الهجّاء
لوحة باهتة اللون، مؤطّرة بالذهول، نعش يحمله رجلان، تبدو عليهما علامات التذمّر، لا مشيّعين سوى جارية تعيسة، تلهث خلفهما، تولول عليه، المارة يتنحّون جانباً، ألسنتهم تنال منه، عيناي يطأهما الاستغراب، يد الفضول تدفعني، أندسّ بينهم، تجرفني رغبة جامحة للتساؤل:
- من قتله؟
- لسانه.
تلتفت الجارية، تنفض غبار الصمت:
- كنتم كحطابين تكاثروا على شجرة سامقة، مثمرة، لو كان حياً لما تطاولتم عليه.
- يرحمكِ الله، أيّ ثمر كان يحمله هذا الزنديق؟
تردّ على سخريتهم كما ردّ صاحبها بالأمس:
يُزري علينا رِجالٌ لا نِصابَ لَهُم ... کانُوا عِباداً وکنَّا غَيرَ عُبَّادِ
تنصرف غاضبة، محتجبة بالأسف والدموع عن لعنات تلاحق مثواه الأخير. أحدّق في اللوحة، يخرج من عتمتها رجل أعمى، ضخم الجسم، مجدور الوجه، حدقتا عينيه يغشاهما لحم أحمر، يتوكّأ على عصا لسانه، يسوق حاسة سمعه إلى مرافئ الجمال ومنار العشق، يتملكني الخوف، ألوذ بشجرة يابسة، يكوّر ذاكرته، يدحرجها، تدور، و تدور، و تدور، تقف على رصيف طفولته البائسة، طفولة منبثقة من رحم نابض بالألم والغربة، يعانق ظلّها، يفيق على سخرية وازدراء أقرانه، يزيح لثام الأمس؛ لا ضوء، ولا لعب ولا من يأخذ بيده، لا شيء سوى ظلام دامس؛ وفي لجة خوفي قرع سمعي صداه:
- سأنحت من أذني قنديلاً، وأصنع من لساني سيفاً؛ لأرتقي سلالم الوجود.
يحدّق في العتمة، يتحسّس مرارة عاهته، لم يرث سوى الفقر واليتم وتبرمه من الناس، يشهق بتساؤل موشّى بالشكوى:
- لِمَ تبعثرني الأقدار؛ فأتيه بين العتمة والوهم؟
يغادر عزلته بعدما أدركه استهزاء الآخرين، يتنفس قوافي الشعر، يمتطي صهوة الهجاء، يطارد أصواتاً تنعته بالقبيح، الأعمى، ابن الطيّان، وتطعنه في نسبه، حتى إذا ما قرعت شكوى الناس أذن أبيه، يضربه ضرباً شديداً:
- أما ترحم صبياً ضريراً؟ قالت أمه.
- بلى، ولكنّه يتعرّض للناس فيشكونه.
وكلّما أعادوا الشكوى كان يرد على استغراب أبيه:
- يا أبتِ، أما تعلم، أنّه (ليس علی الأعمى حَرَجٌ )؟
يركل ذاكرته؛ فإذا بها سوط يجلده، يوجعه:
- يا بنَ بردٍ إخسَأ إليك فمثلُ الـ ...ـکلب في الناس أنت لا الإنسان
يلوي ذراع الخيبة والإحباط، يعلو على أنين الجراح:
- لو عيّرني الأعدَاءُ والعيب فيهمُ ... وليس بعارٍ أن يُقال ضَريرُ
يلتفت نحوي، أجفل، ترتجف أوصالي، يبتسم:
- لا تخشَ شيئاً، فأنا لست قرداً أعمى كما قال اللئيم،
" رأيتُ العمَى أجراً وذخراً وعِصمة ... وإنّي إلی تلك الثلاث فقير "
- ولكن، لو صنت لسانك لما أدركك القتل.
- ومن قال إنّ لساني قتلني؟
- هكذا سمعتُ، أنك سليط اللسان، جسور على القول الجارح، الخادش للحياء.
- لا يا بني، لقد اغتالتني يد الأقدار؛ تفضل معي، سأروي ظمأ فضولك.
أفكر مع نفسي، أتساءل، أيّ رجل معتوه يتبع أعمى إلى متاهات الدروب؟. أكسر قيد الخوف، أطرق سمعه:
- لماذا اخترت الهجاء، حتى أصبحت عبداً له؟
- كي أخرج من دائرة الضياع، وأكون غيري.
يتشابك صمتنا، يتأوه، يخفق قلبه شوقاً لعُبيدَة، لتلك المرأة البصرية،
- ما الذي شدّك إليها، وأنت لم ترها؟
- صوتها، سمعتها تغني مرة؛ فتعلّق قلبي بها، قلت حين شفّني الوجد:
يا قومُ أذُني لبعضِ الحيِّ عاشقةٌ ... والأذنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيانَا
يثمله حنين الذكرى، يشدو كطير شائه:
- هَوَی صاحبي ريحُ الشَّمالِ إذا جَرَت ... وأهوى لقلبي أن تَهُبّ جَنُوبُ
وما ذاك إلّا أنّها حين تَنتَهي ............. تَناهَی وفيها من عُبيدَةَ طِيبُ
يرسو على مرفأ اللهو والغناء، يهتزّ طرباً:
اسقِنِي يَا بنَ أسعَدَا ... قَبلَ أن يَنزِلَ الرّدَی
بشربة تَذهِبُ الهُمُو...مَ وتَشفِي المُصَرَّدَا
يتّخذ الليل مركباً للّذة، يشرب ما تيسّر من خمرتها، يرتدي جلباب العبث، الشعر ينزف حرائق الهوى، يصير أغنية، والهمس أرجوحة لنبض القلب، يحتضنه الخدر على موسيقى ناعسة، وصوت يحلّق به إلى عوالم الحلم حتى انبلاج الفجر:
- لا تستغرب ما ترى؛ الخمرة تضيء العتمة، والنساء يسقينَ الروح ماء العشق؛ وما الحياة إلّا متعة ولا شيء بعدها.
- أ لا تخشى الموت؟
- لقد عشته مراراً.
كان يحلم بصرخة تُطفئ دموع احتضاره، يرسم وهج الأنا، يقرع أجراساً توسّدها النسيان، يحتسي وميض الشمع، يتدثّر بحرف يثير اضطراباً:
- الأرض مُظلمةٌ والنارُ مشرقةٌ ... والنارُ معبودةٌ مذْ كانت النارُ
المسافة الممتدّة بينه وبين الآخرين تترصّد آثار خطاه المرصّعة بالعبث، تمدّ عقيرتها، تتشكّل سيفاً قاطعاً:
- " أما لهذا الأعمى الملحد المُشنِّف الـمُكنَّى بأبي معاذ من يقتله؟ "
يسري به حتفه، يدخل عشّ الدبابير بنزق شعري عدائي، ينتابه خوف لم يعرفه من قبل لمّا رأى الشفاه تردّد أصداء صوته في حضرة الخليفة:
- خَليفةٌ يَزْني بعمّاتِهِ ... يَلْعَبُ بالدّبُّوقِ والصَّولجَانْ
يلزم غيبته، يلوذ بآخر كأس، يفيض قلقاً، يحلّق في فضاء أعماقه، يتلاشى،
" هي ذات العتمة، لا تأخذ منّي شيئاً، فلماذا يزورني القلق؟ "
يتنفس صدى أغنية، وهمس قينة، يغافل صحوه، يهرب إلى مرفأ الأماني، ينشد عبير الانعتاق، ينهل من نبع الرغبة نشوة الخلاص، يغرق في موج الهذيان، يصيبه الدوار، يتلمّس عريه، يرفع الآذان ضحى، يصحو على وقع غضب الخليفة:
- يا زنديق، أتلهو بالآذان في غير وقت الصلاة وأنت سكران؟
يُحمل على ظهر الجلاد، يطرح أرضاً، يلثم نهد الدهشة:
- أ تجلدون شيخاً تجاوز أبواب السبعين، ولم ير غير الظلمة؟
- وأنّى لك أن تهجو الخليفة؟
ترتسم على شفتيه ابتسامة لاذعة.
- يا لوقاحتك!
- ليس من حقكم مصادرة حزني ولساني.
ينهمك الحاضرون بالضحك، يبرق سوط الانتقام، يلهو بالجسد الواهن، يرسم خطوطاً حمراء متقاطعة، تتشكّل لوحة مدمّاة، مضمخة بالأنين واللوعة، حتى إذا ما بلغ العدّ سبعيناً، مات الشاعر من أثر الضرب المبرح.
أغمضُ عينيّ، أشهق أسفاً بعدما غاب أثر الجِنازة في عرض الصحراء.
لوحة باهتة اللون، مؤطّرة بالذهول، نعش يحمله رجلان، تبدو عليهما علامات التذمّر، لا مشيّعين سوى جارية تعيسة، تلهث خلفهما، تولول عليه، المارة يتنحّون جانباً، ألسنتهم تنال منه، عيناي يطأهما الاستغراب، يد الفضول تدفعني، أندسّ بينهم، تجرفني رغبة جامحة للتساؤل:
- من قتله؟
- لسانه.
تلتفت الجارية، تنفض غبار الصمت:
- كنتم كحطابين تكاثروا على شجرة سامقة، مثمرة، لو كان حياً لما تطاولتم عليه.
- يرحمكِ الله، أيّ ثمر كان يحمله هذا الزنديق؟
تردّ على سخريتهم كما ردّ صاحبها بالأمس:
يُزري علينا رِجالٌ لا نِصابَ لَهُم ... کانُوا عِباداً وکنَّا غَيرَ عُبَّادِ
تنصرف غاضبة، محتجبة بالأسف والدموع عن لعنات تلاحق مثواه الأخير. أحدّق في اللوحة، يخرج من عتمتها رجل أعمى، ضخم الجسم، مجدور الوجه، حدقتا عينيه يغشاهما لحم أحمر، يتوكّأ على عصا لسانه، يسوق حاسة سمعه إلى مرافئ الجمال ومنار العشق، يتملكني الخوف، ألوذ بشجرة يابسة، يكوّر ذاكرته، يدحرجها، تدور، و تدور، و تدور، تقف على رصيف طفولته البائسة، طفولة منبثقة من رحم نابض بالألم والغربة، يعانق ظلّها، يفيق على سخرية وازدراء أقرانه، يزيح لثام الأمس؛ لا ضوء، ولا لعب ولا من يأخذ بيده، لا شيء سوى ظلام دامس؛ وفي لجة خوفي قرع سمعي صداه:
- سأنحت من أذني قنديلاً، وأصنع من لساني سيفاً؛ لأرتقي سلالم الوجود.
يحدّق في العتمة، يتحسّس مرارة عاهته، لم يرث سوى الفقر واليتم وتبرمه من الناس، يشهق بتساؤل موشّى بالشكوى:
- لِمَ تبعثرني الأقدار؛ فأتيه بين العتمة والوهم؟
يغادر عزلته بعدما أدركه استهزاء الآخرين، يتنفس قوافي الشعر، يمتطي صهوة الهجاء، يطارد أصواتاً تنعته بالقبيح، الأعمى، ابن الطيّان، وتطعنه في نسبه، حتى إذا ما قرعت شكوى الناس أذن أبيه، يضربه ضرباً شديداً:
- أما ترحم صبياً ضريراً؟ قالت أمه.
- بلى، ولكنّه يتعرّض للناس فيشكونه.
وكلّما أعادوا الشكوى كان يرد على استغراب أبيه:
- يا أبتِ، أما تعلم، أنّه (ليس علی الأعمى حَرَجٌ )؟
يركل ذاكرته؛ فإذا بها سوط يجلده، يوجعه:
- يا بنَ بردٍ إخسَأ إليك فمثلُ الـ ...ـکلب في الناس أنت لا الإنسان
يلوي ذراع الخيبة والإحباط، يعلو على أنين الجراح:
- لو عيّرني الأعدَاءُ والعيب فيهمُ ... وليس بعارٍ أن يُقال ضَريرُ
يلتفت نحوي، أجفل، ترتجف أوصالي، يبتسم:
- لا تخشَ شيئاً، فأنا لست قرداً أعمى كما قال اللئيم،
" رأيتُ العمَى أجراً وذخراً وعِصمة ... وإنّي إلی تلك الثلاث فقير "
- ولكن، لو صنت لسانك لما أدركك القتل.
- ومن قال إنّ لساني قتلني؟
- هكذا سمعتُ، أنك سليط اللسان، جسور على القول الجارح، الخادش للحياء.
- لا يا بني، لقد اغتالتني يد الأقدار؛ تفضل معي، سأروي ظمأ فضولك.
أفكر مع نفسي، أتساءل، أيّ رجل معتوه يتبع أعمى إلى متاهات الدروب؟. أكسر قيد الخوف، أطرق سمعه:
- لماذا اخترت الهجاء، حتى أصبحت عبداً له؟
- كي أخرج من دائرة الضياع، وأكون غيري.
يتشابك صمتنا، يتأوه، يخفق قلبه شوقاً لعُبيدَة، لتلك المرأة البصرية،
- ما الذي شدّك إليها، وأنت لم ترها؟
- صوتها، سمعتها تغني مرة؛ فتعلّق قلبي بها، قلت حين شفّني الوجد:
يا قومُ أذُني لبعضِ الحيِّ عاشقةٌ ... والأذنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيانَا
يثمله حنين الذكرى، يشدو كطير شائه:
- هَوَی صاحبي ريحُ الشَّمالِ إذا جَرَت ... وأهوى لقلبي أن تَهُبّ جَنُوبُ
وما ذاك إلّا أنّها حين تَنتَهي ............. تَناهَی وفيها من عُبيدَةَ طِيبُ
يرسو على مرفأ اللهو والغناء، يهتزّ طرباً:
اسقِنِي يَا بنَ أسعَدَا ... قَبلَ أن يَنزِلَ الرّدَی
بشربة تَذهِبُ الهُمُو...مَ وتَشفِي المُصَرَّدَا
يتّخذ الليل مركباً للّذة، يشرب ما تيسّر من خمرتها، يرتدي جلباب العبث، الشعر ينزف حرائق الهوى، يصير أغنية، والهمس أرجوحة لنبض القلب، يحتضنه الخدر على موسيقى ناعسة، وصوت يحلّق به إلى عوالم الحلم حتى انبلاج الفجر:
- لا تستغرب ما ترى؛ الخمرة تضيء العتمة، والنساء يسقينَ الروح ماء العشق؛ وما الحياة إلّا متعة ولا شيء بعدها.
- أ لا تخشى الموت؟
- لقد عشته مراراً.
كان يحلم بصرخة تُطفئ دموع احتضاره، يرسم وهج الأنا، يقرع أجراساً توسّدها النسيان، يحتسي وميض الشمع، يتدثّر بحرف يثير اضطراباً:
- الأرض مُظلمةٌ والنارُ مشرقةٌ ... والنارُ معبودةٌ مذْ كانت النارُ
المسافة الممتدّة بينه وبين الآخرين تترصّد آثار خطاه المرصّعة بالعبث، تمدّ عقيرتها، تتشكّل سيفاً قاطعاً:
- " أما لهذا الأعمى الملحد المُشنِّف الـمُكنَّى بأبي معاذ من يقتله؟ "
يسري به حتفه، يدخل عشّ الدبابير بنزق شعري عدائي، ينتابه خوف لم يعرفه من قبل لمّا رأى الشفاه تردّد أصداء صوته في حضرة الخليفة:
- خَليفةٌ يَزْني بعمّاتِهِ ... يَلْعَبُ بالدّبُّوقِ والصَّولجَانْ
يلزم غيبته، يلوذ بآخر كأس، يفيض قلقاً، يحلّق في فضاء أعماقه، يتلاشى،
" هي ذات العتمة، لا تأخذ منّي شيئاً، فلماذا يزورني القلق؟ "
يتنفس صدى أغنية، وهمس قينة، يغافل صحوه، يهرب إلى مرفأ الأماني، ينشد عبير الانعتاق، ينهل من نبع الرغبة نشوة الخلاص، يغرق في موج الهذيان، يصيبه الدوار، يتلمّس عريه، يرفع الآذان ضحى، يصحو على وقع غضب الخليفة:
- يا زنديق، أتلهو بالآذان في غير وقت الصلاة وأنت سكران؟
يُحمل على ظهر الجلاد، يطرح أرضاً، يلثم نهد الدهشة:
- أ تجلدون شيخاً تجاوز أبواب السبعين، ولم ير غير الظلمة؟
- وأنّى لك أن تهجو الخليفة؟
ترتسم على شفتيه ابتسامة لاذعة.
- يا لوقاحتك!
- ليس من حقكم مصادرة حزني ولساني.
ينهمك الحاضرون بالضحك، يبرق سوط الانتقام، يلهو بالجسد الواهن، يرسم خطوطاً حمراء متقاطعة، تتشكّل لوحة مدمّاة، مضمخة بالأنين واللوعة، حتى إذا ما بلغ العدّ سبعيناً، مات الشاعر من أثر الضرب المبرح.
أغمضُ عينيّ، أشهق أسفاً بعدما غاب أثر الجِنازة في عرض الصحراء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق