تاريخ و تحـــــــــــولات ((الطبقة الموؤودة ))
دراسة لرواية
(( عشاق وفونوغراف وأزمنة ))
للروائية العراقية المبدعة (( لطفية الدليمي ))
بقلم :- حميد الحريزي
(( العراق بيت الأحزان من أور حتى الباب الشرقي، ومن أروك حتى انتهاء الصبر ...))ص67
مقدمة :-
ماهي الطبقة المتوسطة ؟؟؟
رواية ((عشاق وفونوغراف وأزمنة ))للروائية العراقية المبدعة لطفية الدليمي ، الصادرة عن (( دار المدى )) الطبعة الأولى في 2016 في 582 صفحة ، من الروايات المميزة والتي تسجل تاريخ الطبقة الوسطى العراقية ، في زمن الاستعمار والهيمنة التركية ، وفي زمن الاستعمار الانكليزي وقيام الدولة العراقية في عهدها الملكي حتى زمننا الحالي بعد انهيار الديكتاتورية على يد أمريكا وحلفائها ، وقيام الدولة العراقية (( الديمقراطية )) الحالية ، مع ملاحظة عدم توقف الكاتبة إلا لماما على فترة ما بعد سقوط الملكية بعد ثورة 14 تموز 1958 ، وانقلاب 1963، وحكم الأخوين ، ثم انقلاب 17-30 تموز 1968 ، وحرب ألثمان سنوات مع إيران ، وحرب الخليج ، وفترة الحصار المر ...ربما هي لم تشأ أن تكرر ما تناولته في روايات سابقة مثل رواية (( سيدات زحل )) ، وحصرت اهتمامها في هذه الرواية بفترات الحكم الاستعماري المباشر الظاهر والمستتر ...
تستعرض الكاتبة تحولات وسلوكية هذه الطبقة عبر متابعة تفاصيل حياة وسلوكيات وتبدلات وطبيعة عيش أسرة (( إسماعيل الكتبخاني))، وعائلة (( نجدت ألخيامي ))...
تبدأ الرواية بعبارة (( المستعد للشيء تكفيه اضعف أسبابه )) لابن سينا ،هذه العبارة التي ترددها كثرا ((نهى جابر فؤاد صبحيإسماعيل بك الكتبخاني ))والدالة إلى كون هذه الطبقة تحمل في بنيتها الاستعداد للتطويع والتشويه والضعف وعدم قدرتها على المقاومة ...
((نهى)) العراقية المولودة في بغداد عام 1980 عام اشتعال الحرب بين العراق وإيران ، تدرس اللغة العربية في مدينة (( غرينوبل )) الفرنسية المهاجرة إليهاهربا من بغداد بعد تعرضها لمحاولة اختطاف في زمن الدولة(( الديمقراطية )) بعد انهيار الديكتاتورية في 2003 .والتي تضطر العودة إلى بغداد ، استجابة لدعوة شقيقها (( وليد)) نتيجة لتردي حالة والدها((جابر)) الصحية وطلب رؤيتها قبل أن يموت ، هذا الوالد الذي غالبا ما يفاجئها بالهدايا فهي ابنته الأثيرة إلى قلبه ، وهكذا فعل حيث فاجأها بهدية لا تخطر لها على بال إلا وهي عبارة عن صندوق ، يضم العديد من الأوراق والملفات التي سجلت حياته وحياة أجداده من عائلة
(( الكتبخاني))، بالاضافة إلى (( غرامفون)) وأقراص خاصة مسجل فيها اعترافات ومذكرات عددٍ من أفراد العائلة ، يطلب منها دراسة محتويات الصندوقين وفك رموز المذكرات ، وتحويلها إلى كتاب يروي حياة الأسرة ... فكان له ذلك حيث اعتكفت (( نهى)) على قراءة المذكرات ما ظهر منها وما استتر عبر تظهيره على لوح من زجاج شفاف ، إشارةإلىالأمانة والدقة والشفافية في النقل ، لتدونه على جهاز الحاسوب ومن ثم نقله إلى الورق وتقديمه لوالدها ، الذي يغادر الحياة قبل إكمال قراءة كل المذكرات والاستماع إلى التسجيلات على أقراص
(( الفونغراف ))، فمات محسورا وهو لا يعرف سر اختفاء جدته وزوج جده (( صبحي )) (( بنفشة خاتون )) ، بعد أن علمت إنها متزوجة من أخ إبنها ، حيث كانت جارية مملوكة ل(( إسماعيل بيك )) أولدها ولدها بهجت ، الذي أخذه منها حين ولادته واسند تربيته لمربية خاصة ، ثم أهداها ل (( نامق باشا)) مقابل احتكاره تجارة الشاي في بغداد ...
تاريخ طبقة موؤودة ، تاريخ طبقة مخصية
(( كان نشطا في مجال حقوق الإنسان في التسعينيات، فاعتقلته السلطة ولم يكتفوا بتعذيبه بل اخصوه مع آخرين كانوا يعملون معه )) ص236.
هكذا كان مصير ((حازم )) احد نماذج الطبقة الوسطى العراقية ، الناشط المدني والساعي من اجل قيام دولة مدنية ديمقراطية حديثة زوج (( حياة البابلي)) ، - احد الشخصيات المحورية في رواية (( سيدات زحل )) للكاتبة لطفية الدليمي -، هذا المدني (( الحازم )) العامل من اجل حياة أفضل لطبقته ولشعبه ولوطنه ، وإذا علمنا إنالطبقة الوسطى هي الرافعة الأكثر فعالية وتأثيرا في الحراك الاجتماعي والاقتصادي في أي مجتمع من المجتمعات تتعرض للاخصاء ، فماذا سيكون مصير وواقع حال هذا الشعب وهذا الوطن ؟؟؟
ومن خلال دلالة تسميتها بالوسطى ، فهي تحتل مرتبة بين طبقتين، الطبقة البرجوازية وطبقة الكادحين من عمال وفلاحين من شغيلة الفكر واليد ، وبذلك تكون قوتها وقوة تأثيرها مرهونا بقوة وهيمنة الطبقتين أعلاه ، الطبقة البرجوازية، ونقيضها الطبقة العاملة، فبقدر ما تكون هناك برجوازية وطنية منتجة تكون هناك طبقة عاملة تقاس قوتها العددية والفكرية بقوة الطبقة النقيض ، فالطبقة الوسطى هي حاملة فكر التطور والتقدم والحضارة ، وهي المصباح المشع باتجاه الطبقتين النقيضين خلال الصراع الطبقي الدائر بين الطبقتين النقيصتين ، غالبا ما تأكل من جرفيها ليكونا الأقرب إلى حالة التوافق والأمان والتقدم إلى حين قيام التوازن الاجتماعي العام عبر تلاشي الفوارق الطبقية ، إن لم نقل زوالها ، هذا هو التاريخ تاريخ الحراك والصراع الطبقي طوال تاريخ البشرية ، وهو حقيقة ما يجري إمامنا في عالم السابق والحاضر ، رغم محاولات توصيفه بتوصيفات أخرى لا تمت للواقع ولا لجوهر الصراع بصلة ، سوى عمليات التمويه والتضليل بمختلف المضللات الدينية والطائفية والعرقية ...
فلو تتبعنا تاريخ الطبقة الوسطى في العراق كجزء من الإمبراطوريةالإسلامية بمختلف مسمياتها ، نرى انه مرتبط ببواكير وعي وحراك الطبقة البرجوازية الناشئة وبالتالي حراك الطبقة الوسطى في الدولة العباسية ، حيث تطلب اتساع وتطور الخلافة إلى ضرورة تطور وسائل وأدوات وتلبية حاجات الإمبراطورية ، مما تطلب تشجيعها عملية الترجمة والتصنيع والنشاط الحرفي والفني والثقافي ، فظهر آنذاك فكر المعتزلة وإخوان الصفا ومن هم بشاكلتهم ، والذي حكمت العقل كوسيلة للفهم والحكم ، وبذلك حاولت إن تجد لها مكانا في سدة الحكم أو على الأقل ترشيده وعقلتنه بعيدا عن تمثل الخوارق والاستناد للخرافة والغيب ، وقد تبناها المأمونآنذاك ومن بعده ولده ، ولكن بعد حين ظهرت استحالة الاحتكام للعقل في اختيار الحاكم الذي يحكم بالوراثة ووصية الأب للابن ، مما تطلب قمع هذه الحركة ، والقضاء عليها تحت مختلف الذرائع ومنها الهرطقة والزندقة ، والتاريخ يشهد قتل وحرق والتمثيل كل ينابيع مثل هذا الفكر ، ولنا في الحلاج وابن المقفع وغيرهما من الفلاسفة والمفكرين اللذين لاقوا شتى ضروب القتل والسجن والتشريد ، وبالمقابل أيضا كان هناك المصير المأساوي لمختلف الحركات الثورية المناهضة لخلافة المستبد باسم الإسلام ولنا في البابكية والخرمية وحركة القرامطة وثورة الزنج دليلا على هذا الحراك ... هذا الحراك الذي حسم اغلبه لصالح السلطة الحاكمة والارستقراطية الإقطاعية الحاكمة بأمر الله على حساب الطبقة البرجوازية التي تحاول النهوض ، ومن أهمأسباب هذه الإخفاقات للحركات الفكرية البرجوازية الناشئة والطبقة المتوسطة كون الدولة دولة ريعية تعتمد على واردات الخراج والجزية في جمع مواردها وتسيير أمورالإمبراطورية، ولا تعتمد على أموال دافع الضرائب البرجوازي المنتج ، مما اضعف قوة ونفوذ الجانب المنتج في الزراعة والصناعة وعدم تطورها ، فكان الحكام يشترون مبايعة ودعم ورضيالإقطاعيين والوجهاء وكبار التجار بمنحهم المزيد من الأراضيالأميرية مقابل ثمن بخس
(( توزيع الأراضي من قبل العثمانيتين على الوجهاء والاقطاعيينالمساندين للسلطة العثمانية ، بعشرة قروش للدونم )) ص356.
والمفارقة الكبرى إن يدعي هؤلاء وأحفادهمإنالأرض ملكهم وقد ورثوا من آبائهم وأجدادهم ، وقد قاوموا وبعنف وبدعم من قبل بعض حلفائهم في السلطة الدينية على مقاومة كل محاولة لإحقاق الحق وتمليك الأرض لمن يزرعها ، وعادة الحق إلى نصابه ، ورفع يد مرتزقة السلطات الاستعمارية الظالمة عن هذه الأرض وهي ملكية لكل العراقيين ، منذ دخول الجيش الإسلامي للعراق عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، وعدم تمليكها أو منحها لأحد .
، وليس كما حدث في الغرب الرأسمالي خلال حقبة التنوير والثورة الصناعية في البلدان الأوربية والتي رافقتها البروستانتية والاحتكام للعقل وإضعاف دور الكنيسة والبابا وبالتالي إضعافالإقطاع وحكم النبلاء لصالح البرجوازية والطبقة المتوسطة الناهضة ... ففي الوقت الذي البس الصراع على السلطة وكرسي الحكم في العالم الإسلامي ومركزه لفترة طويلة بغداد لباس صراع بين أولويات حكم لعوائل وأفخاذ من قريش التي احتكرت لنفسها حق حكم الأمة الإسلامية بعد الرسول القرشي ، فكان الصراع بين العلويين والامويين والعباسيين وتوابعهم لعدة قرون من الزمان وهم أفخاذ وبطون من نفس القبيلة نعني قبيلة قريش ، لغاية سقوط إمبراطورية إل عثمان على يد الاستعمار الانكليزي ، في حين كان الصراع في دول أوربا هو بين طبقات اجتماعية متناقضة ، وخصوصا بين الطبقة الإقطاعية والبرجوازية وحلفائها من العمال والكادحين ، ومن ثم بين الطبقة البرجوازية وطبقة العمال وأنصارها ، ولحين التاريخ ،بعد إن نبذت هذه الشعوب الصراعات الطائفية ، كالصراع بين الكاثوليك والبروتستانت ، أو بين مختلف الطوائف المسحية الأخرى ، فأصبح الصراع صراعا طبقيا واضح المعالم لا غبار عليه ، ضمن كل هذا الصراع كان ولازال للطبقة الوسطى وليدة الحراك ومتطلباته في الغرب دورا فاعلا في السير نحو التطور والتقدم والحضارة ، على الضد من الطبقة المتوسطة في عالمنا الإسلامي ومنها العراق فالطبقة الوسطى من الكتاب والشعراء والحرفيين وما شاكلهم فهي طبقة مصنعة وتابعة للطبقة الحاكمة ، وبذلك اتسمت بالذيلية والانتهازية والتبعية في مختلف العصور والتحولات لحين التاريخ ...وهذا العجز الموضوعي ناتج عن ضعف إن لم نقل عدم وجود طبقة برجوازية وطنية منتجة ونقيضها ، وبالتالي ضعف وسيطهما ...
بعد هذه المقدمة العامة حول الطبقة المتوسطة وتحولاتها وحالات قوتها وضعها ضمن الحراك الاجتماعي ، نعود إلى روايتنا ولنتابع الطبقة المتوسطة في العراق خلال الهيمنة العثمانية وما بعدها عبر متابعة عائلتي (( الكتبخاني)) و (( ألخيامي )).
فإسماعيل الكتبخاني تاجر وإقطاعي كبير ، متزمت ومحافظ جدا في سلوكه وتعامله داخل الأسرة ومع عموم من له صلة به ماعدا ما يمثل الباشاوات والسلاطين الممسكين بالحكم ، فهو يظهر كخادم ذليل يريد الحظوة برضاهم ، للحصول على المناصب والمكاسب له ولأسرته التي كانت تعد من العوائل المتعلمة حسب قياسات زمنها ومن هنا أتت تسميتها بعائلة (( الكتبخاني))، وبالخصوص الذكور من أسرته ومنهم الولد (( نشأت))، هذا الذي كان متوافقا ومنسجما مع والده من حيث السلوك والتفكير العام حيث انشغاله بالتجارة واللهو ومعاشرة النساء حتى انه أقدم على اغتصاب الخادمة (( نمنم ))، والتنكر لها هي وولدها (( حمدي)) الذي نسب إلى خادمهم وأجيرهم (( رجب)) بقوة السوط والتهديد بالطرد ... فهذا إل (( إسماعيل)) لم يتوجه توجها إنتاجيا سواء بإنشاء مصنع أو معمل منتج بلى توجه نحو العمل الاستهلاكي عبر الاستيراد للمواد الاستهلاكية ، وهو وصف لحال البرجوازية الطفيلية التجارية التابعة لأسيادها ، وصاحب القول المعروف عنه
(( المصالح تقتضي أن تكون كل يوم بلون ، وكل يوم بصورة )) ص424.
وهكذا كان فبعد أن يأس من استعادة السلطة على بغداد من قبل الأتراك، اخذ يتودد ويتردد على الأسياد الجدد من الجنرالات الانكليز ، فبدل زيه العثماني ليرتدي الزىالإفرنجيوليحظى برضا وصداقة الجنرال مود ومن ثم الجنرال وليم مارشال حيث :-
(( عين إسماعيل بك مستشارا للأمور التجارية في إدارة التجارة والمالية )) ص433.
وقد ماثله في السلوك ولده نشأت في التلون واقتناص الفرص والتبدل والتلون حسب ما تتطلبه مصالحه ، وكذا هو حال حفيد الكتبخاني (( فهمي منصور اسيماعيل االكتبخاني)) الذي تخلى عن كل أرديته السابقة ، وتعاون مع قوى وعملاء الاستعمار الأمريكي ليكون نائبا في البرلمان العراقي بعد السقوط عام 2003
(( أسرة عجيبة لها ارث باهظ من الشر والدناءات العتيقة ، وأبناء الزنا وشهوة السلطة والمال والجواري والمحظيات )) ص476.
عزل ، وعزلة العقول المتنورة :-
صبحي، وولده ، فؤاد ، وولد فؤاد جابر ، وبن جابر وليد ، وبنت جابر نهى نموذج للشريحة الاجتماعية المتنورة التي أقبلت على الاستزادة من العلم والمعرفة ونبذ التشدد والخرافة ، الانتصار للحق والعلم والجمال والفن الرفيع ، الإحساس العالي بالكرامة الوطنية ، ورفض التعاون مع المحتلين والمغتصبين مهما اختلفت مسمياتهم وأساليبهم سواء كانوا أتراكا أو انكليز أو أمريكان ، الاتصاف بالأمانة والصدق والإخلاص في الحب وتجاوز الكثير من العادات والتقاليد الاجتماعية المعشعشة في عقول الكثير من أبناء طبقتهم ناهيك عن هيمنتها على الأغلبية من الكتل البشرية الذي لا يمكن توصيفه بالمجتمع حسب تصوراتهم ، وبراءتهم من أفراد العائلة الماليين للمستعمرين من الإقطاعيين والمستغليين حيث يرون إن هؤلاء هم سبب خراب البلاد وعذاب الشعب وويلاته في مختلف العصور
(( هؤلاء مساهمون في خراب البلاد منذ العهد العثماني حتى اليوم ، الحقيقة أنا لا أتشرف بالانتساب إليهم)) ص521.
ف((صبحي)) يذكرنا بشخصية (( معروف الرصافي )) وجيل المتنورين المقاومين للهيمنة التركية ، والباحثين عن الحقيقة ، والمرافقين للعقول النيرة من الكتاب والفلاسفة دون التحيز لدين أو قومية أو جنس ، كانوا عشاقا للحياة والحب والانفتاح على الحياة ، متذوقون للموسيقى والغناء والرسم وللفن الرفيع ، وكذلك ، ولده فؤاد ، وجابر ... ونهى التي تتمثل لنا برائدات التنوير في العراق كنزيهة الدليمي ، وزهى حديد وغيرهن الكثير من نساء العراق المناضلات من اجل الحرية والتقدم والسلام .
والواقع المأساويللجيولوجي القدير وليد ، الذي اضطر للهجرة خوفا من بطش الإرهابيين الذين أبادوا عائلة حبيبته المسيحية (( سميراميس))، إما(( نادر)) حبيب نهى فيتمثل لنا بالعقول المبدعة والمبتكرة والمتسائلة عاشقة العلم وتطوراته ، الذي يعيش في عزلة قاتلة ، مبعدا من دوائر الدولة ومؤسساتها ، وهو يذكرنا بالعالم العراقي الكبير عبد الجبار عبدا لله الذي سجنه وأهانه انقلابي 1963 .والمهندسة المبدعة الكبيرة التي ماتت في المهجر (( زها حديد ))، وغيرهم كثير نجوما لامعة في مختلف العلوم تقاسمتهم بلدان المهجر ، ولكن قلوبهم وأرواحهملإزالة وستبقى عالق في تربة وطنهم العراق ...
كان نصيب العقول المتنورة والكفوءة والوطنية الصادقة ، كان ولا يزال مصيرها النفي والإقصاء ، والإبعاد والعيش بالغربة في مختلف العصور ، هكذا عاش ((صبحي)) ، وهكذا سجن وطورد ونبذ ((معروف الرصافي)) وتشرد وهاجر محمد مهدي ألجواهري ، والبياتي وسعدي يوسف ، وغيرهم من الأدباء والشعراء والكتاب ، وبهذه الطريقة تم إعدام الشيوعيين في الزمن الملكي والجمهوري فكان هناك الآلاف من المعدومين والمشردين والمهاجرين ، حتى في زمن الجمهوريات الديكتاتورية و (( الديمقراطية ))...
فالقابض على وطنيته وإنسانيته ومبادئه كالقابض على الجمر ، لا بل اشد من الجمر ، فرأسه مطلوب إن لم يركع ويخضع لعملية الترويض والانسجام مع الأوضاع الجديدة مهما كانت فاسدة وبائسة ، رغم ذلك فقد بقى البعض القليل مثالا للثبات والقوة سليما من درن حب السلطة والسير مع القطيع ، بل ظل سليم العقل والجسد والسلوك مثلها الأستاذ سليم خال (( نهى))
(( ذو النزعة الاشتراكية التي ما تزعزت حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بل ازدادت رسوخا كعقيدة ثابتة لها قوة الإيمان ، تحب نهى هذا الخال الاشتراكي الفياض بالحماسة والآمل والمتفائل بازدهار الاشتراكية حتى بعد قرون )) ص61
مما يؤكد ما ذهبنا إليه من حالة ضعف البرجوازية الوطنية المنتجة ، وهيمنة البرجوازية الطفيلية التابعة متحالفة مع بقايا الإقطاع مشكلة طبقة (( الاقطوازية)) ، المهيمنة على السلطة والحائزة على المناصب والمكاسب ، وهذا ناتج عن استمرار الدولة الريعية من ريع الخراج إلى ريع البترول في زمننا الحاضر ... حيث تتم عملية القمع القهري للطبقة البرجوازية الوطنية المنتجة من قبل الاستعمار كعامل خارجي ، ومن (( الاقطوازية)) التابعة كعامل داخلي ، وبالنتيجة أدى هذا الحال إلى هزال الطبقة الوسطى إن لم نقل موتها ، رغم مقاومتها الباسلة من اجل الحياة متأثرة ومنبهرة بما وصلت له الشعوب المتقدمة من تحضر ومدنية ورقي في مختلف المجالات ،ومن علامات موت الطبقة المتوسطة ، استبعاد وشبه موت للفلسفة والفلاسفة في العالم العربي الإسلامي ...
ف(( جدارية السلام للفنان فائق حسن مكسوة بالغبار ، وآثار الدخان ، حتى لتكاد تفاصيلها تتلاشى تحت طبقة السخام والتراب الأحمر )) ص290.
دلالة موت كل معالم المدنية والتحضر ، واحتضار الطبقة الوسطى ، وانحلال قيم الفن والجمال والتمدن أهم ميزات الطبقة المتوسطة ، فتلاشت دور السينما والمسرح والموسيقى هذه الفنون مصدر التنوير والتثوير وحب الحياة وإنقاذالإنسان من عمى الجهل والتخلف
(( سلمت مقادير حياتي للموسيقى فنجوت من العمى والمطامع وعرفت نورا غير الذي ترونبأبصاركم )) ص261.
طبقة (( الاقطوازية )) التي اطفات مصباح الحب داخل أجسادهاوأرواحها ، فانصرفت نحو جني الأموال وبناء القصور وحوزة المنافع على حساب معاناة أغلبيةأبناء الشعب ، وفرت لنفسها بحبوحة العيش في خضرائهم المشئومة التي خلفها لهم الديكتاتور وأهملوا المدن العراقية يعمها الخراب وفقدان ابسط الخدمات ، هكذا عاش (( فهمي منصور الكتبخاني ))وأقرانه من أعضاء الحكومة والبرلمان العراقي ، في حين عاش نادر وفؤاد ونهى ، ووليد وسميراميس ، وسليم ، والشيخ (( قيدار)) عم حياة البابلي الذي بذل جهودا كبيرة من اجل حفظ تراث بغداد من الضياع من خلال شراء وجمع المخطوطات التي تسجل وتحكي تاريخ بغداد على مدى العصور حيث تقول حياة
(( عمي مصاب بهوس اسمه المخطوطات المتعلقة ببغداد ، البلاد تتلاشى وهو يحفظ تراثها)) ص 233
عاش هؤلاء العراقيين الأشرافالأحرار في حالة عزل وتشرد وغربة لأنهمأوقدوا شعلة الحب في أرواحهمفأحبوا وطنهم ، وامنوا بالحرية والتقدم والسلام ، ورفضوا مهادنة الاستعمار وأذنابه وخدمه ، فاضاؤا طريقهم بمصباح الحب ، وعملوا من اجل حياة أفضل لشعبهم ووطنهم
(( في أعماق الجسد بئر وفي البئر معبد وفي المعبد مصباح وعندما يضاء المصباح بالحب يضاء الجسد )) ص315.
واقع المرأة في المجتمع العراقي :-
المرأة في ظل الأوضاع التي عاشها العراق في ظل حكم الامبراطورايات الإسلامية ، وفي ظل الإمبراطوريات الاستعمارية بمختلف توصيفاتها ، فهي حالة من الاستعباد والتملك كسلعة للمتعة والإمتاع ، والتفريخ والترفيه سواء أكانت جارية أو مملوكة أو كما تسمى (( حرة)) بالتوصيف ...
فهي تعيش تحت وطأة الهيمنة الذكورية الاستعبادية ، ونظرة الدونية من قبل الأغلبية الذكورية ، ولا يكاد هناك فرق كبير بين حياتها وحالها في ظل هيمنة السلطنة العثمانية ، أو الملكية التابعة ، أو الجمهوريات الديكتاتورية (( الاشتراكية)) أو (( الديمقراطية ))، فالتاريخ يروي مآسي السبايا والجواري الناتجة عن غزوات الخلفاء أولياء أمور المسلمين والحاكمين بأمر الله كما يدعون ، حتى أنهم امتلكوا الآلاف من النساء كجواري ومحظيات في قصورهم وضيعاتهم ، بحيث كانت هناك أسواق ومزادات لبيع الجواري والغلمان في ظل حكم الخليفة السلطان ولي أمر المسلمين !!!!
وما حياة (( بنفشة خاتون )) إلانموذجا لهذا الخرق الفاضح لإنسانيةالإنسان الذي جعله الله كما يقولون خليفته على الأرض ، هذه ((البنفشة ))، التي لم تجد إنسانيتها ا لا باقترانها بمحبها المتنور (( صبحي ابن إسماعيل بك))، الذي زهد بالمال والجاه والثروة ، معلنا ثورته ضد تقاليد وأعراف عائلته وطبقته الظالمة بنفشة خانم
(( كانت وهي تدخل إلى بستان مدحت بيك أشبه بنجمة هبطت توا من السماء، فأضاءت عتمة القصر والبستان )) ص281.
ولكنها تصدم كونها قد تزوجت ابن سيدها (( إسماعيل بك))، وان ابنها (( بهجت )) من إسماعيل هو أخ زوجها من أبيه ! فتقتل سعادتها نتيجة لفساد (( إسماعيل الكتبخاني))، وفساد كل نظام وحكم الإمبراطورية العثمانية وتوابعها ....
نموذج الخادمة (( نمنم)) الحبشية ورفيقاتها وما يعانن من الاغتصاب والاهانة والإذلال ، حتى مع مربيات وراعيات أولادهم وزوجاتهم مثل المربية الحنون (( أم نعمان)) التي تتعرض للطرد لأنها انتصرت للحق ...
لم يكن حال زوجاتهم (( جميلة )) زوجة إسماعيل بك ، ومصير بناته بين انتحار والموت غرقا(( مديحهإسماعيل ))، حرقا نتيجة الكبت والإهمال ، والحرمان من الحب والاستمتاع بالحياة ، فيكاد حالهن لا يختلف عن حياة الخادمات والعبيد ...
رغم كل ذلك كانت هناك نماذج من النساء تمكنت بجرأة وشجاعة وقوة شخصية من مواجهة طغيان الرجال وظلم المجتمع إلى كسب حريتهن وحياتهن مثل (( حياة البابلي)) و (( هناء )) و (( نهى الكتبخاني ))، ولازالت هناك نماذج من النساء المتحديات الرائعات في عصرنا الراهن ومن أمثالهن كاتبتنا المبدعة (( لطفية الدليمي )) وغيرها بالعشرات ، وريثات طريق التحدي والكفاح للمرأة العراقية الثائرة ضد الظلم والقهر والتسلط .... رغم رثالسرد،عة الطبقة المتوسطة ووضاعتها في عصرنا الحالي وانحدار الأغلبية الحاكمة والمحكومة إلى قاع التخلف والجهالة وعقلية وثقافة القرون الوسطى .
طبيعة السرد ، ودقة الوصف ، ورهافة اللغة :-
عندما قررت قراءة الرواية ، والعمل على الإلمام بمضمونها ، ومتابعة شخصياتها ، لا اخفي إني شعرت بصعوبة تنفيذ هذا القرار نظرا لبدانة الرواية ، وضخامتها وعدد صفحاتها البالغة (( 582)) صفحة ، والتعدد الكبير لشخصياتها الرئيسية والفرعية ، خصوصا وان قراءتي تهدف النقد الأدبي للرواية ، مما يستدعي دقة الملاحظة ومتابعة الحدث والربط بين سلوكيات الشخصيات ، والالتفات إلى ما ذكرته الكاتبة من تلميح إلى حدث ربما لا يتضح إلا في نهاية الرواية ، ولكن ما سهل علي هذه المهمة ، هو السرد السلس والكلمة الرشيقة والوصف والصور الجميلة التي تمتعت بها الكاتبة القديرة ، مما جعلني لا أمل من القراءة ومتابعة سير الأحداث ...
فالكاتبة طافت بنا في معالم رائعة شخصت أمام ناظرينا من خلال الوصف في فرنسا ، وخصوصا مدينة غنرنوبل أو في زيورخ ، أو في تركيا والتجوال في أسواقهاومقاهيها ونواديها ، وساحاتها خصوصا مدينة الأستانة ، وعادات وطبيعة ناسها ، وسلوكياتها وثقافتهم ، ومدارسهم الفكرية وطبيعة الحراك السياسي الناهض فيها ، وكذا هو الحال وهي تتجول في بغداد وحاراتها ومعالمها في الماضي والحاضر ، وما لحقها من خراب وتدمير وتشويه نتيجة الاحتلالات المتكررة ، وما تعرض له أهل العراق من الويلات والمآسي ، على يد الأتراك ، والانكليز ، والأمريكان
(( إن الناس هلكوا جوعا وافترست الكلاب جثث الرضع الذي ماتوا بموت أمهاتهم، وكان العجزة يزحفون في الطرقات بحثا عن عشبة أو ورقة نبات يقتاتون بها، وإذاوجدوا حيوانا نافقا كانوا يقطعون لحمه بكسر الفخار والحجارة ويأكلونه))399ص
سوق الناس قهرا إلى الجيش وعسكرة المجتمع للمشاركة في الحروب العبثية في مختلف الحقب سواء التركية أو الانكليزية أو الجمهورية
((إعدام مئات الهاربين من التجنيد في محلات بغداد كلها وأقيمت المشانق في مداخل الأزقة )) ص387
، وفي تاريخنا الحديث لا يمكن أن ينسى أهل العراق ما جرى زمن الديكتاتورية الصدامية وسوق الناس بالقوة والإرهاب إلى جبهات القتال العبثية الخاسرة ، والموت والقتل ، وقطع الإذن للهاربين والممتنعين عن الالتحاق بجهنم الحرب ، وقطع لسان من يعترض ، وهنا نعود لملاحظتنا في بداية الدراسة إلى إن الكاتبة طوت بسرعة كبيرة فترة حال أهل العراق زمن الديكتاتوريات الجمهورية ، فهي ركزت على عهود التواجد المباشر للقوى الاستعمارية على ارض العراق ، رغم إن ما حصل على يد (( الحاكم الوطني)) اشد قسوة وعنفا ويلاما حتى من المستعمر نفسه ...
والدور القذر الذي لعبه الانتهازيون والمتلونين ومتصيدي المناصب والمكاسب في مختلف الحقب ، ومعانة أهل العلم والمعرفة والوطنيين والتقدميين العراقيين من القهر والظلم والتعسف ...
هناك إشادة كبيرة بالتعليم كوسيلة هامة جدا من اجل بناء عراق حر وشعب متحضر في العراق ...وضرورة الاهتمام بدراسة علم الاجتماع ليكون منارا للأجيال الشابة في فهم طبيعة مجتمعهم وأسلوب النهوض به نحو التقدم والرفاه والسلام ...
كذلك أشارت بقوة إلى د ور الفن والموسيقى في رقي الشعوب وتطورها ، ونبذها للعنف والإرهاب
(( إن الموسيقى هي احد عناصر تطور البشرية وتهذيب النفس ، لو كانوا أنصتوا يوما للموسيقى لما تحولوا إلى لصوص وقتلة )) ص91
شدني الوصف الجميل لمناغاة الحب والعشق الصادق وتجاربه المختلفة بين المحبين ، الحب الصادق بين (( نادر)) وهو اسم على مسمى شخصية نادرة في زمن التردي ، وبين (( نهى)) التواقة نحو الأمان والحرية ، التي تمكنت إخراج نادر من عزلته وبث الأمل وحب الحياة في روحه ،وقصة الحب أو قصة الحياة المدهشة ل(( بنفشة خاتون ))، والوصف الأخاذ لعطورها ، ولملابسها ، ولصوتها ، ورفعة ذوقها ، وجمالها الساحر ، مما يجعل القاريء يسبح في عالم باذخ من السحر والجمال والفن الرفيع ...
وقد كانت الكاتبة موفقة جدا باختيارها الروي عن طريق مذكرات الأجداد المحفوظة في الصندوقيين ، مبتعدة عن الاستذكار والروي بالنيابة ، وإنماأحضرتإمامناالأشخاص بدمهم ولحمهم وعصرهم ليروا لنا أحوالهموأفراحهموأهوالهم ، بالإضافةإلى الروي على لسان (( نهى)) الشخصية المحورية في الرواية ...
إن رواية (( عشاق وفونغراف وأزمنة )) بانوراما ملحمية ، تبهر الأبصار ، وتشنف الآذان ، وتغني العقل ، بالصورة ، والصوت ، والكلمة الرائعة ،رواية حيكت بخيوط من حرير ، تضمخت حروفها بعطر البنفسج ، ودموع المقهورين ، أنارت كهوف الماضي ، واشرعت نوافذ توقعات المستقبل ، وهي تحكي تاريخ طبقة كتب عليها إن تبقى معوقة ، متعبة ، مصادرة الخيارات ، مخنوقة الأحلام والآمال ، عبر قرون من الزمان ، ولم تزل ، إنها شهادة على مثال وشهد شاهد من أهلها ، حيث أظهرت الكاتبة ما هو مظلم وفاسد ومخزي في ، و ماهو مشرق ومشرف ونبيل في تاريخ هذه الطبقة ...
دراسة لرواية
(( عشاق وفونوغراف وأزمنة ))
للروائية العراقية المبدعة (( لطفية الدليمي ))
بقلم :- حميد الحريزي
(( العراق بيت الأحزان من أور حتى الباب الشرقي، ومن أروك حتى انتهاء الصبر ...))ص67
مقدمة :-
ماهي الطبقة المتوسطة ؟؟؟
رواية ((عشاق وفونوغراف وأزمنة ))للروائية العراقية المبدعة لطفية الدليمي ، الصادرة عن (( دار المدى )) الطبعة الأولى في 2016 في 582 صفحة ، من الروايات المميزة والتي تسجل تاريخ الطبقة الوسطى العراقية ، في زمن الاستعمار والهيمنة التركية ، وفي زمن الاستعمار الانكليزي وقيام الدولة العراقية في عهدها الملكي حتى زمننا الحالي بعد انهيار الديكتاتورية على يد أمريكا وحلفائها ، وقيام الدولة العراقية (( الديمقراطية )) الحالية ، مع ملاحظة عدم توقف الكاتبة إلا لماما على فترة ما بعد سقوط الملكية بعد ثورة 14 تموز 1958 ، وانقلاب 1963، وحكم الأخوين ، ثم انقلاب 17-30 تموز 1968 ، وحرب ألثمان سنوات مع إيران ، وحرب الخليج ، وفترة الحصار المر ...ربما هي لم تشأ أن تكرر ما تناولته في روايات سابقة مثل رواية (( سيدات زحل )) ، وحصرت اهتمامها في هذه الرواية بفترات الحكم الاستعماري المباشر الظاهر والمستتر ...
تستعرض الكاتبة تحولات وسلوكية هذه الطبقة عبر متابعة تفاصيل حياة وسلوكيات وتبدلات وطبيعة عيش أسرة (( إسماعيل الكتبخاني))، وعائلة (( نجدت ألخيامي ))...
تبدأ الرواية بعبارة (( المستعد للشيء تكفيه اضعف أسبابه )) لابن سينا ،هذه العبارة التي ترددها كثرا ((نهى جابر فؤاد صبحيإسماعيل بك الكتبخاني ))والدالة إلى كون هذه الطبقة تحمل في بنيتها الاستعداد للتطويع والتشويه والضعف وعدم قدرتها على المقاومة ...
((نهى)) العراقية المولودة في بغداد عام 1980 عام اشتعال الحرب بين العراق وإيران ، تدرس اللغة العربية في مدينة (( غرينوبل )) الفرنسية المهاجرة إليهاهربا من بغداد بعد تعرضها لمحاولة اختطاف في زمن الدولة(( الديمقراطية )) بعد انهيار الديكتاتورية في 2003 .والتي تضطر العودة إلى بغداد ، استجابة لدعوة شقيقها (( وليد)) نتيجة لتردي حالة والدها((جابر)) الصحية وطلب رؤيتها قبل أن يموت ، هذا الوالد الذي غالبا ما يفاجئها بالهدايا فهي ابنته الأثيرة إلى قلبه ، وهكذا فعل حيث فاجأها بهدية لا تخطر لها على بال إلا وهي عبارة عن صندوق ، يضم العديد من الأوراق والملفات التي سجلت حياته وحياة أجداده من عائلة
(( الكتبخاني))، بالاضافة إلى (( غرامفون)) وأقراص خاصة مسجل فيها اعترافات ومذكرات عددٍ من أفراد العائلة ، يطلب منها دراسة محتويات الصندوقين وفك رموز المذكرات ، وتحويلها إلى كتاب يروي حياة الأسرة ... فكان له ذلك حيث اعتكفت (( نهى)) على قراءة المذكرات ما ظهر منها وما استتر عبر تظهيره على لوح من زجاج شفاف ، إشارةإلىالأمانة والدقة والشفافية في النقل ، لتدونه على جهاز الحاسوب ومن ثم نقله إلى الورق وتقديمه لوالدها ، الذي يغادر الحياة قبل إكمال قراءة كل المذكرات والاستماع إلى التسجيلات على أقراص
(( الفونغراف ))، فمات محسورا وهو لا يعرف سر اختفاء جدته وزوج جده (( صبحي )) (( بنفشة خاتون )) ، بعد أن علمت إنها متزوجة من أخ إبنها ، حيث كانت جارية مملوكة ل(( إسماعيل بيك )) أولدها ولدها بهجت ، الذي أخذه منها حين ولادته واسند تربيته لمربية خاصة ، ثم أهداها ل (( نامق باشا)) مقابل احتكاره تجارة الشاي في بغداد ...
تاريخ طبقة موؤودة ، تاريخ طبقة مخصية
(( كان نشطا في مجال حقوق الإنسان في التسعينيات، فاعتقلته السلطة ولم يكتفوا بتعذيبه بل اخصوه مع آخرين كانوا يعملون معه )) ص236.
هكذا كان مصير ((حازم )) احد نماذج الطبقة الوسطى العراقية ، الناشط المدني والساعي من اجل قيام دولة مدنية ديمقراطية حديثة زوج (( حياة البابلي)) ، - احد الشخصيات المحورية في رواية (( سيدات زحل )) للكاتبة لطفية الدليمي -، هذا المدني (( الحازم )) العامل من اجل حياة أفضل لطبقته ولشعبه ولوطنه ، وإذا علمنا إنالطبقة الوسطى هي الرافعة الأكثر فعالية وتأثيرا في الحراك الاجتماعي والاقتصادي في أي مجتمع من المجتمعات تتعرض للاخصاء ، فماذا سيكون مصير وواقع حال هذا الشعب وهذا الوطن ؟؟؟
ومن خلال دلالة تسميتها بالوسطى ، فهي تحتل مرتبة بين طبقتين، الطبقة البرجوازية وطبقة الكادحين من عمال وفلاحين من شغيلة الفكر واليد ، وبذلك تكون قوتها وقوة تأثيرها مرهونا بقوة وهيمنة الطبقتين أعلاه ، الطبقة البرجوازية، ونقيضها الطبقة العاملة، فبقدر ما تكون هناك برجوازية وطنية منتجة تكون هناك طبقة عاملة تقاس قوتها العددية والفكرية بقوة الطبقة النقيض ، فالطبقة الوسطى هي حاملة فكر التطور والتقدم والحضارة ، وهي المصباح المشع باتجاه الطبقتين النقيضين خلال الصراع الطبقي الدائر بين الطبقتين النقيصتين ، غالبا ما تأكل من جرفيها ليكونا الأقرب إلى حالة التوافق والأمان والتقدم إلى حين قيام التوازن الاجتماعي العام عبر تلاشي الفوارق الطبقية ، إن لم نقل زوالها ، هذا هو التاريخ تاريخ الحراك والصراع الطبقي طوال تاريخ البشرية ، وهو حقيقة ما يجري إمامنا في عالم السابق والحاضر ، رغم محاولات توصيفه بتوصيفات أخرى لا تمت للواقع ولا لجوهر الصراع بصلة ، سوى عمليات التمويه والتضليل بمختلف المضللات الدينية والطائفية والعرقية ...
فلو تتبعنا تاريخ الطبقة الوسطى في العراق كجزء من الإمبراطوريةالإسلامية بمختلف مسمياتها ، نرى انه مرتبط ببواكير وعي وحراك الطبقة البرجوازية الناشئة وبالتالي حراك الطبقة الوسطى في الدولة العباسية ، حيث تطلب اتساع وتطور الخلافة إلى ضرورة تطور وسائل وأدوات وتلبية حاجات الإمبراطورية ، مما تطلب تشجيعها عملية الترجمة والتصنيع والنشاط الحرفي والفني والثقافي ، فظهر آنذاك فكر المعتزلة وإخوان الصفا ومن هم بشاكلتهم ، والذي حكمت العقل كوسيلة للفهم والحكم ، وبذلك حاولت إن تجد لها مكانا في سدة الحكم أو على الأقل ترشيده وعقلتنه بعيدا عن تمثل الخوارق والاستناد للخرافة والغيب ، وقد تبناها المأمونآنذاك ومن بعده ولده ، ولكن بعد حين ظهرت استحالة الاحتكام للعقل في اختيار الحاكم الذي يحكم بالوراثة ووصية الأب للابن ، مما تطلب قمع هذه الحركة ، والقضاء عليها تحت مختلف الذرائع ومنها الهرطقة والزندقة ، والتاريخ يشهد قتل وحرق والتمثيل كل ينابيع مثل هذا الفكر ، ولنا في الحلاج وابن المقفع وغيرهما من الفلاسفة والمفكرين اللذين لاقوا شتى ضروب القتل والسجن والتشريد ، وبالمقابل أيضا كان هناك المصير المأساوي لمختلف الحركات الثورية المناهضة لخلافة المستبد باسم الإسلام ولنا في البابكية والخرمية وحركة القرامطة وثورة الزنج دليلا على هذا الحراك ... هذا الحراك الذي حسم اغلبه لصالح السلطة الحاكمة والارستقراطية الإقطاعية الحاكمة بأمر الله على حساب الطبقة البرجوازية التي تحاول النهوض ، ومن أهمأسباب هذه الإخفاقات للحركات الفكرية البرجوازية الناشئة والطبقة المتوسطة كون الدولة دولة ريعية تعتمد على واردات الخراج والجزية في جمع مواردها وتسيير أمورالإمبراطورية، ولا تعتمد على أموال دافع الضرائب البرجوازي المنتج ، مما اضعف قوة ونفوذ الجانب المنتج في الزراعة والصناعة وعدم تطورها ، فكان الحكام يشترون مبايعة ودعم ورضيالإقطاعيين والوجهاء وكبار التجار بمنحهم المزيد من الأراضيالأميرية مقابل ثمن بخس
(( توزيع الأراضي من قبل العثمانيتين على الوجهاء والاقطاعيينالمساندين للسلطة العثمانية ، بعشرة قروش للدونم )) ص356.
والمفارقة الكبرى إن يدعي هؤلاء وأحفادهمإنالأرض ملكهم وقد ورثوا من آبائهم وأجدادهم ، وقد قاوموا وبعنف وبدعم من قبل بعض حلفائهم في السلطة الدينية على مقاومة كل محاولة لإحقاق الحق وتمليك الأرض لمن يزرعها ، وعادة الحق إلى نصابه ، ورفع يد مرتزقة السلطات الاستعمارية الظالمة عن هذه الأرض وهي ملكية لكل العراقيين ، منذ دخول الجيش الإسلامي للعراق عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ، وعدم تمليكها أو منحها لأحد .
، وليس كما حدث في الغرب الرأسمالي خلال حقبة التنوير والثورة الصناعية في البلدان الأوربية والتي رافقتها البروستانتية والاحتكام للعقل وإضعاف دور الكنيسة والبابا وبالتالي إضعافالإقطاع وحكم النبلاء لصالح البرجوازية والطبقة المتوسطة الناهضة ... ففي الوقت الذي البس الصراع على السلطة وكرسي الحكم في العالم الإسلامي ومركزه لفترة طويلة بغداد لباس صراع بين أولويات حكم لعوائل وأفخاذ من قريش التي احتكرت لنفسها حق حكم الأمة الإسلامية بعد الرسول القرشي ، فكان الصراع بين العلويين والامويين والعباسيين وتوابعهم لعدة قرون من الزمان وهم أفخاذ وبطون من نفس القبيلة نعني قبيلة قريش ، لغاية سقوط إمبراطورية إل عثمان على يد الاستعمار الانكليزي ، في حين كان الصراع في دول أوربا هو بين طبقات اجتماعية متناقضة ، وخصوصا بين الطبقة الإقطاعية والبرجوازية وحلفائها من العمال والكادحين ، ومن ثم بين الطبقة البرجوازية وطبقة العمال وأنصارها ، ولحين التاريخ ،بعد إن نبذت هذه الشعوب الصراعات الطائفية ، كالصراع بين الكاثوليك والبروتستانت ، أو بين مختلف الطوائف المسحية الأخرى ، فأصبح الصراع صراعا طبقيا واضح المعالم لا غبار عليه ، ضمن كل هذا الصراع كان ولازال للطبقة الوسطى وليدة الحراك ومتطلباته في الغرب دورا فاعلا في السير نحو التطور والتقدم والحضارة ، على الضد من الطبقة المتوسطة في عالمنا الإسلامي ومنها العراق فالطبقة الوسطى من الكتاب والشعراء والحرفيين وما شاكلهم فهي طبقة مصنعة وتابعة للطبقة الحاكمة ، وبذلك اتسمت بالذيلية والانتهازية والتبعية في مختلف العصور والتحولات لحين التاريخ ...وهذا العجز الموضوعي ناتج عن ضعف إن لم نقل عدم وجود طبقة برجوازية وطنية منتجة ونقيضها ، وبالتالي ضعف وسيطهما ...
بعد هذه المقدمة العامة حول الطبقة المتوسطة وتحولاتها وحالات قوتها وضعها ضمن الحراك الاجتماعي ، نعود إلى روايتنا ولنتابع الطبقة المتوسطة في العراق خلال الهيمنة العثمانية وما بعدها عبر متابعة عائلتي (( الكتبخاني)) و (( ألخيامي )).
فإسماعيل الكتبخاني تاجر وإقطاعي كبير ، متزمت ومحافظ جدا في سلوكه وتعامله داخل الأسرة ومع عموم من له صلة به ماعدا ما يمثل الباشاوات والسلاطين الممسكين بالحكم ، فهو يظهر كخادم ذليل يريد الحظوة برضاهم ، للحصول على المناصب والمكاسب له ولأسرته التي كانت تعد من العوائل المتعلمة حسب قياسات زمنها ومن هنا أتت تسميتها بعائلة (( الكتبخاني))، وبالخصوص الذكور من أسرته ومنهم الولد (( نشأت))، هذا الذي كان متوافقا ومنسجما مع والده من حيث السلوك والتفكير العام حيث انشغاله بالتجارة واللهو ومعاشرة النساء حتى انه أقدم على اغتصاب الخادمة (( نمنم ))، والتنكر لها هي وولدها (( حمدي)) الذي نسب إلى خادمهم وأجيرهم (( رجب)) بقوة السوط والتهديد بالطرد ... فهذا إل (( إسماعيل)) لم يتوجه توجها إنتاجيا سواء بإنشاء مصنع أو معمل منتج بلى توجه نحو العمل الاستهلاكي عبر الاستيراد للمواد الاستهلاكية ، وهو وصف لحال البرجوازية الطفيلية التجارية التابعة لأسيادها ، وصاحب القول المعروف عنه
(( المصالح تقتضي أن تكون كل يوم بلون ، وكل يوم بصورة )) ص424.
وهكذا كان فبعد أن يأس من استعادة السلطة على بغداد من قبل الأتراك، اخذ يتودد ويتردد على الأسياد الجدد من الجنرالات الانكليز ، فبدل زيه العثماني ليرتدي الزىالإفرنجيوليحظى برضا وصداقة الجنرال مود ومن ثم الجنرال وليم مارشال حيث :-
(( عين إسماعيل بك مستشارا للأمور التجارية في إدارة التجارة والمالية )) ص433.
وقد ماثله في السلوك ولده نشأت في التلون واقتناص الفرص والتبدل والتلون حسب ما تتطلبه مصالحه ، وكذا هو حال حفيد الكتبخاني (( فهمي منصور اسيماعيل االكتبخاني)) الذي تخلى عن كل أرديته السابقة ، وتعاون مع قوى وعملاء الاستعمار الأمريكي ليكون نائبا في البرلمان العراقي بعد السقوط عام 2003
(( أسرة عجيبة لها ارث باهظ من الشر والدناءات العتيقة ، وأبناء الزنا وشهوة السلطة والمال والجواري والمحظيات )) ص476.
عزل ، وعزلة العقول المتنورة :-
صبحي، وولده ، فؤاد ، وولد فؤاد جابر ، وبن جابر وليد ، وبنت جابر نهى نموذج للشريحة الاجتماعية المتنورة التي أقبلت على الاستزادة من العلم والمعرفة ونبذ التشدد والخرافة ، الانتصار للحق والعلم والجمال والفن الرفيع ، الإحساس العالي بالكرامة الوطنية ، ورفض التعاون مع المحتلين والمغتصبين مهما اختلفت مسمياتهم وأساليبهم سواء كانوا أتراكا أو انكليز أو أمريكان ، الاتصاف بالأمانة والصدق والإخلاص في الحب وتجاوز الكثير من العادات والتقاليد الاجتماعية المعشعشة في عقول الكثير من أبناء طبقتهم ناهيك عن هيمنتها على الأغلبية من الكتل البشرية الذي لا يمكن توصيفه بالمجتمع حسب تصوراتهم ، وبراءتهم من أفراد العائلة الماليين للمستعمرين من الإقطاعيين والمستغليين حيث يرون إن هؤلاء هم سبب خراب البلاد وعذاب الشعب وويلاته في مختلف العصور
(( هؤلاء مساهمون في خراب البلاد منذ العهد العثماني حتى اليوم ، الحقيقة أنا لا أتشرف بالانتساب إليهم)) ص521.
ف((صبحي)) يذكرنا بشخصية (( معروف الرصافي )) وجيل المتنورين المقاومين للهيمنة التركية ، والباحثين عن الحقيقة ، والمرافقين للعقول النيرة من الكتاب والفلاسفة دون التحيز لدين أو قومية أو جنس ، كانوا عشاقا للحياة والحب والانفتاح على الحياة ، متذوقون للموسيقى والغناء والرسم وللفن الرفيع ، وكذلك ، ولده فؤاد ، وجابر ... ونهى التي تتمثل لنا برائدات التنوير في العراق كنزيهة الدليمي ، وزهى حديد وغيرهن الكثير من نساء العراق المناضلات من اجل الحرية والتقدم والسلام .
والواقع المأساويللجيولوجي القدير وليد ، الذي اضطر للهجرة خوفا من بطش الإرهابيين الذين أبادوا عائلة حبيبته المسيحية (( سميراميس))، إما(( نادر)) حبيب نهى فيتمثل لنا بالعقول المبدعة والمبتكرة والمتسائلة عاشقة العلم وتطوراته ، الذي يعيش في عزلة قاتلة ، مبعدا من دوائر الدولة ومؤسساتها ، وهو يذكرنا بالعالم العراقي الكبير عبد الجبار عبدا لله الذي سجنه وأهانه انقلابي 1963 .والمهندسة المبدعة الكبيرة التي ماتت في المهجر (( زها حديد ))، وغيرهم كثير نجوما لامعة في مختلف العلوم تقاسمتهم بلدان المهجر ، ولكن قلوبهم وأرواحهملإزالة وستبقى عالق في تربة وطنهم العراق ...
كان نصيب العقول المتنورة والكفوءة والوطنية الصادقة ، كان ولا يزال مصيرها النفي والإقصاء ، والإبعاد والعيش بالغربة في مختلف العصور ، هكذا عاش ((صبحي)) ، وهكذا سجن وطورد ونبذ ((معروف الرصافي)) وتشرد وهاجر محمد مهدي ألجواهري ، والبياتي وسعدي يوسف ، وغيرهم من الأدباء والشعراء والكتاب ، وبهذه الطريقة تم إعدام الشيوعيين في الزمن الملكي والجمهوري فكان هناك الآلاف من المعدومين والمشردين والمهاجرين ، حتى في زمن الجمهوريات الديكتاتورية و (( الديمقراطية ))...
فالقابض على وطنيته وإنسانيته ومبادئه كالقابض على الجمر ، لا بل اشد من الجمر ، فرأسه مطلوب إن لم يركع ويخضع لعملية الترويض والانسجام مع الأوضاع الجديدة مهما كانت فاسدة وبائسة ، رغم ذلك فقد بقى البعض القليل مثالا للثبات والقوة سليما من درن حب السلطة والسير مع القطيع ، بل ظل سليم العقل والجسد والسلوك مثلها الأستاذ سليم خال (( نهى))
(( ذو النزعة الاشتراكية التي ما تزعزت حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بل ازدادت رسوخا كعقيدة ثابتة لها قوة الإيمان ، تحب نهى هذا الخال الاشتراكي الفياض بالحماسة والآمل والمتفائل بازدهار الاشتراكية حتى بعد قرون )) ص61
مما يؤكد ما ذهبنا إليه من حالة ضعف البرجوازية الوطنية المنتجة ، وهيمنة البرجوازية الطفيلية التابعة متحالفة مع بقايا الإقطاع مشكلة طبقة (( الاقطوازية)) ، المهيمنة على السلطة والحائزة على المناصب والمكاسب ، وهذا ناتج عن استمرار الدولة الريعية من ريع الخراج إلى ريع البترول في زمننا الحاضر ... حيث تتم عملية القمع القهري للطبقة البرجوازية الوطنية المنتجة من قبل الاستعمار كعامل خارجي ، ومن (( الاقطوازية)) التابعة كعامل داخلي ، وبالنتيجة أدى هذا الحال إلى هزال الطبقة الوسطى إن لم نقل موتها ، رغم مقاومتها الباسلة من اجل الحياة متأثرة ومنبهرة بما وصلت له الشعوب المتقدمة من تحضر ومدنية ورقي في مختلف المجالات ،ومن علامات موت الطبقة المتوسطة ، استبعاد وشبه موت للفلسفة والفلاسفة في العالم العربي الإسلامي ...
ف(( جدارية السلام للفنان فائق حسن مكسوة بالغبار ، وآثار الدخان ، حتى لتكاد تفاصيلها تتلاشى تحت طبقة السخام والتراب الأحمر )) ص290.
دلالة موت كل معالم المدنية والتحضر ، واحتضار الطبقة الوسطى ، وانحلال قيم الفن والجمال والتمدن أهم ميزات الطبقة المتوسطة ، فتلاشت دور السينما والمسرح والموسيقى هذه الفنون مصدر التنوير والتثوير وحب الحياة وإنقاذالإنسان من عمى الجهل والتخلف
(( سلمت مقادير حياتي للموسيقى فنجوت من العمى والمطامع وعرفت نورا غير الذي ترونبأبصاركم )) ص261.
طبقة (( الاقطوازية )) التي اطفات مصباح الحب داخل أجسادهاوأرواحها ، فانصرفت نحو جني الأموال وبناء القصور وحوزة المنافع على حساب معاناة أغلبيةأبناء الشعب ، وفرت لنفسها بحبوحة العيش في خضرائهم المشئومة التي خلفها لهم الديكتاتور وأهملوا المدن العراقية يعمها الخراب وفقدان ابسط الخدمات ، هكذا عاش (( فهمي منصور الكتبخاني ))وأقرانه من أعضاء الحكومة والبرلمان العراقي ، في حين عاش نادر وفؤاد ونهى ، ووليد وسميراميس ، وسليم ، والشيخ (( قيدار)) عم حياة البابلي الذي بذل جهودا كبيرة من اجل حفظ تراث بغداد من الضياع من خلال شراء وجمع المخطوطات التي تسجل وتحكي تاريخ بغداد على مدى العصور حيث تقول حياة
(( عمي مصاب بهوس اسمه المخطوطات المتعلقة ببغداد ، البلاد تتلاشى وهو يحفظ تراثها)) ص 233
عاش هؤلاء العراقيين الأشرافالأحرار في حالة عزل وتشرد وغربة لأنهمأوقدوا شعلة الحب في أرواحهمفأحبوا وطنهم ، وامنوا بالحرية والتقدم والسلام ، ورفضوا مهادنة الاستعمار وأذنابه وخدمه ، فاضاؤا طريقهم بمصباح الحب ، وعملوا من اجل حياة أفضل لشعبهم ووطنهم
(( في أعماق الجسد بئر وفي البئر معبد وفي المعبد مصباح وعندما يضاء المصباح بالحب يضاء الجسد )) ص315.
واقع المرأة في المجتمع العراقي :-
المرأة في ظل الأوضاع التي عاشها العراق في ظل حكم الامبراطورايات الإسلامية ، وفي ظل الإمبراطوريات الاستعمارية بمختلف توصيفاتها ، فهي حالة من الاستعباد والتملك كسلعة للمتعة والإمتاع ، والتفريخ والترفيه سواء أكانت جارية أو مملوكة أو كما تسمى (( حرة)) بالتوصيف ...
فهي تعيش تحت وطأة الهيمنة الذكورية الاستعبادية ، ونظرة الدونية من قبل الأغلبية الذكورية ، ولا يكاد هناك فرق كبير بين حياتها وحالها في ظل هيمنة السلطنة العثمانية ، أو الملكية التابعة ، أو الجمهوريات الديكتاتورية (( الاشتراكية)) أو (( الديمقراطية ))، فالتاريخ يروي مآسي السبايا والجواري الناتجة عن غزوات الخلفاء أولياء أمور المسلمين والحاكمين بأمر الله كما يدعون ، حتى أنهم امتلكوا الآلاف من النساء كجواري ومحظيات في قصورهم وضيعاتهم ، بحيث كانت هناك أسواق ومزادات لبيع الجواري والغلمان في ظل حكم الخليفة السلطان ولي أمر المسلمين !!!!
وما حياة (( بنفشة خاتون )) إلانموذجا لهذا الخرق الفاضح لإنسانيةالإنسان الذي جعله الله كما يقولون خليفته على الأرض ، هذه ((البنفشة ))، التي لم تجد إنسانيتها ا لا باقترانها بمحبها المتنور (( صبحي ابن إسماعيل بك))، الذي زهد بالمال والجاه والثروة ، معلنا ثورته ضد تقاليد وأعراف عائلته وطبقته الظالمة بنفشة خانم
(( كانت وهي تدخل إلى بستان مدحت بيك أشبه بنجمة هبطت توا من السماء، فأضاءت عتمة القصر والبستان )) ص281.
ولكنها تصدم كونها قد تزوجت ابن سيدها (( إسماعيل بك))، وان ابنها (( بهجت )) من إسماعيل هو أخ زوجها من أبيه ! فتقتل سعادتها نتيجة لفساد (( إسماعيل الكتبخاني))، وفساد كل نظام وحكم الإمبراطورية العثمانية وتوابعها ....
نموذج الخادمة (( نمنم)) الحبشية ورفيقاتها وما يعانن من الاغتصاب والاهانة والإذلال ، حتى مع مربيات وراعيات أولادهم وزوجاتهم مثل المربية الحنون (( أم نعمان)) التي تتعرض للطرد لأنها انتصرت للحق ...
لم يكن حال زوجاتهم (( جميلة )) زوجة إسماعيل بك ، ومصير بناته بين انتحار والموت غرقا(( مديحهإسماعيل ))، حرقا نتيجة الكبت والإهمال ، والحرمان من الحب والاستمتاع بالحياة ، فيكاد حالهن لا يختلف عن حياة الخادمات والعبيد ...
رغم كل ذلك كانت هناك نماذج من النساء تمكنت بجرأة وشجاعة وقوة شخصية من مواجهة طغيان الرجال وظلم المجتمع إلى كسب حريتهن وحياتهن مثل (( حياة البابلي)) و (( هناء )) و (( نهى الكتبخاني ))، ولازالت هناك نماذج من النساء المتحديات الرائعات في عصرنا الراهن ومن أمثالهن كاتبتنا المبدعة (( لطفية الدليمي )) وغيرها بالعشرات ، وريثات طريق التحدي والكفاح للمرأة العراقية الثائرة ضد الظلم والقهر والتسلط .... رغم رثالسرد،عة الطبقة المتوسطة ووضاعتها في عصرنا الحالي وانحدار الأغلبية الحاكمة والمحكومة إلى قاع التخلف والجهالة وعقلية وثقافة القرون الوسطى .
طبيعة السرد ، ودقة الوصف ، ورهافة اللغة :-
عندما قررت قراءة الرواية ، والعمل على الإلمام بمضمونها ، ومتابعة شخصياتها ، لا اخفي إني شعرت بصعوبة تنفيذ هذا القرار نظرا لبدانة الرواية ، وضخامتها وعدد صفحاتها البالغة (( 582)) صفحة ، والتعدد الكبير لشخصياتها الرئيسية والفرعية ، خصوصا وان قراءتي تهدف النقد الأدبي للرواية ، مما يستدعي دقة الملاحظة ومتابعة الحدث والربط بين سلوكيات الشخصيات ، والالتفات إلى ما ذكرته الكاتبة من تلميح إلى حدث ربما لا يتضح إلا في نهاية الرواية ، ولكن ما سهل علي هذه المهمة ، هو السرد السلس والكلمة الرشيقة والوصف والصور الجميلة التي تمتعت بها الكاتبة القديرة ، مما جعلني لا أمل من القراءة ومتابعة سير الأحداث ...
فالكاتبة طافت بنا في معالم رائعة شخصت أمام ناظرينا من خلال الوصف في فرنسا ، وخصوصا مدينة غنرنوبل أو في زيورخ ، أو في تركيا والتجوال في أسواقهاومقاهيها ونواديها ، وساحاتها خصوصا مدينة الأستانة ، وعادات وطبيعة ناسها ، وسلوكياتها وثقافتهم ، ومدارسهم الفكرية وطبيعة الحراك السياسي الناهض فيها ، وكذا هو الحال وهي تتجول في بغداد وحاراتها ومعالمها في الماضي والحاضر ، وما لحقها من خراب وتدمير وتشويه نتيجة الاحتلالات المتكررة ، وما تعرض له أهل العراق من الويلات والمآسي ، على يد الأتراك ، والانكليز ، والأمريكان
(( إن الناس هلكوا جوعا وافترست الكلاب جثث الرضع الذي ماتوا بموت أمهاتهم، وكان العجزة يزحفون في الطرقات بحثا عن عشبة أو ورقة نبات يقتاتون بها، وإذاوجدوا حيوانا نافقا كانوا يقطعون لحمه بكسر الفخار والحجارة ويأكلونه))399ص
سوق الناس قهرا إلى الجيش وعسكرة المجتمع للمشاركة في الحروب العبثية في مختلف الحقب سواء التركية أو الانكليزية أو الجمهورية
((إعدام مئات الهاربين من التجنيد في محلات بغداد كلها وأقيمت المشانق في مداخل الأزقة )) ص387
، وفي تاريخنا الحديث لا يمكن أن ينسى أهل العراق ما جرى زمن الديكتاتورية الصدامية وسوق الناس بالقوة والإرهاب إلى جبهات القتال العبثية الخاسرة ، والموت والقتل ، وقطع الإذن للهاربين والممتنعين عن الالتحاق بجهنم الحرب ، وقطع لسان من يعترض ، وهنا نعود لملاحظتنا في بداية الدراسة إلى إن الكاتبة طوت بسرعة كبيرة فترة حال أهل العراق زمن الديكتاتوريات الجمهورية ، فهي ركزت على عهود التواجد المباشر للقوى الاستعمارية على ارض العراق ، رغم إن ما حصل على يد (( الحاكم الوطني)) اشد قسوة وعنفا ويلاما حتى من المستعمر نفسه ...
والدور القذر الذي لعبه الانتهازيون والمتلونين ومتصيدي المناصب والمكاسب في مختلف الحقب ، ومعانة أهل العلم والمعرفة والوطنيين والتقدميين العراقيين من القهر والظلم والتعسف ...
هناك إشادة كبيرة بالتعليم كوسيلة هامة جدا من اجل بناء عراق حر وشعب متحضر في العراق ...وضرورة الاهتمام بدراسة علم الاجتماع ليكون منارا للأجيال الشابة في فهم طبيعة مجتمعهم وأسلوب النهوض به نحو التقدم والرفاه والسلام ...
كذلك أشارت بقوة إلى د ور الفن والموسيقى في رقي الشعوب وتطورها ، ونبذها للعنف والإرهاب
(( إن الموسيقى هي احد عناصر تطور البشرية وتهذيب النفس ، لو كانوا أنصتوا يوما للموسيقى لما تحولوا إلى لصوص وقتلة )) ص91
شدني الوصف الجميل لمناغاة الحب والعشق الصادق وتجاربه المختلفة بين المحبين ، الحب الصادق بين (( نادر)) وهو اسم على مسمى شخصية نادرة في زمن التردي ، وبين (( نهى)) التواقة نحو الأمان والحرية ، التي تمكنت إخراج نادر من عزلته وبث الأمل وحب الحياة في روحه ،وقصة الحب أو قصة الحياة المدهشة ل(( بنفشة خاتون ))، والوصف الأخاذ لعطورها ، ولملابسها ، ولصوتها ، ورفعة ذوقها ، وجمالها الساحر ، مما يجعل القاريء يسبح في عالم باذخ من السحر والجمال والفن الرفيع ...
وقد كانت الكاتبة موفقة جدا باختيارها الروي عن طريق مذكرات الأجداد المحفوظة في الصندوقيين ، مبتعدة عن الاستذكار والروي بالنيابة ، وإنماأحضرتإمامناالأشخاص بدمهم ولحمهم وعصرهم ليروا لنا أحوالهموأفراحهموأهوالهم ، بالإضافةإلى الروي على لسان (( نهى)) الشخصية المحورية في الرواية ...
إن رواية (( عشاق وفونغراف وأزمنة )) بانوراما ملحمية ، تبهر الأبصار ، وتشنف الآذان ، وتغني العقل ، بالصورة ، والصوت ، والكلمة الرائعة ،رواية حيكت بخيوط من حرير ، تضمخت حروفها بعطر البنفسج ، ودموع المقهورين ، أنارت كهوف الماضي ، واشرعت نوافذ توقعات المستقبل ، وهي تحكي تاريخ طبقة كتب عليها إن تبقى معوقة ، متعبة ، مصادرة الخيارات ، مخنوقة الأحلام والآمال ، عبر قرون من الزمان ، ولم تزل ، إنها شهادة على مثال وشهد شاهد من أهلها ، حيث أظهرت الكاتبة ما هو مظلم وفاسد ومخزي في ، و ماهو مشرق ومشرف ونبيل في تاريخ هذه الطبقة ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق