اوفا ركس ملك بريطانيا المسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق- 24-8-2018
هو أوفا ركس Offa Rex ملك مرسيا بإنجلترا الذي كان من أعظم حكام أوربا بالقرون الوسطى، ولكن الكنيسة جعلت المؤرخين يتجاهلونه بسبب إسلامه؛ مما تسبب في قلة المصادر التي تتحدَّث عنه, رغم مساهمته في توحيد الممالك الأنجلوساكسونية السبع, وجهوده في الإنعاش الاقتصادي ونشر الأمن.
جهود الملك أوفا في بدايات حكمه
ـــــــــــــــــــــ في عام 757م تولَّى أوفا ركس مُلك مرسيا ببريطانيا بعدما قُتل ابن عمه إيزلبالد من أعدائهما، وقيام حرب أهلية بسبب تدخُّل أحد مجهول الهوية مدعي أحقيته المُلك, فانتصر أوفا عليه, ولكن هذه الحرب سببت صدعًا داخليًّا, كلَّف الملك لرأبه مدة سبع سنوات, بعد ذلك استعدَّ لتوحيد الممالك السبع تحت حكمه, فقد حاول بالطرق العسكرية والدبلوماسية وبالمصاهرة توحيد إنجلترا، فأصبحت كما شاء..
ولكن هذه الوحدة لم تكن تروق للفاتيكان ورجاله، الذين أظهروا العداوة للملك أوفا ركس؛ مما جعل الملك يُعادي سلطتهم الدينية, فما إن وصلت الأخبار إلى الفاتيكان بأنه معادٍ للبابوية وللعقيدة الكاثوليكية، وتهديده بخروج إنجلترا من الكنيسة الرومانية، وأيضًا إسلامه سرًّا, حتى أرسل البابا ولأوَّل مرة منذ دخول إنجلترا للمسيحية بعثة في عام 786م، تحمل كبار مبشِّريها لمحاولة منع شعب إنجلترا من ترك دينهم والاهتداء للإسلام؛ خوفًا من اتباعهم لملكهم ذي الشعبية, كما حرضت الفاتيكان ويلز للحرب ضد أوفا؛ مما جعله يُشيِّد سورًا عظيمًا على الحدود بين إنجلترا وويلز لحماية بلاده.
اهتمَّ الملك أوفا بنشر الأمن بعد جهود توحيد البلاد، ووضع التشريعات لحماية المواطنين، كما حرص على رفع المستوى الاجتماعي والثقافي لديهم, وحرص على البناء والإعمار؛ محاولة منه لجعل بلاده حضارية، والخروج من التخلف والفوضى التي سبقته, جهوده هذه نجحت بفضل نجاح تجارة واقتصاد بلاده؛ مما جعل الكثير من الأموال التجارية تتدفق لمعالجة الأوضاع والإصلاح.
ومن أهم علاقاته التجارية علاقته مع الدولة العباسية الإسلامية، التي تطوَّرت أكثر بسبب منع ملك الفرنجة شارلمان تجار إنجلترا من الدخول لبلاده؛ بسبب آراء الملك أوفا المعادية للكنيسة, إلا أن شارلمان سرعان ما أقام اتفاقية تجارية مع أوفا؛ لمَّا وجد الضرر الذي لحق باقتصاد بلاده نتيجة هذه المقاطعة، وأيضًا لِمَا وجده من عدل ملك إنجلترا في تطبيق القوانين والتزامه بالاتفاقيات والمعاهدات على عكس ما اعتادوه من الملوك الأوربيين.
كما اهتمَّ أوفا ركس بالتعليم على عكس ملوك أوربا في ذلك العصر؛ حيث ساد الجهل ربوع أوربا لقرون طوال، ولكن إسلام أوفا ركس جعله يُدرك أهمية العلم والتعليم في نهضة الأمم، كما حرص على نشر الثقافة والعلم.
وفي المجال العسكري عمل أوفا ركس على تقوية الجيش، وعلى حماية بلاده فأمر ببناء ما عُرِف بسور أوفا العظيم.
وتنبَّه أوفا ركس لأهمية الإصلاح التشريعي؛ في لمحة مبكِّرة تدلُّ على عدل هذا الملك العظيم.
كانت علاقات الملك أوفا ركس مع الدولة العباسية قوية؛ مما مهَّد لإسلامه، وإن كنا لا نعرف كيف دخل في الإسلام وقصة إسلامه بالتفصيل؛ وذلك لإخفائه الأمر في البداية، ثم لحرص الفاتيكان والمؤرخين الصليبيين على إخفاء الحقيقة بعد ذلك بتجاهلها، بل وتجاهل شخص الملك نفسه رغم عظمته في تاريخهم.
قام الملك أوفا ركس بسكِّ عملة جديدة بدلاً من عملته القديمة التي تحمل صورته, وجعل عملته الجديدة تحمل عبارة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) على أحد الوجهين، وعلى الوجه الآخر: (محمد رسول الله)؛ وذلك في إعلان صريح عن إسلامه, ولا توجد قطعة من هذه العملة إلا محفوظة بالمتحف البريطاني, وبها أخطاء إملائية؛ ربما بسبب جهل الذين سكُّوا العملة باللغة العربية.
ولم يكن الفاتيكان ورجاله ليهدءوا حتى يقضوا على الملك أوفا, فتآمر بابا الفاتيكان مع شارلمان على قتل ملك إنجلترا؛ لكي لا يواصل أهدافه, ففي يوم الجمعة 29 من يوليو 796م/ 17 من جمادى الأولى 180هـ قُتل الملك أوفا, إلا أن وثائقهم تُشير إلى أنه مات فجأة فقط, ودُفِن في مصلى صغير، وذلك على غير عادة ملوك مرسيا الذين يُدفنون في كاتدرائيتهم.
وبعد حوالي قرنين أتى الملك الإنجليزي جون (1199–1216م) وأمر بالبحث عن قبره لوضعه في مكان لائق لتكريمه, وهو الذي أرسل بعثة إلى السلطان الموحدي محمد الناصر لدين الله في الأندلس يطلب منه المعونة العسكرية ضد البابوية، ويتيح له نشر الإسلام بإنجلترا, إلا أن انشغال الناصر بحروبه مع الأسبان وهزيمته القاصية والفاصلة في معركة العقاب لم تُتح له مساعدة الإنجليز.
الإسلام دين يغزو القلوب بكل منطق ممكن: القلب والعقل، ويفعل في النفوس الأفاعيل حتى يُنير العالم كله بنور الحقِّ، ويجعل الناس يعيشون في سعادة دائمة.. هذه دلالة قصة الملك أوفا ركس.
عام 1841م حمل معه مفاجأة كبيرة للمؤرخين؛ فقد تم العثور فيه على قطعة نقد ذهبية غريبة تمامًا تعود لعهد هذا الملك الإنجليزي القوي. ولكن أي غرابة في هذه القطعة الذهبية المحفوظة الآن في شعبة النقود القديمة في المتحف البريطاني لكي تُعدّ مفاجأة؟! الغرابة أننا نجد كلمة الشهادة وآية قرآنية مكتوبة باللغة العربية على وجهي هذه القطعة النقدية.
وإليكم التفاصيل:
ففي أحد وجهي القطعة توجد كتابة باللغة العربية، وهي "لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وفي الحافة كتبت عبارة "محمد رسول الله"، ثم الآية الكريمة {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33].
أما في وسط الوجه الثاني فنجد كتابة عربية أخرى وهي "محمد رسول الله"، وفي وسط هذه الجملة سجل اسم الملك "أوفا" باللغة الإنجليزية. أما في الحافة فقد كتب باللغة العربية: "بسم الله.. ضرب هذا الدينار سبع وخمسين ومائة".
وكما يفهم من إمضاء الملك أوفا فإن هذه القطعة ضربت خلال الأعوام 757 - 796م، وسنة 157 هجرية الواردة في قطعة النقد تصادف عام 774م، وهي ضمن فترة حكم الملك "أوفا".
لقد كتبت بحوث عديدة حول هذه القطعة النقدية، وألقيت محاضرات كثيرة حولها، وقدم المؤرخون فرضيات ونظريات عديدة لتفسير لغز هذه القطعة النقدية.
* أهم هذه الفرضيات هي:
1- الفرضية الأولى: إن الملك "أوفا" اعتنق الإسلام.
2- الفرضية الثانية: إن الملك "أوفا" استعمل هذه الجمل والكلمات العربية والآيات كزخرفة أو كزينة دون أن يفهم معناها.
3- الفرضية الثالثة: كان الملك "أوفا" قد عقد سنة 787م معاهدة مع البابا "أندريان الأول" تقضي بقيام الملك بدفع فدية سنوية إليه؛ فقد تكون هذه القطع الذهبية قد سُكّت خصيصى لهذا الغرض.
4- الفرضية الرابعة: إن الملك "أوفا" سكّ هذه النقود لمساعدة الحجاج من مواطنيه من الراغبين في زيارة القدس؛ لكي تستعمل من قبلهم من أجل تأمين سهولة السفر إلى هذه الديار؛ أي أن السبب كان سياسيًّا.
* مناقشة هذه الفرضيات
من الواضح أن الفرضية الثانية لا تتفق مع المنطق الإنساني السليم؛ إذ من المستحيل أن يقوم أي ملك بكتابة جمل لا يعرف معناها على النقود التي يقوم بسكها ومن أجل الزينة فقط، علمًا بأن هذه الجمل هي كلمة الشهادة التي تلخص أساس العقيدة الإسلامية، وكلمة الشهادة هذه هي التي تجعل الشخص مسلمًا؛ أي ليست أي عبارة يمكن أن تكتب من أجل الزينة.
صحيح أن بعض ملوك أوربا المنبهرين بالحضارة الإسلامية قاموا بكتابة أسمائهم باللغة العربية على النقود التي سكّوها؛ أمثال "ألفانسو الثامن" و"فاسيلس ديميتريش"، وبعض أمراء النورمان أمثال "وليام دروجر"، حتى إن الإمبراطور الألماني "هنري الرابع" سكّ اسم الخليفة العباسي "المقتدر بالله" على نقود بلده لإعجابه به، ولكن لم يقم أي واحد منهم بكتابة كلمة وشهادة التوحيد على نقود بلده مثلما فعل الملك "أوفا" دون وعي، على حد زعمهم.
بالنسبة للفرضية الثالثة فإنها فرضية غريبة جدًّا وغير واقعية؛ إذ كيف يطلب البابا من الملك أوفا القيام بكتابة شهادة التوحيد على نقود الجزية التي فرضها عليه؟! فهذه الفرضية تبدو غير منطقية وربما مستحيلة؛ ذلك لأن المقام البابوي كان آنذاك من أعدى أعداء الإسلام؛ لذا فمن الطبيعي أن يرفض البابا رؤية شعار وعقيدة عدوه على النقود، حتى وإن كان على شكل زينة أو زخرفة.
* بالنسبة للفرضية الرابعة:
هذه الفرضية أيضًا فرضية بعيدة الاحتمال وضعيفة؛ إذ من الصعب الاقتناع بأن الملك أوفا قد سك هذه النقود لمساعدة مواطنيه من الحجاج وتسهيل زيارتهم للقدس؛ ذلك لأن المسلمين في ذلك العهد لم يكونوا يمنعون، ولا يضعون أي عقبات أو عراقيل أمام المسيحيين من جميع الأقطار المسيحية في أوربا في زيارة المدن المقدسة لديهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المسيحيين كانوا يتجولون أصلاً في البلدان الإسلامية بكل حرية قبل عهد الملك أوفا وفي عهده وبعده أيضًا. أي لم تكن هناك أي حاجة لمثل هذا التدبير. وقد يتبادر إلى الذهن احتمال أن بلد هذا الملك كان عاجزًا آنذاك عن القيام بسك النقود؛ لذا اضطر إلى القيام بسك نقوده في أحد البلدان العربية.
ولكن هذا الاحتمال يبدو ضعيفًا أيضًا؛ لأن الموسوعة البريطانية تذكر أن أهم إنجاز باق حول حكم هذا الملك هو تأسيسه وسكه لنوع جديد من العملات تحمل اسم الملك واسم ضاربها، وهناك الكثير من العملات التي تحمل صورة الملك أوفا، أو صورة زوجته الملكة "كانثريز".
وقد استخدم هذا النظام في سك النقود في إنجلترا لعدة عصور، ومن الممكن مشاهدة نماذج أخرى من النقود التي تم سكها في عهد هذا الملك في مبحث العملات، وفي مبحث حياة هذا الملك في الموسوعة البريطانية؛ أي أن احتمال عجز هذا الملك عن سك النقود في بلده غير وارد على الإطلاق.
الحقيقة الواضحة هي أن الملك أوفا كان قد اعتنق الإسلام، ولكننا لا نعثر على دليل آخر، ولا على أي وثيقة أخرى عدا هذه النقود، كما لا نعلم شيئًا عن كيفية إسلامه. ويرجع السبب في هذا -كما يقول المؤرخون- إلى أن الكنيسة الإنجليزية قامت بالقضاء على كل الوثائق العائدة لهذا الملك؛ بسبب اعتناقه الإسلام.هل اعتنق هذا الملك الإسلام وحده، أم مع أفراد عائلته ومع مقربيه؟ هذا ما لا نعرفه ولا نملك حوله أي معلومات حاليًا. والذي نعتقده هو أن هذا الملك قد يكون قد التقى بعض علماء الإسلام عند زيارته لمدينة القدس، فآمن بالإسلام واعتنقه، أو قد يكون قد اتصل بالإسلام عن طريق الأندلس.
والشيء الغريب أنه لا الموسوعة البريطانية ولا الموسوعة الفرنسية "لاروس" تشيران إلى هذه الناحية بل تهملانها تمامًا، وهذا يدعم اعتقاد الذين يرون أنه حتى هذه الموسوعات المعروفة لا تتحلى بالروح العلمية وبالروح الحيادية المفروض توفرها فيها.. ولا نقول حاليًا أكثر من هذا؛ فالحر تكفيه الإشارة. ويا حبذا لو قام المؤرخون المسلمون بدراسة تاريخ هذا الملك، فلا شك أنهم سيصلون إلى نتيجة إيجابية
"د. صالح العطوان الحيالي"
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. صالح العطوان الحيالي -العراق- 24-8-2018
هو أوفا ركس Offa Rex ملك مرسيا بإنجلترا الذي كان من أعظم حكام أوربا بالقرون الوسطى، ولكن الكنيسة جعلت المؤرخين يتجاهلونه بسبب إسلامه؛ مما تسبب في قلة المصادر التي تتحدَّث عنه, رغم مساهمته في توحيد الممالك الأنجلوساكسونية السبع, وجهوده في الإنعاش الاقتصادي ونشر الأمن.
جهود الملك أوفا في بدايات حكمه
ـــــــــــــــــــــ في عام 757م تولَّى أوفا ركس مُلك مرسيا ببريطانيا بعدما قُتل ابن عمه إيزلبالد من أعدائهما، وقيام حرب أهلية بسبب تدخُّل أحد مجهول الهوية مدعي أحقيته المُلك, فانتصر أوفا عليه, ولكن هذه الحرب سببت صدعًا داخليًّا, كلَّف الملك لرأبه مدة سبع سنوات, بعد ذلك استعدَّ لتوحيد الممالك السبع تحت حكمه, فقد حاول بالطرق العسكرية والدبلوماسية وبالمصاهرة توحيد إنجلترا، فأصبحت كما شاء..
ولكن هذه الوحدة لم تكن تروق للفاتيكان ورجاله، الذين أظهروا العداوة للملك أوفا ركس؛ مما جعل الملك يُعادي سلطتهم الدينية, فما إن وصلت الأخبار إلى الفاتيكان بأنه معادٍ للبابوية وللعقيدة الكاثوليكية، وتهديده بخروج إنجلترا من الكنيسة الرومانية، وأيضًا إسلامه سرًّا, حتى أرسل البابا ولأوَّل مرة منذ دخول إنجلترا للمسيحية بعثة في عام 786م، تحمل كبار مبشِّريها لمحاولة منع شعب إنجلترا من ترك دينهم والاهتداء للإسلام؛ خوفًا من اتباعهم لملكهم ذي الشعبية, كما حرضت الفاتيكان ويلز للحرب ضد أوفا؛ مما جعله يُشيِّد سورًا عظيمًا على الحدود بين إنجلترا وويلز لحماية بلاده.
اهتمَّ الملك أوفا بنشر الأمن بعد جهود توحيد البلاد، ووضع التشريعات لحماية المواطنين، كما حرص على رفع المستوى الاجتماعي والثقافي لديهم, وحرص على البناء والإعمار؛ محاولة منه لجعل بلاده حضارية، والخروج من التخلف والفوضى التي سبقته, جهوده هذه نجحت بفضل نجاح تجارة واقتصاد بلاده؛ مما جعل الكثير من الأموال التجارية تتدفق لمعالجة الأوضاع والإصلاح.
ومن أهم علاقاته التجارية علاقته مع الدولة العباسية الإسلامية، التي تطوَّرت أكثر بسبب منع ملك الفرنجة شارلمان تجار إنجلترا من الدخول لبلاده؛ بسبب آراء الملك أوفا المعادية للكنيسة, إلا أن شارلمان سرعان ما أقام اتفاقية تجارية مع أوفا؛ لمَّا وجد الضرر الذي لحق باقتصاد بلاده نتيجة هذه المقاطعة، وأيضًا لِمَا وجده من عدل ملك إنجلترا في تطبيق القوانين والتزامه بالاتفاقيات والمعاهدات على عكس ما اعتادوه من الملوك الأوربيين.
كما اهتمَّ أوفا ركس بالتعليم على عكس ملوك أوربا في ذلك العصر؛ حيث ساد الجهل ربوع أوربا لقرون طوال، ولكن إسلام أوفا ركس جعله يُدرك أهمية العلم والتعليم في نهضة الأمم، كما حرص على نشر الثقافة والعلم.
وفي المجال العسكري عمل أوفا ركس على تقوية الجيش، وعلى حماية بلاده فأمر ببناء ما عُرِف بسور أوفا العظيم.
وتنبَّه أوفا ركس لأهمية الإصلاح التشريعي؛ في لمحة مبكِّرة تدلُّ على عدل هذا الملك العظيم.
كانت علاقات الملك أوفا ركس مع الدولة العباسية قوية؛ مما مهَّد لإسلامه، وإن كنا لا نعرف كيف دخل في الإسلام وقصة إسلامه بالتفصيل؛ وذلك لإخفائه الأمر في البداية، ثم لحرص الفاتيكان والمؤرخين الصليبيين على إخفاء الحقيقة بعد ذلك بتجاهلها، بل وتجاهل شخص الملك نفسه رغم عظمته في تاريخهم.
قام الملك أوفا ركس بسكِّ عملة جديدة بدلاً من عملته القديمة التي تحمل صورته, وجعل عملته الجديدة تحمل عبارة: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له) على أحد الوجهين، وعلى الوجه الآخر: (محمد رسول الله)؛ وذلك في إعلان صريح عن إسلامه, ولا توجد قطعة من هذه العملة إلا محفوظة بالمتحف البريطاني, وبها أخطاء إملائية؛ ربما بسبب جهل الذين سكُّوا العملة باللغة العربية.
ولم يكن الفاتيكان ورجاله ليهدءوا حتى يقضوا على الملك أوفا, فتآمر بابا الفاتيكان مع شارلمان على قتل ملك إنجلترا؛ لكي لا يواصل أهدافه, ففي يوم الجمعة 29 من يوليو 796م/ 17 من جمادى الأولى 180هـ قُتل الملك أوفا, إلا أن وثائقهم تُشير إلى أنه مات فجأة فقط, ودُفِن في مصلى صغير، وذلك على غير عادة ملوك مرسيا الذين يُدفنون في كاتدرائيتهم.
وبعد حوالي قرنين أتى الملك الإنجليزي جون (1199–1216م) وأمر بالبحث عن قبره لوضعه في مكان لائق لتكريمه, وهو الذي أرسل بعثة إلى السلطان الموحدي محمد الناصر لدين الله في الأندلس يطلب منه المعونة العسكرية ضد البابوية، ويتيح له نشر الإسلام بإنجلترا, إلا أن انشغال الناصر بحروبه مع الأسبان وهزيمته القاصية والفاصلة في معركة العقاب لم تُتح له مساعدة الإنجليز.
الإسلام دين يغزو القلوب بكل منطق ممكن: القلب والعقل، ويفعل في النفوس الأفاعيل حتى يُنير العالم كله بنور الحقِّ، ويجعل الناس يعيشون في سعادة دائمة.. هذه دلالة قصة الملك أوفا ركس.
عام 1841م حمل معه مفاجأة كبيرة للمؤرخين؛ فقد تم العثور فيه على قطعة نقد ذهبية غريبة تمامًا تعود لعهد هذا الملك الإنجليزي القوي. ولكن أي غرابة في هذه القطعة الذهبية المحفوظة الآن في شعبة النقود القديمة في المتحف البريطاني لكي تُعدّ مفاجأة؟! الغرابة أننا نجد كلمة الشهادة وآية قرآنية مكتوبة باللغة العربية على وجهي هذه القطعة النقدية.
وإليكم التفاصيل:
ففي أحد وجهي القطعة توجد كتابة باللغة العربية، وهي "لا إله إلا الله وحده لا شريك له"، وفي الحافة كتبت عبارة "محمد رسول الله"، ثم الآية الكريمة {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33].
أما في وسط الوجه الثاني فنجد كتابة عربية أخرى وهي "محمد رسول الله"، وفي وسط هذه الجملة سجل اسم الملك "أوفا" باللغة الإنجليزية. أما في الحافة فقد كتب باللغة العربية: "بسم الله.. ضرب هذا الدينار سبع وخمسين ومائة".
وكما يفهم من إمضاء الملك أوفا فإن هذه القطعة ضربت خلال الأعوام 757 - 796م، وسنة 157 هجرية الواردة في قطعة النقد تصادف عام 774م، وهي ضمن فترة حكم الملك "أوفا".
لقد كتبت بحوث عديدة حول هذه القطعة النقدية، وألقيت محاضرات كثيرة حولها، وقدم المؤرخون فرضيات ونظريات عديدة لتفسير لغز هذه القطعة النقدية.
* أهم هذه الفرضيات هي:
1- الفرضية الأولى: إن الملك "أوفا" اعتنق الإسلام.
2- الفرضية الثانية: إن الملك "أوفا" استعمل هذه الجمل والكلمات العربية والآيات كزخرفة أو كزينة دون أن يفهم معناها.
3- الفرضية الثالثة: كان الملك "أوفا" قد عقد سنة 787م معاهدة مع البابا "أندريان الأول" تقضي بقيام الملك بدفع فدية سنوية إليه؛ فقد تكون هذه القطع الذهبية قد سُكّت خصيصى لهذا الغرض.
4- الفرضية الرابعة: إن الملك "أوفا" سكّ هذه النقود لمساعدة الحجاج من مواطنيه من الراغبين في زيارة القدس؛ لكي تستعمل من قبلهم من أجل تأمين سهولة السفر إلى هذه الديار؛ أي أن السبب كان سياسيًّا.
* مناقشة هذه الفرضيات
من الواضح أن الفرضية الثانية لا تتفق مع المنطق الإنساني السليم؛ إذ من المستحيل أن يقوم أي ملك بكتابة جمل لا يعرف معناها على النقود التي يقوم بسكها ومن أجل الزينة فقط، علمًا بأن هذه الجمل هي كلمة الشهادة التي تلخص أساس العقيدة الإسلامية، وكلمة الشهادة هذه هي التي تجعل الشخص مسلمًا؛ أي ليست أي عبارة يمكن أن تكتب من أجل الزينة.
صحيح أن بعض ملوك أوربا المنبهرين بالحضارة الإسلامية قاموا بكتابة أسمائهم باللغة العربية على النقود التي سكّوها؛ أمثال "ألفانسو الثامن" و"فاسيلس ديميتريش"، وبعض أمراء النورمان أمثال "وليام دروجر"، حتى إن الإمبراطور الألماني "هنري الرابع" سكّ اسم الخليفة العباسي "المقتدر بالله" على نقود بلده لإعجابه به، ولكن لم يقم أي واحد منهم بكتابة كلمة وشهادة التوحيد على نقود بلده مثلما فعل الملك "أوفا" دون وعي، على حد زعمهم.
بالنسبة للفرضية الثالثة فإنها فرضية غريبة جدًّا وغير واقعية؛ إذ كيف يطلب البابا من الملك أوفا القيام بكتابة شهادة التوحيد على نقود الجزية التي فرضها عليه؟! فهذه الفرضية تبدو غير منطقية وربما مستحيلة؛ ذلك لأن المقام البابوي كان آنذاك من أعدى أعداء الإسلام؛ لذا فمن الطبيعي أن يرفض البابا رؤية شعار وعقيدة عدوه على النقود، حتى وإن كان على شكل زينة أو زخرفة.
* بالنسبة للفرضية الرابعة:
هذه الفرضية أيضًا فرضية بعيدة الاحتمال وضعيفة؛ إذ من الصعب الاقتناع بأن الملك أوفا قد سك هذه النقود لمساعدة مواطنيه من الحجاج وتسهيل زيارتهم للقدس؛ ذلك لأن المسلمين في ذلك العهد لم يكونوا يمنعون، ولا يضعون أي عقبات أو عراقيل أمام المسيحيين من جميع الأقطار المسيحية في أوربا في زيارة المدن المقدسة لديهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المسيحيين كانوا يتجولون أصلاً في البلدان الإسلامية بكل حرية قبل عهد الملك أوفا وفي عهده وبعده أيضًا. أي لم تكن هناك أي حاجة لمثل هذا التدبير. وقد يتبادر إلى الذهن احتمال أن بلد هذا الملك كان عاجزًا آنذاك عن القيام بسك النقود؛ لذا اضطر إلى القيام بسك نقوده في أحد البلدان العربية.
ولكن هذا الاحتمال يبدو ضعيفًا أيضًا؛ لأن الموسوعة البريطانية تذكر أن أهم إنجاز باق حول حكم هذا الملك هو تأسيسه وسكه لنوع جديد من العملات تحمل اسم الملك واسم ضاربها، وهناك الكثير من العملات التي تحمل صورة الملك أوفا، أو صورة زوجته الملكة "كانثريز".
وقد استخدم هذا النظام في سك النقود في إنجلترا لعدة عصور، ومن الممكن مشاهدة نماذج أخرى من النقود التي تم سكها في عهد هذا الملك في مبحث العملات، وفي مبحث حياة هذا الملك في الموسوعة البريطانية؛ أي أن احتمال عجز هذا الملك عن سك النقود في بلده غير وارد على الإطلاق.
الحقيقة الواضحة هي أن الملك أوفا كان قد اعتنق الإسلام، ولكننا لا نعثر على دليل آخر، ولا على أي وثيقة أخرى عدا هذه النقود، كما لا نعلم شيئًا عن كيفية إسلامه. ويرجع السبب في هذا -كما يقول المؤرخون- إلى أن الكنيسة الإنجليزية قامت بالقضاء على كل الوثائق العائدة لهذا الملك؛ بسبب اعتناقه الإسلام.هل اعتنق هذا الملك الإسلام وحده، أم مع أفراد عائلته ومع مقربيه؟ هذا ما لا نعرفه ولا نملك حوله أي معلومات حاليًا. والذي نعتقده هو أن هذا الملك قد يكون قد التقى بعض علماء الإسلام عند زيارته لمدينة القدس، فآمن بالإسلام واعتنقه، أو قد يكون قد اتصل بالإسلام عن طريق الأندلس.
والشيء الغريب أنه لا الموسوعة البريطانية ولا الموسوعة الفرنسية "لاروس" تشيران إلى هذه الناحية بل تهملانها تمامًا، وهذا يدعم اعتقاد الذين يرون أنه حتى هذه الموسوعات المعروفة لا تتحلى بالروح العلمية وبالروح الحيادية المفروض توفرها فيها.. ولا نقول حاليًا أكثر من هذا؛ فالحر تكفيه الإشارة. ويا حبذا لو قام المؤرخون المسلمون بدراسة تاريخ هذا الملك، فلا شك أنهم سيصلون إلى نتيجة إيجابية
"د. صالح العطوان الحيالي"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق