اللغة العبرية لغة هجينة ::خلفية تاريخية ( دراسة علمية )
الباحث الدكتور عبدالوهاب الجبوري
المقدمة
إذا أخذنا برواية التوراة بان أصل اليهود من أور الكلدانيين ( أور هكسديم ) تواجهنا مسالة لغتهم ، فهل كانوا يتحدثون بالبابلية التي كانت سائدة في بلاد أور أو هل كانوا يتحدثون بلهجة آرامية أو كما تسمى العبرية القديمة ، وكيف كانوا يتفاهمون بين الناس الذين كانوا يعيشون بينهم .. ستبقى هذه الأسئلة بلا جواب حاسم ، على الأقل ، إلى أن يكشف ما يلقي الضوء عليها ، لكن الذي نستطيع أن نقطع به هو أنهم من بداية الألف الأول ق. م كانوا يستعملون إحدى اللهجات التي
كانت سائدة ومنتشرة في تلك الفترة كالفينيقية والموابية والعمانية والآرامية وسواها من اللهجات القريبة ، وقد أطلق المؤرخون اليهود على هذه اللهجة اللغة العبرية ، ثم استخدموا الخط المشتق من الرسم الفينيقي في بداية أمرهم ، أي نحو المائة العاشرة ق. م وفي نحو المائة السادسة ق. م بدؤوا وأثناء وجودهم في بابل يستعملون الخط المربع ( المشتق من اللغة الآرامية ) الذي كتبوا به العهد القديم والتلمود والأدب العبري وغير ذلك من فنونهم و آدابهم ، ومنذ تلك الفترة بدأ تأثير الآرامية في لغتهم ، وازداد التأثير باطراد بعد ذلك حتى أصبحت العبرية لغة طقوس محدودة لا غير .. وكُتب أكثر من نصف التلمود بالآرامية وكذلك بعض أسفار وأجزاء العهد القديم ، مثل عزرا وارميا ، كما انه لا يوجد في أسفار العهد القديم ما يشير إلى تسميتهم لها بالعبرية ، وإنما كانت تسمى باللغة اليهودية ، كما جاء في سـفر اشعيا ( 36 / 11 ) :
( فقال الياقيم وشبنا ويواح لربشاقا كلم عبيدك باللغة الآرامية لان نفهمها ولا تكلمنا باليهودية على مسامع الشعب الذين على السور ) ، ولم تعرف باسم العبرية أو اللغة المقدسة إلا بعد الأسر البابلي في كتاب ابن سيرا وفي مصنفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس وفي المشنا والتلمود ..
نشأة اللغة العبرية
إن هذا الغموض الذي يلف نشأة اللغة العبرية وتطورها قد استفاد منه اليهود ، حيث قاموا بتحريف الحقائق التاريخية والعلمية عن نشأة اللغة العبرية وتطورها ، وتحول الغموض إلى تشويش يهودي متعمد عن تاريخ لغتهم كي تضيع الحقيقة ويصبح لهم تراث لغوي يكتبون به آثارهم وتاريخهم .. ولقد ساهم في خلق هذا التشويش ، مجموعة من المستشرقين الذين حاولوا إعطاء صفة الاستقلالية للغة العبرية ، وبأنها لغة متكاملة ، ونسبوا إليها العديد من اللغات الأخرى ، التي لم تستطع البرهنة على سلامة هذا التوجه والمضمون ، بل أن الوقائع استطاعت إثبات أن اللغة العبرية ، هي إحدى اللهجات الكنعانية والآرامية ، كما اشرنا إلى هذا ، ولم تتوصل إلى لغة ذات أبعاد مترابطة ومتكاملة إلا في منتصف القرن العشرين ، وأكثر من ذلك ، فإن الكثير من الجماعات اليهودية التي يطلق عليها أتباع الديانة اليهودية ، ما زالت لم تأخذ باللغة العبرية ، وإنما تستخدم العديد من اللغات واللهجات التي كانت ولا زالت تتحدث بها ، بدءاً من اليديشية التي يتحدث بها أعداد كبيرة من هذه الجماعات وخاصة الاشكنازيم ( اليهود الغربيين ) ، واليديشية هي رطانة من لغات أوربية عديدة ، وهناك لهجة اللادينو الإسبانية ، وهي التي يتحدث بها السفارديم ( اليهود الشرقيون ) ، عدا عن جماعات يهودية تتحدث بلغات البلـدان المقيمين فيها ، وعدم استخدامهم أو معرفتهم باللغة العبرية ، وهناك جماعات يهودية كالفلاشا الذين جاؤوا من الحبشة ، أما اليهود الهنود والإيرانيون والصينيون والروس ، ويهود أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وإفريقيا ، كل هؤلاء ، لازالوا يتكلمون بلغات البلدان التي كانوا يقطنونها ، وانقسموا إلى جماعات متناحرة متنافرة ذات اتجاهات عديدة دينياً وفكرياًَ ولغوياً مما أصبح من الصعب أن نطلق عليهم ، أنهم أصحاب ديانة يتكلمون بلغة واحدة ، لأنهم بالأصل ليسوا شعباً من الشعوب ، ولا أمة من الأمم ، وإنما هم موزعون على كافة الأمم والشعوب ، فكيف يكون لهم لغة موحدة ..
وقد حاول المؤرخون اليهود وضع لغة توراتية وتلمودية ، ومع هذا كانت متباينة مع بعضها ، حتى في أداء صلواتهم ، وعليه فإنهم لم يضعوا لغة متكاملة عبر التاريخ الطويل ، وكان أجدادنا السومريون قبل الألف الرابع ق.م في جنوب بلاد الرافدين قد اخترعوا الكتابة نحو 3500 ق.م ، فكانت اللغة السومرية أول لغة مكتوبة ، ومن تاريخ كتابتهم بدأت الحضـارة ، ورغم محاولة البعض التشكيك بعروبتهم ، إلا أنهم قبائل عربية أصيلة كما أن تسميتهم بهذا الاسم تدلل على نقاوة عروبتهم ، لأن سومر تعني لغوياً ضوء القمر ، والعرب يتمتعون بالسهرات الممتعة في ضوء القمر قبل الميلاد ، وحتى هذا التاريخ ، فالتسمية جاءت من واقع معاش ، وعلينا الارتشاف من أقوالهم المأثورة ( الدولة الضعيفة التسليح لا يطرد العدو من أبوابها ) ، و ( من يترك القتال قبل أن ينتهي لن يعيش في سلام ) وهكذا تتابعت القبائل العربية تحمل التراث والحضارة ، فكانت رائدة في مجال اللغة والعلوم وغيرها من الإبداعات ، واتكأت عليها الشعوب والأمم ، فكان اليهود قد استقوا لهجاتهم اللغوية من اللغة الكنعانية والآرامية والفينيقية والعربية بفصاحتها وبيانها الساحر ، حتى استحقت عن جدارة ريادة علم اللغة بكل أبعاده ودلالاته ومعانيه وأصوله ..
وقد دل الاستقراء العلمي على أن لغة كنعان ( التي يطلق عليها اليهود اللغة العبرية القديمة ) قد نشأت في ارض كنعان ، حتى قبل نزوح الإسرائيليين إليها ، وهذه اللغة هي اللغة التي ورد ذكرها في سفر اشعيا تحت اسم ( لغة كنعان ) ويقول المرحوم الدكتور ربحي كمال في كتابه
( دروس اللغة العبرية ) أن العبريين لما هاجروا إلى ارض كنعان حوالي القرن الثالث عشر ق. م . كانوا يتكلمون آنئذ لهجة تقرب من إحدى لهجات الآرامية القديمة ومن ثم راحوا يستعملون لغة البلاد التي هاجروا إليها واخذوا ينسون تدريجيا لغتهم الأصلية ، ومع بداية القرن الحادي عشر أضحت اللغة الكنعانية هي اللغة المستعملة ..
واللغة العبرية ليست لغة العبريين جميعا ، بل لغة فرع واحد من فروعهم وهو فرع بني إسرائيل وتتألف القبائل العبرية ، بالإضافة لبني إسرائيل ، من عدة شعوب أخرى كبني أدوم ومواب وعمون ، ولا تطلق العبرية إلا على لغة بني إسرائيل وحدهم ..
وهكذا فان تسمية العبرانيين ما هي إلا تسمية تطلق على كل القبائل والمجموعات والأفراد الذين ينتقلون من مكان إلى آخر طلباً للكلأ والماء ، وفي سبيل ذلك يقطعون الفيافي والقفار والصحارى والأنهار ، وهذه التسمية إنما هي صفة تطلق على كافة الأقوام التي تقوم بهذا التحرك ، لتحقيق الغايات والأهداف التي ينشدونها ، عليه فإن لفظة العبرانيين أو العبيرو أو الخبيرو ما هي إلا صفات ، ولا تدلل على الانتماء إلى شعب من الشعوب أو أنها تكوّن شعباً من الشعوب ، سواء كان ذلك في الجزيرة العربية ، أو بلاد ما بين النهرين أو في مجاهل أفريقيا ، أو أمريكا اللاتينية أو أوربا أو أيّ جزء من العالم ..
اللغات التي كتب بها العهد القديم
لقد أدى زوال نفوذ بني إسرائيل السياسي ، وتدمير بيت المقدس والغزوات التي تعرضوا لها ، إلى تدهور كبير في اللغة العبرية ، فأثرت هذه الحوادث تأثيرا كبيرا في تاريخ اليهود الديني اللغوي .. وتشير المصادر التاريخية أن أسفار الكتاب المقدس ( العهدين القديم والجديد ) قد كتبت بثلاث لغات رئيسية :
1 . اللغة العبرية القديمة : وهذه أصلها أرامية امتزجت ببعض اللغات السامية
( العاربية ) فتشوهت ودعيت من ثم باللغة العبرية ، ذلك أن اليهود يدعون أن لفظة ( العبرية ) منسوبة إلى جدهم الأعلى إبراهيم ( عليه السلام ) الذي أسموه تضليلا إبراهيم العبري ، وما برح الإسرائيليون يكررون في صلاتهم مصرحين بقولهم على ما جاء في سفر التثنية ( كان أبي آراميا تائها ) .. ولما قدم إبراهيم إلى ارض كنعان وامتزج أحفاده بالأمم السامية ( العاربية ) الساكنة في تلك الربوع دخلت على لغتهم اصطلاحات جديدة ، فتغيرت عن أصلها الآرامي القديم وسميت اللغة العبرية القديمة .. ومعظم أسفار العهد القديم كتبت بهذه اللغة ..
2 . اللغة العبرية الجديدة : يقول الدكتور محمد التونجي في كتابه ( اللغة العبرية وآدابها ) عندما سبي اليهود إلى بابل في أيام نبوخذ نصر ، امتزجوا مع البابليين ورجعت الآرامية الصحيحة إلى لسانهم واستعملوها ، لان الآرامية كانت منتشرة في بلاد بابل وسائر بقاع ما بين النهرين ، كما يؤيد ذلك الكتاب المقدس وكتب التاريخ ، وقد سماها بعضهم بالعبرية ليس لأنها اللغة العبرية المعروفة ، بل لان العبرانيين كانوا يتكلمون بها ، ويسميها علماء اليهود بالترجوم .. وقد كتب بها في هذه المرحلة عدد كبير من علماء اليهود المنتسبين إلى شعوب شتى ... حتى أن بعضهم اسماها العبرية الجديدة ... وتمتاز العبرية في هذه المرحلة بشدة تأثرها باللغة العربية واللغات الأوربية الحديثة .. وقد لوحظ أن الطوائف اليهودية الشرقية – لاسيما يهود الأقطار العربية - والغربية تختلف في نطق الحروف العبرية ومن الطبيعي أن يكون نطق الطوائف الشرقية أقرب وأضبط إلى الصواب وهي على وجه العموم ابلغ عبارة وأفصح لغة من بني جلدتهم يهود الغرب الذين يستعملون هذه اللغة .. فاللغة العبرية تحتوي كاللغة العربية حروفا حلقية وحروف إطباق يصعب على الغربيين النطق بها نطقا صحيحا فينطقون العين همزة والحاء خاءً والراء غيناً والطاء تاءً والقاف كافاً .. وتخل الطوائف اليهودية الغربية بالنطق بحرف الصاد ( صادي) فتنطقه تسادي.. وكثيرا ما يجاري اليهود الشرقيون اليهود الغربيين في الإخلال بنطق هذه الحروف ..
3 . اللغة اليونانية : وهي لغة العهد الجديد وتعرف باليونانية الهلّلنية ، والذي حمل كتاب العهد الجديد إلى استخدامها بدلا من العبرية هو أنها كانت آنئذ أفضل وسيلة لنشر الديانة المسيحية بين جميع الأمم المجاورة .. فلم تكن اليونانية معروفة فقط لليونانيين أنفسهم بل لسكان قسم كبير من الإمبراطورية الرومانية ، حتى أن أكثر أهل روما نفسها يتكلمون بها ..
رسم الخط العبري
اشتق الرسم العبري ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، من الرسم الفينيقي وتتألف حروفه الهجائية من اثنين وعشرين حرفا ، وتذكر المصادر أن الخط / الرسم العبري اجتاز في سبيل تطوره أربع مراحل :
1 . المرحلة الأولى : كانت أشكال حروفه لا تختلف كثيرا عن الحروف الفينيقية القديمة .. بل هي بعينيها تقريبا ، ومع ذلك يعرف اليهود هذا الرسم في هذه المرحلة باسم ( الخط العبري القديم ) ..
2 . المرحلة الثانية : ظهر تأثره بالرسم الآرامي ، تبعا لتأثره باللغة الآرامية نفسها .. ومن ثم نشا نوع جديد من الرسم اشتهرت تسميته بالرسم العبري
( الحديث ) أو ( العبري المربع )..وقد اقتصر في البدء استخدام هذا الرسم الجديد على الشؤون الدينية، أما فيما بعد فقد ظل اليهود يستخدمون الرسم القديم فترة طويلة ..
3 . المرحلة الثالثة : وتبدأ في حوالي القرن السادس الميلادي ، وفيها ادخل على هذا الرسم إصلاح جديد .. فقد اعتبرت الألف والهاء والواو والياء أصوات مد طويلة ، فساعد ذلك على ضبط النطق وحفظ الكلمات من التحريف ..
4 . المرحلة الرابعة : هي العبرية الحديثة ، وفيها ادخل إصلاح آخر ، فقد اخترع نظام الحركات للشارة إلى أصوات المد القصيرة ، وقد أخذت ثلاث طرق لرسم هذه الحركات :
أ . تعرف بالطريقة الطبريّة بفلسطين نسبة إلى مدرسة من العلماء تسمى مدرسة طبريا ، لنشاتها في مدينة طبريا الفلسطينية .. وهذه الطريقة ترمز إلى أصوات المد القصيرة بعلامات تحت الحروف ، وهي أشهر الطرق الثلاث ..
وتكاد تكون هذه الطريقة الوحيدة المستخدمة في الوقت الحاضر.. وقد اشتهر في النطـق بالكلمات المدونة بهذه الطريقة أسلوبان كل منهما يختلف عن الآخر اختلافا يسيرا :
الأول : يسمى أسلوب اليهود الغربيين أو الأسلوب الألماني ..
الثاني : يسمى أسلوب اليهود الشرقيين أو الأسلوب البرتغالي ..
ب . تعرف بالطريقة العراقية أو البابلية لان الفضل في اختراعها يرجع إلى مدارس أحبار اليهود بالعراق أيام السبي البابلي وأيام الاحتكاك باللغات الكائنة ما بين النهرين .. وهذه الطريقة ترمز إلى أصوات المد القصيرة بعلامات توضع فوق الحروف ، وقد انقرضت هذه الطريقة بانقراض المدارس البابلية التي أنشأتها حوالي القرن التاسع الميلادي ..
ج. تعرف بالطريقة الفلسطينية ، وهي تشير إلى هذه الأصوات بعلامات فوق الحروف ، كما تفعل الطريقة العراقية ، ولكنها تختلف عنها في صورة هذه العلامات ودلالاتها ..
وتشير المصادر التاريخية ان الرسم العربي واليوناني قد استخدما في تدوين بعض النصوص العبرية القديمة ..
مراحل اللغة العبرية
إن إطلاق تعبير (لغة) على العبرية ، هو من باب التجاوز ، لأنه لا توجد لغة عبرية خالصة نقية ، وإنما هي إحدى اللهجات الكنعانية كما اشرنا إلى هذا ، بمعنى أنها لغة مصطنعة ولم يتحدث بها اليهود إلا لفترة قصيرة جداً ، فلغة الآباء ( إبراهيم وإسحق ويعقوب ) ( 2100 ـ 1200 ق.م ) ، إنما كانت لهجة ساميّة قريبة من العربية أو الآرامية ، وقد مرت العبرية بأطوار متعددة عبر الحقبة الزمنية الطويلة التي عاشتها قبل أن يتم بعثها من جديد وتصبح لغة المجتمع اليهودي في فلسطين وتعود إليها الحياة في لهجتيها الاشكنازية والسفارادية وباتت الثانية منهما هي الرسمية المعتمدة في تصريف الشؤون العامة .. وخلال تلك الأطوار
اجتازت اللغة العبرية عدة مراحل ، امتازت كل مرحلة بنوع من المؤثرات والتأثيرات طبعت اللغة بطابع خاص وأثرت فيها بناحية معينة ، واغلب هذه المؤثرات والتأثيرات سياسي ، كرحيلهم أو طردهم أو استقلالهم أو علاقاتهم بالأمم المحيطة بهم .. وقد قسم علماء اللغات تطور العبرية إلى عصرين رئيسيين ( وان كان البعض يقسمها إلى ثلاثة عصور ) ..
العصر الأول :
حسب المؤرخين اليهود فان هذا العصر يمتد من نشأة هذه اللغة إلى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد ، أي طوال الفترة التي كانت العبرية لغة حية يتكلم بها بنو إسرائيل .. وقد دعيت اللغة في هذا العصر بالعبرية القديمة ، ويرى مؤرخو الأدب العبري أن العبرية بلغت في هذا العصر ذرا مجدها ووصلت إلى غاية ما استطاعت الوصول إليه من النمو والتهذيب واتساع النفوذ .. وفي الفترة الأخيرة من هذا العصر تم تدوين بعض أسفار العهد القديم ، وان أهم
ما وصلنا من آثار هذا العصر قصيدة حماسية دينية وردت في الإصحاح الخامس من سفر القضاة موجهة إلى حكيمة من حكيمات بني إسرائيل تدعى ( دبوره ) ونقش تاريخي هو اللوحة التذكارية لنبع عين ( السلوان ) وقد عثر عليها عام 1880 ميلادية ..
أما المصادر العلمية والتاريخية فتذكر أن هذه اللغة هي لغة دينية مزيجة غير نقية ولا يمكن إطلاق تسمية اللغة العبرية عليها ، فلم يتوفر لها أسباب الاستقلال اللغوي أو التمايز اللهجي ، فقد استعارت هذه اللغة مفردات كثيرة من اللغات المجاورة كالكنعانية والبابلية والآشورية والآرامية والمصرية القديمة والفارسية وأخيراً اليونانية ، واستمر اليهود يستخدمون هذه اللغة حتى الترحيل البابلي عام 586 ق.م حيث عمدوا إلى استعارة اللغة الآرامية ولغات أخرى ، ثم أخذت عوامل الاضمحلال تدخل عليها نظراً لظهور الآرامية كلهجة آرامية لأعداد كبيرة من العبرانيين ، ولهجة للتجارة والإدارة في الشرق ، إلا أنها اختفت تماماً حتى في فلسطين نحو عام 250 ق.م ..
العصر الثاني :
في هذا العصر راحت عوامل الفناء تدب رويدا رويدا إلى اللغة العبرية ، وأخذت الآرامية تتغلب عليها وتنتقص من نفوذها شيئا فشيئا حتى قضت عليها .. وقد تأثرت العبرية خلال هذه الفترة بثلاثة عوامل كان لها جميعا اثر فاعل في إضعاف هذه اللغة وهي : إغارة الأشوريين والكلدانيين على فلسطين وما نجم عن ذلك من تشتيت شمل اليهود ، ثم استيلاء اليونان على فلسطين وانتشار اللغة الإغريقية والثقافة الإغريقية في الأقاليم التي خضعت للإغريق ، ثم الفتح الإسلامي وما تلاه من سيطرة العربية والثقافة الإسلامية ..
ويبدأ هذا العصر من العهد الذي انقرضت فيه العبرية من التخاطب واقتصر استخدامها على الكتابة وتلاوة بعض الأوراد والآيات ، أي من أواخر القرن الرابع قبل الميلاد إلى العصر الحاضر .. وتسمى العبرية في هذا العصر بالعبرية اللاحقة للعهد القديم .. وينقسم هذا العصر إلى مرحلتين تمتاز كل منهما بمميزات لغوية خاصة :
المرحلة الأولى : تنتهي بفاتحة العصور الوسطى ، وتسمى العبرية الربانية أو التلمودية لان أهم ما وصل إلينا من آثار هو بحوث الربانيين في التلمود ، وهي عبارة عن دراسات في شؤون الدين والقانون والتاريخ المقدس .. وعدتها ثلاثة وستون كتابا كتبت بالآرامية ، وأطلق عليها اسم ( المشناه ) ثم شرحت المشناه فيما بعد بالآرامية أيضا وأطلق على هذا الشرح اسم ( الجمارا ) .. وقد تالف من ( المشناه ) و( الجمارا ) معا ما أطلق عليه اسم
( التلمود ) .. كما وصل إلينا بعض الكتب الأخرى بالأدب والعلوم والفلسفة والدين ..
وتختلف آثار هذه المرحلة من حيث فصاحتها وصحتها تبعا لاختلاف المؤلفين في مبلغ تمكنهم من هذه اللغة وإلمامهم بآدابها .. وهي تمتاز بشكل عام بشدة تأثرها باللغة الآرامية وبعض اللغات الهندو – أوربية ، التي احتك اليهود بأهلها احتكاكا سياسيا أو ثقافيا ، ومن أهم هذه اللغات : الفارسية واليونانية واللاتينية ، غير أن هذا الاحتكاك لم ينجم عنه إلا اقتباس عدد من ألفاظ هذه اللغات ولم يؤثر في طلب النتاج الأدبي أو الديني ..
المرحلة الثانية : وتبدأ من فاتحة العصور الوسطى ، وتسمى ( عبرية القرون الوسطى ) التي بدا تأثرها شديدا بالعربية في هذه الفترة حيث عمد العلماء اليهود إلى ترجمة العلوم من العربية إلى العبرية متأثرين باللفظ والتركيب العربيين ، وتعد الفترة بين 1000 – 1300 بعد الميلاد الفترة الذهبية للأدب العبري الذي ازدهر في أحضان العربية ممثلا بشعراء مثل يهوذا اللاوي وسليمان بن جبيرول وغيرهما ..
وقد كتب في هذه المرحلة عدد كبير من علماء اليهود المنتمين إلى مختلف الشعوب والناطقين بشتى اللغات ، فمنهم الألمان والانكليز والفرنسيون والعرب ... وتمتاز العبرية في هذه المرحلة بشدة تأثرها بالعربية واللغات الأوربية الحديثة ..
ويرجع الفضل في تأثرها بالعربية إلى شدة احتكاكها من الناحية الثقافية في هذه المرحلة إلى المؤلفات العربية التي نقلها علماء اليهود إلى العبرية ، فزادوا بذلك ثروة لغتهم في الطب والعلوم والفلسفة والآداب ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل تجاوزه إلــى ميدان الشعر نفسه .. فقد اقتبس اليهود في هذه المرحلة بحور الشعر العربي وأساليبه وأغراضه ونظموا على غرارها باللغة العبرية ..
وفي الفترة التي أعقبت العصور الوسطى أطلقت على هذه اللغة تسمية (العبرية الحديثة ) ..
وتختلف آثار هذه المرحلة من حيث فصاحة اللغة تبعا للمؤلفين أنفسهم ، ومبلغ تمكنهم من لغتهم وإلمامهم بآدابها القديمة ، لان اغلبهم كان بعيدا عن لغته الأصلية .. وفي مطلع القرن الثامن عشر ضاق الكتاب اليهود ذرعا بهذا الأسلوب وعملوا على الانطلاق من عقال عبارات العهد القديم التي قيدت حرياتهم وبذلك بدأت مرحلة إحياء اللغة العبرية الحديثة والأدب العبري الحديث .. وبذلك اشتدت رغبتهم بمختلف أنحاء العالم إلى إحياء اللغة العبرية ، فوسعوا نطاق استعمالها في الشؤون الدينية والأدبية وفي ميادين الترجمة والتأليف ، وخاصة في أوريا الشرقية وفلسطين ، إذ حرص هؤلاء اليهود ، وبتأثير الحركة الصهيونية على إحياء قوميتهم المشتتة – حسب ادعائهم – ولغتهم الراكدة .. فحصل بعث للعبرية من جديد بفضل هذه العناية في حقول الكتابة والصحافة والآداب ، بل اخذ بعضهم يستخدمها لغة في التخاطب اليومي .. غير أن استخدامها هذا لازال ضعيفا ومحدودا ويشوبه كثير من الرطانة الغربية التابعة للغاتهم الأصلية ونوعية أرومتهم الأوربية ..
ويعتبر مفكرو حركة التنوير اليهودية ( الهاسكالاه ) والمفكرون والأدباء العبريين الصهاينة من رواد حركة بعث الحياة للغة العبرية في العصر الحديث ، وقد حاولوا بعث ما تصوروه
( التراث الديني اليهودي ) الأصلي ، فتبنوا عبرية العهد القديم ، وأنتجوا أدباً حديثاً ، ولكنهم فشلوا في المواءمة بين العبرية ومتطلبات العصر ، فاستعانوا بمفردات العبرية التلمودية ، ثم استعاروا من اللغات الأوربية ، وخاصة الألمانية والروسية بالإضافة إلى لغات أخرى ، إذ أن عبرية التوراة بلغت مفرداتها ما بين 7500 ـ 8500 كلمة ، وجاء قاموس العبرية الحديثة يضم ما يزيد على ( 68) ألف كلمة ، وظهرت أول مجلة عبرية في عام 1856م ، ونجد أن الأدباء الذين يكتبون بالعبرية في العصر الحديث هم من رواد الفكر الصهيوني ، منهم آحاد هعام ، وحاييم نحمن بياليك ، وتشرنحوفسكي . وقد حاول المفكر الصهيوني اليعاز بن يهودا إحياء العبرية ، فقوبلت في البداية بمقاومة شديدة من قبل اليهود المتدينين ، الذين يرون أن العبرية لغة مقدسة لا يجوز استخدامها في الحديث اليومي ..
كما ظهرت أول جريدة عبرية في فلسطين عام 1886م وأصبحت لغة التعليم عام 1913م في مدارس المستوطنين الصهاينة في فلسطين ، وضغطوا على حكومة الانتداب البريطاني للاعتراف بها إلى جانب اللغتين الإنجليزية والعربية كلغات رسمية ، والجدير بالذكر أن العبرية الحديثة ، هي مزيج من كل المراحل السابقة للعبرية ، فأخذت العناصر المناسبة ، وأصبحت المفردات والعبارات المستقاة من مراحل مختلفة مرادفات ، أما بناء الجُمل فتأثر باللغات الأوربية ، وامتزجت بالعبرية الحديثة ، مفردات أجنبية كثيرة ، وعلى وجه الخصوص من الإنجليزية واليديشية ، وثبت أن عملية الدمج لم تنجح بعد ، فالصحف التي تصدر في الكيان الإسرائيلي تظهر بلغة البلاد الأصلية التي هاجر منها اليهود ، وإذاعة العدو الإسرائيلي تذيع برامجها بلغات عديدة كاليديشية والفرنسية والإنجليزية والرومانية والتركية والفارسية والعربية والروسية والإسبانية ، ومعظم اليهود الصهاينة يتحدثون العبرية خارج منازلهم ، وأما داخل المنازل يتم التحدث بلغة الموطن الذي جاؤوا منه أو باللهجة العبرية التي يعرفونها وهي أيضاً متعددة ومتباينة . وأما الصابرا ( مواليد فلسطين ) فيتحدثون العبرية داخل المنازل وخارجها ، لأنها اللغة الأم بالنسبة إليهم بعد أن هاجر إلى فلسطين آباءهم وأجدادهم من أصقاع الدنيا المختلفة ، وانطلاقاً من هذه المعطيات فقد ظهرت مستويات مختلفة للغة العبرية ، فهناك : عبرية توراتية ، وثانية تلمودية متأثرة بالآرامية ، وثالثة يديشية ورابعة عبرية نمطية يتعلمها الطلاب في المدارس ، وهي مبنية على نمط النحو العربي ، والذي قاس اللغويون اليهود عليه نحوهم منذ العصر الأندلسي ، وهناك عبرية يستخدمها العامة ..
وإذا أردنا الوقوف على العبرية الحديثة في القرن العشرين ، فإننا لابد أن نتحدث عن اليهودي اليعـازر بن يهودا ( 1857 ـ 1922م ) . إذ يعتبر رائد إحياء اللغة العبرية الحديثة ، واسمه الأصلي ( اليعازر بيرلمان ) ولد في إحدى قرى ليتوانيا ، وتلقى تعليماً دينياً تقليدياً ، وقضى بعض سني شبابه في مدرسة تلمودية ، ولكنه وقع تحت تأثير حركة التنوير اليهودية ، فالتحق بمدرسة علمانية ، وانقطع بشكل جذري عن موروثه اليديشي ، واستهوته الأفكار الاشتراكية والعدمية والأفكار القومية العضوية ( ذات الطابع الفاشي ) التي انتشرت في أوربا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، والتي نشأت في تربتها أفكار مثل ( روح العصر ) ، و( روح الشعب ) ، و ( الشعب العضوي ) الذي لا يمكن أن يحقق ذاته إلا في أرضـه ومن خلال خصوصيته الثقافية ، والذي يحوّل الآخر إلى شعب عضوي منبوذ ، .. فاتجه إلى تبني الحل الإمبريالي للمسألة اليهودية أي الحل الصهيوني ( تصدير مشاكل الغرب ، ومنها المسألة اليهودية إلى الشرق ) .. واستقر بن يهودا في فلسطين عام 1881 مع زوجته حيث قام بالتدريس في مدارس الأليانس ، بعد أن أعطى تصريحاً بتدريس الموضوعات اليهودية بالعبرية ، وفي العام نفسه اشترك في تأسيس جمعية صهيونية دعت إلى العمل في الأرض أي فلسطين ، وإلى إحياء اللغة العبرية ، وبناء أدب عبري حديث ، وغرس الروح القومية في الشباب ، وفي عام 1884م نشر يهودا مجلة هاتسفي الأسبوعية والتي تحوّلت إلى جريدة يومية ، وحملت اسم ( ها أور ) منذ عام 1910م ، ونشر أفكاره الصهيونية فيها ، فهاجم نظام الصدقة ( حالوقة ) ودعا إلى العمل الزراعي ، وأدرك بن يهودا ارتباط إحياء اللغة العبرية بالتجربة الاستيطانية الصهيونية ، وأنه لا يمكن إنجاز الواحد دون الآخر .. واليهود الذين سيقدمون إلى فلسطين لن يؤسسوا جماعة دينية تلتزم بقيم أخلاقية ، وذلك أن المثل الدينية ( حسب رؤيته ) لم تنجح إلا في إنتاج أمة يهودية ميّتة لا أرض لها ، ولا لغة ، أمة روحية ناقصة تثير الضحك لدى الأمم الأخرى ..
وقد انصبّت جهود اليعازر بن يهودا على إحياء اللغة العبرية ، فبحث في أدب العبرية الكلاسيكي عن الألفاظ التي تصلح للاستعمال في الحياة اليومية في العصر الحديث ، وقام باشتقاق كلمات عبرية جديدة ، واستعار بعض الألفاظ والعبارات من اللغة العربية ، وقام بتطوير أسلوب عبري جديد وبسيط ، وحارب اللغة اليديشية ..
وإن أهم أعماله إخراجه ( المعجم العبري القديم ) و ( المعجم الحديث ) بعد أن ظل يعمل فيه زهاء أربعين عاماً . ولم يستطع أن ينتج أكثر من تسعة مجلدات .. وقد أسس بن يهودا جمعية اللغة العبرية عام 1859 م وعمل رئيساً لها حتى وفاته 1922م . وتحوّلت هذه الجمعية عام 1953م إلى أكاديمية اللغة العبرية التي قامت بإكمال مشروع بن يهودا وأصدرت المعجم كاملاً سبعة عشر جزءاً عام 1959م ، ورغم إصرار اليعازر بن يهودا على فكرة القومية العضوية المرتبطة بالأرض .. فإنه لم يتردد في مناقضة نفسه ، إذ أيد مشروع شرق أفريقيا بدلاً من فلسطين .. وكان من أوائل الداعين إلى تقبل وجود اليهود خارج فلسطين ( الشتات ) ، على أن تربطهم رابطة ثقافية مع ( وطنهم ) بحيث يتحوّل هذا الوطن إلى مركز روحي ، وقد جلب عليه اهتمامه بالعبرية لعنة اليهود الأرثوذكس الذين كانوا يعتبرون اللغة العبرية لغة مقدسة ، لا تستخدم إلا في الصلاة ..
بهذا القدر نكتفي بما أوردناه في دراستنا هذه عن نشأة اللغة العبرية وتطورها وسنتحدث في دراسة لاحقة ان شاء الله بالتفصيل عن دور حركة الهاسكالاه والحركة الصهيونية في إحياء هذه اللغة وإقامة المؤسسات والمراكز العبرية في فلسطين المحتلة وخارجها ..
المراجع
1 . الباحث حكمت بلعاوي ، الجذور التاريخية للغة العبرية ومنابع تطورها ، موقع مؤسسة فلسطين للثقافة ..
2 . الدكتور ربحي كمال ، دروس في اللغة العبرية ، مطبعة جامعة دمشق ، ط4 ، 1966
3 . الدكتور محمد التونجي ، اللغة العبرية وادابها ، منشورات جامعة بنغازي – كلية الاداب ، مطبعة جامعة عين شمس ، 1973
4 . الأستاذ الدكتور يوسف قوزي والأستاذ محمد كامل روكان ، آرامية العهد القديم – قواعد ونصوص ، منشورات المجمع العلمي العراقي ، مطبعة المجمع العلمي العراقي – بغداد 2006 ميلادية ، 1427 هجرية
5 . الأستاذ الدكتور خالد إسماعيل ( عميد كلية اللغات في جامعة بغداد سابقا ) ، فقه لغات العاربة المقارن ، مسائل وآراء ، اربد ، مكتب البروج ، 2000
5 . الأستاذ الدكتور عامر سليمان ، عضو المجمع العلمي العراقي وأستاذ في كلية الآثار – جامعة الموصل ، الكتابة المسمارية ، نشر وتوزيع دار الكتب للطباعة والنشر ، الموصل ،
العراق ، 2000
6 . محاضرات عن اللغة العبرية وتطورها ، ألقاها الباحث عبدالوهاب محمد الجبوري على طلبة كلية الآثار في جامعة الموصل ، 2006 – 2010
الباحث الدكتور عبدالوهاب الجبوري
المقدمة
إذا أخذنا برواية التوراة بان أصل اليهود من أور الكلدانيين ( أور هكسديم ) تواجهنا مسالة لغتهم ، فهل كانوا يتحدثون بالبابلية التي كانت سائدة في بلاد أور أو هل كانوا يتحدثون بلهجة آرامية أو كما تسمى العبرية القديمة ، وكيف كانوا يتفاهمون بين الناس الذين كانوا يعيشون بينهم .. ستبقى هذه الأسئلة بلا جواب حاسم ، على الأقل ، إلى أن يكشف ما يلقي الضوء عليها ، لكن الذي نستطيع أن نقطع به هو أنهم من بداية الألف الأول ق. م كانوا يستعملون إحدى اللهجات التي
كانت سائدة ومنتشرة في تلك الفترة كالفينيقية والموابية والعمانية والآرامية وسواها من اللهجات القريبة ، وقد أطلق المؤرخون اليهود على هذه اللهجة اللغة العبرية ، ثم استخدموا الخط المشتق من الرسم الفينيقي في بداية أمرهم ، أي نحو المائة العاشرة ق. م وفي نحو المائة السادسة ق. م بدؤوا وأثناء وجودهم في بابل يستعملون الخط المربع ( المشتق من اللغة الآرامية ) الذي كتبوا به العهد القديم والتلمود والأدب العبري وغير ذلك من فنونهم و آدابهم ، ومنذ تلك الفترة بدأ تأثير الآرامية في لغتهم ، وازداد التأثير باطراد بعد ذلك حتى أصبحت العبرية لغة طقوس محدودة لا غير .. وكُتب أكثر من نصف التلمود بالآرامية وكذلك بعض أسفار وأجزاء العهد القديم ، مثل عزرا وارميا ، كما انه لا يوجد في أسفار العهد القديم ما يشير إلى تسميتهم لها بالعبرية ، وإنما كانت تسمى باللغة اليهودية ، كما جاء في سـفر اشعيا ( 36 / 11 ) :
( فقال الياقيم وشبنا ويواح لربشاقا كلم عبيدك باللغة الآرامية لان نفهمها ولا تكلمنا باليهودية على مسامع الشعب الذين على السور ) ، ولم تعرف باسم العبرية أو اللغة المقدسة إلا بعد الأسر البابلي في كتاب ابن سيرا وفي مصنفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس وفي المشنا والتلمود ..
نشأة اللغة العبرية
إن هذا الغموض الذي يلف نشأة اللغة العبرية وتطورها قد استفاد منه اليهود ، حيث قاموا بتحريف الحقائق التاريخية والعلمية عن نشأة اللغة العبرية وتطورها ، وتحول الغموض إلى تشويش يهودي متعمد عن تاريخ لغتهم كي تضيع الحقيقة ويصبح لهم تراث لغوي يكتبون به آثارهم وتاريخهم .. ولقد ساهم في خلق هذا التشويش ، مجموعة من المستشرقين الذين حاولوا إعطاء صفة الاستقلالية للغة العبرية ، وبأنها لغة متكاملة ، ونسبوا إليها العديد من اللغات الأخرى ، التي لم تستطع البرهنة على سلامة هذا التوجه والمضمون ، بل أن الوقائع استطاعت إثبات أن اللغة العبرية ، هي إحدى اللهجات الكنعانية والآرامية ، كما اشرنا إلى هذا ، ولم تتوصل إلى لغة ذات أبعاد مترابطة ومتكاملة إلا في منتصف القرن العشرين ، وأكثر من ذلك ، فإن الكثير من الجماعات اليهودية التي يطلق عليها أتباع الديانة اليهودية ، ما زالت لم تأخذ باللغة العبرية ، وإنما تستخدم العديد من اللغات واللهجات التي كانت ولا زالت تتحدث بها ، بدءاً من اليديشية التي يتحدث بها أعداد كبيرة من هذه الجماعات وخاصة الاشكنازيم ( اليهود الغربيين ) ، واليديشية هي رطانة من لغات أوربية عديدة ، وهناك لهجة اللادينو الإسبانية ، وهي التي يتحدث بها السفارديم ( اليهود الشرقيون ) ، عدا عن جماعات يهودية تتحدث بلغات البلـدان المقيمين فيها ، وعدم استخدامهم أو معرفتهم باللغة العبرية ، وهناك جماعات يهودية كالفلاشا الذين جاؤوا من الحبشة ، أما اليهود الهنود والإيرانيون والصينيون والروس ، ويهود أوروبا والولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية وإفريقيا ، كل هؤلاء ، لازالوا يتكلمون بلغات البلدان التي كانوا يقطنونها ، وانقسموا إلى جماعات متناحرة متنافرة ذات اتجاهات عديدة دينياً وفكرياًَ ولغوياً مما أصبح من الصعب أن نطلق عليهم ، أنهم أصحاب ديانة يتكلمون بلغة واحدة ، لأنهم بالأصل ليسوا شعباً من الشعوب ، ولا أمة من الأمم ، وإنما هم موزعون على كافة الأمم والشعوب ، فكيف يكون لهم لغة موحدة ..
وقد حاول المؤرخون اليهود وضع لغة توراتية وتلمودية ، ومع هذا كانت متباينة مع بعضها ، حتى في أداء صلواتهم ، وعليه فإنهم لم يضعوا لغة متكاملة عبر التاريخ الطويل ، وكان أجدادنا السومريون قبل الألف الرابع ق.م في جنوب بلاد الرافدين قد اخترعوا الكتابة نحو 3500 ق.م ، فكانت اللغة السومرية أول لغة مكتوبة ، ومن تاريخ كتابتهم بدأت الحضـارة ، ورغم محاولة البعض التشكيك بعروبتهم ، إلا أنهم قبائل عربية أصيلة كما أن تسميتهم بهذا الاسم تدلل على نقاوة عروبتهم ، لأن سومر تعني لغوياً ضوء القمر ، والعرب يتمتعون بالسهرات الممتعة في ضوء القمر قبل الميلاد ، وحتى هذا التاريخ ، فالتسمية جاءت من واقع معاش ، وعلينا الارتشاف من أقوالهم المأثورة ( الدولة الضعيفة التسليح لا يطرد العدو من أبوابها ) ، و ( من يترك القتال قبل أن ينتهي لن يعيش في سلام ) وهكذا تتابعت القبائل العربية تحمل التراث والحضارة ، فكانت رائدة في مجال اللغة والعلوم وغيرها من الإبداعات ، واتكأت عليها الشعوب والأمم ، فكان اليهود قد استقوا لهجاتهم اللغوية من اللغة الكنعانية والآرامية والفينيقية والعربية بفصاحتها وبيانها الساحر ، حتى استحقت عن جدارة ريادة علم اللغة بكل أبعاده ودلالاته ومعانيه وأصوله ..
وقد دل الاستقراء العلمي على أن لغة كنعان ( التي يطلق عليها اليهود اللغة العبرية القديمة ) قد نشأت في ارض كنعان ، حتى قبل نزوح الإسرائيليين إليها ، وهذه اللغة هي اللغة التي ورد ذكرها في سفر اشعيا تحت اسم ( لغة كنعان ) ويقول المرحوم الدكتور ربحي كمال في كتابه
( دروس اللغة العبرية ) أن العبريين لما هاجروا إلى ارض كنعان حوالي القرن الثالث عشر ق. م . كانوا يتكلمون آنئذ لهجة تقرب من إحدى لهجات الآرامية القديمة ومن ثم راحوا يستعملون لغة البلاد التي هاجروا إليها واخذوا ينسون تدريجيا لغتهم الأصلية ، ومع بداية القرن الحادي عشر أضحت اللغة الكنعانية هي اللغة المستعملة ..
واللغة العبرية ليست لغة العبريين جميعا ، بل لغة فرع واحد من فروعهم وهو فرع بني إسرائيل وتتألف القبائل العبرية ، بالإضافة لبني إسرائيل ، من عدة شعوب أخرى كبني أدوم ومواب وعمون ، ولا تطلق العبرية إلا على لغة بني إسرائيل وحدهم ..
وهكذا فان تسمية العبرانيين ما هي إلا تسمية تطلق على كل القبائل والمجموعات والأفراد الذين ينتقلون من مكان إلى آخر طلباً للكلأ والماء ، وفي سبيل ذلك يقطعون الفيافي والقفار والصحارى والأنهار ، وهذه التسمية إنما هي صفة تطلق على كافة الأقوام التي تقوم بهذا التحرك ، لتحقيق الغايات والأهداف التي ينشدونها ، عليه فإن لفظة العبرانيين أو العبيرو أو الخبيرو ما هي إلا صفات ، ولا تدلل على الانتماء إلى شعب من الشعوب أو أنها تكوّن شعباً من الشعوب ، سواء كان ذلك في الجزيرة العربية ، أو بلاد ما بين النهرين أو في مجاهل أفريقيا ، أو أمريكا اللاتينية أو أوربا أو أيّ جزء من العالم ..
اللغات التي كتب بها العهد القديم
لقد أدى زوال نفوذ بني إسرائيل السياسي ، وتدمير بيت المقدس والغزوات التي تعرضوا لها ، إلى تدهور كبير في اللغة العبرية ، فأثرت هذه الحوادث تأثيرا كبيرا في تاريخ اليهود الديني اللغوي .. وتشير المصادر التاريخية أن أسفار الكتاب المقدس ( العهدين القديم والجديد ) قد كتبت بثلاث لغات رئيسية :
1 . اللغة العبرية القديمة : وهذه أصلها أرامية امتزجت ببعض اللغات السامية
( العاربية ) فتشوهت ودعيت من ثم باللغة العبرية ، ذلك أن اليهود يدعون أن لفظة ( العبرية ) منسوبة إلى جدهم الأعلى إبراهيم ( عليه السلام ) الذي أسموه تضليلا إبراهيم العبري ، وما برح الإسرائيليون يكررون في صلاتهم مصرحين بقولهم على ما جاء في سفر التثنية ( كان أبي آراميا تائها ) .. ولما قدم إبراهيم إلى ارض كنعان وامتزج أحفاده بالأمم السامية ( العاربية ) الساكنة في تلك الربوع دخلت على لغتهم اصطلاحات جديدة ، فتغيرت عن أصلها الآرامي القديم وسميت اللغة العبرية القديمة .. ومعظم أسفار العهد القديم كتبت بهذه اللغة ..
2 . اللغة العبرية الجديدة : يقول الدكتور محمد التونجي في كتابه ( اللغة العبرية وآدابها ) عندما سبي اليهود إلى بابل في أيام نبوخذ نصر ، امتزجوا مع البابليين ورجعت الآرامية الصحيحة إلى لسانهم واستعملوها ، لان الآرامية كانت منتشرة في بلاد بابل وسائر بقاع ما بين النهرين ، كما يؤيد ذلك الكتاب المقدس وكتب التاريخ ، وقد سماها بعضهم بالعبرية ليس لأنها اللغة العبرية المعروفة ، بل لان العبرانيين كانوا يتكلمون بها ، ويسميها علماء اليهود بالترجوم .. وقد كتب بها في هذه المرحلة عدد كبير من علماء اليهود المنتسبين إلى شعوب شتى ... حتى أن بعضهم اسماها العبرية الجديدة ... وتمتاز العبرية في هذه المرحلة بشدة تأثرها باللغة العربية واللغات الأوربية الحديثة .. وقد لوحظ أن الطوائف اليهودية الشرقية – لاسيما يهود الأقطار العربية - والغربية تختلف في نطق الحروف العبرية ومن الطبيعي أن يكون نطق الطوائف الشرقية أقرب وأضبط إلى الصواب وهي على وجه العموم ابلغ عبارة وأفصح لغة من بني جلدتهم يهود الغرب الذين يستعملون هذه اللغة .. فاللغة العبرية تحتوي كاللغة العربية حروفا حلقية وحروف إطباق يصعب على الغربيين النطق بها نطقا صحيحا فينطقون العين همزة والحاء خاءً والراء غيناً والطاء تاءً والقاف كافاً .. وتخل الطوائف اليهودية الغربية بالنطق بحرف الصاد ( صادي) فتنطقه تسادي.. وكثيرا ما يجاري اليهود الشرقيون اليهود الغربيين في الإخلال بنطق هذه الحروف ..
3 . اللغة اليونانية : وهي لغة العهد الجديد وتعرف باليونانية الهلّلنية ، والذي حمل كتاب العهد الجديد إلى استخدامها بدلا من العبرية هو أنها كانت آنئذ أفضل وسيلة لنشر الديانة المسيحية بين جميع الأمم المجاورة .. فلم تكن اليونانية معروفة فقط لليونانيين أنفسهم بل لسكان قسم كبير من الإمبراطورية الرومانية ، حتى أن أكثر أهل روما نفسها يتكلمون بها ..
رسم الخط العبري
اشتق الرسم العبري ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك ، من الرسم الفينيقي وتتألف حروفه الهجائية من اثنين وعشرين حرفا ، وتذكر المصادر أن الخط / الرسم العبري اجتاز في سبيل تطوره أربع مراحل :
1 . المرحلة الأولى : كانت أشكال حروفه لا تختلف كثيرا عن الحروف الفينيقية القديمة .. بل هي بعينيها تقريبا ، ومع ذلك يعرف اليهود هذا الرسم في هذه المرحلة باسم ( الخط العبري القديم ) ..
2 . المرحلة الثانية : ظهر تأثره بالرسم الآرامي ، تبعا لتأثره باللغة الآرامية نفسها .. ومن ثم نشا نوع جديد من الرسم اشتهرت تسميته بالرسم العبري
( الحديث ) أو ( العبري المربع )..وقد اقتصر في البدء استخدام هذا الرسم الجديد على الشؤون الدينية، أما فيما بعد فقد ظل اليهود يستخدمون الرسم القديم فترة طويلة ..
3 . المرحلة الثالثة : وتبدأ في حوالي القرن السادس الميلادي ، وفيها ادخل على هذا الرسم إصلاح جديد .. فقد اعتبرت الألف والهاء والواو والياء أصوات مد طويلة ، فساعد ذلك على ضبط النطق وحفظ الكلمات من التحريف ..
4 . المرحلة الرابعة : هي العبرية الحديثة ، وفيها ادخل إصلاح آخر ، فقد اخترع نظام الحركات للشارة إلى أصوات المد القصيرة ، وقد أخذت ثلاث طرق لرسم هذه الحركات :
أ . تعرف بالطريقة الطبريّة بفلسطين نسبة إلى مدرسة من العلماء تسمى مدرسة طبريا ، لنشاتها في مدينة طبريا الفلسطينية .. وهذه الطريقة ترمز إلى أصوات المد القصيرة بعلامات تحت الحروف ، وهي أشهر الطرق الثلاث ..
وتكاد تكون هذه الطريقة الوحيدة المستخدمة في الوقت الحاضر.. وقد اشتهر في النطـق بالكلمات المدونة بهذه الطريقة أسلوبان كل منهما يختلف عن الآخر اختلافا يسيرا :
الأول : يسمى أسلوب اليهود الغربيين أو الأسلوب الألماني ..
الثاني : يسمى أسلوب اليهود الشرقيين أو الأسلوب البرتغالي ..
ب . تعرف بالطريقة العراقية أو البابلية لان الفضل في اختراعها يرجع إلى مدارس أحبار اليهود بالعراق أيام السبي البابلي وأيام الاحتكاك باللغات الكائنة ما بين النهرين .. وهذه الطريقة ترمز إلى أصوات المد القصيرة بعلامات توضع فوق الحروف ، وقد انقرضت هذه الطريقة بانقراض المدارس البابلية التي أنشأتها حوالي القرن التاسع الميلادي ..
ج. تعرف بالطريقة الفلسطينية ، وهي تشير إلى هذه الأصوات بعلامات فوق الحروف ، كما تفعل الطريقة العراقية ، ولكنها تختلف عنها في صورة هذه العلامات ودلالاتها ..
وتشير المصادر التاريخية ان الرسم العربي واليوناني قد استخدما في تدوين بعض النصوص العبرية القديمة ..
مراحل اللغة العبرية
إن إطلاق تعبير (لغة) على العبرية ، هو من باب التجاوز ، لأنه لا توجد لغة عبرية خالصة نقية ، وإنما هي إحدى اللهجات الكنعانية كما اشرنا إلى هذا ، بمعنى أنها لغة مصطنعة ولم يتحدث بها اليهود إلا لفترة قصيرة جداً ، فلغة الآباء ( إبراهيم وإسحق ويعقوب ) ( 2100 ـ 1200 ق.م ) ، إنما كانت لهجة ساميّة قريبة من العربية أو الآرامية ، وقد مرت العبرية بأطوار متعددة عبر الحقبة الزمنية الطويلة التي عاشتها قبل أن يتم بعثها من جديد وتصبح لغة المجتمع اليهودي في فلسطين وتعود إليها الحياة في لهجتيها الاشكنازية والسفارادية وباتت الثانية منهما هي الرسمية المعتمدة في تصريف الشؤون العامة .. وخلال تلك الأطوار
اجتازت اللغة العبرية عدة مراحل ، امتازت كل مرحلة بنوع من المؤثرات والتأثيرات طبعت اللغة بطابع خاص وأثرت فيها بناحية معينة ، واغلب هذه المؤثرات والتأثيرات سياسي ، كرحيلهم أو طردهم أو استقلالهم أو علاقاتهم بالأمم المحيطة بهم .. وقد قسم علماء اللغات تطور العبرية إلى عصرين رئيسيين ( وان كان البعض يقسمها إلى ثلاثة عصور ) ..
العصر الأول :
حسب المؤرخين اليهود فان هذا العصر يمتد من نشأة هذه اللغة إلى أواخر القرن الرابع قبل الميلاد ، أي طوال الفترة التي كانت العبرية لغة حية يتكلم بها بنو إسرائيل .. وقد دعيت اللغة في هذا العصر بالعبرية القديمة ، ويرى مؤرخو الأدب العبري أن العبرية بلغت في هذا العصر ذرا مجدها ووصلت إلى غاية ما استطاعت الوصول إليه من النمو والتهذيب واتساع النفوذ .. وفي الفترة الأخيرة من هذا العصر تم تدوين بعض أسفار العهد القديم ، وان أهم
ما وصلنا من آثار هذا العصر قصيدة حماسية دينية وردت في الإصحاح الخامس من سفر القضاة موجهة إلى حكيمة من حكيمات بني إسرائيل تدعى ( دبوره ) ونقش تاريخي هو اللوحة التذكارية لنبع عين ( السلوان ) وقد عثر عليها عام 1880 ميلادية ..
أما المصادر العلمية والتاريخية فتذكر أن هذه اللغة هي لغة دينية مزيجة غير نقية ولا يمكن إطلاق تسمية اللغة العبرية عليها ، فلم يتوفر لها أسباب الاستقلال اللغوي أو التمايز اللهجي ، فقد استعارت هذه اللغة مفردات كثيرة من اللغات المجاورة كالكنعانية والبابلية والآشورية والآرامية والمصرية القديمة والفارسية وأخيراً اليونانية ، واستمر اليهود يستخدمون هذه اللغة حتى الترحيل البابلي عام 586 ق.م حيث عمدوا إلى استعارة اللغة الآرامية ولغات أخرى ، ثم أخذت عوامل الاضمحلال تدخل عليها نظراً لظهور الآرامية كلهجة آرامية لأعداد كبيرة من العبرانيين ، ولهجة للتجارة والإدارة في الشرق ، إلا أنها اختفت تماماً حتى في فلسطين نحو عام 250 ق.م ..
العصر الثاني :
في هذا العصر راحت عوامل الفناء تدب رويدا رويدا إلى اللغة العبرية ، وأخذت الآرامية تتغلب عليها وتنتقص من نفوذها شيئا فشيئا حتى قضت عليها .. وقد تأثرت العبرية خلال هذه الفترة بثلاثة عوامل كان لها جميعا اثر فاعل في إضعاف هذه اللغة وهي : إغارة الأشوريين والكلدانيين على فلسطين وما نجم عن ذلك من تشتيت شمل اليهود ، ثم استيلاء اليونان على فلسطين وانتشار اللغة الإغريقية والثقافة الإغريقية في الأقاليم التي خضعت للإغريق ، ثم الفتح الإسلامي وما تلاه من سيطرة العربية والثقافة الإسلامية ..
ويبدأ هذا العصر من العهد الذي انقرضت فيه العبرية من التخاطب واقتصر استخدامها على الكتابة وتلاوة بعض الأوراد والآيات ، أي من أواخر القرن الرابع قبل الميلاد إلى العصر الحاضر .. وتسمى العبرية في هذا العصر بالعبرية اللاحقة للعهد القديم .. وينقسم هذا العصر إلى مرحلتين تمتاز كل منهما بمميزات لغوية خاصة :
المرحلة الأولى : تنتهي بفاتحة العصور الوسطى ، وتسمى العبرية الربانية أو التلمودية لان أهم ما وصل إلينا من آثار هو بحوث الربانيين في التلمود ، وهي عبارة عن دراسات في شؤون الدين والقانون والتاريخ المقدس .. وعدتها ثلاثة وستون كتابا كتبت بالآرامية ، وأطلق عليها اسم ( المشناه ) ثم شرحت المشناه فيما بعد بالآرامية أيضا وأطلق على هذا الشرح اسم ( الجمارا ) .. وقد تالف من ( المشناه ) و( الجمارا ) معا ما أطلق عليه اسم
( التلمود ) .. كما وصل إلينا بعض الكتب الأخرى بالأدب والعلوم والفلسفة والدين ..
وتختلف آثار هذه المرحلة من حيث فصاحتها وصحتها تبعا لاختلاف المؤلفين في مبلغ تمكنهم من هذه اللغة وإلمامهم بآدابها .. وهي تمتاز بشكل عام بشدة تأثرها باللغة الآرامية وبعض اللغات الهندو – أوربية ، التي احتك اليهود بأهلها احتكاكا سياسيا أو ثقافيا ، ومن أهم هذه اللغات : الفارسية واليونانية واللاتينية ، غير أن هذا الاحتكاك لم ينجم عنه إلا اقتباس عدد من ألفاظ هذه اللغات ولم يؤثر في طلب النتاج الأدبي أو الديني ..
المرحلة الثانية : وتبدأ من فاتحة العصور الوسطى ، وتسمى ( عبرية القرون الوسطى ) التي بدا تأثرها شديدا بالعربية في هذه الفترة حيث عمد العلماء اليهود إلى ترجمة العلوم من العربية إلى العبرية متأثرين باللفظ والتركيب العربيين ، وتعد الفترة بين 1000 – 1300 بعد الميلاد الفترة الذهبية للأدب العبري الذي ازدهر في أحضان العربية ممثلا بشعراء مثل يهوذا اللاوي وسليمان بن جبيرول وغيرهما ..
وقد كتب في هذه المرحلة عدد كبير من علماء اليهود المنتمين إلى مختلف الشعوب والناطقين بشتى اللغات ، فمنهم الألمان والانكليز والفرنسيون والعرب ... وتمتاز العبرية في هذه المرحلة بشدة تأثرها بالعربية واللغات الأوربية الحديثة ..
ويرجع الفضل في تأثرها بالعربية إلى شدة احتكاكها من الناحية الثقافية في هذه المرحلة إلى المؤلفات العربية التي نقلها علماء اليهود إلى العبرية ، فزادوا بذلك ثروة لغتهم في الطب والعلوم والفلسفة والآداب ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل تجاوزه إلــى ميدان الشعر نفسه .. فقد اقتبس اليهود في هذه المرحلة بحور الشعر العربي وأساليبه وأغراضه ونظموا على غرارها باللغة العبرية ..
وفي الفترة التي أعقبت العصور الوسطى أطلقت على هذه اللغة تسمية (العبرية الحديثة ) ..
وتختلف آثار هذه المرحلة من حيث فصاحة اللغة تبعا للمؤلفين أنفسهم ، ومبلغ تمكنهم من لغتهم وإلمامهم بآدابها القديمة ، لان اغلبهم كان بعيدا عن لغته الأصلية .. وفي مطلع القرن الثامن عشر ضاق الكتاب اليهود ذرعا بهذا الأسلوب وعملوا على الانطلاق من عقال عبارات العهد القديم التي قيدت حرياتهم وبذلك بدأت مرحلة إحياء اللغة العبرية الحديثة والأدب العبري الحديث .. وبذلك اشتدت رغبتهم بمختلف أنحاء العالم إلى إحياء اللغة العبرية ، فوسعوا نطاق استعمالها في الشؤون الدينية والأدبية وفي ميادين الترجمة والتأليف ، وخاصة في أوريا الشرقية وفلسطين ، إذ حرص هؤلاء اليهود ، وبتأثير الحركة الصهيونية على إحياء قوميتهم المشتتة – حسب ادعائهم – ولغتهم الراكدة .. فحصل بعث للعبرية من جديد بفضل هذه العناية في حقول الكتابة والصحافة والآداب ، بل اخذ بعضهم يستخدمها لغة في التخاطب اليومي .. غير أن استخدامها هذا لازال ضعيفا ومحدودا ويشوبه كثير من الرطانة الغربية التابعة للغاتهم الأصلية ونوعية أرومتهم الأوربية ..
ويعتبر مفكرو حركة التنوير اليهودية ( الهاسكالاه ) والمفكرون والأدباء العبريين الصهاينة من رواد حركة بعث الحياة للغة العبرية في العصر الحديث ، وقد حاولوا بعث ما تصوروه
( التراث الديني اليهودي ) الأصلي ، فتبنوا عبرية العهد القديم ، وأنتجوا أدباً حديثاً ، ولكنهم فشلوا في المواءمة بين العبرية ومتطلبات العصر ، فاستعانوا بمفردات العبرية التلمودية ، ثم استعاروا من اللغات الأوربية ، وخاصة الألمانية والروسية بالإضافة إلى لغات أخرى ، إذ أن عبرية التوراة بلغت مفرداتها ما بين 7500 ـ 8500 كلمة ، وجاء قاموس العبرية الحديثة يضم ما يزيد على ( 68) ألف كلمة ، وظهرت أول مجلة عبرية في عام 1856م ، ونجد أن الأدباء الذين يكتبون بالعبرية في العصر الحديث هم من رواد الفكر الصهيوني ، منهم آحاد هعام ، وحاييم نحمن بياليك ، وتشرنحوفسكي . وقد حاول المفكر الصهيوني اليعاز بن يهودا إحياء العبرية ، فقوبلت في البداية بمقاومة شديدة من قبل اليهود المتدينين ، الذين يرون أن العبرية لغة مقدسة لا يجوز استخدامها في الحديث اليومي ..
كما ظهرت أول جريدة عبرية في فلسطين عام 1886م وأصبحت لغة التعليم عام 1913م في مدارس المستوطنين الصهاينة في فلسطين ، وضغطوا على حكومة الانتداب البريطاني للاعتراف بها إلى جانب اللغتين الإنجليزية والعربية كلغات رسمية ، والجدير بالذكر أن العبرية الحديثة ، هي مزيج من كل المراحل السابقة للعبرية ، فأخذت العناصر المناسبة ، وأصبحت المفردات والعبارات المستقاة من مراحل مختلفة مرادفات ، أما بناء الجُمل فتأثر باللغات الأوربية ، وامتزجت بالعبرية الحديثة ، مفردات أجنبية كثيرة ، وعلى وجه الخصوص من الإنجليزية واليديشية ، وثبت أن عملية الدمج لم تنجح بعد ، فالصحف التي تصدر في الكيان الإسرائيلي تظهر بلغة البلاد الأصلية التي هاجر منها اليهود ، وإذاعة العدو الإسرائيلي تذيع برامجها بلغات عديدة كاليديشية والفرنسية والإنجليزية والرومانية والتركية والفارسية والعربية والروسية والإسبانية ، ومعظم اليهود الصهاينة يتحدثون العبرية خارج منازلهم ، وأما داخل المنازل يتم التحدث بلغة الموطن الذي جاؤوا منه أو باللهجة العبرية التي يعرفونها وهي أيضاً متعددة ومتباينة . وأما الصابرا ( مواليد فلسطين ) فيتحدثون العبرية داخل المنازل وخارجها ، لأنها اللغة الأم بالنسبة إليهم بعد أن هاجر إلى فلسطين آباءهم وأجدادهم من أصقاع الدنيا المختلفة ، وانطلاقاً من هذه المعطيات فقد ظهرت مستويات مختلفة للغة العبرية ، فهناك : عبرية توراتية ، وثانية تلمودية متأثرة بالآرامية ، وثالثة يديشية ورابعة عبرية نمطية يتعلمها الطلاب في المدارس ، وهي مبنية على نمط النحو العربي ، والذي قاس اللغويون اليهود عليه نحوهم منذ العصر الأندلسي ، وهناك عبرية يستخدمها العامة ..
وإذا أردنا الوقوف على العبرية الحديثة في القرن العشرين ، فإننا لابد أن نتحدث عن اليهودي اليعـازر بن يهودا ( 1857 ـ 1922م ) . إذ يعتبر رائد إحياء اللغة العبرية الحديثة ، واسمه الأصلي ( اليعازر بيرلمان ) ولد في إحدى قرى ليتوانيا ، وتلقى تعليماً دينياً تقليدياً ، وقضى بعض سني شبابه في مدرسة تلمودية ، ولكنه وقع تحت تأثير حركة التنوير اليهودية ، فالتحق بمدرسة علمانية ، وانقطع بشكل جذري عن موروثه اليديشي ، واستهوته الأفكار الاشتراكية والعدمية والأفكار القومية العضوية ( ذات الطابع الفاشي ) التي انتشرت في أوربا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، والتي نشأت في تربتها أفكار مثل ( روح العصر ) ، و( روح الشعب ) ، و ( الشعب العضوي ) الذي لا يمكن أن يحقق ذاته إلا في أرضـه ومن خلال خصوصيته الثقافية ، والذي يحوّل الآخر إلى شعب عضوي منبوذ ، .. فاتجه إلى تبني الحل الإمبريالي للمسألة اليهودية أي الحل الصهيوني ( تصدير مشاكل الغرب ، ومنها المسألة اليهودية إلى الشرق ) .. واستقر بن يهودا في فلسطين عام 1881 مع زوجته حيث قام بالتدريس في مدارس الأليانس ، بعد أن أعطى تصريحاً بتدريس الموضوعات اليهودية بالعبرية ، وفي العام نفسه اشترك في تأسيس جمعية صهيونية دعت إلى العمل في الأرض أي فلسطين ، وإلى إحياء اللغة العبرية ، وبناء أدب عبري حديث ، وغرس الروح القومية في الشباب ، وفي عام 1884م نشر يهودا مجلة هاتسفي الأسبوعية والتي تحوّلت إلى جريدة يومية ، وحملت اسم ( ها أور ) منذ عام 1910م ، ونشر أفكاره الصهيونية فيها ، فهاجم نظام الصدقة ( حالوقة ) ودعا إلى العمل الزراعي ، وأدرك بن يهودا ارتباط إحياء اللغة العبرية بالتجربة الاستيطانية الصهيونية ، وأنه لا يمكن إنجاز الواحد دون الآخر .. واليهود الذين سيقدمون إلى فلسطين لن يؤسسوا جماعة دينية تلتزم بقيم أخلاقية ، وذلك أن المثل الدينية ( حسب رؤيته ) لم تنجح إلا في إنتاج أمة يهودية ميّتة لا أرض لها ، ولا لغة ، أمة روحية ناقصة تثير الضحك لدى الأمم الأخرى ..
وقد انصبّت جهود اليعازر بن يهودا على إحياء اللغة العبرية ، فبحث في أدب العبرية الكلاسيكي عن الألفاظ التي تصلح للاستعمال في الحياة اليومية في العصر الحديث ، وقام باشتقاق كلمات عبرية جديدة ، واستعار بعض الألفاظ والعبارات من اللغة العربية ، وقام بتطوير أسلوب عبري جديد وبسيط ، وحارب اللغة اليديشية ..
وإن أهم أعماله إخراجه ( المعجم العبري القديم ) و ( المعجم الحديث ) بعد أن ظل يعمل فيه زهاء أربعين عاماً . ولم يستطع أن ينتج أكثر من تسعة مجلدات .. وقد أسس بن يهودا جمعية اللغة العبرية عام 1859 م وعمل رئيساً لها حتى وفاته 1922م . وتحوّلت هذه الجمعية عام 1953م إلى أكاديمية اللغة العبرية التي قامت بإكمال مشروع بن يهودا وأصدرت المعجم كاملاً سبعة عشر جزءاً عام 1959م ، ورغم إصرار اليعازر بن يهودا على فكرة القومية العضوية المرتبطة بالأرض .. فإنه لم يتردد في مناقضة نفسه ، إذ أيد مشروع شرق أفريقيا بدلاً من فلسطين .. وكان من أوائل الداعين إلى تقبل وجود اليهود خارج فلسطين ( الشتات ) ، على أن تربطهم رابطة ثقافية مع ( وطنهم ) بحيث يتحوّل هذا الوطن إلى مركز روحي ، وقد جلب عليه اهتمامه بالعبرية لعنة اليهود الأرثوذكس الذين كانوا يعتبرون اللغة العبرية لغة مقدسة ، لا تستخدم إلا في الصلاة ..
بهذا القدر نكتفي بما أوردناه في دراستنا هذه عن نشأة اللغة العبرية وتطورها وسنتحدث في دراسة لاحقة ان شاء الله بالتفصيل عن دور حركة الهاسكالاه والحركة الصهيونية في إحياء هذه اللغة وإقامة المؤسسات والمراكز العبرية في فلسطين المحتلة وخارجها ..
المراجع
1 . الباحث حكمت بلعاوي ، الجذور التاريخية للغة العبرية ومنابع تطورها ، موقع مؤسسة فلسطين للثقافة ..
2 . الدكتور ربحي كمال ، دروس في اللغة العبرية ، مطبعة جامعة دمشق ، ط4 ، 1966
3 . الدكتور محمد التونجي ، اللغة العبرية وادابها ، منشورات جامعة بنغازي – كلية الاداب ، مطبعة جامعة عين شمس ، 1973
4 . الأستاذ الدكتور يوسف قوزي والأستاذ محمد كامل روكان ، آرامية العهد القديم – قواعد ونصوص ، منشورات المجمع العلمي العراقي ، مطبعة المجمع العلمي العراقي – بغداد 2006 ميلادية ، 1427 هجرية
5 . الأستاذ الدكتور خالد إسماعيل ( عميد كلية اللغات في جامعة بغداد سابقا ) ، فقه لغات العاربة المقارن ، مسائل وآراء ، اربد ، مكتب البروج ، 2000
5 . الأستاذ الدكتور عامر سليمان ، عضو المجمع العلمي العراقي وأستاذ في كلية الآثار – جامعة الموصل ، الكتابة المسمارية ، نشر وتوزيع دار الكتب للطباعة والنشر ، الموصل ،
العراق ، 2000
6 . محاضرات عن اللغة العبرية وتطورها ، ألقاها الباحث عبدالوهاب محمد الجبوري على طلبة كلية الآثار في جامعة الموصل ، 2006 – 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق