الجمعة، 5 أغسطس 2016

الشاعر المغربي محمد درويش / الكتابة الدريوشية ودرجة الصفر للتجنيس // للاديب الناقد د. المصطفى بلعوام / المغرب

-----الشاعر المغربي محمد دريوش----------
-- الكتابة الدريوشية ودرجة الصفر للتجنيس--
/-
بقلم : مصطفى بلعوام
/-
يدخل الشاعر المغربي محمد دريوش إلى رحاب الشعر من أبواب متعددة يبعثر فيها أوراقه وما تعودنا عليه من نمطية مصاحبة له. هي أبواب متعددة يختارها أو تختاره بدون مقايضة مسبقة بحكم أن الشعر لا باب له سوى الإبداع والإبداع هو أكبر من القوالب الجاهزة التي قد يخضع لها بالمقاس وعلى المقاس. يدخل إذن إليه لا ليعود منه كما دخله ويعيد الكرة إلى ما لانهاية عبثية التجربة بل ليخرج منه بعد أن يكسر طقوسه ويفجر كلماته فتحل كتابة الشعر في مقامات الحرف محل نظم الشعر وبلاغة الكلمات. 
كتابة الشعر لديه محنة مع الحرف وثورة على الكلمة
التي يفصلها عن جذورها لتتساقط حرفا تلو الآخر قي كتابته الشعرية كخطيئة في نظم الشعر. 
ماعلاقة الحرف بالنظم والكتابة ؟ وما هي خطيئته في شعرية الشاعر محمد دريوش؟ هي ذي علامات
الاستفهام المحرجة والمجترحة للمصطلح الشعري في نصوصه.
١- ما قبل المصطلح الشعري.
قيل أن نتاول نصوص الشاعر محمد دريوش وما تطرحه من أشكلة أدبية تستمد منها خاصيتها في المصطلح الشعري، لابد لنا من تفحص معطياتها الأولية ومعاينتها عن قرب. إنها نصوص موزعة هنا وهناك، وكل نص يحمل معه تفرديته ومميزاته تجعل من مقاربة جميع النصوص تحث تيمة واحدة بمعناها الإنشائي ( poétique ) تعسفا منهجيا. 
فهي تختلف عن بعضها البعض من حيث تبنينها المعماري، وهندستها البصرية، والتجنيس الأدبي لها. تنتقل من المقطع الشعري والصوت الأحادي له إلى سرد غريب الهوية في شعريته وتمظهرات حواريته الإنشائية. كل شيء ينطق فيها بمنطوقه على مستويين متداخلين فيما بَيْنهمَا: مستوى اللغة الإنشائية ومستوى اللسان.
١.١- على مستوى اللسان :
يتمتع الحرف بكينونة ناطقة ومنطوقة للشيء، فهو كائن حي له ذاكرته اللغوية وتاريخيته الشخصية كما يفصح عنها نص " تفاحة آدم" : 
" - يكون الحرف أو لا يكون.. تلك هي المشكلة !
(..)
كل حرف ينمو على بياض الصفحات كائن حي يتنفس .." 
لم تعد مسألة أكون أو لا أكون مرتبطة بالذات من حيث هي كينونة تتفرع منها دلالات وجود الأشياء أو حتى الحرف في علاقته بها. الشاعر محمد دريوش يعود إلى أوليات المعطي اللغوي ليحدد ماهيته في علاقته به، وذلك انطلاقا من وحدته الصغرى ، وحدة الحرف الذي يستحوذ على وجود قائم بذاته، وينمو من حيث أنه كائن حي يتنفس.. وهذا يعني أنه لا يدخل إلى رحاب الشعر باللفظ أو بالكلمة ولكن بالحرف الذي يبدو عاريا من كل إرث تاريخي . يأتيه من الكلمة ليمارس خطيئته الأولية التي تفضح عن حقيقية الشيء :
" ماذا أقول وقد أغرتني الكلمة بقضم تفاحة الحرف
فطفقنا نخصف على دفاترنا من وراء القصيد". 
الحرف كائن حي ينمو ولكي ينمو لا بد من قضمه كتفاحة حتى تتكشف حقيقته مع شرط أن يكون ذلك من وراء القصيد، أي قبل تكونه أو بدون الخضوع إلى مستلزماته التي تؤكدها " فطفقنا نخصف"، الممتصة من سورة الأعراف ( آية 22) : " وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ". 
إنه ينطق ولو مجازا ومن خلاله ينطق العالم وما فيه ولو كخطيئة في رحاب النظم الشعري . كل شيء له لسان ينطق به : الموت، الحياة، الحرف، الخبر العاجل، العمر ، الشيب، الحزن... فاللغة حضن بارد كما يقول :
" يقول الحرف :
إن حضن اللغة بارد كعزة العرب الراهنة ". 
إنه لسان الحرف الذي يحل محل لسان العرب البارد في لغته. والشاعر محمد دريوش يفرض علينا أن ننطلق منه حيث يغيب هو الشاعر أو على الأقل يصبح مجرد لسان من بين الألسنة الأخرى ليرتكب هو ومن معه الخطيئة الأصلية اتجاه اللغة الباردة في رحاب المصطلح الشعري .
١-٢. على مستوى اللغة الإنشائية
كيف يتمظهر استعمال اللغة وتقويضها الإنشائي كخطيئة ضرورية منها وبها ندخل إلى عالم الحرف الذي يبحث عن شكل آخر للوجود؟ 
سنقتصر على عينة منها انطلاقا من مبدأ أن " المثال هو الشيء ذاته" ( بول لوران حسون) :
- اللغة السردية : 
أغلب نصوص الشاعر محمد دريوش تنهض على السرد في بناء عالم ملفوظها اللغوي وتخلق توترا غريبا في مجال الأدبية الإنشائية ( la littérarité poétique ) . السرد يصبح أحد مكوناتها، ولازمة شعرية تؤثت بنيانها وفي نفس الوقت يدعونا إلى مساءلة لغته : هل لغة السرد في الشعر تختلف عما عليها في الأجناس الأدبية الأخرى (قصة قصيرة)؟ 
في قصيدة " تراتيل الرماد"نقرأ على سبيل المثال :
" وحكت جدتي 
أن جدي الأكبر كان زير رياح
يحارب الطواحين 
ويحفظ القرآن ويكتب الشعر المستباح
ولدت وحييت لا لأَنِّي أستحق الحياة ،
بل..
لأن الحياة تحتمل مزيدا من الصخب
ولأن الحزن بحاجة إلى جثة
يمارس على ثخومها طقوس الشغب ".
قد يبدو السرد هنا تقريريا في مشهدية تبدأ بفعل " الحكي / "وحكت جدتي"/، الذي يكاد ينسينا أننا في رحاب المصطلح الشعري بفتح أبواب حكاية الجدة وبتعضيدها بتراكيب جملية تنتمي إلى لغة الحكي: جدي الأكبر / يحفظ القرآن / يكتب الشعر / ولدت وحييت / أستحق الحياة / الحياة تحتمل / الحزن بحاجة/. غير أنه ينتهي تقريبا في كل مقطع بما قد نسميه بالقفلة الشعرية التي تكسر تقريرية الجملة وتفتحها على دلالات لغوية متعددة الأبعاد : كان زير رياح / الشعر المستباح / تحتمل مزيدا من الصخب / بحاجة إلى جثة / طقوس الشغب /". ونستعملها هنا على غرار ما سماه جاك لاكان ب: "le point de capiton" الذي يعني به أساسا قفل الجملة بآخر الكلمة فيها من حيث إعطائها إياها معنى. وفي نص الشاعر محمد دريوش نعني بها الكلمة الشعرية الأخيرة للمقطع من حيث الإنزياح اللغوي التي تكسر تقريرية ما قبلها.
وفي قصيدة " متى تستريح ركابي" يأخد السرد نكهة لغوية مغايرة وكأنها استهلال ملحمي :
" أنا ابن هذه الأرض 
أبي جبل يقطف الثلج من السحاب
وأمي سنديانة فارعة الطول 
تستظل عند الظهيرة في كنف الغياب
والريح.. كانت القابلة
وبين المخاض والولادة
كانت كلمة الله اللحظة الفاصلة :
أن أكون صخري الملامح
أن أنزف جمرا ولا أصالح ".
المشهدية بنية تكوينية لنصوص الشاعر محمد دريوش، يتغير أسلوبها السردي حسب مقتضيات عالمها الشعري، إذ تخترق اللّغة لتكسر السرد فيما تحافظ عليه بشكل مفارقاتي. والأمر لا يتعلق بسرد شعري أو شعرية سردية بقدر ما يتعلق بمشهدية شعرية تحاول أن تنحت لغتها السردية خارج ما هو متعارف عليه في الأجناس الأدبية الأخرى. البناء سردي ولغة السرد فيه غير سردية عكس ما رأينا في قصيدة - تراتيل الرماد- : " أبي يقطف الثلج من السحاب/ وأمي تستظل (..) في كنف الغياب / والريح كانت القابلة / أن أنزف جمرا / ". إنها لغة تمتح من السرد شعريتها وتتمحور غالبا حول شخصيات تنتجها لتأثيت بيتها كما هو عليه الحال أيضا في قصيدة " كاذبه.." :
هي لن تأتي ..
أخبرني بذلك طائر الدوري حين نقر زجاج نافذتي
نقرة..
نقرتان..
ثلاث نقرات
والرابعة كانت البداية
حين غير المؤلف مصير حبيبتي في الحكاية ".
يتجلى في هذ المقطع زخم البنية مع قفلة شعرية تكسر توقعات لغة السرد : سلسلة الأحداث تفضي في آخرها إلى حكاية تجد نفسها تحث رحمة مؤلفها. تفجير لغة السرد ينهض على ثلاثية متوترة:
هي لن تأتي / أخبرني طائر الدوري / غير المؤلف مصير حبيبتي في الحكاية /، وبمعنى آخر تختلط الضمائر بينها - / هي / أنا / هو/ - فلا ندري من هو حامل السرد أهو ضمير المتكلّم ( أنا) أم هو ضمير الغائب ( هو ). وتلك هي براعة الشاعر محمد دريوش في اشتغاله على المصطلح الشعري الذي سنتطرق إليه فيما بعد.
- اللغة الحوارية :
مفهوما الحوارية وثوأمه البوليفونية أصبحا من بعيد أو من قَرِيب حجر زاوية لكل مقاربة نقدية بِمَا فيها الشعر الذي أضحى يقرأ بهما كضرورة إبداعية. القصيدة البوليفونية ، القصيدة الحوارية ، القصيدة المتعددة الأصوات ..تلك هي الأسماء المتداولة على اعتبار أنها تحمل نوعا مغايرا في عالم الشعر وأسلوبا يراد له أن يكون تجديدًا لا مثيل له. إنها مأساة الإبداع عندما يتحول المفهوم من أداة تحليلية للنص إلى نمط من أنماط الكتابة الإبداعية. ولكأن المفهوم سابق ولاحق للنص وليس ابتداعا مفهوميا مستخرجا منه. البوليفونية تعني من حيث المصطلح تعددية الأصوات ، وتعددية الأصوات في النص سابقة له على مر التاريخ كما هو الحال بالنسبة لمفهوم الحوارية وإن كانا في العمق يعنيان نفس الشي.
لكن لماذا نريد ان نتطرق إلى اللغة الحوارية في نصوص الشاعر محمد دريوش ؟ يرجع ذلك إلى ثلاتة أسباب : 
- أولا : لأن نصوصه غاصة باستعمال تقنية تعددية الأصوات في بعدها الشعري.
- ثانيا : لأنها مستعملة وفق الأشكلة التي تطرحها النصوص للحرف وعلاقته بالإبداع .
- ثالتا : لأن استعمالها أضحى موضة ضرورية كلما تعلق الأمر بحوار منبث هنا وهناك في نص ما. ونستعملها هنا فقط من أجل مساءلة إجرائيتها في نصوص الشاعر محمد درويش. 
كل قصيدة ، وكيفما كان نوعها ، لها صوت يحملها وغالبا ما يكون صوت الشاعر الذي يتمظهر فيها بطرق مُختلفة حسبما يقتضيه عالمها. قد يحملها صوت بصوت واحد أو بأصوات متعددة فيها. وتوزيعها البوليفوني- répartition - مغاير تماما لمفهوم البوليفونية الباختيني ، نظرا لكون ملفوظها اللغوي لا يسعى إلى تحقيق ما يشترطه باختين من اللاتجانس ( تصارع وتباين الأصوات ومرجعياتها)، والحوار ( انفتاح الشخصية على الشخوص المحيطة بها عبر الحوار لاستكناه أبعادها النفسية والثقافية والاجتماعية)، والتعدد اللغوي . إنه توزيع يؤخذ في مفهومه الموسيقي بعيدا عن كل مرجعيات وشروط باختينية. 
رأينا أن لكل حرف لسانه، وهنا سنرى أن لكل لسان صوته يتوزع حسب تداخل حمولته الشعرية والإيقاعية مع الألسنة الأخرى . الشاعر محمد درويش يزاوج الصوت الواحد في تعددية اللحن واللحن الواحد في تعددية الأصوات. ويستند في ضبط الميزان على بعد ملحمي يحكم النص بأكمله. 
ولعل قصيدة " تراتيل الرماد" نموذج حي تتجلى فيه هذه البوليفونية.
تتوزع القصيدة ، حسب عناونيها إلى ثلاتة خفقات، وكل خفقة لها صوت أو أصوات تعزف نبضاتها. الخفقة الأولى تعتمد على صوت جامع لصوتين : صوت المصلوب وصوت " أناه" في صوت الآخر :
أ - أيها المصلوب على صفيح الحياة
ب - أنا قدرك .. أنا أناك الآخر.
ت - فلا أجدني .. بل أجدني 
قد بلغت الحزن عتيا.."
الصوت علاقة تنسج عالمها من أشياء الحياة التي تكون لحمتها : صوت المصلوب / صوت الشاعر/ . وهما صوتان يلتقيان في صوت واحد، يتجاوزهما ليوحدهما وكأنهما كانا معا قناعان لحزن أخرس واحد. فيصبح الشاعر مصلوبا والمصلوب شاعرا على صفيح الحياة في صوت واحد يأتي بمثابة قدر تخفيه الضفة الأخرى وتزيد من حدة وجعه في معادلة شبه- درامية بين العبث والحلم ، بين الرماد وتراثيله. الحلم الجديد بولد خلف الصدى والحزن ذو الوجع الجديد يمتد مسافة عمر ولا ينبعث منه سوى رماد الجسد البارد وعذاب الروح التي تهرب منها التراثيل.
وهكذا يتحول الحزن في الخفقة الثانية من مفعول إلى فاعل له صوته الخاص المتفاعل في حركيّة مع الأصوات الأخرى. الخفقة الثانية تحبل بأصوات متعددة : صوت الجدة / صوت الشاعر / صوت الحزن / صوت الرب / صوت الحرف /. الصوت الواحد المقسم إلى صوتين في الخفقة الأولى ، يتحول إلى اوركسترا يديرها الشاعر بمثابة مايسترو في الخفقة الثانية : النص يبدأ بصوت الجدة التي تحكي عن الجد الأكبر زير الرياح ثم يأتي صوت الشاعر من كونه ولد وحيي وأنه جثة بمسرح الحياة كايماءة لذاك المصلوب في الخفقة الأولى على صفيح الحياة، وبعدها يأتي صوت الحزن وصوت الرب وأخيرا صوت الحرف الذي تتجلى من خلاله إشكاليته مع صوت الشاعر والقصيدة . ويعطينا هذا التوزيع البوليفوني : 
أ- 
وحكيت جدتي
أن جدي الأكبر كان زير رياح
----
ب - 
فكنت أنا الجثة بمسرح الحياة
وكان الحزن نايا من قصب
أصيح بوجهه :
أنا الحطب.. نعم أنا الحطب
فأنعم بذات المسد يا أبا لهب.
--
ت - 
يقول الحزن الطاعن في السن :
لا سبيل إلى تمشيط ضفائر الحلم 
لا قدرة لديك.. ولا حتى على السلاح
أو تدري
أنني ما كنت لأكون لولا كاف الكينونة ..
ث - 
" نُون وما يسطرون .."
الشعراء الْحَوَارِيُّونَ
---
ج -
قالها الرب : كن فكان ما سيكون
لولا السكون .. 
لتهاوى الحرف بكسرة قاصمة ..
" إنَّا فتحنا لك فتحا مبينا"
سنردي هذ الوجع قتيلا قبل أن يردينا
أو .. على سبيل المجاز
ستمتشقه تلك الضمة الواهنة
---
ج -
يقول الحرف : 
إن حضن اللغة بارد كعز العرب الراهنة
إن هذا الحرف لا ينطق عن الهوى 
إن هو إلا قاب وحيين أو أدنى 
فنم يا حبيبي على سرير القصيدة
نم يا حبيبي بين جفني وهدبي
وأعد لي صهوة الريح العنيدة
كي يتدلى من أنشوطة الشعر تعبي.."
الأصوات تعزف إذن على مسرح الحياة ملحمة مصلوب تتعدد فيه تراجيدية الوجود بين ما كان عليه وما آل اليه : صوت الحرف يتفرع عن صوت الشاعر الباحث عن صوته الحقيقي فلا يجد غير تراتيل الرماد. وهذا ما سيظهر جليا في الخفقة الثالثة الأخيرة حيث تغيب كل الأصوات ويبقى صوت الشاعر وحده يعيد مسرحيته مع الحرف وتراجيديته في محاولة ل " تأجيج النار التى خبت في محرقة الكلمات ." 
الخفقة الثالثة طويلة بالمقارنة مع ما سبقها. وطولها يحمل معه دلالة ذروة الصوت في وجعه وفجيعته وكاننا أمام موسيقى المشهد ( musique de scène " المصاحبة لعمل درامي. وسنكتفي ببعض المقاطع الفاجعية :
أ-
لا دخل لي حيال كل هذا الصخب
لا وقت لشيء..
وحده الليل يضاجع الظلمة بهذه المدينة البائسة 
ماذا أقول ؟
منهك أنا والقلب قد أصابه اليباس
أخي قتل أخي الأخر بلا سبب
وترك العقاب يقتات على عينيه الجاحظتين نحو الغياب
والله يراقب في صمت !
--
ب -
أكلما قطعت مشيمة الحلم ..
كتم الموت صرخة هذا الوليد ؟ 
أكلما شخذت حذاقتي الشعرية لأنظم القصيد..
أزهرت على وجه قصيدتي التجاعيد ؟
--
ت -
وعالجنا الهزائم بالتمائم 
وحلمنا بأطلال الأمس
وتنافخنا في الحلم أمام العالم ..
بسيوف من خشب
وعندما نال من أجسادنا التعب
عدنا للنوم مجددا..
فليس هناك ما يدعو للصحو
من سبب
--
ث -
أنا حر، ولي كامل الحرية في أن أصرخ
والصدى حر ، وله كامل الحرية في أن يعيد صوتي إلى مهبط الألم
أنا حر ، ولي جاذبية وجعي تؤنسني حين يخرس نبضي..
--
ج - 
أقول لطفل كنته ذات فرح :
نم ياحبيبي قليلا ..ونم يا حبيبي طويلا ".
٢ - في المصطلح الشعري وتراتيل الحرف
قلنا في أول المقدمة إن الشاعر المغربي محمد دريوش يدخل إلى الشعر من أبواب متعددة بدون أن نحددها أو على الأقل التساؤل حول مدى نجاعة ما افترضنا. وعوض أن ندخل في مقاربة نظرية لمحاولة الإجابة على تعددية أبواب الشعر، نهجنا طريقة مخالفة لما يقتضيه البحث العلمي بحيث انطلقنا من معطيات النص الدريوشي ذاته. 
بين الشاعر وصوته ( قصائده ) يأتي الحرف عصيا ومعاندا لكل صياغة مسبقة تحدد له مرجعية إطاره.
الحرف الدريوشي يتوغى الرماد لينبعث من جديد خالعا عنه تاريخ الكلمة في اللغة التى أصبحت باردة جراء إنتاجها وإعادة إنتاجها إلى ما لا نهاية. 
وبغية تحقيق ذلك، يعلن خطيئته الأصلية في رحاب الشعر أو بما هو مقنن من حيث هو شعر. يحلق بين مشهدية السرد بلغة غير سردية ومسرحة بوليفونية بمشهدية موسيقية وأزمنة لا زمن لها غير زمن الكتابة المتمردة على كل شَيْء ، وبالأخص على " المصطلح الشعري" ( يقول الجرجاني بأن الإصطلاح عبارة عن اتفاق قوم لتسمية الشيء باسم ما ينقل من موضعه الأول) ؛ لأن الشعر لا مصطلح له غير الإبداع ، وهو سابق له وإن كان يساعد على تبيان ميزاته وخصوصيته. 
وعليه، نلاحظ أن الشاعر محمد دريوش يتنصل من القوالب الجاهزة التي تحصر جنسا أدبيا في بعض أقنومات معيارية. يكسر المصطلح ليكتب الشعر لا لينظمه، ويجعل من الكتابة له احتفالا بكل الأجناس التي قد تعطيه قيمة مضافة. فالنظم إبحار في المعلوم والكتابة مغامرة في المجهول. ولهذا السبب، يدخل الشاعر إلى الشعر من أبواب متعددة من حيث هو كتابة تشتغل على الحرف بعيدا عن كل تقنين يحشره في النظم.
٢-١ : الكتابة الدريوشية : تقنية السرد بلغة غير سردية. 
الكتابة الدريوشية مغامرة في فضاءات متعددة تحرق فيها اللغة من أجل خلق طريقة مغايرة في معانقة الشعر. لا تعتمد على لغة واحدة أو على موضوع واحد بصوت واحد كما هو منتشر حاليا حيث صوت الشاعر يصول ويجوب في شكل مونولوجي وإن استنطق وردة هنا وامرأة هناك. إنها تنهض على أشكلة الموضوع فيها الذي لا يمكن اختزاله في تيمة واحدة ويسخر لذلك تقنية سردية بلغة غير سردية تضبط إيقاعها الصورة والقافية. إنها ليست لغة سردية ولكن تقنية سردية تخدم الكتابة الدريوشية. وهنا اجتراحها للغة في الشعر : لاشيء يمنع من استعمال القفلة فيه مادامت تتوسل بعض تقنيات الشعر كالقافية لكتابته. ولا شيء يمنع من استعمال البوليفونية مادامت تنطلق من خاصية الشعر ذاته من حيث هو إبداع وليس من حيث مصطلح يحكمه . أي لا شيء من هذا وذاك يمنعنا من القول بأن الأمر يتعلق بكتابة جديدة درويشية تنحث جديتها من خارج الأجناس الأدبية المقننة.
وتلك هي درجة الصفر للتجنيس التي رسمنا بعض عناصرها في هذه المقاربة ونختمها بمثال القفلة بالرغم من أن هناك تقنيات أخرى يستعملها الشاعر ( التحويلية/ الملحمية / المسرحية) :
- ضبط تقنية السرد بالقفلة :
راينا أن القفلة نعني بها قفلة شعرية في بعدها اللغوي التي تعطي للملفوظ اللغوي للمقطع انزياحات دلالية متعددة . سردية الملفوظ اللغوي أو تقريريته تتغير بها . إلا إنها قفلة شعرية لها ضابطان : الإيقاع والصورة. 
ضبطها بالإيقاع يعتمد على القافية ( ليس مجال موضوعنا هنا الايقاع الداخلي ) والصورة : 
"أن جدي الأكبر كان زير رياح 
يحارب الطواحين
ويحفظ القرآن ويكتب الشعر المستباح ."
رياح ومستباح يحققان هنا القفلة من حيث الإيقاع والصورة. بهما تقريرية الملفوظ اللغوي تنفتح على إنزياحية المعنى و الصورة تعضد الإيقاع في تحقيق نوعا من الغنائية.
انتهى ..
//
وماذا بعد ، أيها الشاعر الذي كلما حرق الحرف أحرقه، وكلما لامس الضوء في عالم من رماد تحلل جسده من فجيعة موجعة :
إنه يَأْتِي دائماً 
على وقع انهيار
بألف قبلة 
ومليون اعتذار..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق