شهيد النسيان ..
دكان ضيق ، لا يتسع لأكثر من ثلاثة جلوساً على كراسٍ قصيرة الأرجل ، واحد لصاحبه الإسكافي و الآخران للضيوف ، تتوسطهم مائدة صغيرة وضعت عليها أدوات و مستلزمات الحرفة ( مطرقة و كماشة ، و مقص تقليدي كبير و سكين ، و إبرتان واحدة متوسطة الحجم و أخرى كبيرة ، و قنينة كحول وعلبة لصاق ، و مسامير مختلفة الأحجام ، و مثبتات و بكرة خيط سميك ، و صندوق من الكارطون به بقايا من قطع الجلد ...) . على الجدار أحذية و نعال علاها الغبار نسيها أصحابها أو هكذا ! و في أعلى الركن سطل من قصدير لا يراه الزبناء ، خصص للقمامة و قضاء الحاجة عند الاقتضاء ! و على عرض الباب الصغير كنتوار من خشب متآكل ، بعلو نصف متر أو أقل ، تحته طجين و مجمر من حديد ، وإبريق و كأسان ليسا من نفس النوع ، و آلة حلاقة و مرآة بحجم الكف ، و بيدو مملوء بالماء ، و على الطرف الأيمن للمدخل حاوية زيت قصديرية تشرئب منها شتلات الحبق ، و في الركن الأقصى سلم خشبي صغير علق على الجدار بمسمار ، يتدلى من فجوة مربعة الشكل في السقف ، بالكاد يمر عبرها شخص واحد ، إنها مدخل لغرفة صغيرة جدا معروفة باسم " السدة ".
يقع الدكان بحارة " آيت تسليت " الشعبية العريقة بين بائع النعنع و العطار ، و لأنها معبر دؤوب الحركة بين الضفة الشرقية للمدينة و غربها لقبها الأهالي ب : قناة السويس ! هذا المكان دكان وبيت يعيش تحت سقفه " با حمادي " الذي يقول عن نفسه في لحظات الصفاء و الحميمية بأن رأسه رأس الغرائب ! !
تضيق به الدنيا على اتساعها ، و تنتهي السبل إلى حيث لا معالم يسترشد بها لمتابعة المسير ، و يقف بين حيرة التصديق و خبطة الذهن فيما يتحتم القيام به .. لماذا يأوي كل الناس إلى بيوتهم ينعمون بدفء زوجاتهم و مداعبة أطفالهم عدا هو ؟ ! كل مساء يكنس الزقاق من المارة وحتى من القطط الشريدة ، و يوصد دفتي الدكان المترهلتين من الداخل بقفل معطل ، و الغليون لا ينزل عن أصابعه التي خلفت فيها الحرفة أخاديد و انتفاخات بين الزرقة و السواد.. يتكوم على نفسه تحت ضوء خافت مما تبقى من نصف شمعة مركزة إلى قاعدة كأس مقلوب ، و يسترسل في تدخين القنب الهندي و ارتشاف شاي بارد مائل إلى السواد أعده في الصباح . ثم يسند رأسه إلى الجدار الذي علقت عليه صورته المكبرة بالأبيض و الأسود ، و التي يعود التقاطها إلى أيام الشباب و الفتوة و العز ! يهيم بين ملامح أمس و ذكريات فجة هي ما فضل من رصيده ، بل من أجلها يحيى ، و تنفلت من بين شفتيه الزرقاوين مواويل عذبة ل: ليلى مراد و محمد عبد الوهاب ، تتخللها زفرات متقطعة تبعث على الحسرة و الأسى ..و لم لا الندم على خطوات لم تراع فيها عواقب عوادي الزمن ؟ ! ..تحت جنح الظلام و الانهزام يقاوم وحدته و سوء حاله سفرا على أشرعة الذاكرة ، تتراءى له أيام المجد و الهناء ، و انتصاراته على الزمن بكرمه الطائي ، و عشق النساء له لفتوته و جماله و سخائه ، حتى غدا شعاره المقدس وقتها : " اللعنة على رجل طلبت منه امرأة ان يتزوج بها و أعرض ، و طلبت منه امرأة أن يطلقها و امتنع ! ! " . و تستيقظ فيه صورة ذلك اليهودي الثري الذي كان يشتغل عنده في صناعة البلاغي و السروج ، و كيف رفض عرضه عليه بالزواج من ابنته الفاتنة ، و لومه الدائم له على تبذيره المفرط . و ترن في مسامعه عتاباته بلكنة تخلط بين حروف السين و الشين و الزاي و الجيم : إن المال الذي تعبث به الآن بلا حساب ستحترق بناره طال الزمن أم قصر ! متعللا في ذلك بحكمة يهودية قديمة تقول : آه لو اجتمع عقل اليوم و مال الأمس ! ( العقل دي دابا و الفلوس دي بكري ! ). و ها نبوءة اليهودي اليوم تصدق ، و يحترق فعلا بسعير ما بذره ذات يوم بلا روية ولا كياسة ، بعد أن انقرضت صناعة البلاغي و السروج تحت مد الآلات و منتوجات البلاستيك و مضايقة المتطفلين على الحرفة .. ليتحول إلى ترقيع الأحذية النتنة مقابل دريهمات لا تسد الرمق أمام الغلاء الفاحش ، هو الذي عاصر عهود الريال و الفرنك و الصولدي و الرباعية ! ! حينما يلتفت نحو المدينة لا يصدق ما حل بها ، و يسائل نفسه كيف و متى غزا كل هذا الإسمنت الفضاء ، و ابتلع أحياء التابوت القليلة و المتفرقة التي كانت هنا ، و طمس معالم الحقول و البساتين المشهورة بتنوع غلالها من مشمش و إجاص و تفاح و برقوق و توت و زيتون .. تخترقها سواق رقراقة منحدرة من عين أسردون و تمكنونت ، اصطفت علىجنباتها أشجار الصفصاف ذات الظلال الوارفة .. آه ياقلبي كم تغنى " ولد شطو " و " حليمة مشماش " و " بنات بعيكر " بتلك الأيام الزاهية الحالمة تحت قمر ملالي متثائب يطل من خلف تلاع " تصميت "، ليتربع على سماء المدينة يسامر العاشقين الهائمين !!.. و بمرارة الضيم يفكر في سنوات السجن التي قضاها بقرية " تيلوكيت " في أعالي الأطلس ، بعد اعتقاله قرب المسجد فجرا بينما كان يوزع المناشير إبان عهود الحجر الفرنسي على الوطن .. و لا يستسيغ الآن سبب إقصائه من أبسط التفاتة عرفانا له بما كابد و تحمل و هو في هذه الظروف ، في الوقت الذي تسلم فيه بعض أذناب الاستعمار و عملائه " لاكريمات "، عوض تجريدهم مما غنموه مكافأة لهم من المحتل على تعاونهم معه في التنكيل بالوطنيين الأحرار و سرقة خيرات البلاد ، بل و محاكمتهم على جرائمهم النكراء التي لم يسلم منها بيت ينعم بهدوء الليل في أقاصي الدواوير و المداشر .. و إلا هل كان قواد و شيوخ الاستعمار أنبياء في مرحلة السجون و الإعدامات التي نفذها المعمر الغاشم في حق العزل ، لا لشيء إلا لأنهم طالبوا بجلاء الحماية عنهم ؟!
إنه السفر الذي يركب قاطرته كل ليلة حتى يبزغ الفجر ، ولا يعرف غيره في زحمة الأحداث و المارة .. رحل وحيدا كما يرحل السنونو و بين جوانحه شيء من وطن !!
إدريس الهراس / المغرب .
دكان ضيق ، لا يتسع لأكثر من ثلاثة جلوساً على كراسٍ قصيرة الأرجل ، واحد لصاحبه الإسكافي و الآخران للضيوف ، تتوسطهم مائدة صغيرة وضعت عليها أدوات و مستلزمات الحرفة ( مطرقة و كماشة ، و مقص تقليدي كبير و سكين ، و إبرتان واحدة متوسطة الحجم و أخرى كبيرة ، و قنينة كحول وعلبة لصاق ، و مسامير مختلفة الأحجام ، و مثبتات و بكرة خيط سميك ، و صندوق من الكارطون به بقايا من قطع الجلد ...) . على الجدار أحذية و نعال علاها الغبار نسيها أصحابها أو هكذا ! و في أعلى الركن سطل من قصدير لا يراه الزبناء ، خصص للقمامة و قضاء الحاجة عند الاقتضاء ! و على عرض الباب الصغير كنتوار من خشب متآكل ، بعلو نصف متر أو أقل ، تحته طجين و مجمر من حديد ، وإبريق و كأسان ليسا من نفس النوع ، و آلة حلاقة و مرآة بحجم الكف ، و بيدو مملوء بالماء ، و على الطرف الأيمن للمدخل حاوية زيت قصديرية تشرئب منها شتلات الحبق ، و في الركن الأقصى سلم خشبي صغير علق على الجدار بمسمار ، يتدلى من فجوة مربعة الشكل في السقف ، بالكاد يمر عبرها شخص واحد ، إنها مدخل لغرفة صغيرة جدا معروفة باسم " السدة ".
يقع الدكان بحارة " آيت تسليت " الشعبية العريقة بين بائع النعنع و العطار ، و لأنها معبر دؤوب الحركة بين الضفة الشرقية للمدينة و غربها لقبها الأهالي ب : قناة السويس ! هذا المكان دكان وبيت يعيش تحت سقفه " با حمادي " الذي يقول عن نفسه في لحظات الصفاء و الحميمية بأن رأسه رأس الغرائب ! !
تضيق به الدنيا على اتساعها ، و تنتهي السبل إلى حيث لا معالم يسترشد بها لمتابعة المسير ، و يقف بين حيرة التصديق و خبطة الذهن فيما يتحتم القيام به .. لماذا يأوي كل الناس إلى بيوتهم ينعمون بدفء زوجاتهم و مداعبة أطفالهم عدا هو ؟ ! كل مساء يكنس الزقاق من المارة وحتى من القطط الشريدة ، و يوصد دفتي الدكان المترهلتين من الداخل بقفل معطل ، و الغليون لا ينزل عن أصابعه التي خلفت فيها الحرفة أخاديد و انتفاخات بين الزرقة و السواد.. يتكوم على نفسه تحت ضوء خافت مما تبقى من نصف شمعة مركزة إلى قاعدة كأس مقلوب ، و يسترسل في تدخين القنب الهندي و ارتشاف شاي بارد مائل إلى السواد أعده في الصباح . ثم يسند رأسه إلى الجدار الذي علقت عليه صورته المكبرة بالأبيض و الأسود ، و التي يعود التقاطها إلى أيام الشباب و الفتوة و العز ! يهيم بين ملامح أمس و ذكريات فجة هي ما فضل من رصيده ، بل من أجلها يحيى ، و تنفلت من بين شفتيه الزرقاوين مواويل عذبة ل: ليلى مراد و محمد عبد الوهاب ، تتخللها زفرات متقطعة تبعث على الحسرة و الأسى ..و لم لا الندم على خطوات لم تراع فيها عواقب عوادي الزمن ؟ ! ..تحت جنح الظلام و الانهزام يقاوم وحدته و سوء حاله سفرا على أشرعة الذاكرة ، تتراءى له أيام المجد و الهناء ، و انتصاراته على الزمن بكرمه الطائي ، و عشق النساء له لفتوته و جماله و سخائه ، حتى غدا شعاره المقدس وقتها : " اللعنة على رجل طلبت منه امرأة ان يتزوج بها و أعرض ، و طلبت منه امرأة أن يطلقها و امتنع ! ! " . و تستيقظ فيه صورة ذلك اليهودي الثري الذي كان يشتغل عنده في صناعة البلاغي و السروج ، و كيف رفض عرضه عليه بالزواج من ابنته الفاتنة ، و لومه الدائم له على تبذيره المفرط . و ترن في مسامعه عتاباته بلكنة تخلط بين حروف السين و الشين و الزاي و الجيم : إن المال الذي تعبث به الآن بلا حساب ستحترق بناره طال الزمن أم قصر ! متعللا في ذلك بحكمة يهودية قديمة تقول : آه لو اجتمع عقل اليوم و مال الأمس ! ( العقل دي دابا و الفلوس دي بكري ! ). و ها نبوءة اليهودي اليوم تصدق ، و يحترق فعلا بسعير ما بذره ذات يوم بلا روية ولا كياسة ، بعد أن انقرضت صناعة البلاغي و السروج تحت مد الآلات و منتوجات البلاستيك و مضايقة المتطفلين على الحرفة .. ليتحول إلى ترقيع الأحذية النتنة مقابل دريهمات لا تسد الرمق أمام الغلاء الفاحش ، هو الذي عاصر عهود الريال و الفرنك و الصولدي و الرباعية ! ! حينما يلتفت نحو المدينة لا يصدق ما حل بها ، و يسائل نفسه كيف و متى غزا كل هذا الإسمنت الفضاء ، و ابتلع أحياء التابوت القليلة و المتفرقة التي كانت هنا ، و طمس معالم الحقول و البساتين المشهورة بتنوع غلالها من مشمش و إجاص و تفاح و برقوق و توت و زيتون .. تخترقها سواق رقراقة منحدرة من عين أسردون و تمكنونت ، اصطفت علىجنباتها أشجار الصفصاف ذات الظلال الوارفة .. آه ياقلبي كم تغنى " ولد شطو " و " حليمة مشماش " و " بنات بعيكر " بتلك الأيام الزاهية الحالمة تحت قمر ملالي متثائب يطل من خلف تلاع " تصميت "، ليتربع على سماء المدينة يسامر العاشقين الهائمين !!.. و بمرارة الضيم يفكر في سنوات السجن التي قضاها بقرية " تيلوكيت " في أعالي الأطلس ، بعد اعتقاله قرب المسجد فجرا بينما كان يوزع المناشير إبان عهود الحجر الفرنسي على الوطن .. و لا يستسيغ الآن سبب إقصائه من أبسط التفاتة عرفانا له بما كابد و تحمل و هو في هذه الظروف ، في الوقت الذي تسلم فيه بعض أذناب الاستعمار و عملائه " لاكريمات "، عوض تجريدهم مما غنموه مكافأة لهم من المحتل على تعاونهم معه في التنكيل بالوطنيين الأحرار و سرقة خيرات البلاد ، بل و محاكمتهم على جرائمهم النكراء التي لم يسلم منها بيت ينعم بهدوء الليل في أقاصي الدواوير و المداشر .. و إلا هل كان قواد و شيوخ الاستعمار أنبياء في مرحلة السجون و الإعدامات التي نفذها المعمر الغاشم في حق العزل ، لا لشيء إلا لأنهم طالبوا بجلاء الحماية عنهم ؟!
إنه السفر الذي يركب قاطرته كل ليلة حتى يبزغ الفجر ، ولا يعرف غيره في زحمة الأحداث و المارة .. رحل وحيدا كما يرحل السنونو و بين جوانحه شيء من وطن !!
إدريس الهراس / المغرب .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق