الاثنين، 21 أغسطس 2017

تشبث / قصة قصيرة / بقلم الاستاذ : عبد القادر صيد // الجزائر

تشبث
ها هو ينظر من جديد إلى الطبق الشهي المملوء تمرا ، يتراقص أمامه بأبهة و سلطنة،حباته لا تحتاج إلى إشهار ،و لا إلى موسيقى ترافقها أثناء الجلسة الخلوية الخاصة، فهي من تصنع الأجواء الندية .. يضع رجلا على أخرى ، و يتكأ ملقيا برأسه إلى الخلف إلى أن تسنده وسادة صغيرة متضايقة من هذا الحصار المضروب عليها من قبل قفا ملت حملها سنوات عديدة ، لا القفا تجددت،اللهم إلا بعض الشعرات البيضاء ، و لا ما بداخلها تغيّر، و لا الوسادة دعمت بحشو جديد ، و كلّ في الملل يسبحون .
ينظر إلى الطبق فتصطاده أحسن تمرة ، تسلب لبه كأول نظرة حب في حياته ، يلتقطها بسرعة ، و يديرها بين يديه ببطء و بكبرياء آني ، كأنه يريد خطبتها ،ثم يضعها بلطف في فمه ، دون أن يأذن بعدُ للمصنع الشره بأن يبدأ في التحطيم ، ينتظر قليلا ، لا يريد إزعاجها ، يترك لها فرصة التأقلم و التهيؤ ، لكن يكون أقسى من أولئك الذين يمنحون للمحكوم عليه بالإعدام فرصة لآخر أمنية..هي لحظات نادرة في حياته أن يصفو الخاطر من أي انشغال سوى المتعة ..يترك ماكينة السحق تبدأ عملها مغلّفة بقناع ناعم مكسو بملامح إنسانية راقية ..ما هي إلا لمحة حتى يفرغ هذا الفم ، و تشتغل الذاكرة في استرجاع ذكرى اللذة ، فتطلب المزيد لتنتعش أكثر ، ثم يترك لعينيه الحرية في تفحص الطبق ، تزدهي إحداهن ..هي كصاحبتها ،يمكن أن تكون أقل منها جودة و يمكن أن تكون أكثر، و لكن الأكيد أنها ليست الألذ ، الطعم الأول أصبح هو المرجعية ،تتزحلق متأودة مهشمّة في الحلق تاركة وراءها زغردة مدوية ..نعم هي كذلك و أكثر ، و لكنها ليست مثل الأولى ، يبحث عن الثالثة ،إنها متقاربة في الجودة ، و لكنها أقل طعما ، و هكذا يبدأ في اختيار الأفضل من المتبقي الذي هو أقل نوعية ، إلى أن يصل إلى حبات رديئة ، فيخاطب نفسه :
ـ هل من المعقول أن أضطر إلى أن أنزل إلى هذا المستوى ؟ 
يقطع عليه تفكيره هذا شريط عاجل في التلفاز المخروس ،يدير وجهه ،فلا شيء يدعو إلى الاستعجال أمام هذا الجو ، كان لابد أن يبدل القناة حتى لا يحرج في حال أعلن إضراب عن الطعام من قبل السجناء الفلسطينيين، يهتز الهاتف النقال الصامت كصوفي وسط الحضرة،فلا يلتفت إليه ، مهما تتفاقمت الأوضاع فلن يدق أحد على باب داره ليخرجه منها بالقوة ، لن يكون هناك خبر أسوء مما مر عليه في حياته ، فوالداه ميتان ، ليس لديه إخوة ، و قد ألف العزوبية منذ زمن بعيد ،شعاره دائما (لا تملك شيئا يعني لا ترتبط بشيء و هي تساوي صفر مصائب و صفرين مخاوف ).
يتدحرج في انتقاء الأقل رداءة ، إلى أن لا يبقى في الطبق إلا النوى ،ليس من عادته أن يأكل النوى ، و ليس من طبعه أن يخلط أكثر من طعم واحد في جلسة ، لذلك يبقى برهة من الزمن حائرا بين أن يغامر مرة أخرى في تجربة شبع شهية ، و بين قضاء ما تبقى من هذه الفسحة على ذكرى الحلاوة الفارطة ، يميل إلى أن الطبق الثاني سيفسد الأول ، لذلك يكمل غفوته ، يسبح في عالم فسيح ، ثم يبدأ يصل إلى أذنيه دق الباب شيئا فشيئا إلى أن لا يملك إلا أن ينتفض لتصاعد شدة ..يصل متأخرا ،يجد رسالة تحت الباب ، يفتحها مندهشا ،فهذه أول مرة تصله رسالة عن غير عنوان الصندوق البريدي ، يقرأها :
ـ أسرع.. الحق جنازتك التي تقام في هذه اللحظات ، دقائق و سيتفرقون عن قبرك..
و فيما هو يستعد للخروج يلاحظ الشريط العاجل الذي يبث على التلفاز و يرى الجنازة مباشرة ، يرى كل من يعرفهم يبكون ،لم يجد نفسه بينهم، فعرف أنه فعلا صاحب القبر ، فرح فرحا شديدا أول الأمر.. و لكنه بعد أن تفقد المكان جيدا، صاح غضبا:
ـ الحمقى ..ألم أخبرهم ألف مرة أنني لن أوقع على عقد الرحيل دون طبق التمر ..لن أوقع ..لن أوقع بدونه .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق