الاثنين، 24 أكتوبر 2016

دراسة نقدية بقلم الاستاذ صالح هشام / الرباط المغرب

دراسة نقدية بقلم الأستاذ صالح هشام 
القاريء / النص/ المبدع /أية علاقة ؟
الأستاذ مصطفى بلعوام من القراء الذين يستفزون الأقلام بملاحظاتهم الثاقبة و التي لن تكون إلانقدية وذات أهمية كبرى ، تحمل هم الإبداع في الأدب العربي بصفة عامة ، هناك مجموعة من الأسئلة التي طرحها الاستاذ مصطفى وفي عجالة كما عبر عن ذلك جازاه الله خيرا والتي رأيت أنها لا تستوجب التسرع في الإجابة ، وكانت تتجاوز خمسة أسئلة تقريبا ولكل سؤال يمكن أن نفرد عشرات المقالات النقدية المطولة لتقريب الإجابة من القاريء الكريم وإفناع الأستاذ مصطفى نسبيا ، لكني هنا سأركز على تساؤل واحد وهو :
- النص / المؤلف/ القاريء أية علاقة ؟
يهم هذا التساؤل علاقة المتلقي بالنص و بالمبدع ، على اعتبار أن هذا الثلاثي هو ديدن العملية الإبداعية برمتها ، فهذه العناصر الثلاثة هي المكون الأساسي للإبداع بصفة عامة ، وتربط بينها علاقات تختلف بطبيعة الحال من مبدع إلى آخر بالمتلقي وحسب نوعية النصوص التي ، ينتجها المبدع من أجل أن يقدمها للمتلقي الذي يقبل على التهامها واستهلاكها !
في عام 1967 خرج رولان بارت بمقال شهير يعلن فيه صراحة موت المؤلف باعتباره سيدا للنص وحلول القاريء محله باعتباره فاهما ومؤولا ومفسرا له ، وبالتالي خالقا له ، فماذا يعني أن يحل القاريء محل المؤلف ؟ وماذا يعني القاريء الفاهم للنص المؤول له؟ وماذا يعني النص ؟
الواقع أن المبدع أو المؤلف يعيش مرحلة مخاض ، وقلق الإبداع ، كما يعيش هذه المعاناة المشوبة بالحيرة ، وغيرها من الأمور التي تنتاب المبدع وهو في مرحلة المخاض أو بالأحرى ذاكرته ،ثم يولد النص ، فيقوم بما تقوم به الغزال عند وضع وليدها : تبتلع المشيمة ،وتنظف المولود ،ومشيمة النص تتجلى في تنقيحه وتهذيبه ، ثم استئمان القاريء الناقد أو القاريء العادي الباحث عن المتعة ليتكفلا به وليوصلاه لبر الأمان نقدا ودراسة وتأويلا وتحليلا ، والقراءة هنا ليست كما يعتقد البعض إبراز محاسن ومساويء النص أو التركيز على الرديء والقبيح كما سبق أن عيش (بكسر العين) ذلك في النقد العربي في فترة من فتراته ، وإنما تحولت القراءة ولا أقصد هنا النقدية وإنما القراءة بمختلف قرائها ، إلى ممارسة إعادة بناء النص ، والمشاركة في تحليل خباياه وتشكيله من أجل إبداع لغة جديدة أو لغة اللغة ، أو ما يعبر عنه النقاد (بميتالغة ) و لعل هذا يرتبط أساسا بنوعية النص الذي يعرضه المبدع على المتلقي ، من حيث مدى أهميته في قبول إشراك القاريء فيه ، فهناك النصوص التي لا تحتمل إلا رفض أو قبول القاريء لما يقرأه ، فيقتصر إنتاج الكاتب لنص منغلق على نفسه مقتصر على بنيات سطحية لا تحتمل التأويل والتفسير وتصادر حق القاريء في تحقيق الانتشاء وهو يسبر أغوار مستغلقاته ، وهذا اعتبره شخصيا من النصوص المبتدلة التي لا تنمي فكر القاريء المبدع ولا تطور ملكته التأويليية ، فتكاد المشاركة في خلق النص من جديد تنعدم فنجد أنفسنا أمام ملق ومتلق ، وهذا النوع من النصوص ، يكمن ضعفها في تحويل القاريء إلى مستهلك لما يقدم له ، فيعيش عالة على النص أو النص يعيش عالة عليه فيكون الكاتب قد مني بالفشل الدريع في إحكام السيطرة عليه .لأن نباهة القاريء ، وتوقه لاختراق النصوص وعبور أعماقها كما عبر عن ذلك رولان بارت ،تجعله يعزف على هذه النصوص التي تشده كالجاذبية وتمنعه من التحليق وهناك نوع آخر من النصوص وهي تلك التي يتجسم فيها الكاتب مشاق الإبداع الحقيقي ، من خلال تطعيمها بالانزياح على مستوى الأفكار أو اللغة وبلاغة الغموض ولايقصد هنا ببلاغة الغموض ما يعتبر من العيوب ، وإنما كخاصية جمالية في الإبداع بصفة عامة سواء في مجال الشعر أو النثر ، فضلا عن التوظيف الرمزي الذي يصون بعدا يفصل بين النص والقاريء ويخلق مسافة للتأمل والتدبر ، فيدعوه إلى اختراقه والحفر في مناطق صمته ، والعزف على خواء بياضه ، وتفكيك رموزه :فينشوة هتك المستور وإزالة الغموض وفضح خفي الخفي في النص ، نشوة أشبه بنشوة الخمرة أو طرب الألحان كما يرى ابن الأثير ، فيكون المبدع قد شجع القاريء سواء كان قارئا ناقدا او قارئا باحثا عن المتعة الفنية في طيات سطور النص ، على الإبحار السندبادي في ملكوت النص المتخم بالأسرار ، ولا أريد هنا أن أعرج على التطرق لأسرار النص باعتباره كتلة من الأسرار والخبايا تخرج عن حدود الزمان والمكان حتى من حيث التأليف ، لأن المبدع الحقيقي يظل أيضا غير مرتبط بزمن معين أو مكان معين ، لأن النص يشترك في تكوينه مئات النصوص ومئات المبدعين عبر مختلف الحقب والعصور ، وهي ما نسميها بالنصوص الغائبة التي نشتم روائحها فقط في حالة غياب الإحالة أو الإشارة إليها تناصا أو تضمينا ،وهذا ما تعبر عنه جوليا كريستيفا بقولها ( كل نص هو امتصاص أو تحويل لوفرة من النصوص الأخرى ) إلا أن هذا الامتصاص يختلف من مبدع إلى آخر وفق المنابع المعرفية التي ارتوى منها والتي كونت رصيده المعرفي ، فلا يمكنه الرمز بأسطورة جلجامش أو زايوس أو بروميثيوس وهو لا يعرف عن الأساطير القديمة شئيا ، فالامتصاص يتوقف على مدى التحصيل المعرفي الخاص للمبدع . والإبحار في خبايا النص وكشف أسراره والغوص بحثا عن درره أيضا يستوجب في القاريء نوعا معينا من المعرفة ،حتى يتمكن من إعادة خلق النص من جديد فكل قراءة هي في حد ذاتها إبداع جديد . فكما تختلف القدرات الإبداعية من حيث خلق النص ، تختلف كذلك القدرات القرائية من قاريء لآخر ، فهناك من يقنع بالقشور ولا يتجاوز البنية السطحية للنص فيرضى بمنطوقه دون بدل أي مجهود للحفر بين السطور والكشف عن طبقات مستوره ،وهناك من القراء من لا يقف عند هذا الحد ، فلا يرضى إلا بالاختراق والعبور العميف للغوص في ملكوت النص والمغامرة في بحر اللغة ، في رحلة سندبادية تسبر الأغوار وتكشف خفي الأسرار والقراءات كالإبداع درجات ومراتب و يمكن أن نورد رأي رائد المدرسة النقدية التفكيكية( دريدا )الذي يعتبر الكتابة( إبحار بلاعناية ) أي بلا عوائق أو وصايا أو حدود ، والقراءة كذلك سواء كانت نقدية أو غير نقدية إبحار سندبادي في أعماق النص ، وكثيرا ما أثرنا مسألة استحضار القاريء أثناء عملية الإبداع أو ما نسميه بكتابة النص ، وقلنا إن استحضار هذا العنصر في كثير من الأحيان ما يعوق عملية الكتابة ويكبل الكاتب ويشده ويعرقله عن المشي كالجاذبية ، لهذا من الضروري أن يتحرر الكاتب من عقدة القاريء ، وألا يفكر فيه إلا بعد خروج النص إلى حيز الوجود هناك من المبدعين من يقول ( متع نفسك قبل أن تمتع غيرك )، فالقاريء يبقى دائما افتراضيا ، وشئنا أم أبينا ستختلف مستوياته باختلاف انفتاح النصوص على أعداد قليلة أو كثيرة من القراءات ، فالنص الذي لا يؤخذ منه إلا منطوقه لايرقى إلى مستوى الإبداع ، ولنعتبر الأثر الإبداعي عبارة عن طبقات متراصة ، كل طبقة لها قراؤها ولنؤمن بأن القراءات لانهائية ولا تموت إلا بموت النص كما لا يأخذ النص شكله النهائي إلا بموت كاتبه !
أعتقد أن المبدع يمكن أن يكون تمامي النزعة ،(نسبة لأبي تمام ) سئل يوما : لماذا لاتقول ما يفهم ؟؟ فأجاب : ولماذا لا تفهمون ما يقال ؟؟ هذا يعني أن كل نص سيحلل ويفسر ويؤول وفق قدرات قارئه ، وأحادية التحليل والتأويل موت زؤام للنص ، وربما لهذه الاسباب فرخت المدارس النقدية عبر العصور كالفطريات وكثرت المناهج النقدية وظل النقد غير مستقر على حال . ولتقريب ما نروم قوله هنا ، علينا أن نعرج على نوعية اللغة التي يعتمدها المبدع في نصوصه والتي يمكن أن تحقق هذا المبتغى الذي به يحيى النص ألا و هو الانفتاح على تعدد القراءات وتعدد القراء .
اللغة بصفة عامة يمكن اعتبارها فضاء لغويا لم يتشكل بعد ، لحمته ملايين الوحدات اللغوية التي تنتشر هنا وهناك وفي كل مكان ، تنتظر المتكلم ليقوم بانتقائها و تشكيلها ، في سياقات لغوية معينة ، وهذا التشكيل بطبيعة الحال يخضع لظروف المتكلم (أقصد هنا اي متكلم مبدعا كان أو غير مبدع ) وعندما نقول ظروفه فقد نقصد خلفيته الثقافية أو مخزونه المعرفي ، وقدراته العقلية والفزيولوجية ، وغيرها إذ تتداخل مجموعة من العوامل المكونة لهذه الظروف منها التاريخي والنفسي والتقليدي والديني وغيرها ، يكون كلام هذا عذبا زلالا نطرب لسماعه ، وكلام الآخر أشبه بنهيق الحمير (و شتان مابين نهيق الحمير وشدو البلابل ). فنشمئز من سماعه ونشعر بالدوار ، وهذا ربما كان معيار الجودة والرداءة والقبح والحسن في النقد القديم ، وما نقوله عن المتكلم العادي ، نقوله عن المبدع وكيفية تأثيره في القاريء من خلال طريقة كلامه ، ونقصد بطبيعة الحال هنا طريقة خلق السياق اللغوي الذي يبهر النفس ، وتستعذبه الأذن ، ويغوص في أعماق خياله ذوق القاريء ، فيختلف في طريقة الاحتفاء باللغة فهذا نتشه مثلا يعتبرها ( نوعا من الجنون العذب ، فعند الحديث بها يرقص الإنسان فوق الأشياء ) كما يعتبرها كذلك ( هل اللغة إلا جنون له لذته ) لكن من أين تأتي هذه اللذة وما مصدرها ؟ هذه اللذة التي تنتاب القاريء أثناء الإبحار في أعماق النص ، تأتي في اعتقادي من طريقة الإسناد والنظم ، فالمبدع يختار كلماته ، ويجمع مختلفها ويؤلف بينها في سياق لغوي يأخذ بالألباب ، وقد عبر عن ذلك شيخ النقاد الجرجاني بقوله (الكلام الناجح :شدة ائتلاف في شدة اختلاف ) فالقدرة على جمع هذا المتنافر من الكلام في سياق مؤتلف يكون من أسباب سمو النص ورفعته ، ويقول كذلك (الكلام الفني قول راح السمع يسترقه أو يختلسه اختلاسا وهو يتنصت على النائي العميق ) ، فهذا هو الاختراق والعبور في النص الذي تحدث عنه بارت في العصر الحديث ، وما جنون اللغة التي عبر عنها نتشه إلاهذا التركيب الذي يجمع بين المتناقضات جمع أعناق الزهور في باقة وفي مزهرية خلابة ، وما هذا الإبحار الذي يتحدث عنه دريدا إلا هذا التركيب ، و هذا النظم الذي أسسه الجرجاني ، قبل فترة زمنية طويلة ، يقول الجرجاني (وجدت التباعد بين الشيئين كلما كان أشد كان إلى النفوس أعجب وذلك موضع الاستحسان ومكان الاستطراف ، أنك ترى الشيئين مثلين متباينين ومؤتلفين مختلفين ) فالجنون إذن من هنا يبدأ ، ومن هنا يستمد النص القوة ، وينحو منحى العالمية ، فالنظم ديدن الإبداع ، ما دام يعتمد أولا وأخيرا على اللغة ،فهي لغة تواصل من نوع آخر ، وبين طرفين من طينة أخرى ، بين مبدع بحار وقاريء يحسن الغوص ، وبحر مليء حتى التخمة بالدرر والجواهر ، يقول ابن طباطبا في كتابه عيار الشعر ( التعريض الخفي يكون بخفائه أبلغ في معناه من التصريح الظاهر الذي لا ستر فيه ) هذه خصائص التركيب الابداعي واللغة الابداعية ، التي يبحث عن التمتع بها أي قاريء يهندس النص من جديد ليبنيه وفق قراءاته الإبداعية ، هذه علاقة النص بالقاريء وبالمبدع وبتكامل وتفاعل العناصر الثلاثة ،يحلق الإبداع في عالم الجنون ، وتفرخ اللغات الإبداعية وتتناسل ، ويكثر الحفر في جسد النصوص للبحث عن الكنوز ، هذه الكنوز التي لن يحظى بها إلامتمرس مغامر في عالم الحرف الراقص على بساط جمال الإبداع الأدبي بشعره ونثره !!!
بقلم الأستاذ : صالح هشام .
الخميس- ٧ ~١~٢٠١٦

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق