لأنه لم يكن طائفياً
البارحة، زارني الطبيب كعادته ، وسأل عن صحتي ، وعن وجع الرأس الذي لازمني لعدة ايام. وكنت كمن هبط من علياءه، وبلا شعور، وجدتني استعيد صورة الطبيب في اول ظهور له عند باب البيت، ثم توالى ظهوره حتى هذه اللحظة، التي رأيت نفسي فيها، أشبه بطائفي، لي شكل وَلكْنَة طائفي قَبَليّ. ووجه لا يشبه وجهي ، تعلوه جبهة واسعة تتخللها خطوط متعرجة بعدد أفخاذ القبيلة . ويؤطره عقال سميك تنتصب على طول سطحه المكوَّر، شعيرات كثيفة بارزة ومبعثرة. فيبدو منفوشاً كذيل ابو عرس ، وكلما لامست خشمي، شعرتُ بخشونته وبحجمه يكبُر في كلِّ لحظة تَمر .
ولساني ..
لساني الذي ابتلعهُ فمي منذ زمن، اندلق وظهر أطول من السابق.
زارني، بعد ذلك، عدد كبير من الاصدقاء والأقارب، وبوجوه مستبشرة، جلسوا قربي، ورأوني بنفس صورتي التي تخيلتها، مرتدياً عباءتي وكوفيتي وظهرت لهم نفس التعاريج على جبهتي كخطوط الوشم، التي يصنعها الافارقة بوجوههم.
كانوا فرحين جداً بقبولي المنصب، وسمعت همسهم وتفائلهم بأنني سأَحّل كلّ مشاكلهم، وتلقيت من البعض منهم كلمات مديح بالمناسبة وقام البعض بإلقاء أبيات من الشعر بحقي، وتهور اخرون بوصفي وتشبيهي بالمت نبّي ، وعند كل جملة او عبارة كنت أحسّ بالغليان، ورأيت انني ربما سانهض غداً صباحاً مثل دكتاتور ارعن أقود قبيلتي الى الموت . ومع كل ذلك ، كنت اعرف نفسي بانني قبلت هذا المنصب دون رضا الطبيب الذي اشرف على علاجي، وعلى مضض.
ولكثرة لقاءاتي بالقبيلة ووجهاء القبيلة. ودون ان ادري، كنت قد اصبحت شخصية ذائعة الصيت، اشتهرتُ بين القبائل المجاورة، والبعيدة. وادمنتُ على الاجتماعات واللقاءات، فَطَال لساني أكثر، واصبت ببدايات داء الهذيان.
لم أنم ليلي الا على امل لقاء جديد - في الغد – بجمع من أفراد العشير، لحل مشكلة او خلاف . حتى صارت المشاكل تنشر على طاولتي، كالمقبلات، أهلل لها، وافتح بها شهيتي.
مما دعاني الى البحث عن الحكايات الشعبية والأمثال. لاعتمدها كعناصر تشويق، مكملة لاشارات يديّ، وابتساماتي، وضحكتي الدائمة، التي تعوّدَ عليها وجهي .
فوجدتُ ضالّتي في عدّة كتب، اختّرتُ منها كتاب كليلة ودمنه، للفيلسوف الهندي بيدبا، وفي الحقيقة أنا لا يهمني من ألّفَ الكتاب، بقدر ما تهمني الحكايات نفسها ، فقد وجدتها القناع الذي أخفي فيه وجهي الحقيقي .. كونها حكايات شعبية، تتحدث بلسان الطيور والحيوانات.
في احد الاجتماعات..
وكان قد استمر حتى منتصف الليل، كنت قد طرحت كل ما بذهني من توجيهات تخص المشاكل والحلول ، ابتداءا من أخذ الثار، والفصولات و..و..و لكنني شعرت بان الوقت تأخر كثيراً ، ولساني بدأ يتضخم اكثر من المعتاد، وتعذر عليّ نطق الكلمات ، فمنعني ذلك من الاستمرار بالحديث .لذلك هممت بانهاء الاجتماع، لكني عندما نهضت مستعداً للخروج كان لساني قد بقى خارج فمي.
تذكرت انني عشت أيامي الاخيرة، برتابة متعكزاً على ارادتي ، وأيقظ هذا بداخلي شعوراً بانني محتاج الى شيء مختلف..
انقطع الطبيب عن زيارتي ، رغم انني ما زلت أعاني من الوجع الذي في رأسي، وشعرت بأمسّ الحاجة اليه، خصوصاً وقد ظهرت علل إضافية لا تتناسب مع المنصب الجديد الذي تلبسني بسرعة.
وتزامنت هذه الحالة مع تنامي شهرتي وانتشار حكايات مبالغ فيها عن أحاديثي ، وازداد الطلب على مقابلتي والتبرك بمصافحة يدي ..
في اليوم التالي طلب مقابلتي احد الرجال، فأذنت له بالدخول ، وجلس امامي
وقال:
-وأدت ابنتي قبل ساعة!
قلت:
-من انت يا رجل؟ قال:
-انا قيس! فقلت
-انت قيس التميمي إذن ؟
قال :
-نعم
ولماذا جئت لمقابلتي؟
-أردت اعلان ذلك امام سيد القبيلة!
استدرت جانباً وأشرت للخادم فأدرك مقصدي. وقبل ان يخرج الرجل ،اخبروني انهم وجدوا الفتاة ميتة..!
استوقفني مرّة احدهم.. وقال:
"علينا ان نرجم هذا الشاعر لانه يتمنطق كثيراً"
وكان له رأس بدا لي كالثور الذي مثّل دور "الخادم" لملك الغابة، في حكايات بيدبا، ولكنه ثور متعلم ويمتلك الحيلة اكثر من غيره ممن بدوا لا يملكوا من العقل الا ما يعادل عقل قرد اوطفل بشري بعمر ثلاث سنوات، وتخيلت نفسي اتعامل مع قطيع متباين من الحيوانات.
ولكن هذا الرجل كان أكثرهم تلوناً. خفت منه ، وابتعدت، وانا أجذب ردائي بيدي. وتجسدت صورة الطبيب فيه فأشار عليّ بان اجلس، وسرقتني غفلة مفاجأة، خطفتْ لبّي، فاذعنتُ له وجلستْ . وعندما استدار الى الجانب الاخر، من الممر الطويل المظلم، لمحت بيده إبرة طويلة اثارت فضولي.
كنت قد خشيت كثيراً من الابرة التي كان سيغرزها الطبيب بفمي، فقد رأيت بنفسي طولها، وحجم محتواها ، ولونه القريب من الأحمر ، واوحى لي ذلك أنني ربما لن أكون على ما يرام ، فحاولت الافلات منه قبل ان يغرزها ولكنه جعلني بطريقته السحرية، أسترخي، وأنسى خيفتي وتوجسي.
في ممر مظلم أشبه بجوف بقرة من الداخل تاه نظري بين الأضلع والحوايا، ورأيت وجه الشاعر وقد أُسبلت عينية، ربما تلقى من الضرب ما تلقاه، فقد رأيت الدماء تنزف من جسده من عدة أماكن، وتمزقت ملابسه وبدا لي شبه عاري ..
وهناك اثنان من الرجال، لهم سحنة سمراء، تقابلوا عليه، يجرونه من بين الأضلع المكورة، في مكان شبه مظلم. ثم رفع احدهم بيده سكيناً حادة، وقربها من عنقه، ثم غامت الدنيا بعيوني، ولم ارَ شيئاً بعد ذلك. مثل فلم انقطع بثّه.
استلقيت على ظهري بعد نقاش حاد ، مع أفراد القبيلة، ورحت استذكر قصة ملك الغابة في قصص كليلة ودمنة، رأيت أسد الغابة برأسه المهيب وشعره الكثيف يغطي معظم وجهه، كما رأيت، الكثير من الحيوانات تلعب بذيولها وهي تمر من أمامه..
والتقيت، في اليوم التالي، بالشاعر الذي صادف نبوغه في العشيرة، فترة خلافتي. ونصحته بان يرحل بعيداً ، حفاظاً على نفسه!
لاحقا، التقيت به، هناك.. لانه الوحيد الذي لم يكن طائفياً.
البارحة، زارني الطبيب كعادته ، وسأل عن صحتي ، وعن وجع الرأس الذي لازمني لعدة ايام. وكنت كمن هبط من علياءه، وبلا شعور، وجدتني استعيد صورة الطبيب في اول ظهور له عند باب البيت، ثم توالى ظهوره حتى هذه اللحظة، التي رأيت نفسي فيها، أشبه بطائفي، لي شكل وَلكْنَة طائفي قَبَليّ. ووجه لا يشبه وجهي ، تعلوه جبهة واسعة تتخللها خطوط متعرجة بعدد أفخاذ القبيلة . ويؤطره عقال سميك تنتصب على طول سطحه المكوَّر، شعيرات كثيفة بارزة ومبعثرة. فيبدو منفوشاً كذيل ابو عرس ، وكلما لامست خشمي، شعرتُ بخشونته وبحجمه يكبُر في كلِّ لحظة تَمر .
ولساني ..
لساني الذي ابتلعهُ فمي منذ زمن، اندلق وظهر أطول من السابق.
زارني، بعد ذلك، عدد كبير من الاصدقاء والأقارب، وبوجوه مستبشرة، جلسوا قربي، ورأوني بنفس صورتي التي تخيلتها، مرتدياً عباءتي وكوفيتي وظهرت لهم نفس التعاريج على جبهتي كخطوط الوشم، التي يصنعها الافارقة بوجوههم.
كانوا فرحين جداً بقبولي المنصب، وسمعت همسهم وتفائلهم بأنني سأَحّل كلّ مشاكلهم، وتلقيت من البعض منهم كلمات مديح بالمناسبة وقام البعض بإلقاء أبيات من الشعر بحقي، وتهور اخرون بوصفي وتشبيهي بالمت نبّي ، وعند كل جملة او عبارة كنت أحسّ بالغليان، ورأيت انني ربما سانهض غداً صباحاً مثل دكتاتور ارعن أقود قبيلتي الى الموت . ومع كل ذلك ، كنت اعرف نفسي بانني قبلت هذا المنصب دون رضا الطبيب الذي اشرف على علاجي، وعلى مضض.
ولكثرة لقاءاتي بالقبيلة ووجهاء القبيلة. ودون ان ادري، كنت قد اصبحت شخصية ذائعة الصيت، اشتهرتُ بين القبائل المجاورة، والبعيدة. وادمنتُ على الاجتماعات واللقاءات، فَطَال لساني أكثر، واصبت ببدايات داء الهذيان.
لم أنم ليلي الا على امل لقاء جديد - في الغد – بجمع من أفراد العشير، لحل مشكلة او خلاف . حتى صارت المشاكل تنشر على طاولتي، كالمقبلات، أهلل لها، وافتح بها شهيتي.
مما دعاني الى البحث عن الحكايات الشعبية والأمثال. لاعتمدها كعناصر تشويق، مكملة لاشارات يديّ، وابتساماتي، وضحكتي الدائمة، التي تعوّدَ عليها وجهي .
فوجدتُ ضالّتي في عدّة كتب، اختّرتُ منها كتاب كليلة ودمنه، للفيلسوف الهندي بيدبا، وفي الحقيقة أنا لا يهمني من ألّفَ الكتاب، بقدر ما تهمني الحكايات نفسها ، فقد وجدتها القناع الذي أخفي فيه وجهي الحقيقي .. كونها حكايات شعبية، تتحدث بلسان الطيور والحيوانات.
في احد الاجتماعات..
وكان قد استمر حتى منتصف الليل، كنت قد طرحت كل ما بذهني من توجيهات تخص المشاكل والحلول ، ابتداءا من أخذ الثار، والفصولات و..و..و لكنني شعرت بان الوقت تأخر كثيراً ، ولساني بدأ يتضخم اكثر من المعتاد، وتعذر عليّ نطق الكلمات ، فمنعني ذلك من الاستمرار بالحديث .لذلك هممت بانهاء الاجتماع، لكني عندما نهضت مستعداً للخروج كان لساني قد بقى خارج فمي.
تذكرت انني عشت أيامي الاخيرة، برتابة متعكزاً على ارادتي ، وأيقظ هذا بداخلي شعوراً بانني محتاج الى شيء مختلف..
انقطع الطبيب عن زيارتي ، رغم انني ما زلت أعاني من الوجع الذي في رأسي، وشعرت بأمسّ الحاجة اليه، خصوصاً وقد ظهرت علل إضافية لا تتناسب مع المنصب الجديد الذي تلبسني بسرعة.
وتزامنت هذه الحالة مع تنامي شهرتي وانتشار حكايات مبالغ فيها عن أحاديثي ، وازداد الطلب على مقابلتي والتبرك بمصافحة يدي ..
في اليوم التالي طلب مقابلتي احد الرجال، فأذنت له بالدخول ، وجلس امامي
وقال:
-وأدت ابنتي قبل ساعة!
قلت:
-من انت يا رجل؟ قال:
-انا قيس! فقلت
-انت قيس التميمي إذن ؟
قال :
-نعم
ولماذا جئت لمقابلتي؟
-أردت اعلان ذلك امام سيد القبيلة!
استدرت جانباً وأشرت للخادم فأدرك مقصدي. وقبل ان يخرج الرجل ،اخبروني انهم وجدوا الفتاة ميتة..!
استوقفني مرّة احدهم.. وقال:
"علينا ان نرجم هذا الشاعر لانه يتمنطق كثيراً"
وكان له رأس بدا لي كالثور الذي مثّل دور "الخادم" لملك الغابة، في حكايات بيدبا، ولكنه ثور متعلم ويمتلك الحيلة اكثر من غيره ممن بدوا لا يملكوا من العقل الا ما يعادل عقل قرد اوطفل بشري بعمر ثلاث سنوات، وتخيلت نفسي اتعامل مع قطيع متباين من الحيوانات.
ولكن هذا الرجل كان أكثرهم تلوناً. خفت منه ، وابتعدت، وانا أجذب ردائي بيدي. وتجسدت صورة الطبيب فيه فأشار عليّ بان اجلس، وسرقتني غفلة مفاجأة، خطفتْ لبّي، فاذعنتُ له وجلستْ . وعندما استدار الى الجانب الاخر، من الممر الطويل المظلم، لمحت بيده إبرة طويلة اثارت فضولي.
كنت قد خشيت كثيراً من الابرة التي كان سيغرزها الطبيب بفمي، فقد رأيت بنفسي طولها، وحجم محتواها ، ولونه القريب من الأحمر ، واوحى لي ذلك أنني ربما لن أكون على ما يرام ، فحاولت الافلات منه قبل ان يغرزها ولكنه جعلني بطريقته السحرية، أسترخي، وأنسى خيفتي وتوجسي.
في ممر مظلم أشبه بجوف بقرة من الداخل تاه نظري بين الأضلع والحوايا، ورأيت وجه الشاعر وقد أُسبلت عينية، ربما تلقى من الضرب ما تلقاه، فقد رأيت الدماء تنزف من جسده من عدة أماكن، وتمزقت ملابسه وبدا لي شبه عاري ..
وهناك اثنان من الرجال، لهم سحنة سمراء، تقابلوا عليه، يجرونه من بين الأضلع المكورة، في مكان شبه مظلم. ثم رفع احدهم بيده سكيناً حادة، وقربها من عنقه، ثم غامت الدنيا بعيوني، ولم ارَ شيئاً بعد ذلك. مثل فلم انقطع بثّه.
استلقيت على ظهري بعد نقاش حاد ، مع أفراد القبيلة، ورحت استذكر قصة ملك الغابة في قصص كليلة ودمنة، رأيت أسد الغابة برأسه المهيب وشعره الكثيف يغطي معظم وجهه، كما رأيت، الكثير من الحيوانات تلعب بذيولها وهي تمر من أمامه..
والتقيت، في اليوم التالي، بالشاعر الذي صادف نبوغه في العشيرة، فترة خلافتي. ونصحته بان يرحل بعيداً ، حفاظاً على نفسه!
لاحقا، التقيت به، هناك.. لانه الوحيد الذي لم يكن طائفياً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق