دوائر التيه
قبل ان اهبط من الرابيّة ، لم أتوقع انني بعد خمس او ست ساعات سأكون في البيت، فقد لازمتني حينذاك عدة حماقات ، أنستني صورة الحياة النضرة وغيبت عني اسمي وهويتي.. كانت الرابيّة تشبه الى حد كبير، جحيم يستعر..!
توقفت - عدة مرات- وبين فترة واخرى، انظر الى منزلق الطريق النازل الى الوادي، كان ملتوياً وشديد الانحدار..وبحكم التواءه وشدة انحداره، اصبح قابلاً لوقوع ما ليس متوقع من مخاطر ومفاجآت وصدف غريبة.
هذا التل المرتفع لا يشبه مدينتي، والصخور والشجيرات والوادي المنحدر، ورأسي الذي يدور كلما نظرت الى عمقه البعيد، جعلني اشعر بالغربة، والاغرب من ذلك انني مدركٌ تماماً لاسباب ما يحدث من نزاع، ما فات منه وما هو آت. فألم الماضي لا يزال ينبعث من فوهة الذاكرة، ومن أعماقها العميقة بعمق هذا الوادي..
في هذا الوادي، سقط البارحة العديد من الجنود، كان القتال شرساً وصارالاشتباك قريباً بالسلاح الأبيض.. وانتهت المعركة أخيراً وقد تلونت الارض باللون الأحمر ..كنت نائماً بعد انتهاء واجبي، وتهيأ لي اني سمعت ثلاث كلمات في جهاز الاتصال ما زلنا نحفظها عن ظهر قلب مثلما نحفظ أسماءنا: اليقظه الترقب الحذر.
ولكني نمت مثل كل مرة، ولم أبال بتلك التحذيرات لتكرارها الممل، ولبريقها الذي خفت. فلقد شهدت الرابيّة اكثر من ثلاثة اشهر من الصمت حتى قاربت أرزاقنا الجافة على النفاذ وبقينا هكذا نأكل وننام ، نسينا حتى أسماءنا واكتفينا بإسم واحد لكي يرمز لوحدتنا .. ولكثرة ساعات نومنا الطويل، خرج الاسم لوحده دون جهد . وقد احتفلنا ليلة إعلانه ، أصبحنا بعدها نطلق على بعض لفظة "تمبل " ؟
أين انت يا تمبل؟ انهض يا تمبل؟ هل انت تحلم يا تمبل؟
وحلمت انا عدة مرات بوصولي، حلمت قبل ساعة من وصولي .. ووجدت نفسي أسير بخطى هادئة بطيئة، يغمرني الفرح وامل اللقاء.. ثم رحت أحث السير قدر ما أستطيع .. لكن ظهري المحني اوحى لي بانني في حالة صعود وليس نزول كما هو واقع الحال، ومع ذلك فقد لازمني شعور بالراحة.. فلقد رأيت بيتنا من مسافة بعيدة، وقد انفتح الباب على مصراعيه، وظهرت عائلتي تستطلع قدومي، وشاهدت ابتسامات عريضة تملأ الوجوه.. وميزت من بين الوجوه طفلي الصغير مبتسماً، فاتحا ذراعيه، فحملته وضممته الى صدري ، ونظرت في عينيه أتأمل فيهما فرحة اللقاء ، ونسيت الرابيّة والقتال والقهر والسنين الفارغة بلا أمل.. ووجدت آثار دمعة او اثنتين قد شرعتا بالسقوط على خديه ، فقلت له:
- مالذي يبكيك صغيري؟ رد عليّ بصوت مرتجف:
- انت قلت اذا اشتركت في هذه الحرب ، ستجلب لي ... ولم يتم كلامه ،واحتقن وجهه وصمت...!
- ماذا اجلب لك ...قل؟
كنت أتمنى ان يطلب مني اي شيء حتى لو كان بحجم العالم..للأطفال حق علينا ، وأمنياتهم الصغيرة، لا تكلف شيئاً ..وفيما هو ملتصقاً بي ، انشغلت باستذكار ما وعدته به في العام الماضي ، آخر أعوام حربنا الثمانية مع الشرق!؟ وقطع تفكيري بكاءه الذي تعالى، ثم أجهش وخرج الصوت متقطعاً :
- قلت انك ستجلب لي معك صمون جيش...! الا تذكر؟!
يا له من طفل ذكي؟
توقعته ان يطلب لعبةً من لعب الحرب: دبابة ، طيارة ، جندي مشاة! أية لعبة من مصنع القتل والحروب؟!
وصدمت قليلاً وتلعثمت ورحت اختلق الاعذار كالعادة، وكذبت عليه كثيراً ، كذبت عليه في كل جملة قلتها له ثم اعتذرت بعد ذلك وقفزت من فمي ضحكة، ضحكت رغم ما لحقني من اثر معنوي مؤلم بعد اشتباك الليلة الفائتة..
وضممته بقوة الى صدري وانا مستغرق في الضحك حتى علا صوتي، فنهضت.
ووجدت نفسي ما زلت ممدداً عند أسفل حافة المنحدر.
حينما تذكرت حلمي..
رأيت ابني امامي بنفس هيئته، وأخذتني فرحة جديدة بلقائه، فلقد نسيت ان أخبره اثناء الحلم بانني سوف لن أنسى طلبه!؟ حتى وان فاتني ذلك في الحروب السالفة ، فسوف لن أنساه في الحرب القادمة..!
قبل ان اهبط من الرابيّة ، لم أتوقع انني بعد خمس او ست ساعات سأكون في البيت، فقد لازمتني حينذاك عدة حماقات ، أنستني صورة الحياة النضرة وغيبت عني اسمي وهويتي.. كانت الرابيّة تشبه الى حد كبير، جحيم يستعر..!
توقفت - عدة مرات- وبين فترة واخرى، انظر الى منزلق الطريق النازل الى الوادي، كان ملتوياً وشديد الانحدار..وبحكم التواءه وشدة انحداره، اصبح قابلاً لوقوع ما ليس متوقع من مخاطر ومفاجآت وصدف غريبة.
هذا التل المرتفع لا يشبه مدينتي، والصخور والشجيرات والوادي المنحدر، ورأسي الذي يدور كلما نظرت الى عمقه البعيد، جعلني اشعر بالغربة، والاغرب من ذلك انني مدركٌ تماماً لاسباب ما يحدث من نزاع، ما فات منه وما هو آت. فألم الماضي لا يزال ينبعث من فوهة الذاكرة، ومن أعماقها العميقة بعمق هذا الوادي..
في هذا الوادي، سقط البارحة العديد من الجنود، كان القتال شرساً وصارالاشتباك قريباً بالسلاح الأبيض.. وانتهت المعركة أخيراً وقد تلونت الارض باللون الأحمر ..كنت نائماً بعد انتهاء واجبي، وتهيأ لي اني سمعت ثلاث كلمات في جهاز الاتصال ما زلنا نحفظها عن ظهر قلب مثلما نحفظ أسماءنا: اليقظه الترقب الحذر.
ولكني نمت مثل كل مرة، ولم أبال بتلك التحذيرات لتكرارها الممل، ولبريقها الذي خفت. فلقد شهدت الرابيّة اكثر من ثلاثة اشهر من الصمت حتى قاربت أرزاقنا الجافة على النفاذ وبقينا هكذا نأكل وننام ، نسينا حتى أسماءنا واكتفينا بإسم واحد لكي يرمز لوحدتنا .. ولكثرة ساعات نومنا الطويل، خرج الاسم لوحده دون جهد . وقد احتفلنا ليلة إعلانه ، أصبحنا بعدها نطلق على بعض لفظة "تمبل " ؟
أين انت يا تمبل؟ انهض يا تمبل؟ هل انت تحلم يا تمبل؟
وحلمت انا عدة مرات بوصولي، حلمت قبل ساعة من وصولي .. ووجدت نفسي أسير بخطى هادئة بطيئة، يغمرني الفرح وامل اللقاء.. ثم رحت أحث السير قدر ما أستطيع .. لكن ظهري المحني اوحى لي بانني في حالة صعود وليس نزول كما هو واقع الحال، ومع ذلك فقد لازمني شعور بالراحة.. فلقد رأيت بيتنا من مسافة بعيدة، وقد انفتح الباب على مصراعيه، وظهرت عائلتي تستطلع قدومي، وشاهدت ابتسامات عريضة تملأ الوجوه.. وميزت من بين الوجوه طفلي الصغير مبتسماً، فاتحا ذراعيه، فحملته وضممته الى صدري ، ونظرت في عينيه أتأمل فيهما فرحة اللقاء ، ونسيت الرابيّة والقتال والقهر والسنين الفارغة بلا أمل.. ووجدت آثار دمعة او اثنتين قد شرعتا بالسقوط على خديه ، فقلت له:
- مالذي يبكيك صغيري؟ رد عليّ بصوت مرتجف:
- انت قلت اذا اشتركت في هذه الحرب ، ستجلب لي ... ولم يتم كلامه ،واحتقن وجهه وصمت...!
- ماذا اجلب لك ...قل؟
كنت أتمنى ان يطلب مني اي شيء حتى لو كان بحجم العالم..للأطفال حق علينا ، وأمنياتهم الصغيرة، لا تكلف شيئاً ..وفيما هو ملتصقاً بي ، انشغلت باستذكار ما وعدته به في العام الماضي ، آخر أعوام حربنا الثمانية مع الشرق!؟ وقطع تفكيري بكاءه الذي تعالى، ثم أجهش وخرج الصوت متقطعاً :
- قلت انك ستجلب لي معك صمون جيش...! الا تذكر؟!
يا له من طفل ذكي؟
توقعته ان يطلب لعبةً من لعب الحرب: دبابة ، طيارة ، جندي مشاة! أية لعبة من مصنع القتل والحروب؟!
وصدمت قليلاً وتلعثمت ورحت اختلق الاعذار كالعادة، وكذبت عليه كثيراً ، كذبت عليه في كل جملة قلتها له ثم اعتذرت بعد ذلك وقفزت من فمي ضحكة، ضحكت رغم ما لحقني من اثر معنوي مؤلم بعد اشتباك الليلة الفائتة..
وضممته بقوة الى صدري وانا مستغرق في الضحك حتى علا صوتي، فنهضت.
ووجدت نفسي ما زلت ممدداً عند أسفل حافة المنحدر.
حينما تذكرت حلمي..
رأيت ابني امامي بنفس هيئته، وأخذتني فرحة جديدة بلقائه، فلقد نسيت ان أخبره اثناء الحلم بانني سوف لن أنسى طلبه!؟ حتى وان فاتني ذلك في الحروب السالفة ، فسوف لن أنساه في الحرب القادمة..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق