أسفٌ فوق البحر
هادي المياح/ العراق
كنتُ أتفقد محفظتي وانا في سيارة الأجرة في الطريق الى أم قصر ، جنوب البصرة.. أدقق ما جلبتهُ معي تحسباً من نسيان شيئ .. إثناء ذلك وجدتني اواجهك وجها لوجه ، اعثرُ عليك بين اوراقي ، امسكُ بك بقوة ، امررُ أصابعي حول جبينك ، فتتجسد لي ابتسامتك التي تشع حيوية وأمل .. لم تكن هذه رؤيا أو حلم .. فأنتَ دائماً تتجلى لي بكل تفاصيلك .. حتى أصبحتَ لوحدك مادة تفكيري وهوسي ..
حَدثَ ذلك في الصباح التالي لليوم الذي تركت فيه وحدتي .. وكُنتُ قد تأخرت فيها لفترة قاربت الشهرين ، وكانت الجبهة ساخنة، ورأسي فارغ من كل شيئ، غادرتني كل الصور والاشكال الآدمية ، لم تَر عيوني غير الساتر والسبخ وبدلة إلخاكي ، ونسيت إجازتي الدورية ولم تخطر لي على بال.. أصابني داء الحنين كأنني مسافر الى المجهول ، رغبات ملحّة بدت تستولي عليّ .. اشتقت الى بيتنا بما فيه ، والشارع الذي يقع عليه ، وحتى ملابسي المدنية ، وأشيائي الخاصة .. افتقدتُ كل هذه الأشياء .. أريد الخلوة بنفسي .. لكن الجبهة ملتهبة ، والموت يتهددنا في كل لحظة .. ثم سمعتُ إنَّ إجازتي الدورية ستكون بعد أسبوعين، كفترة إضافية .. مما زاد الامر سوءاً على سوء .
بعد الظهيرة ، كنتُ جالساً في موضع الآمر، وسمعته يقول:
" عليك التمتع اليوم باجازتك الدورية "
في البدء ، خَيل لي بانني سمعته يقول شيئاً، لكنّي لست متأكداً مما قال.. وإعتراني الشكّ ، فنظرتُ اليه وادّعيتُ انّ إطلاقات المدفعية أثرّت على عصبي السمعي فطلبتُ منه ان يكرر فقال:
-لا مانع من تمتعك اليوم باجازتك ، ما بك الا تسمع؟!
فاجأني الآمر بقوله ، وشعرتُ بالغبطة تغمرني.. وكأنَّ كل العقد أنحلّت بلحظة واحدة.. قمتُ من ساعتي مهرولاً وانا أدسّ نموذج الإجازة في جيبي .. وأَستعجِل الذهاب الى بيتي .. كنتُ أفكر لربما افقد ما حصلتُ عليه بسرعة .. كما أتاني بسرعة .. ورحتُ اجمع القصص والحكايات وأُلبسُها ثوب الطرافة والتسلية حتى لا اثير الخوف في قلوب احبابي وعائلتي .. وكنتُ متأكداً انهم سيستقبلوني فرحين بقدومي وسلامتي ، لاسيِّما وان الحرب مازالت في أوجّها..
أصبحَ هدير محرك السيارة ودخان العادم يثيران إنزعاجي ، غفا صاحبي وهو في مكانه .. ربما داخ بسبب التشويش على القنوات المحرَّمة في مذياعه .. كان يتابع طوال الطريق ، اسماء الأسرى .. ويأمل ان يَعلنوا عن أسرك هنا اوهناك..
كان الطريق القادم من أم قصر لا يخلو بين فترة واخرى من مرور سيارة تحمل فوقها جنازة ، وبدتْ هذه الصور مزعجة لي .. لكنّها بمرور الوقت أصبحت طبيعية خاصة وانَّ الحرب قد طالت ، واعتادتْ عليها عيوننا حتى صرنا نخدع لمرات عديدة ، حين نرى سيارة محملة بصناديق الطماطم وكنا قد حسبناها جنازة ..
وغفوتُ انا ايضاً بسبب بطء السيارة وحرارة الجو والصحراء التي تحتضن مرتفعات وتلال متباينة ، ومنظر الجنائز . وصرتُ ارى أشياء ومناظر أكثر عتمة أحاطت بمخيلتي.. ومرتْ لحظات شعرت كأنني أعيش في فراغ ، وأمامي تمتد ارض منخفضة وخالية ، لا تحدها أسوار ، وكنت أنا كالتائه.
احسستُ بأحد اجفاني ينفتح .. ّ
ورأيتكَ مثل شعاع انبثق في تلك العتمة، رياح خفيفة هبّت وكادت تعصف بالمنخفض الممتد بيني وبينك ، كُنتَ بعيداً .. ناديتُ عليك فلم تسمعني .. ثم تحوّل المنخفض الى مخاضة مائية كبيرة .. أخذتْ تقذف من جوفها فقاعات مهولة محمّلة بالملح ، تكاثرتْ الفقاعات حتى غطّت سطح المخاضة ، وراحتْ تخرج ابخرتها الساخنة فيسمع لها قرقعة وأزيز . إشتدّ بي الامر، وبلا شعور وضعتُ يدي على الجانب الأيسر من صدري ، وسحبتُ بصعوبة نفساً طويلاً .
خفتُ عليكَ ..
لاحظتكَ تخطو باتجاهي ، رافعاً كفيكَ نحوي .. أنتَ بنفسك تركض ، لكنك ما زلت بعيدا .. شعرتُ بالشوق يحفر قلبي .. رأيتُ المخاضة قد تحولتْ الى بحر كبير .. والفقاعات صارتْ أمواجاً تتلاطم بعضها ببعض ..
تسلّقتُ عدة ربوات وهبطتُ منحدرات .. تشدّني إليك عزيمة لا تحدها موانع ، عيناي شاخصتان على امتداد الأفق خلف الساحل ، انظرُ بعمق نحو الامام ، تخترقُ نظراتي الموج .. رأيتكَ من مكاني كأنك تمشي فوق الماء ، تنقل َخطاك بثقة ، انك تبتسم ، نفس ابتسامتك التي أحببتها ، ابتسامتك المصحوبة بلمعان عينيك .. كأنني ارى صفحة وجهك الان تتلون بحمرة خفيفة تشعّ على جبينك .. كما لو كنتَ جالساً قربي ، تقصّ عليَّ الحكايات ، وانا أمازحك، أقرص قدمك بخبث بأطراف أصابعي ، فتغضب مني وتصرخ بي ، ثم لا تلبث ان تطفو ابتسامتك على محيّاك ، نفس ابتسامتك التي أراها الان .. أيها القريب البعيد، اراكَ تركض متشبثاً بما أوتيت من قوة .. تركض وانت عالق بين الأملاح ، تواجهك امواج عالية صاخبة ومخاض عسير .. لكنك تختفي في التيه بسرعة عن ناظري ..
وتهت انا أيضاً ، لا أعرف طريقي إليك ..
اصطدمتُ بحافة صخرية شديدة الانحدار .. تحتظنها المياه من كل الجهات تقريباً .. وأصبحت اتطلع بشكل جيد .. لكن الامواج بدأت تعلو وتعلو .. رأيت من بعيد نورسين يحلقان فوق الامواج .. ويدوران في نقطة ثابتة..ومحور واحد.. تدحرجتُ من مكاني فوق الصخرة دون وعي .. كنت اريد ان أحدد موقعك ، شعرتُ برشقات عنيفة مشبّعة بالملح تغمر وجهي، نهضتُ فزعاً وقد بلّل العرق جسمي وملابسي .
ظلّت عيناي شاخصتان باتجاه البحر .. وكان النورسان لا يزالان هناك .. وأحسست بألم كبير في أضلعي وثَقُلتْ أطرافي .. النورسان لا يبرحان المكان .. ما زلت أراهما الان .. ها هما يتوجهان نحوي .. إقتربا مني .. اتطلع إليهما بحزن .. دنا الأكبر مني .. تبعه الآخر .. حطّا على كتفيَّ ..همسَ الاول بأذني ، تهت وأصابني الشرود، فقد ادركت جيداً ما همس ..
وانطلقا معاً بعد ذلك ، وهم ينعقان فوق الامواج .
ما زالت الرطوبة المشبّعة بالملح تحتي .. والامواج العالية ، تفزعني .. ثم هاج البحر وماج ، وغضبت السماء وفزع كل من في الارض .. لقد فار التنور ..! وهرعت انا كذلك وكانت السيارة قد توقفت عند نقطة عسكرية في بوابة الميناء .. وانتظرنا..
تطلعتُ الى الداخل المرتبك في القاعدة البحرية هناك .. وتهيأتُ للمواجهة .. شددتُ أزرَ خارجي المُتعبْ..
" هناك في ذلك الكرفان ،غرفة آمر قوة الميناء"
قال لنا احد الجنود . ثم خرج لنا الآمر .. كان وجهه خالياً من اي تعبير.. وعيناه تغفيان في محجريهما :
" لا توجد لدينا معلومات مؤكدة عنه"
تذكّرتُ أحد المدنيين وكان له اخ فُقِدَ اثناء المعركة الاخيرة ، ولم َتعثر وحدته على جثمانه .. كان المقر الخلفي للوحدة في بستان نخيل .. وكان صوته يخرج بحرقة تهتزّ لها السعف والجذوع ..
" لا اذهب من هنا حتى اعثر على جثة أخي ، أعطوني اي شيئ حتى لو كان جذع نخلة ، لأبكي عليه ! "
شعرت برجّة كبيرة تعصف بكياني ..وعانقته حتى اختلطت دموعي بدموعه ..
صارتْ النقطة بمثابة محور نتحرك حوله ، وكُنّا أشبه بنورسين منهكين، في محيط واسع..
إمتدّ بصري بإتجاه البحر..
"لم يبق معي غير النورس الذي حط بالخطأ على كتفي "
إني اتذكّر كل ما قلته وقيل بعد ذلك ..
اتذكّر كل شيئ..
كنتما بمفردكما تصارعان الموت .. وكل واحد يقول للاخر …… لا تحزن ان الله معنا..
لكنَّ السماء تلبّدتْ بغيوم رمادية ، وتصاعدتْ روائح البارود .. وهربتْ كل الطيور المحلقة.. اشباح مجهولة تدور في المكان .. وبدا الأمل مثل مصباح تلاشى ضوءه ، انهكك التعب .. واشتد بكما الجوع والعطش .. تطايرت الشظايا في كل مكان .. ذُبِحَ نورس بريئ وشُربَ من دمه.. الحرب لا تعرف البراءة.. لم يبق غير النورسين المفجوعين .. تناثرت على الارض اجزاء من نجم ذي بريق ساطع .. القذائف لا ترسل الينا من الله .. ونوارس البحر تعاني من الفجيعة أيضاً..
صورتك دائماً لا تفارقني ، أُقلّبها الان بين يدي، افتقدتكَ ذات يوم وأنا في الطابق العلوي من المطار ، كنتُ مسافراً .. وفي عودتي اخترت مكاني ، بين المسافرين في الصف المقابل لهم.. وكنتَ انت تجلس أمامي.. شعرتُ بنفسي تطير إليك ، وأجزائي تعيد ترتيبها استعداداً لتحمل ذلك ، سنين طويلة وانا انتظر هذا الموقف.. بداخلي شعور غريب أعجز عن وصفه .. بدتْ لي هيأتك كما رأيتك آخر مرة.. لقد اخترقتَ حصني الدفاعي بظهورك وتجليك ..انك تكاد تمزقني من الداخل وتبعثر كياني ببطء .. لذتُ لوحدي في ركن من الصالة و.. بكيت.
أحسستُ بيدٍ تربّتُ على كتفي ، أخمدتْ بحنانها لوعة كادت تطيح بكياني هناك، في مثابة قريبة من البحر .. وتذكرتُ الله في الطابق العلوي.. القريب جداً عليه..
كنت اسمع بأذني خبر فقدانك..
أختفتْ ابتسامتي التي صنعتها اثناء الطريق ، قبل ان ادخل من الباب .. وكنتُ قد فضّلت ان تبقى على وجهي اثناء استقبالي .. ورأيتُ السّواد ينشر ثيابه على البيت ! فتقهقرتْ كل القصص والحكايات التي اخترتها .. وعادتْ من حيث أتت ْ.
إشتدّ بي الضجيج من حولي وانا أقف بينهم ، وأصبحتُ مسخاً غير قادر على الفهم والاستقبال .. أسمعُ كل ما يقال دون ان أفهم اي شيئ.. ولم أحفظ مما يروى غير أواخر الجمل والعبارات .. والتي علقت بذهني مبعثرة كما هي :
"طوافة، طائرة، شبكة، نورس، امواج، قمت بتدليكه، بنيته ضعيفة، بحر متلاطم، ثلاثة أيام بدون أكل ولا ماء.. انين لم يسمعه احد ..بكاء صامت.. عليك بعائلتي واولادي."
أصابني خرس مفاجئ ووجوم ، وحاصرتني غصَّة كبيرة.. إحترت أين انظر ، الى الارض أم الى السماء ؟ شعرت بالفوران .. وأمسى الكون بنظري بحجم ثقب الباب .. لا ادري من دفعني من الخلف لاواجه الحائط ، صرت اشعر بخشونة الجدار تلامس باطن كفيّ ، ندّت من أعماقي صرخة كبيرة مدوّية ظل صداها يدور في صالة البيت وجميع الغرف الفارغة الخالية من اللون والطعم والرائحة..!
وعدت الى وعيي على اثر تلك الصرخة، وشعرت بانني في إجازة "غير إعتيادية" وَإِنَّ أحداً لم يستقبلنِ بحفاوة كما توقعت ، وأنّ الكلّ في حالة حزن تام .. ثم اكتشفتُ بعد ذلك أنَّ آمر الوحدة لم يقدِّم وجبة إجازتي كمساعدة منه أو هبة..!
ورحت أُقبل الأطفال واحداً بعد الآخر ، وخنقتني العبرة وبكيت حتى اختلطت ْدموعي بدموعهم كما تختلط مياه الأفرع بالمصب العام .
هادي المياح/ العراق
كنتُ أتفقد محفظتي وانا في سيارة الأجرة في الطريق الى أم قصر ، جنوب البصرة.. أدقق ما جلبتهُ معي تحسباً من نسيان شيئ .. إثناء ذلك وجدتني اواجهك وجها لوجه ، اعثرُ عليك بين اوراقي ، امسكُ بك بقوة ، امررُ أصابعي حول جبينك ، فتتجسد لي ابتسامتك التي تشع حيوية وأمل .. لم تكن هذه رؤيا أو حلم .. فأنتَ دائماً تتجلى لي بكل تفاصيلك .. حتى أصبحتَ لوحدك مادة تفكيري وهوسي ..
حَدثَ ذلك في الصباح التالي لليوم الذي تركت فيه وحدتي .. وكُنتُ قد تأخرت فيها لفترة قاربت الشهرين ، وكانت الجبهة ساخنة، ورأسي فارغ من كل شيئ، غادرتني كل الصور والاشكال الآدمية ، لم تَر عيوني غير الساتر والسبخ وبدلة إلخاكي ، ونسيت إجازتي الدورية ولم تخطر لي على بال.. أصابني داء الحنين كأنني مسافر الى المجهول ، رغبات ملحّة بدت تستولي عليّ .. اشتقت الى بيتنا بما فيه ، والشارع الذي يقع عليه ، وحتى ملابسي المدنية ، وأشيائي الخاصة .. افتقدتُ كل هذه الأشياء .. أريد الخلوة بنفسي .. لكن الجبهة ملتهبة ، والموت يتهددنا في كل لحظة .. ثم سمعتُ إنَّ إجازتي الدورية ستكون بعد أسبوعين، كفترة إضافية .. مما زاد الامر سوءاً على سوء .
بعد الظهيرة ، كنتُ جالساً في موضع الآمر، وسمعته يقول:
" عليك التمتع اليوم باجازتك الدورية "
في البدء ، خَيل لي بانني سمعته يقول شيئاً، لكنّي لست متأكداً مما قال.. وإعتراني الشكّ ، فنظرتُ اليه وادّعيتُ انّ إطلاقات المدفعية أثرّت على عصبي السمعي فطلبتُ منه ان يكرر فقال:
-لا مانع من تمتعك اليوم باجازتك ، ما بك الا تسمع؟!
فاجأني الآمر بقوله ، وشعرتُ بالغبطة تغمرني.. وكأنَّ كل العقد أنحلّت بلحظة واحدة.. قمتُ من ساعتي مهرولاً وانا أدسّ نموذج الإجازة في جيبي .. وأَستعجِل الذهاب الى بيتي .. كنتُ أفكر لربما افقد ما حصلتُ عليه بسرعة .. كما أتاني بسرعة .. ورحتُ اجمع القصص والحكايات وأُلبسُها ثوب الطرافة والتسلية حتى لا اثير الخوف في قلوب احبابي وعائلتي .. وكنتُ متأكداً انهم سيستقبلوني فرحين بقدومي وسلامتي ، لاسيِّما وان الحرب مازالت في أوجّها..
أصبحَ هدير محرك السيارة ودخان العادم يثيران إنزعاجي ، غفا صاحبي وهو في مكانه .. ربما داخ بسبب التشويش على القنوات المحرَّمة في مذياعه .. كان يتابع طوال الطريق ، اسماء الأسرى .. ويأمل ان يَعلنوا عن أسرك هنا اوهناك..
كان الطريق القادم من أم قصر لا يخلو بين فترة واخرى من مرور سيارة تحمل فوقها جنازة ، وبدتْ هذه الصور مزعجة لي .. لكنّها بمرور الوقت أصبحت طبيعية خاصة وانَّ الحرب قد طالت ، واعتادتْ عليها عيوننا حتى صرنا نخدع لمرات عديدة ، حين نرى سيارة محملة بصناديق الطماطم وكنا قد حسبناها جنازة ..
وغفوتُ انا ايضاً بسبب بطء السيارة وحرارة الجو والصحراء التي تحتضن مرتفعات وتلال متباينة ، ومنظر الجنائز . وصرتُ ارى أشياء ومناظر أكثر عتمة أحاطت بمخيلتي.. ومرتْ لحظات شعرت كأنني أعيش في فراغ ، وأمامي تمتد ارض منخفضة وخالية ، لا تحدها أسوار ، وكنت أنا كالتائه.
احسستُ بأحد اجفاني ينفتح .. ّ
ورأيتكَ مثل شعاع انبثق في تلك العتمة، رياح خفيفة هبّت وكادت تعصف بالمنخفض الممتد بيني وبينك ، كُنتَ بعيداً .. ناديتُ عليك فلم تسمعني .. ثم تحوّل المنخفض الى مخاضة مائية كبيرة .. أخذتْ تقذف من جوفها فقاعات مهولة محمّلة بالملح ، تكاثرتْ الفقاعات حتى غطّت سطح المخاضة ، وراحتْ تخرج ابخرتها الساخنة فيسمع لها قرقعة وأزيز . إشتدّ بي الامر، وبلا شعور وضعتُ يدي على الجانب الأيسر من صدري ، وسحبتُ بصعوبة نفساً طويلاً .
خفتُ عليكَ ..
لاحظتكَ تخطو باتجاهي ، رافعاً كفيكَ نحوي .. أنتَ بنفسك تركض ، لكنك ما زلت بعيدا .. شعرتُ بالشوق يحفر قلبي .. رأيتُ المخاضة قد تحولتْ الى بحر كبير .. والفقاعات صارتْ أمواجاً تتلاطم بعضها ببعض ..
تسلّقتُ عدة ربوات وهبطتُ منحدرات .. تشدّني إليك عزيمة لا تحدها موانع ، عيناي شاخصتان على امتداد الأفق خلف الساحل ، انظرُ بعمق نحو الامام ، تخترقُ نظراتي الموج .. رأيتكَ من مكاني كأنك تمشي فوق الماء ، تنقل َخطاك بثقة ، انك تبتسم ، نفس ابتسامتك التي أحببتها ، ابتسامتك المصحوبة بلمعان عينيك .. كأنني ارى صفحة وجهك الان تتلون بحمرة خفيفة تشعّ على جبينك .. كما لو كنتَ جالساً قربي ، تقصّ عليَّ الحكايات ، وانا أمازحك، أقرص قدمك بخبث بأطراف أصابعي ، فتغضب مني وتصرخ بي ، ثم لا تلبث ان تطفو ابتسامتك على محيّاك ، نفس ابتسامتك التي أراها الان .. أيها القريب البعيد، اراكَ تركض متشبثاً بما أوتيت من قوة .. تركض وانت عالق بين الأملاح ، تواجهك امواج عالية صاخبة ومخاض عسير .. لكنك تختفي في التيه بسرعة عن ناظري ..
وتهت انا أيضاً ، لا أعرف طريقي إليك ..
اصطدمتُ بحافة صخرية شديدة الانحدار .. تحتظنها المياه من كل الجهات تقريباً .. وأصبحت اتطلع بشكل جيد .. لكن الامواج بدأت تعلو وتعلو .. رأيت من بعيد نورسين يحلقان فوق الامواج .. ويدوران في نقطة ثابتة..ومحور واحد.. تدحرجتُ من مكاني فوق الصخرة دون وعي .. كنت اريد ان أحدد موقعك ، شعرتُ برشقات عنيفة مشبّعة بالملح تغمر وجهي، نهضتُ فزعاً وقد بلّل العرق جسمي وملابسي .
ظلّت عيناي شاخصتان باتجاه البحر .. وكان النورسان لا يزالان هناك .. وأحسست بألم كبير في أضلعي وثَقُلتْ أطرافي .. النورسان لا يبرحان المكان .. ما زلت أراهما الان .. ها هما يتوجهان نحوي .. إقتربا مني .. اتطلع إليهما بحزن .. دنا الأكبر مني .. تبعه الآخر .. حطّا على كتفيَّ ..همسَ الاول بأذني ، تهت وأصابني الشرود، فقد ادركت جيداً ما همس ..
وانطلقا معاً بعد ذلك ، وهم ينعقان فوق الامواج .
ما زالت الرطوبة المشبّعة بالملح تحتي .. والامواج العالية ، تفزعني .. ثم هاج البحر وماج ، وغضبت السماء وفزع كل من في الارض .. لقد فار التنور ..! وهرعت انا كذلك وكانت السيارة قد توقفت عند نقطة عسكرية في بوابة الميناء .. وانتظرنا..
تطلعتُ الى الداخل المرتبك في القاعدة البحرية هناك .. وتهيأتُ للمواجهة .. شددتُ أزرَ خارجي المُتعبْ..
" هناك في ذلك الكرفان ،غرفة آمر قوة الميناء"
قال لنا احد الجنود . ثم خرج لنا الآمر .. كان وجهه خالياً من اي تعبير.. وعيناه تغفيان في محجريهما :
" لا توجد لدينا معلومات مؤكدة عنه"
تذكّرتُ أحد المدنيين وكان له اخ فُقِدَ اثناء المعركة الاخيرة ، ولم َتعثر وحدته على جثمانه .. كان المقر الخلفي للوحدة في بستان نخيل .. وكان صوته يخرج بحرقة تهتزّ لها السعف والجذوع ..
" لا اذهب من هنا حتى اعثر على جثة أخي ، أعطوني اي شيئ حتى لو كان جذع نخلة ، لأبكي عليه ! "
شعرت برجّة كبيرة تعصف بكياني ..وعانقته حتى اختلطت دموعي بدموعه ..
صارتْ النقطة بمثابة محور نتحرك حوله ، وكُنّا أشبه بنورسين منهكين، في محيط واسع..
إمتدّ بصري بإتجاه البحر..
"لم يبق معي غير النورس الذي حط بالخطأ على كتفي "
إني اتذكّر كل ما قلته وقيل بعد ذلك ..
اتذكّر كل شيئ..
كنتما بمفردكما تصارعان الموت .. وكل واحد يقول للاخر …… لا تحزن ان الله معنا..
لكنَّ السماء تلبّدتْ بغيوم رمادية ، وتصاعدتْ روائح البارود .. وهربتْ كل الطيور المحلقة.. اشباح مجهولة تدور في المكان .. وبدا الأمل مثل مصباح تلاشى ضوءه ، انهكك التعب .. واشتد بكما الجوع والعطش .. تطايرت الشظايا في كل مكان .. ذُبِحَ نورس بريئ وشُربَ من دمه.. الحرب لا تعرف البراءة.. لم يبق غير النورسين المفجوعين .. تناثرت على الارض اجزاء من نجم ذي بريق ساطع .. القذائف لا ترسل الينا من الله .. ونوارس البحر تعاني من الفجيعة أيضاً..
صورتك دائماً لا تفارقني ، أُقلّبها الان بين يدي، افتقدتكَ ذات يوم وأنا في الطابق العلوي من المطار ، كنتُ مسافراً .. وفي عودتي اخترت مكاني ، بين المسافرين في الصف المقابل لهم.. وكنتَ انت تجلس أمامي.. شعرتُ بنفسي تطير إليك ، وأجزائي تعيد ترتيبها استعداداً لتحمل ذلك ، سنين طويلة وانا انتظر هذا الموقف.. بداخلي شعور غريب أعجز عن وصفه .. بدتْ لي هيأتك كما رأيتك آخر مرة.. لقد اخترقتَ حصني الدفاعي بظهورك وتجليك ..انك تكاد تمزقني من الداخل وتبعثر كياني ببطء .. لذتُ لوحدي في ركن من الصالة و.. بكيت.
أحسستُ بيدٍ تربّتُ على كتفي ، أخمدتْ بحنانها لوعة كادت تطيح بكياني هناك، في مثابة قريبة من البحر .. وتذكرتُ الله في الطابق العلوي.. القريب جداً عليه..
كنت اسمع بأذني خبر فقدانك..
أختفتْ ابتسامتي التي صنعتها اثناء الطريق ، قبل ان ادخل من الباب .. وكنتُ قد فضّلت ان تبقى على وجهي اثناء استقبالي .. ورأيتُ السّواد ينشر ثيابه على البيت ! فتقهقرتْ كل القصص والحكايات التي اخترتها .. وعادتْ من حيث أتت ْ.
إشتدّ بي الضجيج من حولي وانا أقف بينهم ، وأصبحتُ مسخاً غير قادر على الفهم والاستقبال .. أسمعُ كل ما يقال دون ان أفهم اي شيئ.. ولم أحفظ مما يروى غير أواخر الجمل والعبارات .. والتي علقت بذهني مبعثرة كما هي :
"طوافة، طائرة، شبكة، نورس، امواج، قمت بتدليكه، بنيته ضعيفة، بحر متلاطم، ثلاثة أيام بدون أكل ولا ماء.. انين لم يسمعه احد ..بكاء صامت.. عليك بعائلتي واولادي."
أصابني خرس مفاجئ ووجوم ، وحاصرتني غصَّة كبيرة.. إحترت أين انظر ، الى الارض أم الى السماء ؟ شعرت بالفوران .. وأمسى الكون بنظري بحجم ثقب الباب .. لا ادري من دفعني من الخلف لاواجه الحائط ، صرت اشعر بخشونة الجدار تلامس باطن كفيّ ، ندّت من أعماقي صرخة كبيرة مدوّية ظل صداها يدور في صالة البيت وجميع الغرف الفارغة الخالية من اللون والطعم والرائحة..!
وعدت الى وعيي على اثر تلك الصرخة، وشعرت بانني في إجازة "غير إعتيادية" وَإِنَّ أحداً لم يستقبلنِ بحفاوة كما توقعت ، وأنّ الكلّ في حالة حزن تام .. ثم اكتشفتُ بعد ذلك أنَّ آمر الوحدة لم يقدِّم وجبة إجازتي كمساعدة منه أو هبة..!
ورحت أُقبل الأطفال واحداً بعد الآخر ، وخنقتني العبرة وبكيت حتى اختلطت ْدموعي بدموعهم كما تختلط مياه الأفرع بالمصب العام .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق