السبت، 31 ديسمبر 2016

في الكتابة الشعرية الجاسمية //// بقلم الأديب الكبير د. المصطفى بلعوام /// المغرب


----- في الكتابة الشعرية الجاسمية ------
/ الشاعر جاسم آل حمد الجياشي / 
_____________________________________
مصطفى بلعوام
-----
أصبح الشعر عبثية توازي عبثية ملفوظه اللغوي، تنخر وجوده باسم مقولات تدعي لنفسها الجدة والجدية الموضوعية في تحديد كينونته ؛ وأصبح الشاعر غريبا عن ذاته في زحمة اللغط اللغوي ؛ يكابد جراحاته بين حقيقة ما تحيل إليه اللفظة وكذب شعريته في حقيقة جراحاته. غريب عن ذاته في غرابتها مَع لغة يرتابها كما تتوجس هيامات صوره التي تجترح ما قاله الجرجاني عن طبيعة معناها ومعنى معناها في مشاكسة الحقيقة بالكذب. كذب الصورة في قول الحقيقة وحقيقة الشعر في الكذب بالصورة على المعنى من أجل معنى المعنى . هو أنموذج لمحنة حقيقة شعرية الصورة التي تمتحن معدل واقع جراحات الواقع وقدرة اللغة على اجتراحها. إنه الشاعر جاسم آل حمد الجياشي بكل ما تحمله الكتابة الشعرية من ثقل لغة الشعر في نصوصه .
٢- لغة الشعر في محراب الكلام
للشاعر جاسم ال حمد الجياشي علاقة اغتراب وغرابة مع اللّغة وبالتحديد مع اللفظة باعتبارها كينونة لغوية تستمد منها تجلياتها في أقصى حالات تمظهراتها. إنها غرابة مزدوجة تؤسس كتابته وتشكل مفتاحا للدخول إلى جوانيتها. شقها الأول له علاقة بتصدع كينونة اللفظة ذاتها بينما شقها الثاني له علاقة بتقويض حدود اللغة ومدى ارتباطها بلغة اللغة في الكتابة الشعرية. ماذا يعني ذلك ؟ وما هي محفزاته التفسيرية ؟ يعني أن الشاعر جاسم ال حمد الجياشي يأتي إلى الشعر من باب نسف ثنائية اللغة /الكلام التى تمحور حولها على مدى تاريخه : الشعر فيما يعطيه للقراءة كتابة وليس كلاماً، كما أن الكتابة ممارسة متفرعة الأنماط التعبيرية وليست لغة متوقفة على الكلمة ولا شيء غيرها. إنه نسف يخرج الشعر من تاريخية مقولاته التي صاحبته من قبيل التقعيد أو من قبيل التأسيس واختزلته في تعريف مقتضب واضح في ظاهره وإشكالي في عمق مضمونه : " الشعر كلام موزون مقفى "، كلام يختلف عن باقي الكلام من حيث صفة الوزن والقافية. 
لن نجازف كثيرا كما يجازف الشاعر جاسم آل حمد الجياشي إذا محورنا تاريخ تقلبات الشعر حول ثلاتة إشكالات : إشكالية الكلام بين الملفوظ اللغوي والشعرية / إشكالية الوزن بين الايقاع الخارجي والإيقاع الداخلي / إشكالية القافية بين اللزوم والمستحب . وهي إشكالات تنهض من بعيد أو قريب على فرضية واحدة تبدأ منها وتعود إليها كل مقاربة لعالم الشعر: لا شعر بلا ملفوظ لغوي باعتباره كلام تقاس به ومنه شعرية الشعر، سواء على مستوى طبيعة مفصلته حول الكلمات وبالكلمات أو على مستوى تصنيف قوالب جاهزة ومقننة لإضفاء شرعية " الشعرية" عليه. فبدء من ظهور القصيدة العمودية ومرورا خفيا بالموشحات وقصيدة التفعيلة أو الحر إلى حين قصيدة النثر ظل المصطلح النقدي تابعا لسلطة الملفوظ اللغوي في تناوله للشعر ولقبضة ثنائية الكلام/اللغة التي لم يخرج منها بتاتا. الشعر كلام وبما أنه كلام فهو بالقوة وبالفعل ملفوظ لغوي مختلف ولايمكن مقاربته إلا من حيث هو كلام وإن كان ملفوظا لغوياً مختلفا . 
تلك هي إشكالية الشعر وعلاقته بتاريخ طبيعة ملفوظه اللغوي كمادة أولية يتحرك بها وداخلها؛ إشكالية وجدت لها سندا معرفيا في اللسانيات وتفرعاتها النظرية . وبرغم تعقيدات وتقعيدات هذه الأخيرة ، فإنها ظلت على اختلاف مفاهيمها رهينة لنفس الفرضية الأولية : "الشعر كلام غير عادي على أنقاض كلام عادي ". وبما أنه كذلك، 
فإن تخريجاتها نهضت على قياس درجة مسافة الاختلاف بين العادي وغير العادي من الكلام في تحقيق شعرية الشعر. لم تنظر إلى شعرية الشعر في ذاته كجنس قائم بذاته ولكن بمقارنته مع الكلام العادي من كون معدل قياسي لتحديد خصوصيته . يقول رومان ياكبسون إن الشعر " عنف منظم ضد الكلام العادي "، كما يقول جون كوهين ما معناه إن اللغة الشعرية بنية إنزياحية بالقياس مع معيارية اللغة : " طاقة متفجرة في الكلام من حيث قدرته على الانزياح "، ويقول تزفان تودوروف إنها "شذوذ "، بينما ورولان بارث يقول إنها "فضيحة" .
تاريخ مقاربة الشعر لم يكن سوى تاريخ ملفوظه اللغوي الذي منه وبه تشكلت عدة مذاهب نظرية مُنتجة معرفة في إطار ما يسمح به مفهوم الكلام ، وذلك انطلاقا من ترسيمة تضم أولا وفي أدناها عناصر المرسل والمرسل إليه والرسالة ، وثانيا وفي أقصاها ، عناصر أخرى حسبما تقتضيه مرجعية كل نظرية : المرجع / القناة / السنن . ترسيمة يجد فيها كل عنصر وظيفته من أجل التواصل وإيصال الرسالة وداخلها يقارب الكلام في حديه الشعري واللاشعري : كلام غير عادي / كلام عادي . 
ماذا لو عنفنا هنا فرضية "الشعر كلام " ذاتها بتقويض مرتكزات ملفوظه اللّغوي ؟ هل الشعر مجرد كلام ولا غير الكلام وإن كان ولا كباقي الكلام ؟ ذاك هو السؤال الذي تجيب عنه الكتابة الشعرية الجاسمية من وراء الكلام .
٣- لغة اللغة في الكتابة الشعرية الجاسمية
الشاعر جاسم آل حمد الجياشي لا يعنّف الكلام العادي من أجل شعر الْكَلام، لأن اللفظة ذاتها التي تكون الكلام متصدعة لديه في كيونتها وفي ما هي مخولة له من حيث التعبير . ولا غرابة في أن يكون ارتباطه بها مشوب بمفارقة وجودية تجعله يبحث عن كيفية نسفها وفي نفس الوقت الاحتفاظ بها لتجلي أعراض نسفها. فهو يقلب المعادلة حيث كينونة اللفظة في الكلام لا تشكل كينونة الشعر في التعبير.الشعر أكبر من الكلام كما أن العالم أكبر من الشعر الذي لا تستطيع اللفظة وحدها أن توفيه حقه مما يحمله العالم من أدوات وأساليب التعبير. هل هذا جنون معقلن كما قال الشاعر المغربي عبد الله راجع أم هي ثورة على اللغة في عالم مترهل بالكلمات ؟ 
يكتب الشاعر جاسم آل حمد الجياشي بطريقة خاصة به حيث تتخلل أغلب نصوصه أدوات تعبيرية من خارج الكلام : تيبوغرافية / جبرية / هندسية / ترقيمات ذاتية / تشكيلات بصرية .. اللفظة فيها لا تحتل مركزية قارة تجعل من وجود الشعر مشروطا بوجود الكلام، بل تصبح أداة مثلها مثل الأدوات الأخرى غير اللغوية في فضاء الشعر، أي أن الشعر ليس فقط كلاما بل كتابة تجعل من الكلام ذاته عنصرا مثل باقي العناصر غير الكلامية التي تؤتثه :
١- 
- { بصرخته المتعرجة
الأولى ^^^ يستفيق
هذا الحلم مبكرا 
ناشرا / . رؤاه + رؤيته 
شاهرا / .مداه + مديته }
( من قصيدة : خط النهاية / ليقظة الحلم ).
٢-
- { سكبت / . بتلات العمر 
على ضفاف طرقات مدينتي ! 
فرحا /. علها تورق 
أزهارا / . ما كنت أعلم
أن فأرا عابثا 
في الليل يقضمها }
( قصيدة : عبث ...)
٣- 
- { حين / هممت الإمساك
بظلك / ...فشلت
فعدوت / بخطى أسرع 
فدنوووت ..
د
...ن
.........و
.............ت
حتى خيل
لي .../ }
( من قصيدة : ظل / كما الحلم )
اللفظة هنا متصدعة في كينونتها، مجرد حروف مغتالة الروابط لا تحتكم إلى عارضة الوصل والفصل بين دالها ومدلولها، فقط تَخلق أشكالا هندسية على حساب كينونتها.(راجع مقالتنا : قراءة تيبوغرافية في نص"ظل / كما الحلم " للشاعر جاسم آل حمد الجياشي). علامات الترقيم هي الأخرى تجد نفسها خاضعة لمنطق التصدع ومصاحبة لتعرجات اللفظة حسبما ما تقتضيه شروط الكتابة الشعرية الجاسمية وقواعدها الضاربة بقواعد اللغة المعيارية عرض الريح. علامة تعجب في لفظة أو لفظتين لا تعجب فيها وعلامة سوْال في مقطع متصدع اللفظة لا يحمل قاعدة السؤال اللغوية . الشاعر جاسم آل حمد الجياشي يكتب الشعر ولا ينظمه كي لا يبقى مستلبا باللفظة التي يراد لها أن تكون وحدة ميتافيزيقية قادرة على تملك كل المعاني والدلالات. ماذا يعني على سبيل الطرح لا الحصر استعماله لهندسة ( ^^^ ) والعارضة المائلة (/) ؟ هل يحملان معنى ؟ وإذا كان كذلك، فلماذا لا يترجمهما باللفظة ؟ 
عدة احتمالات ممكنة تصب من بعيد أو قريب في إتجاه مشكلة أنماط التعبير وعلاقتها بالفكر واللغة ومن بينها :
- قصور اللفظة على حمل المدلول المتوغى.
- تباين الفكر واللغة واستحالة تطابقهما.
- توفر الفكر على أنماط تعبيرية غير لغوية .
- صعوبة رسم بعض الصور الذهنية باللفظة
- اعتماد اللفظة " الشعرية" على التكثيف ، وبالتالي تقلص إمكانيتها على الإحاطة التعبيرية للأشياء دفعة واحدة.
- الرغبة في الخروج من اجترار استعمال اللفظة وتاريخها " الشعري ".
- تغيرات الذات نتيجة تغير واقع سوسيو-ثقافتها وواقع لغتها في عالم عربي يعيش على ما اقترحنا تسميته ب "Syndrome de l'âge d'or arabe " ( راجع : la pensée arabe entre réalité , mythe et syndrome ".
نرى أن ما لا تحتمله أو تحمله اللفظة تحتمله أشكالا تعبيرية أخرى بمنأى عن كل مقارنة أو مفاضلة بينهم ، لأن الشاعر جاسم آل حمد الجياشي لا يسكن ولا تسكنه ( حسب تعبير هيدغر ) لغة الكلام وإنما يعالق لغة اللغة التى ترتكز كما يعبر عن ذلك على قاعدة مفادها ألا قاعدة لها. لغة اللغة هي تجاوز اللغة في بعدها الكلامي ، قد نسميها " فوق-لسانيات أو دون- لسانيات ( جاك لاكان - بنيفست )، غير أن أهم ما فيها وما تشتغل عليه هو أنها لا تتقيد بلغة ما من حيث التعبير ( اللفظة / الشكل الهندسي / العلامة الجبرية ..) .
هكذا يأتي الشكل الهندسي ^^^تجسيدا لحركة 
الصعود والهبوط أو لحركة التفرع من أوج قمة لها علاقة بما قبلها وما بعدها وبنية النص. إنها الصرخة الأولى التي يجسدها الشكل الهندسي في تعرجاتها حيث يتوالى الصعود والهبوط اللذان لا نعرف أصل بداية ونهاية كل منهما كأن ما يكتبه الشاعر جاسم آل حمد الجياشي صدى لما قاله باشلار " حياة الشاعر ما هي إلا صعود وهبوط في ثنايا اللفظات عينها" ؛ شكل بصري تقبضه العين مباشرة بدون وساطة اللفظة اللغوية كما هو الحلم الذي يستفيق بها مع علامات جبرية (+) فاصلة وواصلة من حيث التراكم الذي يدعو إلى البحث عن منطقه (سببي ضمني، استدلالي..) بين رؤاه/ رؤيته ، مداه / مديته :
" - بصرخته المتعرجة
الأولى ^^^يستفيق
هذا الحلم مبكرا
ناشرا /. رؤاه + رؤيته 
شاهرا /. مداه + مديته "
وكذلك تأتي العارضة المائلة ( / ) في تكسيرها لتداعيات خطية اللفظة حاملة معناها في ذاتها وفيما يرافقها من نقط النهاية التي تفرض على العين قبل اللسان الوقوف عليها. إنها وقفة معلقة حيث العين تنقبض بالشكل الهندسي أو الجبري قبل أن يستدعيها لأية مغامرة في قراءة بصرية. عارضة مائلة تتوسط لفظتين ترسم من خلالهما هندسة التقابل والمفارقة بتفجيرهما وإخضاعهما لقراءة عينية تستخرج منهما أضلاعا مثلتة كما بينا في قراءتنا السالفة الذكر حول قصيدة " ظل / كما الحلم " :
" - 
د
....ن
........و
...........ت
حتى خيل 
لي .../ "
لكن ما هي أبعاد موقعتهما النصية في بنية القصيدة ؟ وعلى أي أساس تتحرك فاعلية التقطيع 
في تشكيل هندسة القصيدة ؟
-------
يتبع...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق