلسفي ، من عالم مبهم غامض ، إلى عالم أكثر غموضا٠٠أكثر جنونا ٠٠أكثر تيها عالم دبلت فيه معالم الانسانية ، وتحجرت فيه الأسئلة على الشفاه ، وضمر فيه الضمير الإنساني ، عالم أقل ما يمكن أن يقال في حقه أنه يحتاج إلى الشفقة، عالم يلخصه فيلسوف القصيدة أبو العلاء المعري في هذا البيت يقول :
تعب كلها الحياة فما أعجب ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠إلا من راغب في ازدياد
نص [ولادة] رحلة في مجهول المجهول : من مجهول إلى مجهول ، من عالم عتمة إلى عالم عتم ، و تيه ، رحلة في متاهات العذاب والتعب و البؤس ، ولكأن القاص يستجلي هذا الغموض بحنكته السردية المعروفة التي تحبل بتصوراته الفلسفية لهذا الكون البئيس
لا فرق بين عالمي [ولاد] ، وربما تكون العتمة لحظية يمكن ان تستضاء وتستنار بعد حين ، لكن عالم التيه ، أبدي الجنون ، متخن بالجراح ، يغوص في العفونة إلى الأذنين : عالم هذيان و هلوسة ، فلو علم القادم بمتاعبه ، لما رغب في الازدياد ولفضل ، ممارسة وجود أهل الكهف في كهفهم ، وممارسة رقود الجنين الراقد في مرقده بين تلافيف رحم أمه !
ليس هذا هو مربط فرسي في هذا النص السردي الفلسفي الذي كان مفتاحا رائعا لعالم من الروائع الفلسفية في المجموعة القصصية ( كوميديا العالم السفلي ) هذا العالم الذي لن يخيب حدسي إذا قلت إنه لن يعدو أن يكون إلا عالم تيه و هذيان مايهمني في هذا النص ، ليس البحث عن معان فلسفية وأنا أحق صاحبها ، حق المعرفة ، وإنما أريد أن أتناول لغته السردية بالقراءة النقدية ، التي لا تخلو من طابع شعري و شاعري رائع ، أما المعني والفكرة فكل قاريء كفيل بإسقاطاته التي يراها موضوعية وفق تكوينه العلمي والمعرفي وخلفيته الثقافية ،ووفق تصوراته الفلسفية لأن النص مكتوب لا مقروء ،يستطيع كل قاريء عند قراءته إعادة كتابته ، منفتح على ملايين القراءات ، خصوصا و أن القاص بارع جدا في ترك مسافة معقولة فاصلة بين نصه ومتلقيه ، هذه المسافة التي ستحقق نشوة القراءة ولذة الاكتشاف والإبحار في مستغلقات عالمين متناقضين : عالم العتمة وعالم التيه ، في جدلية خفاء وتجل بين الميلاد والعدم ، بين العتمة والتيه ، فيشعر بلذة النص تغشى ذائقته القرائية ،ما دامت القراءة تأخذ هذا الطابع الحربائي المتقلب من قاريء لآخر ، أو من قراء إلى آخرين ، فإنه بذلك يحدد مقصديته الابداعية وتكوينه الثري و النص بهذه الصيغته لا بد وأن ينحى منحى العالمية !
وأنا اقرأ [ولادة ] ، وجدتني أغوص في لغة تكتسي روعتها من خلال طريقة اشتغال القاص على مواطن الجمال فيها ، فجمال لغة السرد هي عصب الحياة في نجاح أو فشل المبدع في تمكنه من شد القاريء إليه شدا !
يعتمد القاص في نص ولادة من حيت التركيب النحوي على توظيف الجملة القصيرة جدا التي تكاد تستغني عن الفضلات ( بضم الفاء ) ، و التي لا تكاد تتجاوز مكونات الجملة النحوية العادية مع احترام مواقعها في جغرافية الإعراب ، في أغلب الأحيان نجد جمل النص ، جملا فعلية ، فاعلها ضمير المتكلم ( أنا ) باعتباره البطل / السارد ،وفعلها مضارع ، ونحن نعرف ما لهذا الزمن من جماليات في مجال الجملة السردية بغض النظر عن وظيفته النحوية ، وأغلب جمل نص [ولادة ] تتميز بإحكام التركيب والترتيب والنظم بمفهومه الجرجاني، العصي ، القصي ، المنيع ، المتنمنع عن تلك الزيادات المجانية من الكلمات التي غالبا ما لا تخدم النص،بل تؤدي به بطريقة أو بأخرى إلى الترهل ،لكن هذا الإيقاع السريع ، لعملية السرد والمعتمد على الجمل القصيرة المكثفة تجعل القاريء أكثر التصاقا بمحتويات القصة من بدايتها الاستهلالية إلى نهايتها الفلسفية التي لن تكون إلا صرخة ضياع في فراغ عالم ضائع وكينونة موؤودة في مهدها !
وقد سبق أن أشرت إلى بعض خصائص فن السرد في أعمال القاص في نصوص من مجموعته [ ما بعد الخريف ] ،والتي تتجلى أساسا ، في احترامه للتركيب النحوي وسلامة اللغة ، لكنه غرائبي النظم ، عجائبي الإسناد الذي يخرق المألوف ، لخلق صور شبيهة بصور الجملة الشعرية ، من حيث الانزياح وبلاغة الغموض ، أيضا من حيث التكثيف ، فالمساحات في قصص الساعدي مساحات يؤمن بها ضيقة جدا ويحبها كذلك ،لأنه يعرف بقدراته الفنية كيف يقرب زوايا الأمكنة مهما ضاقت المساحة !
هذه المساحات التي تستوجب جملا حبلى بدلالات ملايينية القراءة ، ولا ترضى بالانغلاق، فلامكان للكلمة التي لا تفيده في شيء ولا تخدم السرد، فلكأني به يزن أشطر أبيات شعرية ، فيجد القاريء تكثيف الجملة يساهم بشكل رائع في خلق غرائبية الصورة التي تستهويه ، وتدغدغ إحساسه وقد تشغله عن البحث في المعاني: صور ترحل بهذا القاريء الحذق ، البارع في تفكيك شفرات النص إلى عالم غير عالمنا : لغته صامتة تستمد جمالها من صمتها فمخاطبها من طينة خاصة ، وهي حافز ودافع لتنامي التأملات الفلسفية في ذهنه مهما اختلفت مشاربه وتكوينه المعرفي !
و أقر بصدق الجرجاني الذي اعتبر جودة الكلام تكمن في القدرة على الجمع بين المؤتلف والمختلف وخلق ذلك التآلف بينهما [ أجود الكلام شدة إئتلاف في شدة إختلاف ] إذ يوحد مشارب الوحدات اللغوية من أفعال وأسماء وحروف مهما تمكن منها الاختلاف ، و أعني بهذا أن القاص لا يسلم أفكاره للقاريء مجانا بل يضع جمال لغته وسمو معانيه على طبق من الإدهاش والغرابة والعجائبية ، وليس هذا إلا نهج كتاب كبار رواد في عالم السرد ! ولكن رغم ذلك فالقاريء،مهما تضاءلت معرفته الفلسفية ، فإنه لايعدم أذنا موسيقية تميز اللغة السردية ذات الإيقاع الشعري الرائع ، فتستسيغها وتستطيبها ، وهذا ما نلمسه في لغة أول نص [ولادة ] من مجموعة الساعدي القصصية [ كوميديا العالم السفلي ]
فبأي الجمل سأستشهد من هذا النص ؟!؟
الجملة اللاحقة تنسيك في السابقة ، و لم أجد أنسب من هذا التعبير لأنه حقيقة الجملة السردية في هذا النص ، و أعجب ما أعجبني في أسلوب هذا القاص المتمكن هو اشتغاله المتقن على اختيار جمله التي يوليها أهمية خاصة ، فقد لا يكون هدفه فقط إيصال أفكاره لقارئه ليجعل منه مستهلكا مقبلا فقط على إدراك ما يقدم له ، بل قارئا يعتبر لغة السرد لغة إبداعية لا تقل أهمية عن المقومات الفنية للنص السردي بصفة عامة مشارك بفعالية في هدمه وإعادة بنائه !
ولعمري إنه كمن يجمع بين الماء والزيت وبطريقته الفنية الخاصة يذوب مواطن التناقض والتضاد والتنافر بين الكلمات ، معتمدا في ذلك على إسناد ما لا يجب أن يسند للمسند إليه ، كإسناد المعقول إلى المحسوس أو المحسوس إلى المعقول إلى غير ذلك مما يساعد على خلق هذا السياق الخلاب والرائع ، ( أراوغ غيبتي ) أو ( أسكن نفسي )( قطيع من الظلمة ) والنص كله من هذا النوع من الجمل الرائعة التي تخلق في ذهن القاريء الصورالتي تدعوه إلى جمال السرد ، وتحقيق نشوة قراءة أشبه بنشوة الخمرة بدون خمر أو الطرب بدون مطرب ، خصوصا عندما يساعده مخزونه المعرفي على تفكيك هذه الشفرات والرموز والتلميحات والإحالات التي تومض وتخبو في النص كبريق البرق في سواد الغيمة ، فلا مجال يتسع للاستيفاء والشمول، يتسع فقط للفت النظر !
ونحن بصدد قراءة نص سردي قصير ، ينمو فيه الجمال من خلال هذه التراكيب ، بإسناد الكلمات إلى بعضها البعض ،إذ تستمد الكلمة جمالها مما بعدها أو ما قبلها فتحصل مزيتها ، فتخرج هذه الكلمات عن طوع المعاجم وتطاوع القاص وتنساب في سياقاته كالماء الزلال المندلق بين الأصابع ، ومن الجملة إلى سياق الفقرة إلى السياق العام للنص الذي يأبى القاص إلا أن تكون روابط جمله السردية روابط جمال المعنى العام ، لا روابط لفظية تثقل انسيابية السرد ، هذه الروابط التي في حقيقة الأمر لا يوظفها إلا الفاشلون في عالم السرد ، فكل كلمة تمد ما بعدها بالجمال في الجملة ،ثم في سياق الفقرة ، ثم في السياق العام للنص ، ( فمن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب والاشتياق له كان نيله أحلى ) ومعنى هذا كما هو وارد في النقد القديم ، أن هذه الجمل الانزياحية التي تتسم ببلاغة الغموض التي تتجلى في مختلف الاستعارات والمجازات ، والاقتصاد في هذا الكم من المقولات اللغوية الموظفة تجعل المتلقي ينال مبتغاه من النص بعد طلبه وبعد الاشتياق إليه ، يعني هذا أن القاص ، يكون قد أحكم التمكن من شد هذا القاريء ،ثم بعد ذلك يكون نيل ما طلبه من النص أحلى ، إذ تحصل نشوة القراءة وبالتالي تتحقق اللذة !
هذا دليل على أن القاص يحسن الغوص والإبحار في هذا العالم الفوضوي للغة والذي لا يمكن تشكيله إلابعد تدخل المتكلم ، وتخضع عملية تشكيل هذا الكم من المقولات اللغوية في سياق لغوي لبراعة القاص ، منذ مرحلة نزول الفكرة نطفة على جدار الذاكرة إلى مرحلة التكوين والمخاض والظهور والاكتمال ، وقد يتم هذا التشكيل تبعا لظروف المتكلم ، وتبعا لخلفيته الثقافية وتصوراته الفلسفية في عالمه الإبداعي ، والقاص عبد الكريم الساعدي، يحسن اختيار الكلم ، ويحسن التركيب والترتيب والتشذيب ، ويحلو لي أن أشبهه بشعراء الحوليات من حيث تنقيح نصوصه ،فلا يترك نصه إلا وقد نفخ فيه من نبض روح الجمال والجلال في عالم السرد ،وهو الأسد في مملكته!
بقلم الاستاذ : صالح هشام
الرباط /1/نونبر/2016
_______________________النص _______________________________
[ ولادة] للقاص عبد الكريم الساعدي
كنت وحدي حين هبطت من ذلك الشاهق، أراوغ غيبتي وأنتظر، أسكن نفسي، ألزم صمتي، أرتلّ ما تيسّر لي من خفقة القلب، قطيع من الظلمة يخبط ناظري، أنكفئ إلى الخلف، أدور حول نفسي، تنبسط كفّاي، تتسلّل قدماي من جوفي، تضرب سطح العتمة فرحة، ذراعاي يخال لي أنّهما جناحان، أحلّق بهما في فضاء من سائل لزج، تهدهدني مويجاته، أتأرجح فرحاً في فراغ شاسع، يمتدّ ما شاء لي، أتبعثر كما قطرات الندى، ألج بحوراً وفضاءات، أغفو على وريقة وردة، يلملمني نبض له كنه النغم، أنقبض، أعود إلى نسغي الدافئ، يراودني النعاس، أتشبّث بأضلع تحيط بكوني الفسيح، أشهق برائحة التفاح، أنام على سرير من موج ساكن. الساعة المعلّقة على الضلع الأول متوقفة عند الثانية عشرة بعد منتصف الظلمة، تتوهج بين الحين والآخر أقمار زاهرة، تنتصب أمامي تسعة أبواب، خلفها نافذة صغيرة، يندلق منها ضوء وامض، مذ رأيته أصابتني رعشات من القلق، أغمض عينيّ، يرتبك رقادي، تتفتّح أذناي على أنين ريح عاتية، تحمل غيمة ملبّدة بالسواد، موبوءة بالرماد، تجوب جهات عوالمي الجميلة، تهرول خلفي، أتعلّق بأضلع كوني، تقتلعني، أسقط في الفراغ، أتدحرج مزدحماً بالخوف، تصهل في جوفي صرخة، أكتمها إلى حين، كقابض على جمرة، لأول مرة أحسّ بضيق المكان. أطلق سراح رحلتي، رحلة ترتجف بالغموض، الباب الأول يمدّ لي إغراءً، كان موارباً، أقضم طرف قصبتي الممتدّة من سرّة وجودي حتى النافذة الوامضة بالضوء، أمتطيها مهاجراً، يرافقني سرب من الفراشات، يؤانسني، يمحو وحشتي:
- لا عليك، كن مطمئناً، سنرافقك حتى النافذة.
يُغلَق الباب خلفي، أحسّ أنّي أفقد بعض الدفء، أضلاع كوني تضيق، أفزّ على صوتٍ هامس،
" افتح كفيك".
يحدّق ملياً في خطوط كفّي، يزيح ستاراً من عتمة، يشير إلى سرب الفراشات أن تتبعه حتى الباب الثاني، أملأ صدري بعبق الحنين، وأقضم شيئاً من قصبتي، أحلّق خلف الصوت، أرتجي ملاذاً لغربتي، ذاكرتي تفقد توهجها، تخلع ثوبها شيئاً فشيئاً، وكلّما ولجت باباً وخرجت من باب آخر، أراني عارياً، تلفّني موجة برد، قصبتي تكاد تتلاشى، لم يبقَ منها سوى قضمة واحدة، الفضاء الفسيح يضيق، ينطوي في حنايا ظلمة يدقّ البرق بابها، وما إن ولجت الباب التاسع حتى غادرني سرب الفراشات مودعاً، فجأة يهاجمني الضوء، يصفعني العمى، أغمض عينيّ، يحاصرني الدمع، تهصرني أضلاع كوني، أتشرنق في حيز يواسي ظمأ الروح لنسمة هواء، أستوحش مرافئ تلّوح لي ببيارقها، أمدّ رأسي، ألمح ظلّ امرأة، شفتاها ترفلان برفيف البسملة، أسحب رأسي، ألتفّ حول نفسي، تقترب من النافذة، تفتح درفتيها، أحبس أنفاسي، تمسك برأسي، أراوغها، أحاول الانفلات من قبضتها، أخوض في موج، تشدّني رغبة للغرق فيه، يبلّلني بقطرات حمراء، عبثاً أحاول الهرب، أقضم ما تبقّى من قصبتي، أحوّل بصري نحو مملكتي، أتوسل كوني، أتعثّر بين الظلمات وهدب السرة، دثار من أطياف الذر يلتفّ حولي، يوقّع عهداً بنفحة بيضاء، يمسح غبار العتمة عن وجهي، أتلو بنوده؛ فأتوهج بشهقة تكويني. عقارب الساعة تتلاشى في قوس من نور، ينكشف الستر بيني وبين أسفار تتوسّد الأفق، اليدان تقبضان على كتفيّ، تتلمظان فرحاً، تخرجاني من العتمة إلى التيه، ظلّي يتبعني، أطلق صرختي في المدى، لكنّها تضيع وسط موجةٍ من هلاهل ملأت الفضاء.
جماليات اللغة في [ ولادة ] للقاص عبد الكريم الساعدي !
نص [ولادة] رحلة انفلات من قبضة العتمة الى الغوص في معترك التيه ، إبحار فلسفي ، من عالم مبهم غامض ، إلى عالم أكثر غموضا٠٠أكثر جنونا ٠٠أكثر تيها عالم دبلت فيه معالم الانسانية ، وتحجرت فيه الأسئلة على الشفاه ، وضمر فيه الضمير الإنساني ، عالم أقل ما يمكن أن يقال في حقه أنه يحتاج إلى الشفقة، عالم يلخصه فيلسوف القصيدة أبو العلاء المعري في هذا البيت يقول :
تعب كلها الحياة فما أعجب ٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠إلا من راغب في ازدياد
نص [ولادة] رحلة في مجهول المجهول : من مجهول إلى مجهول ، من عالم عتمة إلى عالم عتم ، و تيه ، رحلة في متاهات العذاب والتعب و البؤس ، ولكأن القاص يستجلي هذا الغموض بحنكته السردية المعروفة التي تحبل بتصوراته الفلسفية لهذا الكون البئيس
لا فرق بين عالمي [ولاد] ، وربما تكون العتمة لحظية يمكن ان تستضاء وتستنار بعد حين ، لكن عالم التيه ، أبدي الجنون ، متخن بالجراح ، يغوص في العفونة إلى الأذنين : عالم هذيان و هلوسة ، فلو علم القادم بمتاعبه ، لما رغب في الازدياد ولفضل ، ممارسة وجود أهل الكهف في كهفهم ، وممارسة رقود الجنين الراقد في مرقده بين تلافيف رحم أمه !
ليس هذا هو مربط فرسي في هذا النص السردي الفلسفي الذي كان مفتاحا رائعا لعالم من الروائع الفلسفية في المجموعة القصصية ( كوميديا العالم السفلي ) هذا العالم الذي لن يخيب حدسي إذا قلت إنه لن يعدو أن يكون إلا عالم تيه و هذيان مايهمني في هذا النص ، ليس البحث عن معان فلسفية وأنا أحق صاحبها ، حق المعرفة ، وإنما أريد أن أتناول لغته السردية بالقراءة النقدية ، التي لا تخلو من طابع شعري و شاعري رائع ، أما المعني والفكرة فكل قاريء كفيل بإسقاطاته التي يراها موضوعية وفق تكوينه العلمي والمعرفي وخلفيته الثقافية ،ووفق تصوراته الفلسفية لأن النص مكتوب لا مقروء ،يستطيع كل قاريء عند قراءته إعادة كتابته ، منفتح على ملايين القراءات ، خصوصا و أن القاص بارع جدا في ترك مسافة معقولة فاصلة بين نصه ومتلقيه ، هذه المسافة التي ستحقق نشوة القراءة ولذة الاكتشاف والإبحار في مستغلقات عالمين متناقضين : عالم العتمة وعالم التيه ، في جدلية خفاء وتجل بين الميلاد والعدم ، بين العتمة والتيه ، فيشعر بلذة النص تغشى ذائقته القرائية ،ما دامت القراءة تأخذ هذا الطابع الحربائي المتقلب من قاريء لآخر ، أو من قراء إلى آخرين ، فإنه بذلك يحدد مقصديته الابداعية وتكوينه الثري و النص بهذه الصيغته لا بد وأن ينحى منحى العالمية !
وأنا اقرأ [ولادة ] ، وجدتني أغوص في لغة تكتسي روعتها من خلال طريقة اشتغال القاص على مواطن الجمال فيها ، فجمال لغة السرد هي عصب الحياة في نجاح أو فشل المبدع في تمكنه من شد القاريء إليه شدا !
يعتمد القاص في نص ولادة من حيت التركيب النحوي على توظيف الجملة القصيرة جدا التي تكاد تستغني عن الفضلات ( بضم الفاء ) ، و التي لا تكاد تتجاوز مكونات الجملة النحوية العادية مع احترام مواقعها في جغرافية الإعراب ، في أغلب الأحيان نجد جمل النص ، جملا فعلية ، فاعلها ضمير المتكلم ( أنا ) باعتباره البطل / السارد ،وفعلها مضارع ، ونحن نعرف ما لهذا الزمن من جماليات في مجال الجملة السردية بغض النظر عن وظيفته النحوية ، وأغلب جمل نص [ولادة ] تتميز بإحكام التركيب والترتيب والنظم بمفهومه الجرجاني، العصي ، القصي ، المنيع ، المتنمنع عن تلك الزيادات المجانية من الكلمات التي غالبا ما لا تخدم النص،بل تؤدي به بطريقة أو بأخرى إلى الترهل ،لكن هذا الإيقاع السريع ، لعملية السرد والمعتمد على الجمل القصيرة المكثفة تجعل القاريء أكثر التصاقا بمحتويات القصة من بدايتها الاستهلالية إلى نهايتها الفلسفية التي لن تكون إلا صرخة ضياع في فراغ عالم ضائع وكينونة موؤودة في مهدها !
وقد سبق أن أشرت إلى بعض خصائص فن السرد في أعمال القاص في نصوص من مجموعته [ ما بعد الخريف ] ،والتي تتجلى أساسا ، في احترامه للتركيب النحوي وسلامة اللغة ، لكنه غرائبي النظم ، عجائبي الإسناد الذي يخرق المألوف ، لخلق صور شبيهة بصور الجملة الشعرية ، من حيث الانزياح وبلاغة الغموض ، أيضا من حيث التكثيف ، فالمساحات في قصص الساعدي مساحات يؤمن بها ضيقة جدا ويحبها كذلك ،لأنه يعرف بقدراته الفنية كيف يقرب زوايا الأمكنة مهما ضاقت المساحة !
هذه المساحات التي تستوجب جملا حبلى بدلالات ملايينية القراءة ، ولا ترضى بالانغلاق، فلامكان للكلمة التي لا تفيده في شيء ولا تخدم السرد، فلكأني به يزن أشطر أبيات شعرية ، فيجد القاريء تكثيف الجملة يساهم بشكل رائع في خلق غرائبية الصورة التي تستهويه ، وتدغدغ إحساسه وقد تشغله عن البحث في المعاني: صور ترحل بهذا القاريء الحذق ، البارع في تفكيك شفرات النص إلى عالم غير عالمنا : لغته صامتة تستمد جمالها من صمتها فمخاطبها من طينة خاصة ، وهي حافز ودافع لتنامي التأملات الفلسفية في ذهنه مهما اختلفت مشاربه وتكوينه المعرفي !
و أقر بصدق الجرجاني الذي اعتبر جودة الكلام تكمن في القدرة على الجمع بين المؤتلف والمختلف وخلق ذلك التآلف بينهما [ أجود الكلام شدة إئتلاف في شدة إختلاف ] إذ يوحد مشارب الوحدات اللغوية من أفعال وأسماء وحروف مهما تمكن منها الاختلاف ، و أعني بهذا أن القاص لا يسلم أفكاره للقاريء مجانا بل يضع جمال لغته وسمو معانيه على طبق من الإدهاش والغرابة والعجائبية ، وليس هذا إلا نهج كتاب كبار رواد في عالم السرد ! ولكن رغم ذلك فالقاريء،مهما تضاءلت معرفته الفلسفية ، فإنه لايعدم أذنا موسيقية تميز اللغة السردية ذات الإيقاع الشعري الرائع ، فتستسيغها وتستطيبها ، وهذا ما نلمسه في لغة أول نص [ولادة ] من مجموعة الساعدي القصصية [ كوميديا العالم السفلي ]
فبأي الجمل سأستشهد من هذا النص ؟!؟
الجملة اللاحقة تنسيك في السابقة ، و لم أجد أنسب من هذا التعبير لأنه حقيقة الجملة السردية في هذا النص ، و أعجب ما أعجبني في أسلوب هذا القاص المتمكن هو اشتغاله المتقن على اختيار جمله التي يوليها أهمية خاصة ، فقد لا يكون هدفه فقط إيصال أفكاره لقارئه ليجعل منه مستهلكا مقبلا فقط على إدراك ما يقدم له ، بل قارئا يعتبر لغة السرد لغة إبداعية لا تقل أهمية عن المقومات الفنية للنص السردي بصفة عامة مشارك بفعالية في هدمه وإعادة بنائه !
ولعمري إنه كمن يجمع بين الماء والزيت وبطريقته الفنية الخاصة يذوب مواطن التناقض والتضاد والتنافر بين الكلمات ، معتمدا في ذلك على إسناد ما لا يجب أن يسند للمسند إليه ، كإسناد المعقول إلى المحسوس أو المحسوس إلى المعقول إلى غير ذلك مما يساعد على خلق هذا السياق الخلاب والرائع ، ( أراوغ غيبتي ) أو ( أسكن نفسي )( قطيع من الظلمة ) والنص كله من هذا النوع من الجمل الرائعة التي تخلق في ذهن القاريء الصورالتي تدعوه إلى جمال السرد ، وتحقيق نشوة قراءة أشبه بنشوة الخمرة بدون خمر أو الطرب بدون مطرب ، خصوصا عندما يساعده مخزونه المعرفي على تفكيك هذه الشفرات والرموز والتلميحات والإحالات التي تومض وتخبو في النص كبريق البرق في سواد الغيمة ، فلا مجال يتسع للاستيفاء والشمول، يتسع فقط للفت النظر !
ونحن بصدد قراءة نص سردي قصير ، ينمو فيه الجمال من خلال هذه التراكيب ، بإسناد الكلمات إلى بعضها البعض ،إذ تستمد الكلمة جمالها مما بعدها أو ما قبلها فتحصل مزيتها ، فتخرج هذه الكلمات عن طوع المعاجم وتطاوع القاص وتنساب في سياقاته كالماء الزلال المندلق بين الأصابع ، ومن الجملة إلى سياق الفقرة إلى السياق العام للنص الذي يأبى القاص إلا أن تكون روابط جمله السردية روابط جمال المعنى العام ، لا روابط لفظية تثقل انسيابية السرد ، هذه الروابط التي في حقيقة الأمر لا يوظفها إلا الفاشلون في عالم السرد ، فكل كلمة تمد ما بعدها بالجمال في الجملة ،ثم في سياق الفقرة ، ثم في السياق العام للنص ، ( فمن المركوز في الطبع أن الشيء إذا نيل بعد الطلب والاشتياق له كان نيله أحلى ) ومعنى هذا كما هو وارد في النقد القديم ، أن هذه الجمل الانزياحية التي تتسم ببلاغة الغموض التي تتجلى في مختلف الاستعارات والمجازات ، والاقتصاد في هذا الكم من المقولات اللغوية الموظفة تجعل المتلقي ينال مبتغاه من النص بعد طلبه وبعد الاشتياق إليه ، يعني هذا أن القاص ، يكون قد أحكم التمكن من شد هذا القاريء ،ثم بعد ذلك يكون نيل ما طلبه من النص أحلى ، إذ تحصل نشوة القراءة وبالتالي تتحقق اللذة !
هذا دليل على أن القاص يحسن الغوص والإبحار في هذا العالم الفوضوي للغة والذي لا يمكن تشكيله إلابعد تدخل المتكلم ، وتخضع عملية تشكيل هذا الكم من المقولات اللغوية في سياق لغوي لبراعة القاص ، منذ مرحلة نزول الفكرة نطفة على جدار الذاكرة إلى مرحلة التكوين والمخاض والظهور والاكتمال ، وقد يتم هذا التشكيل تبعا لظروف المتكلم ، وتبعا لخلفيته الثقافية وتصوراته الفلسفية في عالمه الإبداعي ، والقاص عبد الكريم الساعدي، يحسن اختيار الكلم ، ويحسن التركيب والترتيب والتشذيب ، ويحلو لي أن أشبهه بشعراء الحوليات من حيث تنقيح نصوصه ،فلا يترك نصه إلا وقد نفخ فيه من نبض روح الجمال والجلال في عالم السرد ،وهو الأسد في مملكته!
بقلم الاستاذ : صالح هشام
الرباط /1/نونبر/2016
_______________________النص _______________________________
[ ولادة] للقاص عبد الكريم الساعدي
كنت وحدي حين هبطت من ذلك الشاهق، أراوغ غيبتي وأنتظر، أسكن نفسي، ألزم صمتي، أرتلّ ما تيسّر لي من خفقة القلب، قطيع من الظلمة يخبط ناظري، أنكفئ إلى الخلف، أدور حول نفسي، تنبسط كفّاي، تتسلّل قدماي من جوفي، تضرب سطح العتمة فرحة، ذراعاي يخال لي أنّهما جناحان، أحلّق بهما في فضاء من سائل لزج، تهدهدني مويجاته، أتأرجح فرحاً في فراغ شاسع، يمتدّ ما شاء لي، أتبعثر كما قطرات الندى، ألج بحوراً وفضاءات، أغفو على وريقة وردة، يلملمني نبض له كنه النغم، أنقبض، أعود إلى نسغي الدافئ، يراودني النعاس، أتشبّث بأضلع تحيط بكوني الفسيح، أشهق برائحة التفاح، أنام على سرير من موج ساكن. الساعة المعلّقة على الضلع الأول متوقفة عند الثانية عشرة بعد منتصف الظلمة، تتوهج بين الحين والآخر أقمار زاهرة، تنتصب أمامي تسعة أبواب، خلفها نافذة صغيرة، يندلق منها ضوء وامض، مذ رأيته أصابتني رعشات من القلق، أغمض عينيّ، يرتبك رقادي، تتفتّح أذناي على أنين ريح عاتية، تحمل غيمة ملبّدة بالسواد، موبوءة بالرماد، تجوب جهات عوالمي الجميلة، تهرول خلفي، أتعلّق بأضلع كوني، تقتلعني، أسقط في الفراغ، أتدحرج مزدحماً بالخوف، تصهل في جوفي صرخة، أكتمها إلى حين، كقابض على جمرة، لأول مرة أحسّ بضيق المكان. أطلق سراح رحلتي، رحلة ترتجف بالغموض، الباب الأول يمدّ لي إغراءً، كان موارباً، أقضم طرف قصبتي الممتدّة من سرّة وجودي حتى النافذة الوامضة بالضوء، أمتطيها مهاجراً، يرافقني سرب من الفراشات، يؤانسني، يمحو وحشتي:
- لا عليك، كن مطمئناً، سنرافقك حتى النافذة.
يُغلَق الباب خلفي، أحسّ أنّي أفقد بعض الدفء، أضلاع كوني تضيق، أفزّ على صوتٍ هامس،
" افتح كفيك".
يحدّق ملياً في خطوط كفّي، يزيح ستاراً من عتمة، يشير إلى سرب الفراشات أن تتبعه حتى الباب الثاني، أملأ صدري بعبق الحنين، وأقضم شيئاً من قصبتي، أحلّق خلف الصوت، أرتجي ملاذاً لغربتي، ذاكرتي تفقد توهجها، تخلع ثوبها شيئاً فشيئاً، وكلّما ولجت باباً وخرجت من باب آخر، أراني عارياً، تلفّني موجة برد، قصبتي تكاد تتلاشى، لم يبقَ منها سوى قضمة واحدة، الفضاء الفسيح يضيق، ينطوي في حنايا ظلمة يدقّ البرق بابها، وما إن ولجت الباب التاسع حتى غادرني سرب الفراشات مودعاً، فجأة يهاجمني الضوء، يصفعني العمى، أغمض عينيّ، يحاصرني الدمع، تهصرني أضلاع كوني، أتشرنق في حيز يواسي ظمأ الروح لنسمة هواء، أستوحش مرافئ تلّوح لي ببيارقها، أمدّ رأسي، ألمح ظلّ امرأة، شفتاها ترفلان برفيف البسملة، أسحب رأسي، ألتفّ حول نفسي، تقترب من النافذة، تفتح درفتيها، أحبس أنفاسي، تمسك برأسي، أراوغها، أحاول الانفلات من قبضتها، أخوض في موج، تشدّني رغبة للغرق فيه، يبلّلني بقطرات حمراء، عبثاً أحاول الهرب، أقضم ما تبقّى من قصبتي، أحوّل بصري نحو مملكتي، أتوسل كوني، أتعثّر بين الظلمات وهدب السرة، دثار من أطياف الذر يلتفّ حولي، يوقّع عهداً بنفحة بيضاء، يمسح غبار العتمة عن وجهي، أتلو بنوده؛ فأتوهج بشهقة تكويني. عقارب الساعة تتلاشى في قوس من نور، ينكشف الستر بيني وبين أسفار تتوسّد الأفق، اليدان تقبضان على كتفيّ، تتلمظان فرحاً، تخرجاني من العتمة إلى التيه، ظلّي يتبعني، أطلق صرختي في المدى، لكنّها تضيع وسط موجةٍ من هلاهل ملأت الفضاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق