الاثنين، 9 أكتوبر 2017

ق . ق . خلف عيون الزمن // بقلم الشاعرة المبدعة : هدى ابو العلا / مصر

قصة بمناسبة ذكرى نصر أكتوبر 
من مجموعتي القصصية خلف عيون الزمن.
الحب الأكبر

اعتاد على توصيلها إلى مدرستها كل يوم مع أخته الصغرى فاطمة فى طريقه إلى مدرسته , هناك فى قرية صغيرة نائمة فى أحضان النيل، الكل فيها يعرف الآخر , وهو ينظر إليها كأخته الصغرى، لكن هى لم تكن تنظر إليه بنفس النظرة, كانت تنتظر موعد المدرسة على جَمْرٍ, وكم كانت سعادتها عندما ترى ابتسامته الساحرة وملامحه المصرية وعمق نظرته، كانت تشعر أن قلبها الصغير يرتجف، كلما قال لها: 
صباح الفل يا أحلام.
مرَّت أعوامٌ، وتخرَّج فى المدرسة الثانوية, رغم أن مجموعه كان يدخله كليَّة الطب كما تتمنى والدته، أو هندسة كما يتمنى والده, لكن كانت له أحلام أخرى : وكيل نيابة, مستشار، إلى أن يصبح وزيراً للعدل لينشر (قضيته التى يعتنقها).
التحق بكليَّة الحقوق وسط ذهول الأهل، لكنهم رضخوا أمام إصراره، كان يحمل شخصية القائد المثقف الحنون، ويتمتع بقدرته المذهله على الإقناع بهدوئه وابتسامته التى لا تفارقه.
لم تنم "أحلام" تلك الليلة, تصاحبها دموعها، لن تراه كثيراً بعد اليوم، وستشغله زميلة له تجلس إلى جانبه ويتبادلان النظرات, ومن الممكن أيضاً أن يذاكر لها مايصعب عليها فهمه من محاضرات .
هو دائما يحب التفوق والتميز , فكَّرَتْ كيف تلفت نظره, كيف تشعره بحبها له دون أن تمس كرامتها, فى المساء ذهبت لبيت أسرته مع والدتها ليقدموا واجب التهنئه, يحملون بعضاً من الهدايا والحلوى, و عندما وصلا كان هو مَن فتح لهما الباب، رحَّب بوالدتها , وعندما التفت لها تسمَّرَتْ عيناه، لم يصدِّق أنها نفْس الفتاة التى كان يوصِّلها مع أخته فاطمة بضفائرها وشريطها الأحمر, الآن يرى أمامه فتاة يانعة الجمال، وردة نديَّة على غصنها تتفتح.
لاحظَتْ تسمُّره أمامها فضحكت، ويالسعادتها أخيراً انتبه لها، وفى وسط انشغال الأسرتين بالكلام, همس لها: 
أين أختك الصغرى؟
إنها تشبهك قليلاً لكنك الأجمل. 
ضفائرك كانت تخفى كل هذا السحر العبق!!
تلعثمت وشبكتْ أصابعها كتلميذة لا تعرف الإجابة، لكنَّه لم يتركها، بل قال لها : 
ارتباكك زادك جمالاً يا أميرتى, وسحر عطرك أثمل إحساسى المرهف. 
تركت له المكان وقفزت من سعادتها إلى جوار والدتها، جلست كأنها أرادت أن ترتمى فى أحضانها معترفه بحبه، أو خشيت أن يسمع دبيب نبضها الذى تسارع أكثر .
عادت إلى منزلها بعد أن أهدته مصحفاً صغيراً، وأوصته بألَّا يفارق جيبه أبداً.
مرَّت الأعوام، وباركت الأسرتان هذا الحب الرائع. 
أنْهَى الجامعة، وأنهت هى المرحلة الثانوية، التحق هو بالجيش والتحقت هى بكلية الطب.
وفى يومٍ ما اتَّفق مع والده أن يذهبا لمنزل "أحلام" ليطلبا يدها رسمياً, أخبرها فى الصباح عندما كانت تودِّعه وهو ذاهب إلى الجيش كعادتها, قال لها: 
بعد غدٍ أحصل على أجازة لمدة ثلاثة أيام وسوف أحضر مع الأسرة لخطوبتك رسمياً.
طارت بها سحابة من الفرحة، ودَّعته قائلة: 
انتبه إلى نفسك.
ابتسم وهو يركب القطار، ثُمَّ قال لها من نافذة القطار وهو يُقبِّل يدها: 
هتوحشيني!!
قالت بلهفه : أين المصحف؟
وضع يده على صدره مشيراً إليه , فبكت وقالت : لا إله إلا الله. 
بدأت عجلات القطار تسرع، ووسط ضوضاء الركاب لم تسمع ردَّه.
عادت إلى منزلها وأخبرت والدتها.
وفى اليوم الذى تنتظره الأسرة, ليغمر البيت الفرح، ويشتعل بالزغاريد والبهجة، دخل قائد الكتيبة إلى جنوده يبلغهم أنَّ الأجازات قد أُلغيتْ، وطلب منهم ألَّا يتصل أحد بأهله وألا يخبر أحداً.. وقف مذهولاً، وأصدقاؤه يقولون: 
لكنه يوم خطبته! 
فنظر إليهم القائد ثم استدار وخرج.
عاد إليهم مجدداً، سأل عن الملازم "خالد"، فتقدَّم، ليقول له القائد: 
مبروك عليك أيُّها البطل خطوبتك, بعد المغرب احتفلوا بزميلكم احتفالاً يشاهده العدو على الضفة الأخرى .
كانوا صائمين فى شهر رمضان المبارك وبعد الإفطار..أقاموا حفلاً كبيراً على الضفة وسط تصفيق وغناء ورقص وهم يرون أمامهم العدو مطمئناً بمراقبتهم بهدوء. 
اسشتعروا أن هناك شيئاً كبيراً، نسوا جميعاً كل شىء, تذكَّروا فقط الحب الأكبر الذى اجتمعوا عليه.. وطوال الليل كان كلٌّ منهم يتذكر الأهل، وظلوا يقصُّون على بعضهم قصصهم, ويوصون بعضهم البعض, إذا استشهد أحدهم بماذا وَمن يخبر الذى يعود منهم سالماً, عدا خالد، وضع يده على المصحف وضغط ضغطة قوية عليه ثُمَّ تنهَّدَ متسائلاً : تُرى كيف حالك الآن يا أحلام ؟
فى صباح اليوم التالى، يوم السادس من أكتوبر, دخل القائد الأعلى وأخبرهم أنَّها الحرب, الواجب والشرف للدفاع عن الأرض يناديكم أيُّها الأبطال فهتفوا جميعاً مسلمين وأقباطاً: الله أكبر. 
ردَّدُوا : الله أكبر.
وكانت ساعة الصفر, بدأت المعركة ونجحت القوات المصرية الباسلة فى اقتحام خط بارليف الذى زعموا أنه كالموت لا يُقهر، ورُفع علم مصر على سيناء، واستشهد أول شهيد وهو يزرعه , رآه زميله فأبَى إلَّا أن يرفعه, فالتقطه من يده وهو يردِّد: 
الله أكبر الله أكبر 
وردَّد المكان صدى صوته :
الله أكبر الله أكبر.
وهجموا على دبابات العدو وقد أسروا منه الكثير, وأفطروا على طعامهم, وكان خالد قد أصيب وهو يرفع العلم بعد استشهاد زميله.
جاءت الطائرة تحمل الجرحى..لكن جرحه كان عميقاً، ينزف بغزارة فأوصى طبيبه أن يخرج من جيبه المصحف الصغير وكانت الدماء تغطى جلدته الخارجية, قبَّله وكتب على جلدته الداخليه: محمد رسول الله. 
عندما سلَّمها الطبيب لأحلام أغمى عليها... وتذكَّرتْ صوته الأخير هتوحشينى.. لكنها مصر الغالية أم الدنيا.. تذكَّرتْ كل ذلك الطبيبةأحلام عند أول زيارة لها إلى أرض سيناء وهتفت وسط دموعها وهى تنظر إلى العلم الشامخ هناك وهو يرفرف :
لا إله إلا الله..والله أكبر.
ردَّدها خلفها جميع الحضور، فاهتزَّت الأرض
كأنَّ زلزالاً ضربها برفق : 
لا إله إلا الله والله أكبر.
هدى أبو العلا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق