الوتد والبرنوس:قصة قصيرة
بقلم الاستاذ ٠٠٠صالح هشام !
مويجات النهرواهنة ، تتكسر ،عند مخرج الترعة ،تتشظى على كتل الوحل اليابسة ، يجرى الماء ثقيلا ، بطيئا ، مملا ، أشعة بنفسجية حارقة تمتص منه الرطوبة ٠٠ ،يصيب مصارينه اجتفاف مميت ، تتشقق شفاه تنبت في وجوه صفراء مجعدة ،تترهل البطون ، تشكو من الجوع، ترتخي حبال الصراصير الصوتية : تعزف عن العزف ،تقرمش الشمس الديدان والحشرات ، تهاجر أسراب الطيور نحو الشمال :
جاف هذا العام ،يجلد جلودا قمحية باهتة ، يضمر الضرع ، يصفر الزرع ، تختنق حبيبات الحمص في أغشيتها ، جفاف مميت ، قاتل ،ما عرفوا مثله منذ سنين !
يمصمص الأعرج فاهه ،يمعن في المصمصة ،يتلمظ سقف حنكه يتذكر ،أنه نسي طقم أسنانه في الترعة قرب الناعورة ، يهرول بإيقاع موسيقي مرتب :
نقطة٠٠ فاصلة٠٠نقطة٠٠ فاصلة ٠٠نقطة ٠٠فاصلة !
يمعن في الهرولة ، تتسارع خطواته :
حبة فوق ٠٠حبة تحت ٠٠حبة فوق ٠٠ حبة تحت٠٠!
إيقاع يطربه ،ينتشي به ، فيبالغ في الهرولة !
ساقه اليمنى تتحمل كل ثقل جسده : تلوح عروقها نافرة منتفخة خضراء ، يشكو دوما من ألم داء الملوك ٠
ساقه اليسرى قصيرة ، لا تكاد تلامس رمال النهر:
تبدو نحيلة مترهلة تحت الركبة ، لذلك يعرف بينهم :
بالأعرج /الأعسر !
يسند ظهره سار خشبي قديم : دعامة ناعورة مهجورة عند مصب النهر ، كانت توزع دلاء الماء دلوا دلوا بالعدل بين الحقول في زمن مضى !
يلصق رأسه بالسماء ، كالمصلوب ،تكاد رقبته تكسر، يطارد بنظراته الزائغة سحبا مندوفة ،تعبر الفراغ دون أن تتوقف، تتلاشى تماما، وعيناه باهتتان تدوران في محجريهما ،تغشاهما حمرة حنق ويأس :
- يا ربي ! الوحل يكتم أنفاس نهرك ، أعشابك تيبس يوما بعد يوم ، الخف والظلف ينفق ، أسراب الغربان تنعق في أمعاء أولادي الخاوية ٠ كل شيء يشي بمحنة قادمة ! رحمتك يا رب ! اسق بهيمتك ، أرو أرضك العطشى ، فقد طفح الكيل!
فجأة توشوش له يرقة جشعة من يرقات تفكيره :
-يا أعرج ماء نهر ميت ، موحل ، لن يروي غيرعطش حقلك ،فالماء ماؤك وحدك ، خذه بمكرك ، بشطارتك ،لن تكون سارقا :هذه سرقة غائبة عن عقول هؤلاء الحمقى الصدئة !
لكن كيف ؟ أأفقد ساقي اليمنى أيضا ؟فسرقة الماء من النهر ، كلفتني في مامضي بقرة حمراء كبيرة عقابا لي ،وبضع سنتيمات من ساقي اليسرى : هوى علي أحد مجانين هذه القرية الملعونة بساطوره فأفلت من الموت بأعجوبة ! و هذه المرة ستنكسر الجرة ، هؤلاء البلداء لن يكتفوا ببقرة حمراء ، فقد يحكمون برجمي حتى الموت ،فيضيع حقلي ويموت نسلي جوعا في مكان الشؤم هذا ٠٠
- اسق حقلك ليلا و نهارا ،امسح تلافيف مخك، من الصدأ و اخترع أي حيلة ، إنك صاحب حيل يا أعرج !
يترك ساري الناعورة ، يضع قدميه في الما ء ،تعلق بهما حبيبات زبد خجول ،تتشظى فقاعات قزحية ، تنفجر و تتلاشى ، وتجف !
يتف ، يتأفف ، ينفت غضبه على هذا النهر الذي أصابه العقم ، يرميه بالحجر، يسحق تحت قدميه بقايا أصداف قذفها موجه ذات خروج عن السرير ٠
يحشر قدميه في النعل ، يقفل عائدا و في نفسه ، و في نفسه ، ما تبقى من أنفاس النهر المتقطعة ٠ يجب أن يقهر الجوع ويطرده من بيته، ويعيد البسمة لأبنائه الجياع !
ثمة حشود من القرويين : يتحلقون حول نارباهتة يراودها النعاس من حين لآخر ، يوقظها أحدهم بعود يابس ٠
يسلم الأعرج ، يبوس ظاهر اليد والراحة بأدب مفتعل ، يقعى أمامهم كالكلب :
-خيرا يا جماعة الخير،ألا تشركوني همومكم ؟ ألست منكم ؟فقد يوجد في البر ما لا يوجد في البحر يا ناس ؟
- يا أعرج !يشغلنا توزيع ما تبقى من لعاب هذا النهرالميت ، فالحقول تكاد تختنق ،نريد تخفيف حر عطش الأرض التي تحترق ،نفد الماء و لم يعد يتجاوزمخرج الترعة !
-النهر ؟ حكايته حكاية ! أخافه حتى الموت ،وأحترمه ، منذ رأيت أمرا عجيبا٠٠ غريبا، سمعته فقط في خرافات الأجداد ،ما رأيته لن يتصوره عقل عاقل يا جماعة !
- يقترب منه أحدهم يكاد يلامس حبة أذنه :
-لقد شوقتنا وأخفتنا يا أعرج !ماذا رأيت هناك بالله عليك ؟
يتف الأعرج ،يبصق هنا، هناك،تنفلت من متاهات خيشومه كلمات مبهمة تخرج مع زفيره :
- هه ! آثار أظلاف كبيرة مرسومة على رمال هذا النهر ، لا هي للإبل ، ولاهي للمعاعز ولاهي للأبقار : إنها أشبه بأظلاف فيلة كبيرة ، أو آثار أسراب من النعام ، والله يعلم لمن تكون !
يقهقه آخر ساخرا ، يكاد يستلقي على قفاه :
- يا بليد ، يا معتوه ! أي خبر سيأتيك به هذا الأعرج غير النكد والنحس ، ألم يقل أجدادنا :(لا يقرع ولا يعرج إلا البلاء المسلط ) ! فهل رأيتم في أرضنا فيلة أو نعاما ؟
يتبادلون وشوشات الحيرة والاستغراب :
- هذه خرافات قديمة ،أكذوبة من أكاذيبك المعهودة يا أعرج !
-يا جماعة ،إذا لم تصدقوني ، فالترعة تأتيكم بالخبر اليقين !
مسح كبيرهم على شاربيه المعقوفتين وصاح فيهم :
- من منكم يأتينا بخبرهذه الأظلاف الغريبة ؟
لكن كيف يتبث لنا وصوله الى الترعة في هذا الليل ؟
تنفرج شفتا الأعرج عن ابتسامة عريضة ماكرة :
- الأمر بسيط ، يدق وتدا هناك قرب الترعة ، فيكون حجته ، والصباح يفضح أسرارالليل، وتتأكدون من صدق نيتي وحسن طويتي ،فمن منكم يفعلها يا جماعة ؟
يقوم أحدهم معروف بمغامراته الليلية ، يلف جسده في برنوسه الأسود ، يقصد الترعة ،في يده اليمنى وتد وفي اليسرى مطرقة ، ويبتلعه الظلام تحت التصفيقات !
يتسلل بحدر شديد ، وخشخشة الأعشاب اليابسة تحت قدميه تشده شدا ، يراوده خوف ورعب ،قرب الترعة ، يدق الوتد ، تردد ضفاف النهر صدى طقطقة المطرقة ممزوجا بنقيق متعب ، ورفرفة أجنحة تائهة في متاهات العتمة ،ينفلت منه قلبه ،يتحول جهة اليمين ،تصبح دقاته واضحة مسموعة ، بين كتفيه دلدل منفوش الأشواك ، يتصبب منه العرق باردا ، يقاوم خوفه من وحشة المكان ، يتذكر الجماعة تنتظره ، يستمر في دق الوتد ، يتحسسه في الظلام ، يكاد يختفي في الأرض !
يحمدل و يهم بتقصي حقيقة الأظلاف الغريبة على ضوء القمر ، يشعر بشيء ما يشده من تلابيبه ، يحاول الإفلات : يصرخ ، يستغيث ، تضيع صرخاته بين سويقات السمار تحف امتداد النهر ،يمعن ذلك الشيء ، في شده بقوة، يتعثر ،يسقط، يتخلص من برنوسه ، ويفلت من مصيدته الملعونة ، يسابق الريح ، يعانق الفراغ الموحش : يعدو ،يعدو،يعدو، تتساوى أمام قدميه كل الأشياء : حجرها وشجرها ،يسمع لهاثه من بعيد !
- اتركوه يا قوم يلتقط أنفاسه ، ويحكي لنا ما شاهد قرب هذه الترعة !
يبتلع ريقه بصعوبة ،يلملم حروفه ، تتشظى على المسامع:
-يا جماعة !صدق الأعرج هذه المرة ،شيء ما شدني إليه، قاومته بكل قوتي ، تمكن مني و سرق مني برنوسي الأسود ، وإذا لم تصدقوني فالترعة أمامكم ، لتقفوا على صدق الأعرج وصحة كلامي !
في حيرة يشوبها خوف شديد، يتبادلون النظرات يصيح كبير هم بصوت لا يخلو من ريبة وشك :
-ما رأيكم يا جماعة ؟ عندما يلامس ضوء الفجر المكان ، نقصده جميعا ، أما الآن فإلى بيوتكم ، فالمغامرة تحت جنح الليل غير محسوبة العواقب !
تنبسط أسارير الأعرج ، ويشجع هذا الرأي بحماس زائد :
- عين العقل يا جماعة ! ملوك العالم السفلي يلوذون بمعازلهم الخفية قبل بزوغ الطلائع الأولى للنور ، ولا داعي للتسرع !
تتوارى الجماعة خلف ستائر الليل ، تبتلع البيوت الطينية أنفارها ،يحملون في أذهانهم ألف صورة وسؤال لما سمعوا !
يعرج الأعرج على الترعة ، يتفحص المكان ، تحت ضوء القمر المنعكس على صفحة ماء النهر ، يغوص في نوبة ضحك أحمق ، هستيرية :
- يا للعجب ! يا له من جبان أرعن ،الوتد مدقوق في الطرف السفلي من البرنوس ،لم يكن ذلك الشيء إلا هذا البرنوس الجميل ،الذي يليق فقط بي وبأمثالي !
يحرره من الوتد ، يفتح الترعة ، يوجه الماء إلى حقله ، ترتوي سنابله حتى التخمة ، يعيد إغلاقها من جديد !
قبيل انبلاج الفجر ، يقصد القريون الترعة ، يبحثون عن الوتد والبرنوس وآثار الأظلاف الغريبة :
-لا وتد ولا برنوس ، ولا أظلاف ، يا جماعة ، صدق الأعرج هذه المرة !
يتملكهم هاجس ملوك العالم السفلي ، يعدون أنفسهم بأن لا يقربوا النهر ليلا ، أن يحترموا أسرار سكانه!
تصفو الأجواء للأعرج ، يستحوذ على ماء النهر ،يروي حقله ليلا ،و نهارا !
تصفرسنابل حقول القرية وتذبل ٠٠ تخضرسنابل حقل الأعرج وتينع ، يتساءلون عن السبب ،تأكلهم الحيرة ، يتداولون في أمرهم :
- الأعرج تقي ٠٠ ورع ٠٠ رجل بركات٠٠ صاحب معجزات !
الثلاثاء ٢٤يناير٢٠١٧
صالح هشام / المغرب
بقلم الاستاذ ٠٠٠صالح هشام !
مويجات النهرواهنة ، تتكسر ،عند مخرج الترعة ،تتشظى على كتل الوحل اليابسة ، يجرى الماء ثقيلا ، بطيئا ، مملا ، أشعة بنفسجية حارقة تمتص منه الرطوبة ٠٠ ،يصيب مصارينه اجتفاف مميت ، تتشقق شفاه تنبت في وجوه صفراء مجعدة ،تترهل البطون ، تشكو من الجوع، ترتخي حبال الصراصير الصوتية : تعزف عن العزف ،تقرمش الشمس الديدان والحشرات ، تهاجر أسراب الطيور نحو الشمال :
جاف هذا العام ،يجلد جلودا قمحية باهتة ، يضمر الضرع ، يصفر الزرع ، تختنق حبيبات الحمص في أغشيتها ، جفاف مميت ، قاتل ،ما عرفوا مثله منذ سنين !
يمصمص الأعرج فاهه ،يمعن في المصمصة ،يتلمظ سقف حنكه يتذكر ،أنه نسي طقم أسنانه في الترعة قرب الناعورة ، يهرول بإيقاع موسيقي مرتب :
نقطة٠٠ فاصلة٠٠نقطة٠٠ فاصلة ٠٠نقطة ٠٠فاصلة !
يمعن في الهرولة ، تتسارع خطواته :
حبة فوق ٠٠حبة تحت ٠٠حبة فوق ٠٠ حبة تحت٠٠!
إيقاع يطربه ،ينتشي به ، فيبالغ في الهرولة !
ساقه اليمنى تتحمل كل ثقل جسده : تلوح عروقها نافرة منتفخة خضراء ، يشكو دوما من ألم داء الملوك ٠
ساقه اليسرى قصيرة ، لا تكاد تلامس رمال النهر:
تبدو نحيلة مترهلة تحت الركبة ، لذلك يعرف بينهم :
بالأعرج /الأعسر !
يسند ظهره سار خشبي قديم : دعامة ناعورة مهجورة عند مصب النهر ، كانت توزع دلاء الماء دلوا دلوا بالعدل بين الحقول في زمن مضى !
يلصق رأسه بالسماء ، كالمصلوب ،تكاد رقبته تكسر، يطارد بنظراته الزائغة سحبا مندوفة ،تعبر الفراغ دون أن تتوقف، تتلاشى تماما، وعيناه باهتتان تدوران في محجريهما ،تغشاهما حمرة حنق ويأس :
- يا ربي ! الوحل يكتم أنفاس نهرك ، أعشابك تيبس يوما بعد يوم ، الخف والظلف ينفق ، أسراب الغربان تنعق في أمعاء أولادي الخاوية ٠ كل شيء يشي بمحنة قادمة ! رحمتك يا رب ! اسق بهيمتك ، أرو أرضك العطشى ، فقد طفح الكيل!
فجأة توشوش له يرقة جشعة من يرقات تفكيره :
-يا أعرج ماء نهر ميت ، موحل ، لن يروي غيرعطش حقلك ،فالماء ماؤك وحدك ، خذه بمكرك ، بشطارتك ،لن تكون سارقا :هذه سرقة غائبة عن عقول هؤلاء الحمقى الصدئة !
لكن كيف ؟ أأفقد ساقي اليمنى أيضا ؟فسرقة الماء من النهر ، كلفتني في مامضي بقرة حمراء كبيرة عقابا لي ،وبضع سنتيمات من ساقي اليسرى : هوى علي أحد مجانين هذه القرية الملعونة بساطوره فأفلت من الموت بأعجوبة ! و هذه المرة ستنكسر الجرة ، هؤلاء البلداء لن يكتفوا ببقرة حمراء ، فقد يحكمون برجمي حتى الموت ،فيضيع حقلي ويموت نسلي جوعا في مكان الشؤم هذا ٠٠
- اسق حقلك ليلا و نهارا ،امسح تلافيف مخك، من الصدأ و اخترع أي حيلة ، إنك صاحب حيل يا أعرج !
يترك ساري الناعورة ، يضع قدميه في الما ء ،تعلق بهما حبيبات زبد خجول ،تتشظى فقاعات قزحية ، تنفجر و تتلاشى ، وتجف !
يتف ، يتأفف ، ينفت غضبه على هذا النهر الذي أصابه العقم ، يرميه بالحجر، يسحق تحت قدميه بقايا أصداف قذفها موجه ذات خروج عن السرير ٠
يحشر قدميه في النعل ، يقفل عائدا و في نفسه ، و في نفسه ، ما تبقى من أنفاس النهر المتقطعة ٠ يجب أن يقهر الجوع ويطرده من بيته، ويعيد البسمة لأبنائه الجياع !
ثمة حشود من القرويين : يتحلقون حول نارباهتة يراودها النعاس من حين لآخر ، يوقظها أحدهم بعود يابس ٠
يسلم الأعرج ، يبوس ظاهر اليد والراحة بأدب مفتعل ، يقعى أمامهم كالكلب :
-خيرا يا جماعة الخير،ألا تشركوني همومكم ؟ ألست منكم ؟فقد يوجد في البر ما لا يوجد في البحر يا ناس ؟
- يا أعرج !يشغلنا توزيع ما تبقى من لعاب هذا النهرالميت ، فالحقول تكاد تختنق ،نريد تخفيف حر عطش الأرض التي تحترق ،نفد الماء و لم يعد يتجاوزمخرج الترعة !
-النهر ؟ حكايته حكاية ! أخافه حتى الموت ،وأحترمه ، منذ رأيت أمرا عجيبا٠٠ غريبا، سمعته فقط في خرافات الأجداد ،ما رأيته لن يتصوره عقل عاقل يا جماعة !
- يقترب منه أحدهم يكاد يلامس حبة أذنه :
-لقد شوقتنا وأخفتنا يا أعرج !ماذا رأيت هناك بالله عليك ؟
يتف الأعرج ،يبصق هنا، هناك،تنفلت من متاهات خيشومه كلمات مبهمة تخرج مع زفيره :
- هه ! آثار أظلاف كبيرة مرسومة على رمال هذا النهر ، لا هي للإبل ، ولاهي للمعاعز ولاهي للأبقار : إنها أشبه بأظلاف فيلة كبيرة ، أو آثار أسراب من النعام ، والله يعلم لمن تكون !
يقهقه آخر ساخرا ، يكاد يستلقي على قفاه :
- يا بليد ، يا معتوه ! أي خبر سيأتيك به هذا الأعرج غير النكد والنحس ، ألم يقل أجدادنا :(لا يقرع ولا يعرج إلا البلاء المسلط ) ! فهل رأيتم في أرضنا فيلة أو نعاما ؟
يتبادلون وشوشات الحيرة والاستغراب :
- هذه خرافات قديمة ،أكذوبة من أكاذيبك المعهودة يا أعرج !
-يا جماعة ،إذا لم تصدقوني ، فالترعة تأتيكم بالخبر اليقين !
مسح كبيرهم على شاربيه المعقوفتين وصاح فيهم :
- من منكم يأتينا بخبرهذه الأظلاف الغريبة ؟
لكن كيف يتبث لنا وصوله الى الترعة في هذا الليل ؟
تنفرج شفتا الأعرج عن ابتسامة عريضة ماكرة :
- الأمر بسيط ، يدق وتدا هناك قرب الترعة ، فيكون حجته ، والصباح يفضح أسرارالليل، وتتأكدون من صدق نيتي وحسن طويتي ،فمن منكم يفعلها يا جماعة ؟
يقوم أحدهم معروف بمغامراته الليلية ، يلف جسده في برنوسه الأسود ، يقصد الترعة ،في يده اليمنى وتد وفي اليسرى مطرقة ، ويبتلعه الظلام تحت التصفيقات !
يتسلل بحدر شديد ، وخشخشة الأعشاب اليابسة تحت قدميه تشده شدا ، يراوده خوف ورعب ،قرب الترعة ، يدق الوتد ، تردد ضفاف النهر صدى طقطقة المطرقة ممزوجا بنقيق متعب ، ورفرفة أجنحة تائهة في متاهات العتمة ،ينفلت منه قلبه ،يتحول جهة اليمين ،تصبح دقاته واضحة مسموعة ، بين كتفيه دلدل منفوش الأشواك ، يتصبب منه العرق باردا ، يقاوم خوفه من وحشة المكان ، يتذكر الجماعة تنتظره ، يستمر في دق الوتد ، يتحسسه في الظلام ، يكاد يختفي في الأرض !
يحمدل و يهم بتقصي حقيقة الأظلاف الغريبة على ضوء القمر ، يشعر بشيء ما يشده من تلابيبه ، يحاول الإفلات : يصرخ ، يستغيث ، تضيع صرخاته بين سويقات السمار تحف امتداد النهر ،يمعن ذلك الشيء ، في شده بقوة، يتعثر ،يسقط، يتخلص من برنوسه ، ويفلت من مصيدته الملعونة ، يسابق الريح ، يعانق الفراغ الموحش : يعدو ،يعدو،يعدو، تتساوى أمام قدميه كل الأشياء : حجرها وشجرها ،يسمع لهاثه من بعيد !
- اتركوه يا قوم يلتقط أنفاسه ، ويحكي لنا ما شاهد قرب هذه الترعة !
يبتلع ريقه بصعوبة ،يلملم حروفه ، تتشظى على المسامع:
-يا جماعة !صدق الأعرج هذه المرة ،شيء ما شدني إليه، قاومته بكل قوتي ، تمكن مني و سرق مني برنوسي الأسود ، وإذا لم تصدقوني فالترعة أمامكم ، لتقفوا على صدق الأعرج وصحة كلامي !
في حيرة يشوبها خوف شديد، يتبادلون النظرات يصيح كبير هم بصوت لا يخلو من ريبة وشك :
-ما رأيكم يا جماعة ؟ عندما يلامس ضوء الفجر المكان ، نقصده جميعا ، أما الآن فإلى بيوتكم ، فالمغامرة تحت جنح الليل غير محسوبة العواقب !
تنبسط أسارير الأعرج ، ويشجع هذا الرأي بحماس زائد :
- عين العقل يا جماعة ! ملوك العالم السفلي يلوذون بمعازلهم الخفية قبل بزوغ الطلائع الأولى للنور ، ولا داعي للتسرع !
تتوارى الجماعة خلف ستائر الليل ، تبتلع البيوت الطينية أنفارها ،يحملون في أذهانهم ألف صورة وسؤال لما سمعوا !
يعرج الأعرج على الترعة ، يتفحص المكان ، تحت ضوء القمر المنعكس على صفحة ماء النهر ، يغوص في نوبة ضحك أحمق ، هستيرية :
- يا للعجب ! يا له من جبان أرعن ،الوتد مدقوق في الطرف السفلي من البرنوس ،لم يكن ذلك الشيء إلا هذا البرنوس الجميل ،الذي يليق فقط بي وبأمثالي !
يحرره من الوتد ، يفتح الترعة ، يوجه الماء إلى حقله ، ترتوي سنابله حتى التخمة ، يعيد إغلاقها من جديد !
قبيل انبلاج الفجر ، يقصد القريون الترعة ، يبحثون عن الوتد والبرنوس وآثار الأظلاف الغريبة :
-لا وتد ولا برنوس ، ولا أظلاف ، يا جماعة ، صدق الأعرج هذه المرة !
يتملكهم هاجس ملوك العالم السفلي ، يعدون أنفسهم بأن لا يقربوا النهر ليلا ، أن يحترموا أسرار سكانه!
تصفو الأجواء للأعرج ، يستحوذ على ماء النهر ،يروي حقله ليلا ،و نهارا !
تصفرسنابل حقول القرية وتذبل ٠٠ تخضرسنابل حقل الأعرج وتينع ، يتساءلون عن السبب ،تأكلهم الحيرة ، يتداولون في أمرهم :
- الأعرج تقي ٠٠ ورع ٠٠ رجل بركات٠٠ صاحب معجزات !
الثلاثاء ٢٤يناير٢٠١٧
صالح هشام / المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق