الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

فتاة الاسكندرية // قصة قصيرة // للاستاذ القاص // عبد الكريم الساعدي // العراق

فتاة الإسكندرية
الفتاة التي كانت تستنشق عبير الكتب وتغازل عتبة مكتبة الإسكندرية، تنهل من معلمها الأول، من أبيها ثيون الإسكندري علم الرياضيات؛ فتاة فاتنة، ناضجة الحكمة، تجمع بين الرقة والجمال، يحفّها البهاء، حجابها العلم، لا تؤمن إلا بالشك في ظلّ أنفاس تأبى لها أن تكون. تعدّ الأضاحي والقرابين، رجالاً ونساء عذارى، حيوانات، كفار، علماء...، تغص بشهقة وجع،
" ياااااه، لكم تلوّثت أيادي الآلهة بالدماء ".
تصول بيد جذاء، تدافع عن حبّها للحكمة والتفكير الحر، تعارض الإيمان المجرد.
- احذري دقات النواقيس، ربما ستصطفيك خفافيش العتمة لذراع النار. قال ثيون قبل رحيله الأبدي.
- أبتي، لا تخشَ عليّ، ففي متحف المدينة ومكتبتها متّسع للحلم. 
يبتسم لها الطريق، تعبر الضفة الأخرى، ترتقي سلالم روما وأثينا، تستحمّ بأضوائهما، تنهل من بحر أرسطو وأفلاطون، تبتلّ بالشوق لعناق أمنيات مكبّلة بقيدٍ ذكوري، تطوي حقائب سفرها، ترتقي سماء المجد بعلمها ورؤيتها للكون الشاسع. تجذب مستمعيها بقوة منطقها وبراعتها في الخطابة. كانت عيناها قِبلة للعاشقين، ولأجناس من الدارسين، مسيحيين، يهود، وثنيين، ينهلون من عينيها المشعّتين عذب الفكرة ونبض الوجود: 
- جئت لألقي لكم ورود المحبة وعطر السلام، وأفتح نوافذكم المغلقة. 
ترتّب أيامها، تحنو على عبدها، تسرج خيول العطاء: 
- ديفوس. 
- نعم، سيدتي. 
- اذهب، فأنت حر. 
تبتسم أساريره، تزدهر أحلامه: 
- سأكون تلميذاً عندك. 
- ديفوس، بِمَ تفكر الآن؟ 
- أن ألزم ظلّك ما حييت. 
كانت تدرك عشق الآخرين لها، ودّهم، الفوز بها كزوجة؛ ذات يوم يدركها صوت خاطب: 
- قلبي ملهوف للقرب، لم أحتمل شوقي إليكِ. 
تغلق أفق الحكاية دون أن تمسّ بهجته، تعطيه خرقة بها بقع من دمها، يشهق بالاستغراب: 
- ما هذا؟ 
- أترى؟ لا يوجد شيء جميل في الرغبات الجسدية. 
في الآحاد وعلى المسرح الكبير بالإسكندرية تقف متأنّقة بالوقار، تلقي دروسها في الرياضيات والفلك والفلسفة، بينما الآخرون يذهبون إلى كنيستهم ليؤدّوا طقوسهم الدينية، يستمعون بشغف لأسقفهم كيرلس الأول.
القلوب إليها تسعى، تزداد، تلتفّ حولها، تكتظّ القاعة بأكابر المدينة وأثرياؤها، حتى حاكم المدينة أورستوس يأتي في مقدمة هؤلاء بموكبه وحاشيته، كان مقرباً منها، يكنّ لها عظيم الودّ والاحترام؛ ممّا سبب حرجاً كبيراّ للكنيسة وراعيها. لعينيها زرقة، تجذب الآخرين، ولهمس شفتيها فتنة، تنضح بأسرار أسئلة معقّدة، تثيرها في وجوه الحاضرين، همس يبدع عاصفة من ذهول:
- من أنا؟ 
- يصدح صوت من آخر القاعة:
- أنت هيباتيا. 
- أرأيتم، أنكم تنظرون إلى الصورة، وتركتم الجوهر. ولو قلت لكم " من نكون؟ وما الخير؟ و....... " فبماذا تجيبون؟
يتعرى الحضور شوقاً للجواب، تستلّ من بتلات أزهار الحرف حجة وبراهين، ترتّل في الفضاء سحراً لا يقاوم، تدسّ عطرها في ثنايا روضهم، تخزهم بنظرة بهية، تفكّ أزرار الدهشة: 
- لم يكن الأمر صعباً، إذا أردتم أن تحلّ روحي فيكم، ويسكن عقلي في مسالك رؤوسكم، فما عليكم إلا أن تتسلّقوا صخوري.
ينبري ذات الصوت، يرمي بسهام الشك:
- بأيّ إلهٍ تؤمنين؟ أنا لم أفقه ما تقولين؟ 
- أراك حاذقاً، متجمّلاً بوجه آخر، أسألت نفسك لماذا نحن بائسون؟ و لمن؟ ولماذا تجري دماء القرابين؟ هل فكّرت يوماً بعقلك أم استعرت قول الآخرين؟
يتقدم نحو منصة الدرس عابساً، تطلب منه أن يقف مكانه، يتذمّر، يتساءل:
- لماذا؟
- حتى أراك. 
ينتفض محتجّاً بعدم الرؤية: 
- إذاً أنت لم تؤمني بأيّ إله.
يلملم أطراف ثوبه، يتأبط كتبه، يخرج مهتاجاً كثورٍ صفع عينيه احمرار. يسود القاعة لغط، تتعالى الأصوات، يكتنف الفضاء بفحيح الاستغراب والغضب؛ تلتحف رموش الصبر، تتوسّد مآقي الكبرياء، ترسل نظراتها إلى عيون الآخرين، تمسك بزمام الأمر: 
- ثمة خطأ في التفكير، لماذا نستمع –دائماً- للصوت الواحد، ذات الصوت؟ ألا ترون أنّه اضطهاد للعقل؟ ما كان عليهم أن يصادروا عقولنا.
- لأنّنا نستمع لذات الحكاية، فبعضنا يجهل ما تقولين، التمسي لهم عذراً.
- أنا مثلكم حرة، أبحث عن الحقيقة، أنا كزهرة عباد الشمس تدور حيث الشمس دارت، " ليس من الضروري أن يكون كلامي مقبولاً، من الضروري أن يكون صادقاً ".* 
المدينة تختنق بالفتنة، الألسن تلوك بعضها، العيون تهمز ملامح المسرح الكبير، تُمنّي حرائق الكتب، الساعات تلعق عقاربها، ترتبك الشفاه في حضرة الأب، تلهج بالسر: 
- يا أبانا، لقد أحدثت هذه الوثنية الساحرة جلبة في المدينة، اليهود والوثنيون التفّوا حولها، أبناؤنا فُتنوا بها، الحاكم أغوته بمكائدها الشيطانية، أراها تثير غبار الفتنة بهرطقتها.
- ستتلاشى. قال الأسقف. 
الحاكم أورستوس يحثّ الخطى إليها قلقاً، يخشع لجلالها، يسجد في محراب الوفاء، يتوسّلها أن تدرك خلاصها، يرقّ لصمتها: 
- لقد نهشتكِ مخالب الحقد، وأُوشك أن يوقع بك، اتّخذي سيماءهم، وارتدي صوت المدينة تنكراً.
يتبادلان النظرات، تتقاطع الرؤى، تتهجّى مخاوفه:
- لست معنية بطقوسهم، فأنا لست بكاهنة. 
- اركعي أمام الكتاب المقدّس؛ لتنفذي بجلدك. 
- أيقايضون رأسي بالصمت؟! مثلي لا يتبع خطاهم، ولا يستظلّ بصرح رماد أورادهم. 
- يعزّ عليَّ أن أقول لك، لم يكن أمامك طريق إلّا الهرب. 
في أول أيام الصوم الكبير تقف أمام الحضور وجلة على غير عادتها، الدرس يتلوّن بالاصفرار، الوجوم يخيم على الوجوه، يسألها أحدهم: 
- ما الأمر؟ 
- كلّ ما أعرفه أنّني حلم عابر، أمّا أنتم فكونوا كما تريدون. 
تركب عربتها دون حراس، محاطة بالغربة، يرتفع سوط الحوذي في الهواء، الحصانان اللذان يجران العربة ينهبان الطريق نهباً، تغيب في عالم خفي، تحلّق في الفراغ، تتبع أمنية، تشمّ رائحة الوجود، يقصفها الحنين لأيام خلت، تطوف حول أطلال المكتبة المحروقة، تفزّ مرعوبة على هتاف ينذر بالشؤم، 
" بعون السماء سوف نطهّر أرض الرب ". 
الأصوات تلاحقها، " أدركوا تلك الكافرة، الفاجرة "، تُغلَق أبواب الأمل، تعوم في موج الخوف، يعترض عربتها جمع من الرهبان، تمتدّ إليها الأيادي، تهتك سترها، تجذبها إلى الأرض، يتطاير شعرها في فضاء العبث، تُجَر من شعرها حتى وصلوا إلى الكنيسة العظمى، تفتح عينها، تحدّق في الحضور مرعوبة، عيون حمر تتطاير شرراً، تصطدم بوجه الراهب، عبدها ديفوس، ترتعش دهشة: 
- أشدّ ما يؤلمني أن أراك بينهم! 
يشيح بوجهه، يذرف بقايا دموع؛ يحتفي الحضور بها وسط طقس وحشي، تُمزّق ثيابها، يلتذّون بنهش القطع الداخلية، يعرّونها، تحتجبُ باليدين، تلملم بعضها، تتكور، تغمض عينيها؛ المدى يختنق بصراخها، يُربط معصمها بحبال الغضب، تسحل عارية في شوارع المدينة، يتمزّق جسدها، وبجانب الميناء الشرقي يسلخون ما تبقّى من جلدها بأصداف البحر الحادة الأطراف، تعانق متاهات العالم السفلي؛ تُحرق جثتها عند بوابة معبد مهجور؛ الرهبان يطوفون حول رماد الجسد مرحى، منتشين بنصرهم؛ فيما يغيب آخر شعاع علم بزغ من الإسكندرية إلى الأبد. 
----------------------------------------------------------------------------- *سقراط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق