الأحد، 26 فبراير 2017

تتمة // القصة : اختر ، من فضلك عنوانا // القاص عبد السلام هلال /// للدكتور المصطفى بلعوام /// المغرب

تتمة...
_________
القصة : اختر ، من فضلك عنوانا
القاص : عبد السلام هلال
.__________
القهوة التجارية أحد معالم كورنيش الاسكندرية ، قديمة بما يكفي أن تصنع تاريخا جيدا للمكان ، كبيرة ايضا لكي يجتمع عليها أصدقاء شتى من البشر . شهدت كثيرا من الأحداث قديما وحديثا . هذا استهلال غير جيد لقصة قصيرة . سألت نفسي عن إسم لهذه القصة . كانت فرصة جيدة لقطع الوقت الطويل الذي كان علي أن أعيشه بانتظار صديقي .
فكرت في أسماء كثيرة ولم تكن مناسبة أبدا ، فالموضوع والفكرة متشعبان جدا ، كثير من الأسماء التي وردت بخاطري كانت متشابهة او حتى متطابقة مع كثير من أسماء قصص سابقة، بعضها لي وبعضها الاخر لكثيرين ، لذيذ هو الاستغراق في مشكلة تافهة كهذه ، نعم تافهة فكل قصة تختار لنفسها عنوانا يفرض نفسه على الكاتب .
حوارات رائعة أدرتها مع نفسي ، قطعها أحمد الترياس ، وأرجو ألا تسخروا منه، جلس على الكرسي الاخر المواجه لي على المنضدة المنصوبة مع عشرات مثلها على الرصيف أمام القهوة . باغثه بسؤال ، لماذا تجلس هنا بجواري؟ هل سمحت لك أنا بذلك ؟
ذاب خجلا واحمر وجهه المكلبظ فأصبح كرغيف خبز بلدي خرج لتوه من فرن بلدي في بيتنا القديم بالبلدة ، ذكرني بأمي ورائحة الخبز الطازج وفرحتي بالرغيف الصغير الذي تسميه على اسمي قبل رمي العجين داخل الفرن، نعود لاحمد ذلك الطفل ..كبير الحجم المحشور في ملابس شتوية بيتية ، وقد جاء مع أمه وخالته ، وتركهما داخل القهوة تدخنان النرجيلة وهو يمارس الطفولة البريئة المعنية باكتشاف العالم من حولها ، يتحدث كثيرا ويمارس الفضول كأغلبنا في هذا العالم المتغير . 
أشفقت عليه وابتسمت سائلا عن اسمه ، أحس بالطمأنينة وسألني عن اسمي وسني وعنواني، أوقفت سيل أسئلته بسؤال من اين انت ؟
قال ، أنا من الصعيد .
قلت مداعبا ، صعيدي قفل ؟
ضحك مليا وقال ، نعم صعيدي قفل وترياس كمان، بل زاد يسألني ، وأنت من أين ؟
قلت ، أنا شرقاوي .
ضحك مليا وقال ، شرقاوي قفل أيضا .
ضحكت حتى نسيت التفكير في اسم القصة، فيما تركني وذهب يحكي لأمه كل ما حدث بيننا.
طالت جلستي على المقهى . يئست من إيجاد اسم مناسب لقصتي التي أريد كتابتها، راح السؤال يطرق عقلي بعنف، لماذا تصر على وجود اسم للقصة ؟ 
أسلمني صمتي لسؤال اخر ، وما هي قصتك ؟ 
تحيرت ، صمتت الأفكار المتصارعة بعقلي بلا جدوى ، قلت في نفسي طالما انني اجلس على المقهى قبالة البحر ، وفِي شتاء الاسكندرية الرائع فلا بد أن أكتب قصة، هكذا كان يفعل الكتاب الكبار زمان، ضحكت من سذاجة فكري، وتحاورت الأسباب برأسي ، ليس ثمة رابط بين هذه وتلك، رغم أن محفوظ كتب ميرامار بالإسكندرية ، أين انت من محفوظ يانكرة.
صوت الفكرة صعقني، تشاغلت عنه بمراقبة الناس والسيارات بالشارع. أهل الاسكندرية يحبونها شتاء، ومن يحب يتزين بأجمل ما لديه ليقابل محبوبه، ضفافا ضفافا يمشون ، وعلى كل شكل ولون وهيأة، يجمعهم حبهم للشتاء وملابسه التي تلمع في ضوء الشوارع الجميل.
كانوا أجمل منهم في الصيف، تملأ الابتسامة تضاريس وجوههم، وكأن السيارات أيضا فرحة تسير في هدوء رغم الزحام الخانق، لكن بلا ضجيج أو حر ورطوبة ، فيما تهب ريح البحر محملة بعبق مدينة لا تريد أن تعترف انها أصبحت عجوز.
يغريني البحر بالتفكير في كل الغموض الذي يفرضه على نفسه، وزاده الليل رونقا لانه ازدان باللون الأسود الجميل، مثل ثوب سهرة فاتن ترتديه واحدة من جميلات عصر البطالمة، ميزت في عيون البعض وملامحهم روح الإسكندر الأكبر وعشقه للمدينة التي خلدت اسمه، رغم أن الملامح المصرية الفرعونية كانت لها الغلبة في معظم المارة .
لم يكن معي ورق أو قلم ورغم ذلك كتبت كل ذلك وأكثر في ثنايا روحي وعقلي، وكلي إصرار ألا أنسى شيئا مما كتبت . حلقت بعيدا حينما نظرت لتنوع الوجوه داخل المقهى، لم تستطع سحب الدخان الخارج من أفواه وأنوف المتلذذين بالشيشة أن تحجم جمال المكان وعبقه، كانت قهوة الثوار وقبلتهم في يناير المجيد، هكذا قالها بفخر صاحب القهوة. أعادني حماس الرجل لزخم الأيام الثمانية عشرة، كنا كلنا على قلب رجل واحد، هدف واحد نوليه أفكارنا ونظرنا، ما أصعب الفرقة بعد التجمع، قالها ودموع تترقرق في مقلتيه. لم أجد لدي أي رغبة في مواساته، كلنا في التشرذم شعب واحد .
لذت بالصمت جالسا في مقعدي قبالة البحر . ماتت كل رغبة في مواصلة حديثي مع نفسي حتى، حتى هذا السكوت كان مقلقا لدرجة انني حاولت الهروب منه للوقوف أمام ماء البحر مباشرة، نال التعب من أقدامي فطردت الفكرة واستغرقت في اللاشيء.. حتى جاء صديقي المنتظر.
تحول الافتراضي إلى واقعي، لحظة جميلة جدا، رغم انها تهدم كل خيال رسمت فيه صور أصدقائي الذين لم التقهم بعد. صورته لم تختلف عن الواقع، فقط بعض الإرهاق وأثر سنين واحداث غير جيدة، أثرت بالجميع ، ولكننا أنا وهو وكثر مثلنا نعاقر في هذه الحياة، متيسر الحال، ومكانته مرموقة، لكنه لا يختلف في كم الحزن والهم الدفين الذي لا تستطيع عيونه أن تخفيه، انها الطاحونة التي تدهس مشاعرنا اولا بأول ، فقط نشترك جميعا في حب هذه الأرض، مهما كانت درجة تعبير وجوهنا عن هذا الحب.
طال اللقاء والكلام في وعن السياسة، تبا للسياسة ! تتبعني كظلي حيثما سرت تسير، وكان لابد للقاء أن ينتهي، على وعد بلقاء أخر تركته لمواعيده، وواصلت مسيري نحو النهاية.
ميدان محطة مصر مليء بالباعة الجاتلين، تحاوطه محلات وأكشاك ومحلات صغيرة وقهوة داخلية أكلت محطة الترام القديمة، فيما سيارات البوليس تجوب المكان تبحث عن شيء ما .
لم يعد المكان الجميل كما رايته أول مرة منذ ثلاتين عاما، يبدو أنه مخطيء من يظن أن المكان سيظل على حاله كل هذه المدة، هل ما أقوله هو خلاصة الحكمة ؟
سخرت من تساؤلاتي وأفكاري، وقصرت حبل أفكاري عند امنيتي أن أصل إلى سريري بأسرع ما يمكن .
المسافة طويلة حتى أضع جسدي واستغرق في النوم ، بيني وبينها مسيرة خمس ساعات من المعاناة، ولم يكن لدي من الصبر ما يكفي فلجأت للخيال.
كنت أكتب في ذهني الاف الكلمات بسرعة لم اعهدها في من فبل. وكان من الحمق أن أناقشني في تفاصيل بسيطة. غرقت في بحر من الأحلام والرؤى التي ساعدتني على الصمود حتى انتصاف الطريق.
ما تبقى مني الا كل ما يحمل في طياته خلاصة التعب والإرهاق ، لم أعد أقو على نقل قدمي من موضع لآخر لاراحتها, السيارة ضيقة كأنها علبة صفيحية محشور فيها سبعة أنفس، فيما يواصل من بآخرها الحديث بالهاتف من وقت خروجنا من موقف السيارات ، وظل الآخرون يتأففون من الصياح المتواصل لهما، هما موضوعان فقط ناقشوهما كل مع أسرته وأصدقائه ، هممت بترديد الموضوع الذي حفظته عن ظهر قلب، غلبني التعب فلم أجد في نفسي قابلية لأي كلام.
كان النصف الثاني من الطريق فرصة لتبديل المقاعد بين مجاوري في منتصف العربة، وايضاً بدأ الآخران بمؤخرة السيارة في تبادل الاّراء فيما يواجهان من مشاكل. كل ذلك يدور من حولي ولايشغلني غير فكرة التلاقي والافتراق بين البشر ، فيما ظننت انها فكرة فلسفية جدا، اكتشفت بعد هذه المسافة أننا نمر بها في معظم لحظات حياتنا، وهي لا تستحق التوقف أمامها ، ولذا انشغلت بمتابعة كم القرى والمدن المتبقية حتى نهاية القربة.
بدأت السيارة تنهب الطرق نهبا، تغالب ضعفها وتيار الهواء الخارجي ، تنوء بشدة بجملها الضخم، سبعة من الرجال أشداء غالبهم تخطى التسعين كيلو جراما، اشفقت عليها وقلت في نفسي أليس كل شيء في الدنيا محملا بأعباء قد تكون فوق طاقته ؟
جعلت أبحث عن إجابة للسؤال ، نظرت في نفسي، رجل في السادسة والخمسين ويبحث عن مصدر رزق, بعد رحلة كفاح بالحياة امتدت لأكثر من أربعة وثلاتين عاما من العمل وكسب الرزق، وما ردني عن الاسترسال في نفاق نفسي إلا منظر السائق العجوز الذي يكابذ الحياة مصلوبا إلى عجلة القيادة لهذه المركبة المتعبة .
متعبة الرحلة ، لكنها كانت فرصة جيدة لمقابلة أناس جدد ووصل ما بدأ في الفضاء ووضعه على الأرض، محظوظ أنا بكثير من الناس الجيدين الذين أقابلهم في مشوار حياتي, رغم أن عدد غير الجيدين كان أكثر مما أستطيع إحصاءه .
السفر بالليل له وجه أخر يعرفه من هم مثلي من قرى ومدن بعيدة صغيرة . تتعدد وسائل المواصلات حتى الوصول لنقطة النهاية. ولذا فقد كان الهاجس الان كيف سأتصرف وقد تجاوزنا منتصف الليل بأكثر من ساعة ؟
وصلت الزقازيق وتبقى لي محطة واحدة للمنزل، قد تستغرق اكثر من وسيلة مواصلات.. وقد تصل لأربع منها. كان علي أن أصل لموقف الباصات على قدمي فذلك أضمن من أي سيارة أجرة أو خاصة، خصوصا أن سائقي السيارات توشي ملامحهم بكثير من الارتياب وقليل من الطمأنينة .
المدينة هادئة ، غارقة في نوم عميق، إلا من بعض الأماكن يتجمع فيها سمار الليل, قهوة او غرزة او ما أشبهه ، لا صوت مميز إلا صوت سارينة سيارات الجيش تجوب الشوارع الرئيسية. عند الكوبري انتقلت إلى الجانب السيء من الرحلة ، ولا وسيلة مواصلات إلا صيادي مسافري الليل، وجوه غريبة لا تعطيك مساحة من الارتياح، ثلاتة آخرون وصلوا للمكان قبلي بدقائق , حديث ومفاوضات انتهي للاشيء، هذا السائق العجوز اللزج كثير الكلام مثير للقرف يصر على المبالغة بالسعر، رغم انها لم تكن معضلة لي إلا إنتي تمسكت بفكرتي عن الحق ، لا أحب أن يخدعني أحد, اراه منطقيا جدا فأنا لا أخدع احدا، ولم احاول من قبل، يفضحني وجهي إذا حاولت الكذب ،لعلها صورة مختفية في صورة عيب.
كما اعتدت السفر ليلا، وجدتني لم أشعر بالراحة لهؤلاء الذين تفوح منهم روائح الخبث والمخدرات، بل تسقط الكلمات من أفواههم كبقايا طعام من أفواه نهمة . 
تحكمت قصص السكارى والمخمورين في قراري الا أسير وحدي بالطريق معه ، قبلت الركوب مع الثلاتة الغلابة الآخرين , كانوا لتوهم عائدين من مولد الحسين ، سرت بقلبي بعض الطمأنينة ، ولذا تحملت الحشرة في السيارة الصغيرة, ورائحة العادم الخانقة، وصوت ثرثرة السائق المتهالك.
انشغلت طوال الطريق بالتفكير في نهاية القصة، رغم أن القفلة المدهشة والمفاجأة تثري النص ، لكنها كانت فكرة مرعبة ، أنا الكاتب والبطل، وبهذا الليل تكون القفلة المفاجأة كارثة محققة، أما وقد وصلت سالما للمنزل، فقد انتهت الرحلة والقصة بلا أي قفلة مفاجأة، فهل يقلل هذا من قيمة هذا التص ؟
--------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق