الأحد، 2 ديسمبر 2018

مجلة انكمدو العربي للثقافة والأدب // قصة : هذيان عربي // بقلم الاستاذ / صالح هشام // المغرب

قصة / هذيان عربي.
أكاد أتفل معدتي، أتصبب عرقا، دقات قلبي تسابق أنفاسي، حوافر فرس جامح ترج كل أطرافي، خدوج يركلون يمين صدري، يتعجلون الخروج، إلى عالم هلوع، جزوع، حفنة من تراب لا تساوي حبة بصل، في قبضة اليد تتشظى، تتكسر، تتحول كابوسا يقض مضجع كل حالم بوجود مصادر.
أمسح حبيبات عرقي، أمضغ رأس جملة، كنت سمعتها في صراخ تاريخ عربي بلا تاريخ، ألوكها (نحن خير أمة، أخرجت للناس) وكالعنزة أجترها، لم أفهم سرها ومستورها، قصدها يختلف من عمامة إلى لحية، ومن لحية إلى عمامة. ألملم شتات أفكاري، وأقول: الناس معادن، ملل، نحل، رؤى، تصورات، فلسفات، ومواقف. ألف نفسي بلحافي، ورائحة عرقي تفوح مني وكأني محموم، فأضع الرمش على الرمش، وأطبق عيني. أشعر برغبة جامحة في الحلم، في النوم، ففيه نعمة تسد مسام التفكير، وتبعد النائم من الهم والألم.
يد خشنة، أحسها من الكتف ترجني بقوة كالإعصار، أرتعد، أرتجف كقصبة في مهب ريح الشرقي، فأتبلل، أعصر بللي، وإن كان من الداخل يعصرني، فأصرخ مرعوبا:
- من أنت يا هذا؟ لماذا تغرز أوتادي عميقا في هذه الأرض، وأنا أريد تقويض خيمي، أبغي الرحيل من واقعي المثخن بالجراح، أريد أن أهجر نفسي، وأهاجر من عالم العبث هذا، إلى حيث لا أدري، إلى حيث لا توجد أسئلة، ولا أجوبة، اتركني أغمض عيني، ففي العين قذى، في الرؤية يؤلمني، رؤية بقع الدم الحمراء، منقوشة على جسد عربي جريح، مهزوم، في زمن هزائم حكام خانوا صحراء العرب، وباعوا رمالها حبة، حبة، وأملنا المصادر، بالألم منقوش بعمق في أعماقنا، بأحرف الغدر مطرز كل جسم عربي.
يهدهدني كرضيع في مهده، لكن بقوة، فيكاد يهدني، وعلى أضلاعي يضغط بعناد الغريق، ويصرخ في وجهي معاتبا:
- يا قشة تحترق في تنور الأوطان بلا دخان، بلا وكن كعصفور شرده الصقيع، إذا كنت تخاف رؤية واقعك الجريح، فيؤلمك قذاه، سد عينيك، افتح أذنيك، وأصخ السمع:
أفتح أذني، تصمني، تصدمني أصوات بقعقعة الرعد أشبه، كأصوات المناشير تكسر العظام الآدمية، والطواحين تطحن الأوطان والمواطنين، دون رحمة، وكحبيبات البن يدق البشر، والشجر، والحجر، في مهراس بلاد العرب، فتستفها غيوم غبار خانق، ينبعث من بيوت طينية ترزح تحت قهر وفقر مدقع، تحت رحمة حاكم جلف مخصي، يتلاعب بمصير مواطن مقصي، وبتاريخ منسي في رفوف الأرشيفات، وسراديب المكتبات، كالطفلة تلهو بدميتها البلاستيكية، أصاب بالهلع، أحمي قفاي، أحتمي من سطوة سيف جائر، يعرف الرقص على أكتاف الأجلاف، وفي أيدي الرعاديد يتهيب من مقارعة الصناديد، ولا يتقن إلا جز رقاب العرب، على شرف كواعب الغرب، ومن مقصلة أعدت لإسكات الأفواه المفتوحة، ومن أسواط لتعزير معلمي الفلسفة، وأنصار الحرية. أصرخ بكل قوتي، أستنجد، أستغيث، أهيم على نفسي في ربوع بلاد العرب، أجد كل الآذان أصابها الصمم، والألسنة أثقلها البكم، والأعين أصابها العمى الأزرق، أعيد صراخي، فيسمع بعيدا، كحصيات في بئر سحيق، فتنزلق في فراغ النفوس، ومن صمت اللحود، يتردد في أعماقي صدى حنجرة مألوفة، انتشت بشدوها مجامع تحسن التصفيق، تبدع في الدعاء في الجوامع، وتفلح في الكلام، فتمسح ضعفها بقوة سلفها الصالح، ولا تتقن الاستماع والاستمتاع:
هم يسرقون الآن جلدك.
فاحذر ملامحهم... وغمدك.
كم كنت وحدك، يا ابن أمي.
يا ابن أكثر من أب.
كم كنت وحدك.
- من أنت يا هذا؟ فما بقي في جسدي النحيل قطرة دم تسفك، فكيف لي أن أسمعك وهم عبر الزمن ما سمعوا صراخك، فعيروك بالجنون، يا مجنون القضية.
- أنا ما تبقى من مادة رمادية في دماغك، أنا فتات ضميرك البارد، تخزه كالإبر قشور كل يوم، يسرطها البحر، فتتفلها أمواجه عظاما بلا لحاء، ها أنا أهجم عليك، ها أنا أهاجمك في عز غفوتك، علك تستفيق من سباتك، علك تجرد سيفك من غمده، ولوكان بدون نصل، فأنت كثير الكلام بدون جدوى، ماهر في صيد حروف الخطابة في ظلمة الليل، ماهر في الاستهلاك من الغترة إلى الشماغ، فأنت العربي المقهور، ضمر دماغك، انخرمت منك حبال الروية والرؤية والتفكير، وتساوت في بؤبؤ عينيك الألوان، في زمن أصبح فيه دمك أرخص من جرعة ماء بارد، فأنا فتات من معقول أفكارك، تجعلك تعيش تحت وطأة الكوابيس، وعلى صدرك تجثم جواثيم واقعك.
أجلس منهوك القوة، على رصيفنا العربي البارد، وغير بعيد مني، يقرفص ذلك العربي المقهور، يقعي كالكلب، يلصق بالأرض عينيه الذابلتين، وقد أتعبه ظلم ذوي القربى. أمعن فيه النظر جيدا، فأشعر بتنميل غريب، كدبيب حشود النمل تنهش كل أطرافي، يجتاحني من رأسي إلى قدمي، فأحار في مصدره، فلماذا هذا التنميل في كل جسدي؟ وكلما احتد، كثر تعرقي، وقلت رغبتي في هذا الوجود المنبوذ. يلملم ضميري شتاته، أسمعه يهتف بقوة:
- يا هذا المقعي، على هذا الرصيف الكئيب، فما أنت كلب، كما صنفت في قاموس الاستبداد والقهر. ابن عمك، هذا العربي البئيس، من جلدتك هو، ومن جلدته أنت، والدم لا يصبح ماء أبدا، فيك منه دم، وفيه منك دم، ودمك بدمه ممزوجا، يحرك في أوصالك هذا التنميل، وهذه الشقيقة وصداع الرأس. وبعدك عنه يبرد فيك الإحساس بالنخوة، يدمر فيك الشعور بعروبتك المغتصبة.
أتحامل على نفسي، ألملم هلوساتي، وأعبر إلى رصيفك، أمد لك يدي يا ابن العم، فتتقهقر إلى الخلف، تتوجس مني، تشم رائحة الغدر بثيابي عالقة، فقدت ثقتك بنفسك وبالناس جميعا، أبسط ذراعي أكثر، تدس نفسك في حضني، وأنت ترتعش من الخوف، فألمس يدك، تلمسني، فيزداد تنملي في كل أنحاء جسدي، أشعر بك باردا رخوا رخاوة لا حدود لها. وكأني أطبق قبضتي على حلزون بلا صدفة، عبث به صهد الشمس، أخال يدي تغوص في كومة من زبد قديم، أو في كومة مهترئة من قناديل البحر، فتنزلق يدي، ويدك تفلت مني، فأحاول أن أتمسك بك، لكني كنت أقبض على الهواء، وأشد خيوط السراب، وأراك بهدوء تتبخر في الخواء، فأصرح بكل ما أتيت من قوة:
- أنت يا هذا العربي، أنت ابن العم، والعين لا تعلو على الحاجب، تؤلمني رؤيتك باردا كالثلج، هيا، هيا، فلنعبر هذا الرصيف المبلط بدماء العرب، المزركش بمخاخ العرب، المرصع بجذوع وجماجم أطفال العرب، الموشى بغباء حكام العرب...هيا يا ابن العم، نعبر هذا الرصيف المثخن بالجراح، فلنهجر هذه الأوطان، فلنهاجر إلى تاريخ العرب، نشكوه مصائب قوم عند غيرهم فوائد، عل لحود السلف تخفف عنا ثقل تاريخنا المكتوب في بلاط الحاكم العربي، خارج دائرة التاريخ، عل صرختنا تكسر جدار الصمت، بيننا وبين عمورية المعتصم، علك تلملم رخاوة جسدك، وترهل أطرافك، وأشفى أنا أيضا من هذا التنميل الموجع في أوصالي، وتنشط هرمونات تفكيرك التي جمدتها في أغشية دماغك سطوة حديد ونار حجاجي عصرك، وكبح جماحها طغاة، يستمدون وجودهم من المناشير والمقاصل.
أجرك يا ابن العم، تطاوعني فتنجر، لأنك أصبحت مسلوب الإرادة كالمنوم، أدفعك أمامي، فتتدافع كقطاة إلى الغدير.
نحاول العبور إلى عالم آخر، بعيدا عن كراكيز عربية، تتقن الرقص على الجثث، فلنركب صهوة الريح، ونمتطي خيالنا الجامح، علنا نظفر برائحة من حرية، وشيء من كرامة مفقودة. لكنك يا ابن العم، تتهاوى على الأرض كأسد جريح، قبل أن نبدأ رحلتنا نحو الأمل، هروبا من الألم، وأنت تتألم من طغيان طاغوت وطنك، وطواغيت تاريخك المثقل بالطواغيت. تسقط ملفوفا بشهيقك وزفيرك المحموم، أربت على كتفيك، وأضع يدي على أم رأسك، أحسه إسفنجة رخوة، جمجمة رضيع لم يكتمل نضجها بعد...تغوص أصابعي في دماغك، كما لو في الزبد تنغرز، أجذبها بسرعة إلى صدري، وأنا أرتجف من الخوف، كانت ملطخة بالدم النتن والديدان، فتفوح منك روائح عفن عربي، وأمام عيني المرعوبتين، يبدأ جسدك يتحلل، طرفا، طرفا، لحمة، لحمة. ويمعن في الانصهار والتحلل، فتجتاحه الديدان كله، كجحافل قوم يأجوج ومأجوج، وكأنك مت منذ زمن بعيد، ألفك بقطعة ثوب أبيض تخربشها سطور قهر وعهر، يسطرها تاريخ التاريخ بالخط المضغوط، فأتساءل:
- كيف تموت يا ابن العم بهذه السرعة؟ كيف تنخر جسدك الديدان واقفا؟ كيف تموت موت الأشجار مركوزا كالرمح؟ ربما كغيرك من أبناء جلدتك، تولدون بصمت، وتعيشون كالقش بلا حفيف، وتحترقون بلا دخان، فما أنتم جميعكم إلا مشاريع قبور واقفة في أوطانكم.
أستغيث بالشرطة علها تفعل شيئا، أجد هاتفي خارج التغطية، أستغيث من جديد، لم يحالفني حظي، لا من سامع استغاثتي، أعود مكسور الخاطر إلى مكان تحلل جثة ابن عمي العربي، أفاجأ به قاعا صفصفا، للتو عاث فيه الجرار فسادا، فطمس ملامحه، ونبتت فيه أعشاب وطفيليات ضارة.. وهناك غير بعيد منه، رجل عربي مقهور يجر عربة ثقيلة كصخرة سيزيف، وهو ينادي بدون انقطاع:
- آآ، اللبن...آآ، سيكوك... آآ، سيكوك...زيدوا...زيدوا... لا غلاء على مسكين.
فأسأله بتودد:
- يا أخ العرب، هنا كان ابن العم العربي، يتحلل جسده، ألم تر في أي الأمكنة طمر الجرار جثمانه، وغطاه بالتراب؟
ينظر إلي باستغراب واندهاش، ويسالني:
- أتريد اللبن حافيا، أم تريده بحبيبات بلبوله الشعير؟ ففيها بأس كالحديد، ومنافع للناس.
- لا لبن، ولا شعير، يا هذا، أريد أن أعرف محل ابن عمي العربي من هذه الرقعة الكبيرة في هذه الأرض الممتدة إلى ما لا نهاية.
يكشر اللبان عن أنيابه ويصرخ في:
-انك يا سيدي تهذي وتهلوس، فهذه الأرض بيعت في المزاد العلني، منذ زمن بعيد، بلحودها وجثثها، وابن عمك هذا لن يكون أحسن حالا، وأكثر قيمة مما في جوف هذه الأرض منذ فجر التاريخ.
---------------------------------
توضيحات:
سيكوك: اكلة شعبية مغربية من اللبن ودقيق الشعير.
بلبولة : دقيق الشعير في العامية المغربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق