حية القمامة/قصة قصيرة !
بقلم الاستاذ : صالح هشا م !
يجن الليل ، يتسع بؤبؤ عين القمر ،تتكسر أليافه الزجاجية ، فوق حاوية القمامة القابعة هناك في رأس الدرب ، تنعكس شظاياها فوق عيون القطط و الكلاب ، فتبرق بريق البرق ، تحت مصباح مشنوق في أعلى عمود النور كإجاصة !
تعزف الصراصير معزوفة غربة الليل ، إيقاعها فوضوي غير مرتب .. تزيد من نشازه ،حرب القواطع والأنياب ، إذ يختلط الهرير بالمواء ، والأنين بالهسيس المكتوم !
فجأة تسكن الحركة ، يتحرك السكون !
قرب حاوية القمامة :خخخخ ٠٠ففففف٠٠شششش ٠٠خخخخ٠٠فففف ٠٠ششش !
صوت غريب ،عجيب ، مريب ، يعقبه صراخ مخنوق لكلب او لقط أو لبعض القوارض .
خأخأة ٠٠٠ فأفأة ٠٠ شأشأة ٠٠ !
أصوات تشي بابتلاع شيء ، شيئا آخر ، أصوات أشبه بشخير الميت ،أو زفير المحموم ، لا أحد يدرك حقيقتها ! ربما لا شخير ٠٠ ولا زفير٠٠ ولا أي شيء ،فقط محاكاة فقيرة ضحلة ،من مخيلات أتعبها الخوف ،لم تعد مسامعها تميز بين الأصوات !
تعم الفوضى أعشاش العصافير ،استنفاركبير بين الأحياء والأحياء !
تتحول [تفلت *] مدينة أشباح ٠٠ مدينة أرواح قادمة من الزمن الغابر ، اعتقاد يخنق فيهم شرنقة تفكيك شفرات هذا الصوت العجيب، و صورة المكان في هذا الوقت الذي يكتم أنفاس الناس !
يسد الليل عينا ،يفتح أخرى ،يتظاهر بالنوم ، يفك عقال مخلوقاته ،تهيم الهوام ،يرقص الملوك رقصة الانعتاق والحرية ، تصيخ حيطان [ تفلت* ] السمع ، وتجحظ عشرات العيون من الشقوق ،مرعوبة ، تقتفي أثر هذه [الخأخأة والفأفأة والشأشأة ] في نسيمات باردة ، متسللة عبرالثقوب !
حاوية القمامة : سر الأسرار ، عالم مبهم، غامض ،لا أحد يجرؤ على كشف خفيه! سر هامحفوظ ،ربما تحرسه قوى العوالم السفلية ، ومن يعلن التحدي و يركب عناده : دمه يباح ، للأشباح ، يهدر بين الأرواح الهائمة :
حتما : مفقود ٠٠مفقود٠٠مفقود ٠٠ أبدا لن يعود !
مد الرقبة خارج العتبة : مغامرة تكسر الأضلاع ، تمزق الأوصال ، غير محسوبة العواقب : انتهاك لحرمة معزل من معازل أهل المكان الخفية !
تلتحم أجساد بأجساد حد الحلول ، ترقص رقصة الأفاعي ، تمتص من بعضها البعض برودة الخوف من غرابة أصوات مريبة ،تحل محل النباح والهرير !
بمقدم أولى طلائع النور : تمد الأعناق خارج الأبواب بحذر شديد وتوجس ، يقصد سكان الحي ، حاوية القمامة ،يتفحصون المكان ، مسرح جريمة غامضة : لا قاتل ..لا مقتول ..لاشيء ..لاشيء .. فقط سائل لزج بلون المشيمة أومخاط المسلول ، يعم المكان ، وبعض آثار مرسومة على التراب ،شبيهة بحراشف السمك .. ريش طيور ... عظيمات هنا ، هناك ...وأشياء أخرى لم يميزوها ، الجريمة حاصلة لا محالة ، لكن : من المجرم ؟ وأين الضحية ؟ من القاتل ؟ وأين القتيل ؟
لا حديث عن شيء ،غير الزفير والشخيركل ليلة ،أحاديث ساخنة، تجد مرتعا خصبا في المقاهي ،إذ تفتح المخيلات للتخيل وأسطرة هذا الحدث المبهم ، الكل منشغل بالحديث عن الحدث !
أسئلة عريضة تخنق فيهم الرغبة في التفكير :
لماذا تتقلص أعداد القطط و الكلاب ؟
لماذا توشك أن تنقرض القوارض ؟
لماذا هذا الشخير والزفير كل ليلة ؟
لماذا الآثار الشبيهة بالحراشف ؟
يضع النادل براد الشاي أمام رواد المقهى و يقول ببلادة :
- إنها عروس البحر ،تأكل قططكم وكلابكم !
يعب أحدهم كوب الشاي دفعة واحدة ، ساخرا من النادل:
- هههههه ! أعروس البحر تأكل القطط والكلاب؟
-لكن قلتم هناك آثار حراشف ؟
-ومن أين ستأتي عروس البحر يا عريض القفا ههههههه ؟
يحدجه آخر بنظرة استهزاء وشماتة :
-هه إنه يدمن على قراءة (مجلة سيدتي ) !
يغوص الجميع في هستيريا الضحك، تطقطق مؤخراتهم كراسي المقهى القديمة تحدث صريرا مزعجا أحيانا :
ينسحب النادل متأففا، تمطره ضحكات السخرية ؟
-يا جماعة !هذه حراشف حية ،لا عروس البحر ، ولا عروس النهر ولا عروس البر،هي فقط التي لا تترك أثرا لجريمتها !
يضع أحدهم الكأس فوق المائدة بقوة وانفعال :
-هي قوة خفية يهابها الإنسان ،منذ عهد الكنعانيين!
يعلق آخر بثقة معرفية زائدة :
-ولكنها تزين هامة الآلهة و رؤوس الملوك وهي رمز للذكاء والقوة منذ عهد الفراعنة ، إنها الحية السياسية ! ما كنا لنموت لولاها ! ألم تسرق الخلود من آدم؟ ألم تسرق عشبته من جلجامش،أليست هي شيطان الخطيئة : خطيئة الشجرة المحرمة؟ عداؤنا لها أبدي وسيستمر مدى الدهر !
-يا جماعة ! هي سم قاتل، وقتلها و اجب و لو على قبر النبي! اقتلوها بلا رحمة ٠٠الحية، الحية رأس الحية ٠٠ إنها قاتل صامت لا يحدث غبارا !
وما دامت كذلك ، لماذا لا نتربص بها هذه الليلة ، ونتغذى بها قبل أن تتعشى بأطفالنا بين أحضان أمهاتهم عندما ينتهي آخر كلب أو قط أو فأر ؟
يسود صمت ثقيل ، يتبادلون نظرات تائهة بين القبول الرفض !
ينبري أحدهم متبرئا من هذا الرأي ويعتبره انتحارا :
-هذا رأي غير محمود العواقب :يا أصدقائي ،عظامي رخوة ، لا تحتمل العصر ، وهذه الحية لا تقتل ضحيتها إلا خنقا أوعصرا ، وديننا ينصحنا بأن لا ندفع أنفسنا إلى التهلكة !
بعد تردد كبير يصيح آخر :
-ولا أنا يا إخواني !
لست مستعدا لأن أضحي بنفسي لي أطفال صغار أعولهم ، وأنا لست [سميح الشجاع ] دعوني أروي لكم حكايته !
تعم جلبة ممزوجة بصرير الكراسي الملتصقة بالمؤخرات :
-يا هذا ! والله لقد شوقتنا ،من هو (سميح )؟ من هو هذا الشجاع ؟
- هاتوني آذانكم ، وبعد ذلك لكم قرار خوض المغامرة !
في زمن غابر ، في مكان ما في أرض الشام ، بين سوريا والعراق ،كانت حية عظيمة ،ذات رؤوس سبعة كل رأس أشبه برأس التنين الصيني أو رأس العنقاء ،تنفخ من جوفها نارا فتحرق الأخضر واليابس ، تستوطن مغارة سحرية ، كبيرة ، كثيرة المتاهات والأبواب ، تلتهم كل من يقترب منها في مضغة واحدة ، من حجيج وعابري سبيل هروبا من حر الشمس ، وقر البرد ٠
سمع سميح بأمر هذه الحية ،وكان شابا ،جميلا ، خلوقا ، شجاعا ، يهابه ملوك الجن الأخضر، ويحترمه بنو قومه ،يقرر ببسالة : أن يستأصل شرها ويحد من سطوتها بحد سيفه !
يفتحون أفواههم في دهشة واستغراب وتجحظ عيونهم ، تكاد تنط من المحاجر:
- وماذا بعد يا هذا ؟ أكمل قصتك ، تهمنا النهاية لا البداية فالأمور ، دوما بعواقبها تذكر٠٠ دوما بخواتمها تعتبر !
-لا تكونوا في عجلة من أمركم يا سادة :
حمل سميح الشجاع ، رمحا قديما ، وسيفا ، وامتطى صهوة حصان أعجف، نحيف ، وقصد بلاد الشام ، لمقارعة الحية ذات الرؤوس السبعة ، بعد مسيرة نصف العام ، مشيا على الأقدام ، يصل سميح ، ويخوض المعركة : يستمد قوته من عزمه وعزيمته ،يقطع رأسا ، فتنبت مكانها رأس أخرى ، أكثر قوة ومكرا وضراوة !
ظل يحاربها سبعة أيام ٠٠سبعة شهور٠٠ سبعة أعوام ٠٠سبعة قرون ٠٠ الدهر كله ٠٠ لا أدري !ربما لازال [سميح الشجاع ] يقطع الرؤوس ، والرؤوس تنبت ، وتنمو كخلايا السرطان !
-هذه أحاديث كتب صفراء قديمة ،حتما :حيتنا برأس واحدة ، ما أكثركم رعونة و جبنا يا جماعة !
دون [سرفنتيس ] حارب الرمال ٠٠ حارب طواحين الهواء ، برمح صدئ مهتريء ، و مطية جوعى ، يريد تغيير صورة العالم ، وأنتم عاجزون عن محاربة حنش صغير ،يبتلع قططكم وكلابكم كل يوم ،و هو في طريقه لاعتصار صغاركم٠ ولم لا ؟ فقد يأتي الدورعليكم أنتم أيضا ،يا كبارنا !
يصيح آخر وهو يغوص في أريكة جلدية حتى الكتفين :
-ومن قال لك بأنها برأس واحدة ؟ فقد تكون بسبعة رؤوس ،فهل توفق [سميح الشجاع ] في استئصال شر هذه الحية السباعية ؟
وهل نجح دون كيشوت في تغيير صورة العالم ؟
لا هذا ، ولا ذاك نجح، إنها مجرد أحلام ومحاولات !
بصوت جهوري، قوي ،ينم عن شجاعة صاحبه :
-هؤلاء ، حاولوا ،سواء نجحوا أو فشلوا ، فهم دائما ناجحون ، لأنهم حاولوا !
أنا متأكد بأن حيتكم مجرد حنش صغير، لا يرقى الى مراتب الحيات الكبيرة ،قد يكون تسلل في شحنة أخشاب يابسة ، قادمة من جبال [ أزرو* ] إلى فرن أحياء المدينة ، ربما لم ينتبه له سائق الشاحنة ولا مساعده !
فماذا قررتم يا جماعة الرجال ؟
أنقتل هذه الحية أم نتركها حرة ،تعيث فسادا في البلاد و العباد ،أ ننتظر حتى تقتلنا وتفتك بالخف والظلف و تدمر السلالة ؟
يتبادلون نظرات حائرة متوجسة ، لا تعرف ما تقدم و ما تؤخر ٠وكان النادل لتوه ، بدأ يجمع الكراسي والموائد ، ويستعد للإغلاق !
يقررون في عجالة وهم يهمون بإخلاء المقهى :
-سنخوض الحرب ضد هذه الحية الملعونة ، لكن ، بعدما نعرف عدد رؤوسها ، وطبيعة هذه الرؤوس ، ربما تكون عصابة من تنانين صينية تنفث نارا فتحرقنا جميعا ، و نتأكد من صلابة سيوفنا ورماحنا ، ومدى قدراتنا ،حتى لا نخسر المعركة !
ويستمر الشخير والزفير يحبسان الأنفاس !
وتستمرمحنة الكلاب والقطط والقوارض!
ويستمر الخوف والرعب يعم كل الدروب !
وتظل الحية حية تحيى بينهم ،والمعصور أطفال صغارفي الزمن القادم، وفي
القريب ،القريب جدا ، سيأتي الدور على الكبار لا محالة ، لا أحد يستعصي عن عضلاتها ٠٠ لا أحد يفلت من بين فكيها !
وتظل الحية بينهم حية !
____للتوضيح ____
[تفلت *]: مدينة صغيرة في شرق الرباط٠
[ أزرو*] : من أجمل مدن الاطلس قرب افران ٠
بقلم الاستاذ صالح هشام
الاحد 29 يناير 2017
بقلم الاستاذ : صالح هشا م !
يجن الليل ، يتسع بؤبؤ عين القمر ،تتكسر أليافه الزجاجية ، فوق حاوية القمامة القابعة هناك في رأس الدرب ، تنعكس شظاياها فوق عيون القطط و الكلاب ، فتبرق بريق البرق ، تحت مصباح مشنوق في أعلى عمود النور كإجاصة !
تعزف الصراصير معزوفة غربة الليل ، إيقاعها فوضوي غير مرتب .. تزيد من نشازه ،حرب القواطع والأنياب ، إذ يختلط الهرير بالمواء ، والأنين بالهسيس المكتوم !
فجأة تسكن الحركة ، يتحرك السكون !
قرب حاوية القمامة :خخخخ ٠٠ففففف٠٠شششش ٠٠خخخخ٠٠فففف ٠٠ششش !
صوت غريب ،عجيب ، مريب ، يعقبه صراخ مخنوق لكلب او لقط أو لبعض القوارض .
خأخأة ٠٠٠ فأفأة ٠٠ شأشأة ٠٠ !
أصوات تشي بابتلاع شيء ، شيئا آخر ، أصوات أشبه بشخير الميت ،أو زفير المحموم ، لا أحد يدرك حقيقتها ! ربما لا شخير ٠٠ ولا زفير٠٠ ولا أي شيء ،فقط محاكاة فقيرة ضحلة ،من مخيلات أتعبها الخوف ،لم تعد مسامعها تميز بين الأصوات !
تعم الفوضى أعشاش العصافير ،استنفاركبير بين الأحياء والأحياء !
تتحول [تفلت *] مدينة أشباح ٠٠ مدينة أرواح قادمة من الزمن الغابر ، اعتقاد يخنق فيهم شرنقة تفكيك شفرات هذا الصوت العجيب، و صورة المكان في هذا الوقت الذي يكتم أنفاس الناس !
يسد الليل عينا ،يفتح أخرى ،يتظاهر بالنوم ، يفك عقال مخلوقاته ،تهيم الهوام ،يرقص الملوك رقصة الانعتاق والحرية ، تصيخ حيطان [ تفلت* ] السمع ، وتجحظ عشرات العيون من الشقوق ،مرعوبة ، تقتفي أثر هذه [الخأخأة والفأفأة والشأشأة ] في نسيمات باردة ، متسللة عبرالثقوب !
حاوية القمامة : سر الأسرار ، عالم مبهم، غامض ،لا أحد يجرؤ على كشف خفيه! سر هامحفوظ ،ربما تحرسه قوى العوالم السفلية ، ومن يعلن التحدي و يركب عناده : دمه يباح ، للأشباح ، يهدر بين الأرواح الهائمة :
حتما : مفقود ٠٠مفقود٠٠مفقود ٠٠ أبدا لن يعود !
مد الرقبة خارج العتبة : مغامرة تكسر الأضلاع ، تمزق الأوصال ، غير محسوبة العواقب : انتهاك لحرمة معزل من معازل أهل المكان الخفية !
تلتحم أجساد بأجساد حد الحلول ، ترقص رقصة الأفاعي ، تمتص من بعضها البعض برودة الخوف من غرابة أصوات مريبة ،تحل محل النباح والهرير !
بمقدم أولى طلائع النور : تمد الأعناق خارج الأبواب بحذر شديد وتوجس ، يقصد سكان الحي ، حاوية القمامة ،يتفحصون المكان ، مسرح جريمة غامضة : لا قاتل ..لا مقتول ..لاشيء ..لاشيء .. فقط سائل لزج بلون المشيمة أومخاط المسلول ، يعم المكان ، وبعض آثار مرسومة على التراب ،شبيهة بحراشف السمك .. ريش طيور ... عظيمات هنا ، هناك ...وأشياء أخرى لم يميزوها ، الجريمة حاصلة لا محالة ، لكن : من المجرم ؟ وأين الضحية ؟ من القاتل ؟ وأين القتيل ؟
لا حديث عن شيء ،غير الزفير والشخيركل ليلة ،أحاديث ساخنة، تجد مرتعا خصبا في المقاهي ،إذ تفتح المخيلات للتخيل وأسطرة هذا الحدث المبهم ، الكل منشغل بالحديث عن الحدث !
أسئلة عريضة تخنق فيهم الرغبة في التفكير :
لماذا تتقلص أعداد القطط و الكلاب ؟
لماذا توشك أن تنقرض القوارض ؟
لماذا هذا الشخير والزفير كل ليلة ؟
لماذا الآثار الشبيهة بالحراشف ؟
يضع النادل براد الشاي أمام رواد المقهى و يقول ببلادة :
- إنها عروس البحر ،تأكل قططكم وكلابكم !
يعب أحدهم كوب الشاي دفعة واحدة ، ساخرا من النادل:
- هههههه ! أعروس البحر تأكل القطط والكلاب؟
-لكن قلتم هناك آثار حراشف ؟
-ومن أين ستأتي عروس البحر يا عريض القفا ههههههه ؟
يحدجه آخر بنظرة استهزاء وشماتة :
-هه إنه يدمن على قراءة (مجلة سيدتي ) !
يغوص الجميع في هستيريا الضحك، تطقطق مؤخراتهم كراسي المقهى القديمة تحدث صريرا مزعجا أحيانا :
ينسحب النادل متأففا، تمطره ضحكات السخرية ؟
-يا جماعة !هذه حراشف حية ،لا عروس البحر ، ولا عروس النهر ولا عروس البر،هي فقط التي لا تترك أثرا لجريمتها !
يضع أحدهم الكأس فوق المائدة بقوة وانفعال :
-هي قوة خفية يهابها الإنسان ،منذ عهد الكنعانيين!
يعلق آخر بثقة معرفية زائدة :
-ولكنها تزين هامة الآلهة و رؤوس الملوك وهي رمز للذكاء والقوة منذ عهد الفراعنة ، إنها الحية السياسية ! ما كنا لنموت لولاها ! ألم تسرق الخلود من آدم؟ ألم تسرق عشبته من جلجامش،أليست هي شيطان الخطيئة : خطيئة الشجرة المحرمة؟ عداؤنا لها أبدي وسيستمر مدى الدهر !
-يا جماعة ! هي سم قاتل، وقتلها و اجب و لو على قبر النبي! اقتلوها بلا رحمة ٠٠الحية، الحية رأس الحية ٠٠ إنها قاتل صامت لا يحدث غبارا !
وما دامت كذلك ، لماذا لا نتربص بها هذه الليلة ، ونتغذى بها قبل أن تتعشى بأطفالنا بين أحضان أمهاتهم عندما ينتهي آخر كلب أو قط أو فأر ؟
يسود صمت ثقيل ، يتبادلون نظرات تائهة بين القبول الرفض !
ينبري أحدهم متبرئا من هذا الرأي ويعتبره انتحارا :
-هذا رأي غير محمود العواقب :يا أصدقائي ،عظامي رخوة ، لا تحتمل العصر ، وهذه الحية لا تقتل ضحيتها إلا خنقا أوعصرا ، وديننا ينصحنا بأن لا ندفع أنفسنا إلى التهلكة !
بعد تردد كبير يصيح آخر :
-ولا أنا يا إخواني !
لست مستعدا لأن أضحي بنفسي لي أطفال صغار أعولهم ، وأنا لست [سميح الشجاع ] دعوني أروي لكم حكايته !
تعم جلبة ممزوجة بصرير الكراسي الملتصقة بالمؤخرات :
-يا هذا ! والله لقد شوقتنا ،من هو (سميح )؟ من هو هذا الشجاع ؟
- هاتوني آذانكم ، وبعد ذلك لكم قرار خوض المغامرة !
في زمن غابر ، في مكان ما في أرض الشام ، بين سوريا والعراق ،كانت حية عظيمة ،ذات رؤوس سبعة كل رأس أشبه برأس التنين الصيني أو رأس العنقاء ،تنفخ من جوفها نارا فتحرق الأخضر واليابس ، تستوطن مغارة سحرية ، كبيرة ، كثيرة المتاهات والأبواب ، تلتهم كل من يقترب منها في مضغة واحدة ، من حجيج وعابري سبيل هروبا من حر الشمس ، وقر البرد ٠
سمع سميح بأمر هذه الحية ،وكان شابا ،جميلا ، خلوقا ، شجاعا ، يهابه ملوك الجن الأخضر، ويحترمه بنو قومه ،يقرر ببسالة : أن يستأصل شرها ويحد من سطوتها بحد سيفه !
يفتحون أفواههم في دهشة واستغراب وتجحظ عيونهم ، تكاد تنط من المحاجر:
- وماذا بعد يا هذا ؟ أكمل قصتك ، تهمنا النهاية لا البداية فالأمور ، دوما بعواقبها تذكر٠٠ دوما بخواتمها تعتبر !
-لا تكونوا في عجلة من أمركم يا سادة :
حمل سميح الشجاع ، رمحا قديما ، وسيفا ، وامتطى صهوة حصان أعجف، نحيف ، وقصد بلاد الشام ، لمقارعة الحية ذات الرؤوس السبعة ، بعد مسيرة نصف العام ، مشيا على الأقدام ، يصل سميح ، ويخوض المعركة : يستمد قوته من عزمه وعزيمته ،يقطع رأسا ، فتنبت مكانها رأس أخرى ، أكثر قوة ومكرا وضراوة !
ظل يحاربها سبعة أيام ٠٠سبعة شهور٠٠ سبعة أعوام ٠٠سبعة قرون ٠٠ الدهر كله ٠٠ لا أدري !ربما لازال [سميح الشجاع ] يقطع الرؤوس ، والرؤوس تنبت ، وتنمو كخلايا السرطان !
-هذه أحاديث كتب صفراء قديمة ،حتما :حيتنا برأس واحدة ، ما أكثركم رعونة و جبنا يا جماعة !
دون [سرفنتيس ] حارب الرمال ٠٠ حارب طواحين الهواء ، برمح صدئ مهتريء ، و مطية جوعى ، يريد تغيير صورة العالم ، وأنتم عاجزون عن محاربة حنش صغير ،يبتلع قططكم وكلابكم كل يوم ،و هو في طريقه لاعتصار صغاركم٠ ولم لا ؟ فقد يأتي الدورعليكم أنتم أيضا ،يا كبارنا !
يصيح آخر وهو يغوص في أريكة جلدية حتى الكتفين :
-ومن قال لك بأنها برأس واحدة ؟ فقد تكون بسبعة رؤوس ،فهل توفق [سميح الشجاع ] في استئصال شر هذه الحية السباعية ؟
وهل نجح دون كيشوت في تغيير صورة العالم ؟
لا هذا ، ولا ذاك نجح، إنها مجرد أحلام ومحاولات !
بصوت جهوري، قوي ،ينم عن شجاعة صاحبه :
-هؤلاء ، حاولوا ،سواء نجحوا أو فشلوا ، فهم دائما ناجحون ، لأنهم حاولوا !
أنا متأكد بأن حيتكم مجرد حنش صغير، لا يرقى الى مراتب الحيات الكبيرة ،قد يكون تسلل في شحنة أخشاب يابسة ، قادمة من جبال [ أزرو* ] إلى فرن أحياء المدينة ، ربما لم ينتبه له سائق الشاحنة ولا مساعده !
فماذا قررتم يا جماعة الرجال ؟
أنقتل هذه الحية أم نتركها حرة ،تعيث فسادا في البلاد و العباد ،أ ننتظر حتى تقتلنا وتفتك بالخف والظلف و تدمر السلالة ؟
يتبادلون نظرات حائرة متوجسة ، لا تعرف ما تقدم و ما تؤخر ٠وكان النادل لتوه ، بدأ يجمع الكراسي والموائد ، ويستعد للإغلاق !
يقررون في عجالة وهم يهمون بإخلاء المقهى :
-سنخوض الحرب ضد هذه الحية الملعونة ، لكن ، بعدما نعرف عدد رؤوسها ، وطبيعة هذه الرؤوس ، ربما تكون عصابة من تنانين صينية تنفث نارا فتحرقنا جميعا ، و نتأكد من صلابة سيوفنا ورماحنا ، ومدى قدراتنا ،حتى لا نخسر المعركة !
ويستمر الشخير والزفير يحبسان الأنفاس !
وتستمرمحنة الكلاب والقطط والقوارض!
ويستمر الخوف والرعب يعم كل الدروب !
وتظل الحية حية تحيى بينهم ،والمعصور أطفال صغارفي الزمن القادم، وفي
القريب ،القريب جدا ، سيأتي الدور على الكبار لا محالة ، لا أحد يستعصي عن عضلاتها ٠٠ لا أحد يفلت من بين فكيها !
وتظل الحية بينهم حية !
____للتوضيح ____
[تفلت *]: مدينة صغيرة في شرق الرباط٠
[ أزرو*] : من أجمل مدن الاطلس قرب افران ٠
بقلم الاستاذ صالح هشام
الاحد 29 يناير 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق