الأحد، 30 أكتوبر 2016

الطريق الى أريزونا / قصة قصيرة / للاستاذ عبد الكريم الساعدي / العراق

الطريق إلى أريزونا
الرجل الأحمر الذي رأيته في أفلام الكاوبوي متّشحاً برداء الوحشية والهمجية، ما زال يسكن إصراري على إكمال رسالة الدكتوراه في تاريخ أرض الأحلام، يهمس لي بشيء لم أتبين ملامحه، يلوّح لي بقبعته، أترك عينيّ تحلّقان في أفق الحوادث، أرى في عينيه أماني علاها الصدأ، حزناً مستديماً، أنا على يقين أن الحقيقة آية مبهرة، مقامها الضوء الساطع؛ صوته المنكسر يأخذ بيدي، يلسعني حزنه، يغيب عنّي في مدن أنهكها العراء والضجيج، إنّه يسكن أرضاً خضراء، تناطح السحاب ببهجتها؛ فلماذا أراه يسكن عتمة هذا الكون؟ كم آلمني أن أراه في أحلامي حدبة تتوسد قارعة الطريق، أحلامي تتشكّل لغزاً محيراً؛ كلّ ليلة تراني أحزم حقائبي، أطوي تفاصيل رحلة طويلة، هي ذات التفاصيل، سفينة تقترب من ميناء نيويورك، عيون السائحين شاخصة نحو المتعة، تعانق تمثال الحرية الشاهق خارج جزيرة مانهاتن، عيون تملؤها البهجة، بينما أنا، الفتاة العربية المتسربلة بوجع الحروب، اللائذة بظلّ المخيمات، تحدّق بالبحر، حاملة باقة ورد، تحلم بالشمس، الرجل الأبيض، دليل رحلتنا، يفتح نافذة للحوار، يفسّر بعض تفاخره، يرسم صور البهاء لفراديس الحياة، يشير بطرف سبابته إلى التمثال: 
- إنّه رمز بلادي، رمز الحرية. 
فجأة، الشواطئ تتأوه من هذا التمثال، تفزعني رؤيته جاثماً على صدور الموتى، منتصباً على قاعدة شكلّتها عظام بشرية، وفروات رؤوس مقطّعة؛ الفضاء يمتلئ بأنين نساء ثكلى، وبقايا أحلام وئدت في متاهات مفخّخة بالخداع؛ بين يدي شعلته يرقد عويل وصراخ أبدي، يتلو سيرة الفناء ودم مسفوح، انظر إلى درب الدموع، أرى وميض بنادق ثملة بالموت، سيوف عرشٍ تعشق القرابين، السراب الممتدّ أمام ناظري يمضغ ارتباكي، يتقيّأ مراثي الحروب عند ناصية التمثال المسكون بالكوابيس ... هكذا أنا، تراني كلّ ليلة ألوك هلوستي، أفتح أزرار حيرتي وأمضي صوب الأمل؛ لعلّه يفكّ طلاسم أحلامي المفزعة. 
ذات صباح وصلتني رسالة من صديق أميركي من أصول فلسطينية، لطالما أحببت لقائه هو وعائلته، كانت قبساً من نور في ليلة معتمة:
- عزيزتي وفاء، وصلتني رسالتك، أدعوك لزيارة بعض المتاحف بتوسون، ستجدين ضالتك فيها، أحد تلك المتاحف هو متحف الهنود الحمر، نحن بانتظارك.
يرفّ جناح القلب لأيادٍ تلوّح لي باللقاء، أبتسم، أحثّ الخطى لموطن مهم للهنود الحمر، لموطن الشمس، وعائلة كريمة اشتقت كثيراً لها، هناك حيث أريزونا سأكمل رسالتي. الطرق المعبّدة والمزروعة بالصبار والزهور تحتوي لهفتي، وديان سيدونا تداعب فرحتي، أشرب من مياه جداولها، أصوات الطيور تحلّق بي في عوالم بهية، أقطع مسافات أغرقتني بالأماني؛ لكنّي لم أر هندياً أحمر، أتساءل عن سرّ اختفائهم، يأتيني الجواب محمولاً على جناح العجب:
- سيدونا مدينة ثرية جداً، كلّ شيء فيها باهض الثمن، ولا يمكن لهؤلاء أن يعيشوا فيها. 
في توسون، المدينة الملتهبة بالحر أحلّ ضيفة على صديقي، تراني أقضي أياماً جميلة في ضيافته، أتجول في شوارع المدينة وأنا أحلم برؤية هندي، يرتدي بنطالاً من الجينز، يلوّح لي بقبعته، محتفياً بقدومي؛ ولمّا سألته عن مبتغاي، أجابني: 
- غداً، ستفتح لك بوابات التاريج، لتمسّ عيناكِ قطعاً أثرية، تضفر جدائل قيامة الرجل الأحمر. 
في صباح اليوم التالي دلفنا إلى داخل المعرض، اقتطفنا تذكرتين، استمعنا لتعليمات التجول، تتبدّد علامات الانتظار، عيناي يصافحان مجموعة منّهم,وسط السُّياح، رجالاً ونساء، تخرسني الدهشة، أحدّق في ملامحهم، داكني البشرة، متواضعو المظهر، تغلب عليهم البدانة، يتحدّثون بلهجة أمريكية قحّة، دخلوا دون أن يدفعوا أيّ رسوم، أتبع خطواتهم، نشاهد معاً فلماً قصيراً عن حياة أسلافهم؛ صديقي يهمس في أذني: 
- الفلم لم يذكر تعرضهم للمجازر؛ لكنّه قرنها برفض بعضهم لاعتناق المسيحية. 
أحسست بمرارة تتسلّق شفتيّ، وأنا أرقب تجوالهم في أجنحة المتحف برفقة موظفة هندية، كانوا يدقّقون بأسى في وجوه أسلافهم الغابرين، يصيخون السمع لها، تنفض غبار النسيان عن تاريخ وأسماء آلهتهم، تغوص في عوالم قبائل منقرضة، تدلّهم على لوحات تضم أنواع الأسلحة، دافعوا بها عن أنفسهم ضد الرجل الأبيض؛ تفتح مسالك اللطف، ترتسم ابتسامة فوق شفتيها، تنتقل بنا إلى جناح صغير، يظهر اندماج الهندي بالحياة العصرية، كانت الصورة شوهاء، تعكس مهانة الرجل الأحمر، المكبّل بمهن وضيعة؛ ثمة جناح أخير، جناح لبيع التحف الهندية؛ لوحات صغيرة، صور لرجال ونساء قديمة، أواني الزينة، جرار قديم مرمم، هنا وجدتني أنتظر ردات فعلهم، فهم مشاعرهم، وهم يسمعون قصة حياتهم، ويشاهدون قتل الملايين من أهلهم؛ الوجوه مغرورقة بالوهن والضياع، تنطق بمرارة خفية وسخرية: 
- يا للعجب! أغراض أسلافنا وصور جثثهم، هي أثمن بكثير من حياتهم. 
يداهمني شعور غريب، مكلّل بالألم والاستغراب، أنّ هؤلاء يشبهون أسلافي، لم أعد أحتمل الأمر؛ فرفضت شراء مقتنياتهم، سألت صديقي: 
- أين تذهب أموال هذه المتحف؟ 
- لجيوب الرجل الأبيض، يا وفاء. 
عدت إلى بيت صديقي، منكسرة، مضمّخة بالخيبة، أفكّر بأنّني أسير فوق أرض مترعة بدماء الهنود الحمر، سأرجع إلى دياري خالية الوفاض؛ يربت على كتفي، يفرش لي ذراع الكرم، يزرع في قلبي نور الأمل: 
- سأهديك أغلى تحفة، موشّحة بأنين الأرض وروحها. 
لم تكن تلك الورقة / الوثيقة، التي أهدانيها، سوى صوت الرعد، وحفيف أشجار الغابات، وهدير المسيسبي، تعزف تراتيل الشفق الأخير؛ إنّه صوت " سياتل " زعيم هنود " دواميش " يتلو مرارة الفناء في حفل يغصّ بالاستسلام: 
" زعيم واشنطن الكبير يقول لي، في رسالته، أنّه يريد أن يشتري بلادنا، ويقول لي أنّه صديقي، وأنّه يكنً لي مودة عميقة. ما ألطف زعيم واشنطن الكبير، ولا سيما أنّه في غنى عنّي وعن صداقتي! لكنّنا سننظر في ما يعرضه زعيم واشنطن الكبير، فنحن نعرف أنّنا إذا لم نبعه بلادنا فسوف يجئنا الرجل الأبيض مدجّجاً بسلاحه وينتزعها. 
كيف نستطيع أن نبيع أو نشتري السماء ودفء الأرض؟ ما أغرب هذه الأفكار! كيف نبيع طلاقة الهواء؟ كيف نبيع حباب الماء ونحن لا نملكها ؟ كلّ شبر من تراب هذه البلاد مقدس عند شعبي، كلّ خيط من ورق الصنوبر، كلّ شاطئ رملي، كلّ مدى من الضباب في غياهب الإحراج، كلّ حشرة تمتص ما تمتص أو تطنّ؛ كلّه مقدس في ذاكرة شعبي وتجربته مع الحياة، النسغ الذي يسيل في الأشجار يجري بذكريات الإنسان الأحمر، موتى الإنسان الأبيض ينسون مهدهم عندما يمشون بين النجوم، أمّا موتانا فأبداً لا ينسون الأرض الطيبة لأنّها أم الإنسان الأحمر، نحن منها، وهي منا؛ الأزهار العاطرة أخواتنا، الغزال والحصان والنسر العظيم كلّهم أخوتنا، القمم الصخرية، ندى المروج، ودفء جسد الحصان، كلّهم من هذه الأسرة الواحدة؛ إذن فحين يقول زعيم واشنطن الكبير أنّه يريد أن يشتري بلادنا، إنّما يسألنا ما لا يطاق... " 
أضع رأسي بين يدي، أجهش بالبكاء مثل امرأة ثكلى، أبلّل حروف الوجع بالدمع، أحتضن ظلّ البراري، أتنسّم ريحها المعطّر برائحة الصنوبر؛ أنظر إلى الأفق، أستلّ من نهد الهزائم صرخة؛ لأبدّد ظلمة استغرابي، حينها أدركت سرّ أنين الشواطئ المحاطة بتمثال الحرية.
عبدالكريم الساعدي
العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق