الصبى ذو الماسحة والفرشاة
وإذْ تطورتْ القرقعة في الإطار الخلفي، الى صوت احتكاك قوي. أوقفتُ السيارة بمحاذاة الرصيف، وترجلتُ منها. ووجدتُ أنّ كل شيء قد انتهى تقريباً. لقد انفجرَ الإطار وتمزق.!
وشعرتُ بالاحباط ينتابني. فقد كان الجو حاراً، وعليّ إنزال عدة الرفع من الصندوق الخلفي، والمباشرة باستبدال الإطار، وهذا يعني بأني سأتحمل المعاناة بكل تفاصيلها، وهو ما حصل بالفعل.
كان الهواء لافحاً، والشمسٌ حارقة، وعدّة الرفع ساخنة كالجمر .. وفجأة سمعتُ صوت اقدام راكضة ، ورأيته من مسافة بعيدة مقبلا ًعليّ .. فأحسستُ ببذرة الغضب تنمو بداخلي من جديد، فقد كنت خلال اليومين الماضيين، أكابر وأكابر من اجل تحمّل ما قام به ضدي .
عندما رايته للمرة الاولى بدا لي، صبياً في العاشرة من العمر، يطوح بفرشاة تنظيف في يدٍ، وفي يده الاخرى يحمل مرشّة الماء. ويتحرك بخفة بين السيارات ، يشاكس هذا ويرش الماء على ذاك. يرش بالماء على أقرب سيارة منه ومن دون استئذان.
" ولم الاستئذان؟ "
في كل مرة يسأل نفسه هذا السؤال، وكلما خطر له طلب الإذن من صاحب السيارة، وهو نادراً ما يفكر بذلك. فقد كان همه الحصول على النقود ، بأية طريقة كانت ، حتى لو كانت بالاستجداء .
وهناك الكثير من أمثاله يتواجدون في هذا الشارع وفي كل الشوارع، لكنه يختلف عنهم ليس بعناده ، لأنهم جميعاً عنيدون، ولا بإزعاجه لأنهم مزعجون ايضاً، ولا بطلبه النقود لأن طلب النقود هو السبب في وجود الجميع في الشارع.
فهو إذن عنيدٌ ومزعجٌ ويطلب النقود !
وماذا بعد؟ ثمة ما يخبئه هذا الصبي بداخله من أشياء!
في صباح أمس، رأيته يدور بمقلتيه هنا وهناك كأنه يبحث عن شيئ ، لم اصدق حينما عرفت بأنه كان يبحث عني . توقفتُ على مسافة منه محاذراً ان يراني، لكنه رآني على أية حال. وبدون تفكير، فتحتُ آلية تشغيل ماسحات السيارة الى أقصاها، وكذلك فعلتُ مع رشّاش الماء! وكنتُ في كل ذلك ابغي من البداية، سّد منافذ الطّريق عليه.
وكأن الامر لا يعنيه، رغم حركة الماسحات، وضع فرشاته الصغيرة على الزجاج الأمامي، وراح يرفعها ويخفظها كيفما يحلو له، غير مكترث بي، وتركني ... هكذا. فقررتُ الا أعطيه نقوداً هذه المرّة! وأدرت له ظهري حتى ُفُتح السير.
عند الظهيرة، كان عليّ أن أُغير طريق عودتي. فسلكتُ طريقا آخر.. كانت الفكرة جيدة، أشعرتني براحة البال وانا اجتاز الطريق مبتعداً عنه .. وفتحت مذياع السيارة عند ذاك. فبثت احدى المحطات أغنية، احدثت وقعاً في نفسي ، فغمرتني وأيقظت بداخلي مشاعر الفرح والذكريات الدفينة.
ولم تنته الاغنية حتى توقفت في التقاطع التالي، وكانت الذكريات قد إنهالت عليّ كالسيل، وإنساب اللحن داخلي كالمخدر. وانا في قمة استمتاعي وهدوئي، أفزعني رشاش ماء، فجأة، اندفع على وجهي من خلف الزجاج . وظهر الصبي نفسه، وقد تمدد على غطاء المحرك. ثم نزل بسرعة، مادّاً لي يده ، يطلب مني النقود، بكل وقاحة.
مالذي جاء به الى هنا؟ من ارسله لي؟ أسئلة خطرت لي في الحال، لكنني تجاهلتها. ورحت أراقب السير وأنا أكظم غيظي ..!
"ياله من صبي مشاكس"
قال احدهم وهو يخرج رأسه من نافذة سيارته، فزاد ذلك من حافزي، حتى نفذ آخر ما تبقى لديّ من صبر. فهذه هي المرة الثالثة التي يغيظني هذا الصبي، ويفقدني صوابي. لا ادري كيف نزلت من السيارة بسرعة مشحوناً بالحنق .. فقد تقهقرت جميع مشاعر الود .. وحلت محلها دوافع الغضب الحادة .. وحالما فتحت باب السيارة واضعاً قدمي على الارض ، علت من الخلف، أصوات احتجاج ومنبهات السيارات، فعدت الى مقعدي ، ملتزما الهدوء ، ووضعت على صدري الملتهب، قوالب من الثلج.
ثم شعرت برجّةً داخل السيارة، ودون سابق إنذار. اهتزّتْ على أثرها السلسلة المعلقة امامي، فتأرجحتْ بطرفها صورتي وانا صغير.. فكّرتُ، ربما انني صُدمتُ من الخلف!
أووه .. فعلا ... صدمتني السّيارة التي خلفي..!
ترجّلتُ.. وقلت للسائق بتواضع :
- كإنك اتممت ما لحق بي ذلك الصبي من مشاكسات!
لكن السائق كان شديد الوقاحة! واجهني بسيل من الشتائم، والكلمات، لو بحثتُ عنها نهاراً كاملاً في گوگل، لما وجدتها. وحاولتُ على عجل ،أن أسوّي ما بيني وبينه، ليس خوفاً منه ، بل لأنني لمحتُ الصبي المزعج ، ذَا الفرشاة الصغيرة، يظهر من جديد ، ويقترب مني..!
- ياله من صبي كثير الفضول.
كنت على وشك ان اكمل ما تبقى من عملية استبدال الإطار ، وقد أحرقت الحرارة يدي ولفحت الشمس وجهي، وتعرّقت حتى احسسّت بنقيع ملابسي. وعندما وصلني، استغربتُ حضوره المفاجئ ، وشعرت بالريبة من أمره، متسائلاً:
"ما الذي جاء به من ذلك التقاطع البعيد؟! "
ووقف على مقربة مني ممسكاً بعدته متهيئاً للقيام بعمل ما، وتوقفتُ انا ايضاً ، وسألته زاجراً اياه:
- هل انت تطاردني ؟ فقال:
- لا..لا
- إذن مالذي جاء بك الى هنا؟
- جئت لأغسل سيارتك!
قال ذلك ، وقد حيرتني إجاباته المبهمة، ولمحت منه ابتسامة غامضة وموحية .. وراح يرش الماء على زجاج السيارة، وانا ما زلت مستغرباً ، وهو يمسح. يمسح ويرش .. وانا انظر وألوب..الوب وانظر.
حتى اشتد بي الغيظ..
ولم أتمالك نفسي اكثر من ذلك، فخطوت نحوه عدة خطوات ، وأنا ارمقه بنظرات حادة غاضبة.. وقد ازداد حنقي عليه في تلك اللحظة، حتى ذابت كل قوالب الثلج.. ولشدة غضبي، أمسكت بمفل الإطار الحديدي، وطوحت به في الهواء. ثم اندفعت نحوه، كانت يداي خفيفتين وهما تطوحان بالمفل عالياً، واندفعت اكثر حتى صرت قريباً منه ..وإذ انا أهمّ بضربه، تراءت لي صورتي المعلقة بالمرآة، فتوقفت لحظة وقلت لنفسي:
-ليس انت من يفعل هذا!؟ هل تضرب صبياً كادحا لا يتجاوز العاشرة؟
وأطرقت قليلا الى الارض، وكتمت ما انبعث بداخلي من عواطف أخرى مختلفة ، قبل ان تنفجر.
ثم استدرت وارتقيت الى مقعدي ، فاقترب مني وكان على وجهه ابتسامة بدت لي بريئة جداً، بريئة الى حد أزاحت كل ما تبقى من تضاريس غضبي.. واحسستُ بالتشابه الكبير ما بيني وبينه من خلال صورتي المعلقة امامي. وحتى ابتسامته، كانت لا تختلف كثيراً عن ابتسامتي، سوى انها كانت شاحبة ، وفاترة بعض الشيء .
وإذْ تطورتْ القرقعة في الإطار الخلفي، الى صوت احتكاك قوي. أوقفتُ السيارة بمحاذاة الرصيف، وترجلتُ منها. ووجدتُ أنّ كل شيء قد انتهى تقريباً. لقد انفجرَ الإطار وتمزق.!
وشعرتُ بالاحباط ينتابني. فقد كان الجو حاراً، وعليّ إنزال عدة الرفع من الصندوق الخلفي، والمباشرة باستبدال الإطار، وهذا يعني بأني سأتحمل المعاناة بكل تفاصيلها، وهو ما حصل بالفعل.
كان الهواء لافحاً، والشمسٌ حارقة، وعدّة الرفع ساخنة كالجمر .. وفجأة سمعتُ صوت اقدام راكضة ، ورأيته من مسافة بعيدة مقبلا ًعليّ .. فأحسستُ ببذرة الغضب تنمو بداخلي من جديد، فقد كنت خلال اليومين الماضيين، أكابر وأكابر من اجل تحمّل ما قام به ضدي .
عندما رايته للمرة الاولى بدا لي، صبياً في العاشرة من العمر، يطوح بفرشاة تنظيف في يدٍ، وفي يده الاخرى يحمل مرشّة الماء. ويتحرك بخفة بين السيارات ، يشاكس هذا ويرش الماء على ذاك. يرش بالماء على أقرب سيارة منه ومن دون استئذان.
" ولم الاستئذان؟ "
في كل مرة يسأل نفسه هذا السؤال، وكلما خطر له طلب الإذن من صاحب السيارة، وهو نادراً ما يفكر بذلك. فقد كان همه الحصول على النقود ، بأية طريقة كانت ، حتى لو كانت بالاستجداء .
وهناك الكثير من أمثاله يتواجدون في هذا الشارع وفي كل الشوارع، لكنه يختلف عنهم ليس بعناده ، لأنهم جميعاً عنيدون، ولا بإزعاجه لأنهم مزعجون ايضاً، ولا بطلبه النقود لأن طلب النقود هو السبب في وجود الجميع في الشارع.
فهو إذن عنيدٌ ومزعجٌ ويطلب النقود !
وماذا بعد؟ ثمة ما يخبئه هذا الصبي بداخله من أشياء!
في صباح أمس، رأيته يدور بمقلتيه هنا وهناك كأنه يبحث عن شيئ ، لم اصدق حينما عرفت بأنه كان يبحث عني . توقفتُ على مسافة منه محاذراً ان يراني، لكنه رآني على أية حال. وبدون تفكير، فتحتُ آلية تشغيل ماسحات السيارة الى أقصاها، وكذلك فعلتُ مع رشّاش الماء! وكنتُ في كل ذلك ابغي من البداية، سّد منافذ الطّريق عليه.
وكأن الامر لا يعنيه، رغم حركة الماسحات، وضع فرشاته الصغيرة على الزجاج الأمامي، وراح يرفعها ويخفظها كيفما يحلو له، غير مكترث بي، وتركني ... هكذا. فقررتُ الا أعطيه نقوداً هذه المرّة! وأدرت له ظهري حتى ُفُتح السير.
عند الظهيرة، كان عليّ أن أُغير طريق عودتي. فسلكتُ طريقا آخر.. كانت الفكرة جيدة، أشعرتني براحة البال وانا اجتاز الطريق مبتعداً عنه .. وفتحت مذياع السيارة عند ذاك. فبثت احدى المحطات أغنية، احدثت وقعاً في نفسي ، فغمرتني وأيقظت بداخلي مشاعر الفرح والذكريات الدفينة.
ولم تنته الاغنية حتى توقفت في التقاطع التالي، وكانت الذكريات قد إنهالت عليّ كالسيل، وإنساب اللحن داخلي كالمخدر. وانا في قمة استمتاعي وهدوئي، أفزعني رشاش ماء، فجأة، اندفع على وجهي من خلف الزجاج . وظهر الصبي نفسه، وقد تمدد على غطاء المحرك. ثم نزل بسرعة، مادّاً لي يده ، يطلب مني النقود، بكل وقاحة.
مالذي جاء به الى هنا؟ من ارسله لي؟ أسئلة خطرت لي في الحال، لكنني تجاهلتها. ورحت أراقب السير وأنا أكظم غيظي ..!
"ياله من صبي مشاكس"
قال احدهم وهو يخرج رأسه من نافذة سيارته، فزاد ذلك من حافزي، حتى نفذ آخر ما تبقى لديّ من صبر. فهذه هي المرة الثالثة التي يغيظني هذا الصبي، ويفقدني صوابي. لا ادري كيف نزلت من السيارة بسرعة مشحوناً بالحنق .. فقد تقهقرت جميع مشاعر الود .. وحلت محلها دوافع الغضب الحادة .. وحالما فتحت باب السيارة واضعاً قدمي على الارض ، علت من الخلف، أصوات احتجاج ومنبهات السيارات، فعدت الى مقعدي ، ملتزما الهدوء ، ووضعت على صدري الملتهب، قوالب من الثلج.
ثم شعرت برجّةً داخل السيارة، ودون سابق إنذار. اهتزّتْ على أثرها السلسلة المعلقة امامي، فتأرجحتْ بطرفها صورتي وانا صغير.. فكّرتُ، ربما انني صُدمتُ من الخلف!
أووه .. فعلا ... صدمتني السّيارة التي خلفي..!
ترجّلتُ.. وقلت للسائق بتواضع :
- كإنك اتممت ما لحق بي ذلك الصبي من مشاكسات!
لكن السائق كان شديد الوقاحة! واجهني بسيل من الشتائم، والكلمات، لو بحثتُ عنها نهاراً كاملاً في گوگل، لما وجدتها. وحاولتُ على عجل ،أن أسوّي ما بيني وبينه، ليس خوفاً منه ، بل لأنني لمحتُ الصبي المزعج ، ذَا الفرشاة الصغيرة، يظهر من جديد ، ويقترب مني..!
- ياله من صبي كثير الفضول.
كنت على وشك ان اكمل ما تبقى من عملية استبدال الإطار ، وقد أحرقت الحرارة يدي ولفحت الشمس وجهي، وتعرّقت حتى احسسّت بنقيع ملابسي. وعندما وصلني، استغربتُ حضوره المفاجئ ، وشعرت بالريبة من أمره، متسائلاً:
"ما الذي جاء به من ذلك التقاطع البعيد؟! "
ووقف على مقربة مني ممسكاً بعدته متهيئاً للقيام بعمل ما، وتوقفتُ انا ايضاً ، وسألته زاجراً اياه:
- هل انت تطاردني ؟ فقال:
- لا..لا
- إذن مالذي جاء بك الى هنا؟
- جئت لأغسل سيارتك!
قال ذلك ، وقد حيرتني إجاباته المبهمة، ولمحت منه ابتسامة غامضة وموحية .. وراح يرش الماء على زجاج السيارة، وانا ما زلت مستغرباً ، وهو يمسح. يمسح ويرش .. وانا انظر وألوب..الوب وانظر.
حتى اشتد بي الغيظ..
ولم أتمالك نفسي اكثر من ذلك، فخطوت نحوه عدة خطوات ، وأنا ارمقه بنظرات حادة غاضبة.. وقد ازداد حنقي عليه في تلك اللحظة، حتى ذابت كل قوالب الثلج.. ولشدة غضبي، أمسكت بمفل الإطار الحديدي، وطوحت به في الهواء. ثم اندفعت نحوه، كانت يداي خفيفتين وهما تطوحان بالمفل عالياً، واندفعت اكثر حتى صرت قريباً منه ..وإذ انا أهمّ بضربه، تراءت لي صورتي المعلقة بالمرآة، فتوقفت لحظة وقلت لنفسي:
-ليس انت من يفعل هذا!؟ هل تضرب صبياً كادحا لا يتجاوز العاشرة؟
وأطرقت قليلا الى الارض، وكتمت ما انبعث بداخلي من عواطف أخرى مختلفة ، قبل ان تنفجر.
ثم استدرت وارتقيت الى مقعدي ، فاقترب مني وكان على وجهه ابتسامة بدت لي بريئة جداً، بريئة الى حد أزاحت كل ما تبقى من تضاريس غضبي.. واحسستُ بالتشابه الكبير ما بيني وبينه من خلال صورتي المعلقة امامي. وحتى ابتسامته، كانت لا تختلف كثيراً عن ابتسامتي، سوى انها كانت شاحبة ، وفاترة بعض الشيء .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق