الجمعة، 24 يونيو 2016

قراءة نقدية : بقلم أ. مجيدة السباعي / النداهة والمعتوه بقلم أ. صالح هشام / المغرب

قراءة نقدية : بقلم الاستاذة مجيدة السباعي !
النداهة والمعتوه بقلم الاستاذ صالح هشام !
كلمة إنصاف : وأنا اقرأ هذا التحليل النقدي الرائع للاستاذة مجيدة السباعي لنصي القصصي النداهة والمعتوه ، وقفت على مجموعة من الامور التي تخص هذه القراءة النقدية الرائعة 
-الاستاذة مجيدة السباعي تنصهر قلبا وقالبا في بوثقة النص الشيء الذي يمنحها القدرة على تفكيك مستغلقاته ، وبكل دقة لانها تخلق ألفة بينها وبين شخوص القصة !!
-تركيز الأستاذة على مقوم واحد من مقومات النص الفنية كقصة قصيرة مؤشر على خبرتها بان الغوص في أعماق كل مكوناتها يستوجب دراسات مطولة ، فكانت هذه القراءة أكثر تركيزا على خصائص شخصيات النص ، في علاقاتها وصراعاتها الطبقية ، وقد تعمقت الناقدة في اعماق هذا الصراع الطبقي في النص بكل حنكة واقتدار ! 
واخيرا لا يسعني إلا أن أهنيها على النفس الطويل في التحليل ومشاكسة هذه الشخصيات المشاكسة ، مسيرة نقدية ستكون حافلة ان شاء الله لا محالة ، وفقك الله !!!!!
________________________________________________________________
التحليل المعتمد 
النداهة والمعتوه 
كما هو معلوم في كل قراءة لأي نص قصصي ، لا يتأتى تحقيق الانطلاق إلا بعد تفكيك أجزائه ، و تحديد أنساقه ، و تحديد مفاتيح العلاقات السائدة بين شخصياته ، قصد استبطان الدلالات الموغلة في العمق ، و فتح الرسائل القارئة لنفوس الأبطال الدفينة ، و أيضا الوقوف على السياقات المتلونة ، و الصانعة للأسلوب ، أخيرا تأتي القراءة بالترميم ، و صياغة بناء متكامل منسجم ملتحم لها من جديد.
و يعد العنوان أول معبر مساعد على تحقيق هذه القراءة ، و العنوان هنا جاء من كلمتين ]النداهة و المعتوه[ ، كلمتان لا علاقة بينهما في المعنى ، يدلان على عالمين غريبين ، الأول غيبي و الثاني حقيقي، النداهة كلمة غامضة يعتقد وجودها البعض لجهلهم ، أما الثانية فتبت في ذهن المتلقي نوعا من الغرابة ، و الاستفهام ، فلا يكف يتساءل عن جدوى قصة المعتوه ، و مدى رؤيته للكون ، و عن رسائل دلالات النص ، و فيما توظف هذه الشخصية.
حتما لا يقصد بالمعتوه معنى المعجم السطحي ، بل ما لها من رموز حسب السياق ، و أغوار دلالات النص، و تعرب النداهة مبتدأ، و المعتوه اسم معطوف و الخبر محذوف، و لا يخفى تأثير الإعراب عند تقديم الدلالات. 
و نلمس بعمق أن الصراع الداخلي يحتدم و يشكل اغلب مساحات لحمة النص لذا يركز بحذق على كل السلوكات الغريبة و أزمات كل شخصية على حدة لوضع
الأصبع على دفين النفوس فلكل شخصية عالمها الخاص المتباين تعيش أزمتها و تعاني بصمت واقعها و تراه الواقع الأمر !
كما أن هناك مواقف نفسية، و علاقات جد متناقضة بين طبقتين اجتماعيتين ، لكل واحدة منها قناعات معينة ، و كل طبقة منها ترفض الأخرى و تلتقي معها على مضض، فقط للضرورة.
و لاستغوار هذه العلاقات غير الملتحمة ، و البعيدة عن الانسجام ، فهذا عبور عاجل إلى عالم كل شخصية، لتوضيح مسببات كل تلك السلوكات الغريبة. 
أم السلطان العريس]امرأة مكتنزة.. امرأة تجر جسمها[ دليل النعمة ، و الثراء خاصة أنها زوجة العمدة ، و سيدة الحل و العقد في الدار الكبيرة ، رمز الغنى الفاحش البعيد عن حياة البسطاء ، و دليل غناها يبدو من لباسها ، و ما تملك) تمسح جغرافية جبينها بكم قفطانها ( لم تذكر الجغرافيا سهوا ، بل هي رمز دال لما يملك الحاج زوجها من أراضي ، و أملاك اغتصبت من البسطاء ، مدها هذا الوضع الخارجي بعقدة التعالي، و الشموخ.
لكن هناك في السر خفية اصطدام طبقي ، تحاول الأم على مضض تجاوزه مرغمة ، متنازلة بسبب ابنها المعتوه ، الذي يعد نقطة ضعفها ، مما كسر شموخها ، و رخص ثراءها ، و ذلك تحقق على عدة مستويات ، و سلوكات إذ لم تتحمل أول الامر التعلمل مع الأجير أبو العروس ، حيث كرهت شكله الغير مرغوب ، و طريقته في قطع اللحم ، و لعل درايتها بتقطيعه لكثرة الذبح ، و الخيرات فما ابعد عالميهما ، و قناعاتهما ، فليست كل الطيور على أشكالها تقع ، رغم أنه صار مهما في حياتها ، يظل الفقير المعدم في نظرها
حقا إن الدهر غرار ، هي مضطرة للترحيب بسرب نساء ، لا تراهن إلا ثقيلات الظل ، منافقات ، يقتنصن الفرصة بالغمز لإيذائها ، بالسؤال عن مولاي السلطان ، و ما يفعل ) ضحكات صفراء مبطنة بنفاق مفضوح (.
أمام هذه العلاقة المتنافرة تشعر بضيق التنفس ، يعتصر فؤادها لمدحهن العريس تقربا ، و تملقا ، ) سيد الرجال( لكنها أم على عاهة ابنها ، تراه سيد الرجال ، لمركز أبيه و ماله الوفير ، رغم موقفها الحرج هذا كانت محتاطة ، بنباهة لا تفوتها كل حاقدة من النساء تتلذذ بمحنة ابنها المرضية ، )عريس يشغله صيد الجرذان.
عويشة اسم عائشة مصغر ، مقصود تعمده الكاتب لتعرفه بين الناس ، و تحديدا لتسميته شخصية غيبية ، تسكن الوادي العميق ، تختطف الرجال ليلا إلى قعر واديها ، حسب ما تمليه مخيلة البعض الموغلة في التفكير الغيبي .
و هي بنت الأجير الفقير ، عملت منذ نعومة أصابعها خادمة ببيوت المدينة ، عادة اعتادها آباء البدو قصد أن يحسنوا مستواهم الاقتصادي ، على حساب عرق بناتهم و عرضهن أحيانا )قلوب تمكن منها الزيف و تاجرت في الأعراض و المصائر(ظاهرة اجتماعية ، صورتها كاميرا حرف الكاتب المتمرس ، تنتقد انتهاك حقوق الإنسان . )مكرهه ترضخ لمشيئة أبيها ( أكرهها كبضاعة لتقبل المعتوه زوجا ، هي ظواهر شائكة معيقة لتقدم المجتمع ، تغرقه في القهقرى. 
جعلتها المدينة/ الغول لبوءة شرسة ذكية ، فأدركت أن المعتوه وسيلتها ) تقتلع نفسها من عقدة مستواها الاجتماعي ( سيخلصها من عقدة فقر لازمتها سنين ، و ستلقب زوجة ابن العمدة ، الذي سيرث منصب أبيه ، و تصبح آنذاك سيدة الدار الكبيرة . و لذكائها الثاقب تبينت وضعها الشائك و خطورته ، فصارت تواسي نفسها بقرب امتلاك عرش مملكتها ، و ان ستكون وحيدة فمثلها مثل اكبر ملكات التاريخ ، ما حاجتها للسلطان المعتوه المنشغل بالقطط ؟ فهي القوية بعقلها ، و تدبيرها ، و ذكائها. .
الشيخ العمدة لا يبدو له حضور مميز مقارنة بزوجته الشامخة ، لعل مرد ذلك لخجله من وضع ابنه المعتوه ، هناك فقط تركيز على تصوير مشاعره ، فقلبه منفطر لقلة جهده ، وحيلته أمام خبل ابنه ، أتراه ليس مسؤولا عن هذا الوضع ؟ألم يقصر في علاجه ، وهو الشيخ الثري في القبيلة ؟ بل زاد الوضع تأزما بقرار تزويجه ، وممن ؟؟ من امرأة قادرة، ذكية ، خبيرة بسوق الرجال بل ) تقرا فراستهم(. تؤمن بتأثير السحر و الشعوذة و لها طموحات لا شطآن لها.
ليست أيا كان (دماغها يزن دماغه عشرات المرات) إنها مفارقة في النص تمكن من لذة المتابعة ، لما هنالك من تشويق ، ومقارنات مقنعة ، ووضعيات إنسانية جد معقدة ، تعكس الواقع بكل عيوبه ، ونواقصه ، فينجذب القارئ أكثر بكل حواسه ، ويوغل في أجواء السرد بشغف كبير ، ويستلذ القراءة دون رتابة أو ملل ، بل يجد نفسه يتمنى ، لو تدخل لتقديم ما يضمد الجروح !
ستلوح بجلاء أيضا مجموعة أفعال غريبة ، سلكها الشيخ اتجاه ابنه المريض الذي يستوجب اللطف ، والمرونة في المعاملة.
(اقتفى أثره) أخرجه من مخبئه تحت أكوام التبن ، و المخبأ رمز الخوف والهلع، كلها سلوكات عنف تتعب المريض، فتحتد أزمته. ) أحضره وأقحمه (أقحم رمز الإرغام، والعنف )أغلق الباب بإحكام) سلوك إرغام، وسجن بالمفتاح، و المريض المعتوه يخاف أحيانا حتى الهمس فبالأحرى السجن بيد الأب رمز السلطة.
الأب من المفروض يكون وقورا، و لكن (يضرب فخديه) سلوك فضح ضعف شخصيته، وتواريه وراء امرأته المتسلطة، وهده عادة ألتزمتها النساء عند الشدة، قد تخفف بها المرارة و الغصة.
) يندب حظه العاثر( هو مدرك بفكره الواعي، أن ابنه مريض، ليس كفؤا لتحمل أعباء الزواج، ومسؤوليات المشيخة. فهل القارئ يرى المعتوه عمدة، يدبر شؤون الناس العاقلين ؟) أصبحت المشيخة في كف عفريت)ابنه معتوه وهو يتحايل كيف ألا تضيع المشيخة؟ عليها فقط يتحسر، لا على ابنه. فهمه الوحيد أن يظل ينعم بالخيرات، ويورث ابنه هذا المنصب ولعل تشبث الشيخ بالمنصب، ما دعاه لقبول عويشة زوجة لابنه وهي المتمكنة الذكية ابنة الأجير البسيط احد الذين أحد الذين حرمهم لما استولى على أراضي الجموع ) أ تريد أن توقد علينا أعشاش الزنابير(. ) ضاع حق ذوي الحقوق تحت أقدام الحجاج ( بما ظلم الحاج البسطاء ظلم بدوره.
هنا سينشأ تعاطف كبير بين القارئ والمعتوه، الذي اتضح انه مظلوم، مقهور، مغلوب على أمره. 
المعتوه رمز القصة الدال، وبطلها الرئيس، وعنوانها، مريض عقليا وغير فاعل وغير نشيط، و فكره متحجر سلوكاته شاذة غريبة تحت تأثير المرض الدهاني، طالما استغاث وضعه للعلاج، لا مجيب رغم المستوى الاقتصادي المريح، خاصم مجتمعه الإنساني لنفاقه، وضجيجه، و مضايقاته، و قصد عالم الوادي، و سكان الغاب من الحيوانات الضالة، و عانق الأشجار، خاصة الدفلة و كأنها رمز لحياة أسرته الغنية المرة .
) كان ثلجي الإحساس(، الأنثى لم تعد تعني له شيئا،) فوضى الدم و الذبائح لم تحرك فيه شعرة واحدة( فوضعه يعكس ألوان معاناة، و تخل، و تهميش، و إهمال، و تحكم، أقصاه كان تزويجه بعويشة القديرة، الساخطة على الفقر، و الطامعة لتربع عرش الثراء، و أيضا إقحامه من طرف أبيه في مسؤوليات جسيمة، و تسلم المشيخة، أي تدبير شؤون القوم الغارقين بدورهم في الجهل ) من سوء حظه أن دوي الأدمغة المترهلة و النظرة المحدودة يستحسنون مشيخته و هو ابن الحاج (تملقا لابيه. 
كانت حاجته ماسة لمن يلبي طموحاته رغم بساطتها لمن يعامله بالحسنى و يسمع آهاته و أنينه و يجمع كل ما تنتثر من أمانيه في الوادي الذي احتضنه بحنان و امن و رفضته الدار الكبيرة و لم يستره سلهام أبيه و مهابته و نسيته أمه بقفاطينها عوض أن تسند رأسه على ركبتيها و تربيت بيدها عليه مطمئنة كأنه ليس فلذة الكبد و جزءا من لفافة القلب. هو غياب للاحتواء و الاحتضان و الانسجام فالزاد الروحي وحده يسعد القلب و يداوي الجروح !
الأجير بدوي، بسيط، زوج ابنته لابن العمدة، فصارت له حالات نفسية جديدة، ) يحزم تلابيبه ( هو اقتحام لمعركة الذبح، لكنه في الواقع اقتحام لحياة يسر جديدة، طالما تمناها.
) يلوح بعصا بارزة النتوءات ( إحساس جديد بالتحكم، و السيطرة، و الاستمتاع بطاعة الآخر، إنسانا كان أم حيوانا ) تقف الكلاب في صف عسكري مرتب (.
) جرد العجل بلمح البرق ( لا يصدق أن بدأت الخيرات تدق كل الأبواب، و يدخل الدار الكبيرة معززا، و أنه لم يعد من البسطاء، هذا منحه شعورا داخليا مفعما بنشاط زائد، فجر له طاقات غير عادية.
مقابل ذلك لم يجد حرجا أن رمى كرامته الحائط، وصار يتملق للشيخ) يمسح دونيته بتلابيب الحاج ( متناسيا أنه باع فلذة كبده، و تاجر بها.) قلوب تاجرت في الأعراض و المصائر).
دراسة الأسلوب:
حروف الكاتب لا تحاكى، لها رونق، و صدق، و شموخ، تحكي ما تعجز عنه الأفواه، بالتقاطها السرد الجميل من الواقع البسيط، و من أفواه البسطاء المستضعفين، بسلاسة لا متناهية، و هي بساطة من السهل الممتنع، مثقلة بحمولات دلالية، و رسائل لا يخبو وميضها. لها تأثير كبير على القارئ إذ تحاصره، و تمنعه من التشتت، و الذهول فينساب مع الحكي، و يتعاطف مع الشخصيات، و يتأثر لأزماتهم، و يستعجل الوصول، و هو يلهث، و يضيق نفسه من الجري لكثرة التشويق حتى الوصول إلى القفلة العجيبة، المدهشة كانت سريعة هنا قلبت كل موازين الحكي، فجعلت الكاتب مندهشا، لن ينس حلاوة تركيبها، و صياغتها، فلا غرابة فقلم الكاتب الكبير فذ، متمرس، متضلع في أغوار الحرف العربي، و متربع عرش الإبداع القصصي، أما عينه فكانت كاميرا مسجلة لكل العادات، و الأحداث، لا يفوتها تسطير أدق التفاصيل، كخلط الحناء و القرنفل، و حمل الأطفال على الظهور.
و هكذا فإن القارئ على مدى سطور النص، كان مستمتعا بمتعة فنية لا نهاية لها، و مردها حتما للتفنن في تقديم التراكيب، و اختيار الكلمات الدالة، و الإيحاءات المشخصة للمواقف المتباينة، فكل تلك التناقضات كانت أساس المفارقة التي حققت لذة القراءة، و ضمنت التشويق عند القفلة المفاجأة، و التي كانت صرخة مدوية تدعو إلى وجوب ضمان حق العلاج في البادية، وضمان حق كل المستضعفين من البسطاء. 
...................................................
...................................................
صالح هشام/ للدراسات النقدية /القصص القصيرة
*النداهة والمعتوه~~قصة قصيرة
تتسرب روائح الدم الساخن ذلك المساء ، من شقوق وفتحات الباب الخلفي لحظيرة الخراف والعجول ، تدغدغ أنوف الكلاب الضالة ، تفتح شهيتها ، فيسيل لعابها ،و تبدأ لتوها تتوافد عبر المسارب والممرات : نسور جائعة تجذبها رائحة الجيفة ، تحتشد في فوضى الهرير و الأنين المكتوم و النباح المتقطع .
يخرج الأجير وهو في نوبة غضب ، يحزم تلابيبه ويحكم ربطها على ردفيه ، يلوح بعصا طويلة بارزة النتوءات في الهواء متوعدا ، تفر مذعورة ، وتقعى في صف عسكري مرتب غير بعيد عن باب الحظيرة ، لا تتوقف عن الحركة ، وبصبصتها لا تنقطع . يبتلعه باب الحظيرة ، تعود الكلاب من جديد ، تستفز بعضها البعض ، تغوص ثانية في المناوشات ، في فوضى الهرير ومعركة القواطع الدامية !
امر ما عظيم سيحدث هذه الليلة في الدار الكبيرة ، تفوح رائحته من ثنايا شقوق حيطان الحظيرة المتهالكة ، الكلاب تتوقعه كما تتوقع حدوث الزلازل ! لعقات دم لتوه بدأ يتكوم على نفسه في مسرح الجريمة ،قليل من الفتات وبعض العظيمات تشحذ براثن الجوع لتقطع أمعاءها ! إذا لم يكن هذا الأمر كذلك فما الداعي لجز كل هذه الرؤوس !؟
الأجير مفتول العضلات من القفا إلى الساقين ، يجرد العجل الضخم من جلده بلمح البرق كما لو جرد فأرا : جلاد ماهر للخراف والعجول السمينة ،خبرته تفوق المقصلة الكهربائية والمسلخة العصرية .
امرأة ،بهكنة خمسينية ،قوية البنية مكتنزة الردفين تلوح على وجهها علامات جمال باهت قديم : رسوم أطلال نجعة عفت عنها الديار ! تقتلع خطواتها بصعوبة ملحوظة وتجر جسمها : ذهابا وايابا من بيت الحريم إلى الحظيرة :ذبابة خضراء تقتحم أفواه أموات مفتوحة ، تتفقد عملية تقطيع اللحم ،تنهر الأجير الذي يخطيء مقاسات القطع :
- إيش هذا يا عريض القفا ؟! ليس هكذا يقطع اللحم ، اللحمة تأخذ نصيبها من العظم، أ تريد أن ياكل الواحد اللحم والآخر يمتص العظم ؟! أ تريد أن تعفر وجه سيدك الحاج في التراب وتجعله مضغة تلوكها الأفواه ،وتوقض علينا أعشاش الزنابير ؟!
بلورات زجاجية براقة كبيرة تمسح جغرافية جبينها ! بكم قفطانها الخريفي المزركش، الناصع الألوان تمسحها ! هيئتها تشي بمكانتها في الدار الكبيرة ،إنها سيدة الحل والعقد ، إنها أم مولاي السلطان : ذلك الأرعن المعتوه ، يعتبره الحاج نقمة إلهية ،يقبل ظاهر اليد والراحة ويحمد الله حمدا كثيرا مرددا : (يرزق من يشاء ذكورا ويرزق من يشاء إناثا ويجعل من يشاء عقيما ).
الذبائح وفوضى الدم لم تحرك فيه شعرة واحدة ! لم تكن تعني له شيئا ،يتجاهل عقد قرانه بعويشة ، فهو بليد، غليظ الطبع ،كل رباعية القوائم : عجل أو عجلة في عرفه المخبول، يفرق بينهما برفع الذيل.ما دام كذلك لماذا أقحموه في هذا القفص ؟! لماذا يريدون شل حركته ؟! بنت الأجير تعرف جيدا سوق النساء وتحفظ حكمة عبد الرحمان المجدوب عن ظهر قلب :
سوق النساء سوق مطيار ~~~~~~يا الداخل رد بالك ○
يوريوك من الربح قنطار ~~~~~~ويديو لك راس مالك○
خبيرة كذلك بسوق الرجال تقرأ فراساتهم وتحق طباعهم وسلوكهم .
روضها غول المدينة :لبوءة شرسة في عالم الضباع والسباع ، خادمة بيوت قبل ان تتحسس نتؤات صدرها ،وتشم روائح ابطها ، دماغها يزن دماغه عشرات المرات . لم يكن كبير القوم مقتنعا بأهلية هذا المعتوه، على مضض يراهن فيه على استمرارية مشيخة القبيلة في( الدار الكبيرة )، كيف لا وهو الولد البكر الكبير لكبير القوم ؟! وسيرث مقاليد مسؤولية قرية بأكملها عاجلا او آجلا !!
القدور فوهات براكين نشطة تغلي حممها، فوق نار تخبو تحت رحمة كير مثقوب :
روائح الزعفران و التوابل ، واللحم الطازج ، يحملها البخار المتصاعد ، روائح طيبة لا تخرج إلا من (الدار الكبيرة ) تبشر بشبع هؤلاء البسطاء حتى التخمة. اللحم من علامات الترف : ضيف ،خفيف الظل يزور مطابخ بيوتهم في أحسن الأحوال كل أسبوع .ربوا صغارهم على أنه سبب في انتشار القمل ، إنه استلهام من حكاية القط واللحم المعلق : قلة الحيلة و ذات اليد ، والفقر، يعلم القناعة !
المعتوه خارج الدائرة ! بنت الأجير ، تستصغره وما أقسى استصغار المرأة للرجل؟! مكرهة ترضخ لمشيئة أبيها الذي يمسح دونيته بتلابيب كبير القوم ! مصاهرة الكبير ترفعه إلى مراتب أعيان القرية ! عويشة تؤمن بأن المال لا يصنع الرجال ،المال صنيع الرجال . ارتباطها بهذا المعتوه موت بطيء ، عريس مزيف لزفاف مزيف : قلوب تمكن منها الزيف وتاجرت في الأعراض والمصائر . أما المعتوه فلم تكن تعني له شيئا : أنثى كسائر إناث الدنيا ! فخاخه وقطعان القطط تشغله عن التفكير أصلا في الأنثى ، كان اتجاهها ثلجي الإحساس !
وقته يمتصه نصب الفخاخ ، وسعفة النخيل تمحو آثار أقدامه جيئة وذهابا ، آثاره المرسومة تنفر العصافير من تلك الدودة الشحمية الثلجية ، التي يستخرجها من أعماق الأرض بعد جهد جهيد وطول عناء. مخ هذا المعتوه ببيضة حمامة ،جمجمته وعاء ماء ، يعج بالحشرات :عقل جعلة أو حشرة مضيئة .من سوء حظه أن ذوي الأدمغة المترهلة ،والنظرة المحدودة يستحسنون مشيخته~ المستقبلية .وأخذه بزمام أمورهم فهو بكر الحاج كبير القوم .
قبيل الغروب ،قبل أن يحمر اصفرار الشمس وتتورد وجنتاها ، تغص ( الدار الكبيرة) بطيور البطريق في أبهى حللها التقليدية ، تتدحرج من مختلف جهات القرية ! تتبادل قبلات مزيفة خارج القلب ، ممزوجة بضحكات صفراء ، مبطنة بنفاق مفضوح ، تنحني الرؤوس إلى الركب ، لكبير القوم وتبالغ في الانحناء تتملق خيراته ، تتمسك الأنوف بتلابيب الهواء ، تبحت عن ضالتها قرب مذبحة الحضيرة تقتحم القذور التي تفوح منها الروائح الطيبة . تلتصق العيون بالأرض ، تتظاهر بالخجل المفتعل، فهم ليسوا بعيدين عن حريم سيد القوم .
تمة أسراب أخرى من البجع تسيل فوق منحدرات أراضي الجموع ، التي تحضن الدار الكبيرة ، كان الحاج والد الحاج كبير القوم قد ترامى عليها وسيجها بسياج من النار والحديد ، فأصبحت تنتقل من حاج الى حاج ، ضا ع حق ذوي الحقوق تحت أقدام الحجاج جيلا بعدجيل .
تضيع قبلات البجعات في الهواء ، تتجرأ إحداهن على صاحبة الحل والعقد وتسأل بمكر و وقاحة واضحة :
-أين مولاي السلطان ، يا أم مولاي السلطان ؟!
تقرأ أم السلطان فراسة السائلة وتتجاهل سؤالها .
تجيب أخرى والابتسامة الماكرة تمسح جغرافية تجاعيدها ، ترتسم عريضة على وجهها ممزوجة بروائح الثوم والتوابل وبراز طفلها الذي لم يحول بعد :
-السلطان يا غبية منشغل بصيد العصافير ، آثار أقدامه تمحوها سعفة النخيل التي لا تفارق يده ! نهاره كله بين المرجة الزرقاء و مخبئه تحت أكوام التبن .يلج الأسود في عمق الأبيض : يقصد مولاي السلطان مخازن القمح ، صيد الجرذان هناك وفير، قطعان القطط تنتظر ما سيجود به عليها !
تسري ضحكات مكتومة بينهن ،يتخللها سعال مفتعل لإضعاف تأثيرها في نفسية أم السلطان خوفا من ردة فعلها القاسية .
تلذغها عاقلتهن من فخذها بظفر كشولة عقرب هائج وتهمس في أذنها :
-لسانك ! لسانك ! يا بليدة ، ضعيه في الحنك ! احكمي رباطه : قريبات مولاي السلطان يتجسسن عليكن ،اصمتي يا امرأة !
تظاهرن بالفرح : زغرودة قوية تصم الآدان ، تتبعها ركزة لأرداف ثقيلة على القعدة تثير النقع فوق الرؤوس ، خشخشة الحلي والجواهر تعزف أنشودة التباهي ، تتبادل الأرداف الرقص على القعدة . ويشتعل التحدي وإظهار المهارات وإبراز المفاتن . يتحول بيت الحريم في (الدار الكبيرة) إلى فوضى موسيقية مرتبة من حيث الإيقاع ، نشاز من حيث الكلمات . تلوح طلائع موكب العروس تحفها الأهازيج الشعبية المحمومة بين أهل العروس والعريس :
-آ عويشة يا المرضية ~~~~~~~زين الرجال ديتيه انتيا !*
-آ عويشة يا المرضية ~~~~~~~بنت الرجال المحضية !*
محاطة بحاشية متنافرة من صديقات وبنات عمومة وقرينات . حلم هذا اليوم يذغذغ خيال العانسات منهن والمراهقات وحتى المطلقات . طفلات صغيرات جميلات نقيات طاهرات ، ينثرن تحت أقدامها مسحوق الورد والحناء ، الورد يجلب الحظ والحناء تجلب المال والبنات والبنين .
تقتلع العروس نفسها من عقدة مستواها الاجتماعي . تجلس على عرش مملكتها في شموخ وإباء . و يستمر الرقص على القعدة ممزوجا بالثرثرة وصراخ الأطفال في ظهور أمهاتهن غير المباليات .
تدخل أم مولاي السلطان متأففة ، تضع خلطة الحناء و القرنفل على صدغيها ،تتضوع منها رائحة تقليدية طيبة ، تحس بصداع حاد يعتصر رأسها من القفا إلى الناصية ، لم تحتمل رؤية الأجير يقطع رؤوس العجول أمام عينيها . على مضض ترحب ترحيبا باردا بهذا السرب من النساء الثقيلات الظل ،المنافقات ، فور رؤيتها يبدأن في ذكر خصال العريس في سخرية تستنبط من سياق كلامهن ويتملقن أم السلطان .
-آ عويشة آ المرضية ~~~~ سيد الرجال ديته انتيا !
تهمس إحداهن في أذن أم العروس ، تلتمس إشعال فتيل الفتنة :
- ما هذا العريس ؟! إما مخبول ومعتوه أو أنه لا يرضى بابنتكم : حتى في ليلة الدخلة يشغله صيد الجرذان والعصافير ؟! هذا لعب أطفال وليس زواجا !
وحيدة على عرش مملكتها توزع النظرات ومن حين لآاخر القبلات المصطنعة عبر الأثير وقلبها يكاد ينفطر ! به ، بدونه سيان : زنوبيا حكمت تدمر بدون ملك ! وبلقيس حكمت سبأ بدون ملك ! امرأة حكمت مصر!التاريخ حافل بالملكات بدون ملوك! عويشة قمحية السحنة لا تقل أهمية عن سمرة زنوبيا ! أو تقل شبقية عنها ! هي أيضا لن تحتاج إلى هذا السلطان المعتوه ، الذي يحكم مملكة القطط والكلاب الضالة !
اقتفى والده أثره ،أخرجه من مخبئه تحت أكوام التبن ،أحضره إلى بيت العروس ، أقحمه فيه وأغلق الباب بإحكام وهو يضرب فخذيه وينذب حظه العاثر : فالمشيخة~ أصبحت في كف عفريت . ألصق المعتوه عينيه بالأرض وبحذر شديد بدأ يسرق النظر إليها وهي تتلاعب بخصلات شعرها الأشعث في تبرج العروس ، ترتسم على شفتيها ابتسامة لا تخلو من شبقية ، يهدأ روعه شيئا فشيئا ،يقترب منها حتى تعانق أنفاسه أنفاسها ، يركل قلبه في صدره ، ولم يكن ينظر إليها ،عويشة أكثر جرأة منه تعبد أمامه الطريق بحركاتها وتجعل الممر سالكا ، يحس بانتفاخ يجذبه إليها ، يقترب منها ، يدس أنفه في مهوى قرطها ولهاثه يسمع خارج البيت : قبلة سريعة ، يشعر بارتعاش لذيذ : انفجار ساخن ! يعض على شفتيه ! امرأة بصوت رخيم تناديه باسمه عبر فتحة الباب الموصد بإحكام ، تصم أذنيه ، تسري قشعريرة باردة في جسمه ، يحس بالبلل يغمره من رأسه إلى أخمص قدميه ،يقفز مذعورا من النافدة ، يسابق الفراغ ،ويمتصه جنح الليل وهو يصرخ ويصرخ: النداهة ! النداهة ! النداهة !يعانق أشجار الدفلة الكثيفة ،شيء ما هناك :
شبح امرأة ،ربما عروس البحر ، أو عروس النهر ، أو عروس البر : لم يكن يشعربشيء ،كان مسلوب الإرادة: مومياء متخشبة بدون روح ،يغوص ذلك الشيء المتحول في ماء المرجة الزرقاء الضحلة وهو يردد بصوت مسموع ، مفضوح يدغدغ طبلة الأذن :
-" يوما ما ستكون لي وحدي " ! " ستكون لي وحدي "! ستكو ٠٠٠ستكو٠٠٠ويضمحل ذلك الصوت ويتلاشى وتستوي صفحة الماء ، تنعكس عليها هالة القمر !
للتوضيح:~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
*من الأهازيج الشعبية .
○من حكم عبد الرحمان المجدوب من حكماء المغرب .
~المشيخة هي العمودية
+القعدة اداة شعبية للرقص
النداهة جنية في التراث الشعبي تسكن مجاري المياه ،وهي عيشة قنديشة في المغرب
الأستاذ صالح هشام ~١٥٠٩٠٢٠١٥

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق