FATMA Mahmoud
23 juillet 2016 ·
القصة :
قصة مختلفة ..تتكون من ثلاثة أجزاء
1 الفصل الأول
التقيا ذات صدفة ..وعند منعرج المصير توقفا ينظر كل منهما إلى الآخر ..في أول مصافحة لهما أطلّ من نافذة الحروف وقال لها : "قرأتك بهدوء..رفّ جناحها ..اطمأنّتْ .
هي تعرف أن القراءات كثيرة وتدرك جيّدا أن أفضلها قراءة العقل للوجدان ..عناق الفكر للشعور ..ابتسمت ..تمتمتْ شفتاها ..ربما ..
نسجت اللقاءات بينهما بساطا سحريا فيه من الخيال سَدًى ومن الواقع لُحْمةً ..طرّزت الكلمات كل المسافات بتفاصيل الحلم العطر ..قال لها ذات بوْحٍ : "أحبك ..أفرح لوجودك وبوجودك ..ودون تردد قالت : لماذا أنا؟؟ قال : لأنك مخلوط من روح أعرفها وملامح سكنتني قبل اللقاء بك ..أنتِ حرف أعرف منبعه وأعرف كل ملامح أنوثتك ومشاعرك ومكامن أسرارك/ أنثى ..ثقي عرفتك روحا وحرفا قبل كل شيء آخر ..أنتِ تهمينني أكثر من أي شيء وتأكدي أريد ـ فعلا ـ أن أعيش معك حالة حب صادقة ونقية وكفى " ...توارت خلف أسوار الصمت ..لم تفرح ..لم تحزن ..ظلت تتلمّس نبضاته في شرايين الانتظار ..تخشى إيقاع العذاب عندما يتفجّر مع كل نبضة ..دارت في فلك فراغها وغاصت في عمق عمقها ..همست : "لكنك جئت في الزمن الغلط " أمسك أطراف راحتها وغرّد : قد تتسرّب نضارتك رملا بين أناملك ..قد تنطفئ شعلة التوهج في مقلتيْك ..قد ..وقد ..ولكنني أهواك يقوّة ..ضمة واحدة منك تكفيني ..لا تتردّدي ..حسّسيني بدفء مشاعرك ..لا تخافي المرآة غاليتي ..أسندي مشاعرك على صدْقي ..لا تتحسّري على ما مضى ..كل ثانية لنا معًا ستكون صبًا ونبضا وبريقا ..ثقي سأظل أحبك ..لا غاية من وجودي إلا أنتِ ..أشرقي بين أضلعي قصيدة عشقٍ ..توهّجي شمسًا في مداري ..كوني أنا ..
ضفرت جدائل الضياء بين سمائهما والأرض ..هطلت الحروف زخّات تمطر سنوات الجدب ..أزهرت حقول الوعود..تحدّت السنابل عقم الوجع ..بدأت مواسم الضباب تلملم عباءة الغسق ..
ركض نبض الحياة بين الصخور دون تعثّر ..مدّت راحتيْها تلتقط حبات القطر رذاذ حب ستخضر له أعواد الكبريت الساكنة في موقد الانتظار ..موسم الحصاد هلت بشائره ...
أحرق اخضرار الحلم وأسدل الستار ورحل ....{ يتبع }
2 ..قصة مختلفة ـــ الفصل الثاني ـــ
غاب ..كانت بعده تعدّ الأيام ..انتظرت ..ثم أصبحت تنضّد حِزَم السنين بعضها فوق بعض ..توقفت عن الانتظار وتحولت إلى رصد قطيع الشيب الذي هاجمها مدججا بالبياض والفتور ..استكانت وانتظمت في سلك العنوسة ..
عصفت به رياح الحنين ..هزّ الشوق حروفه فاشتعلت من جديد ..ترسّم المسار ..ومن رماد السديم انبثق عصفور الودّ ورديّ الأنغام ..
وذات ميلاد ..عاد ..
استقبلته خزانة فساتينها ..تعطرت مسام الانتظار ..توالد النرجس والياسمين بين خصلات الشِّعْر واللقاء ..راحت تلتقية مراهقةً في أول موعد ..
كان ذلك ذات مساء ..جلسا في الصفّ الأول بمسرح المدينة ..كان المسرح دائريّ الشكل
رومانيّ الهندسة ..طوابقه تعجّ بالمتفرّجين والستارة الحمراء منسدلة بكل وقار ..في انتظار الضربات الثلاث موسيقى حالمة كانت تدفىء المكان والأضواء خافتة ..
كان يتسليان بحبات الحلم والعتاب قبل العرض ..قالت سامحتك ..يكفيني من الكون وجودك معي ..أنتَ هنا ..
انطلق العرض وهما يسبحان في دفء راحتيْهما تهدهدهما رقصات الأضواء الخافتة ورعشة الستارة بين فصل ومشهد ..
أفلت الزمن أثناء تلك الجلسة فلم يحصيا له الدقائق ولا الساعات ..
خرجا بعد ذلك إلى شارع كبير كان يستحم بأمطار قويّة ..رقص قلبها طربا ..إنها تعشق المطر ..لم تحتمِ بمطريتها ..بل ركضت كالطفلة تدفعها سعادة غامرة ..دارت حول نفسها مرات ومرات ..فراشة حول شمعة مضاءة ..لحقها ..أمسكها ..أخمد جنونها بضمة انتظرتها طويلا ..استكانت ..ظلت ترتجف ..عصفورة مبلّلة في ليلة شتائيّة ..
قال ــ كأنما ليوقظها من غفوتها ــ والآن؟
قالت: أنا جائعة ..أحس أن لديّ القابلية لأكل خروف محشوّ بأكمله ..وضحكت بكل الفرح وكل النقاء ..
الشارع طويل ومضاء ..تتوسطه الأشجار الصامتة ..جوقة العصافير ساكنة في هدْأة المساء
تلك الأشجار تنبعث منها موسيقى الحناجر المزقزقة والمناقير التي تلتقط حبات الحياة طيلة النهار ..سيمفونية العصافير تتوقف بعد يوم من الكدّ ..
المطاعم الفاخرة والفنادق في انتظار الزبائن ..إنها ليلة الأحد ..ليلة عطلة والناس في هذا البلد لا يبخلون على أنفسهم ببعض الرفاهة يوما في الأسبوع يتحررون أثناءه من ثقل أسبوع بأكمله ..إنها ليلة من ألف ليلة وليلة ..
أخبرها باسم الفندق الذي نزل به حال وصوله هذا الصباح ..قادتهما الخطوات اليه ..توجّها مباشرة إلى المطعم ..كان شعرها مبللا ..تخففت من المعطف ..اتخذت مجلسها قبالته ..كانت تودّ أن تطبع صورته بين جوانحها ..أخذت قائمة الأطعمة وبدأت تصعّد بصرها وتصوّبه بحثا عما يحرك شهيتها رغم الجوع الذي كان يعتصر أمعاءها ..هي صعبة الرضا على المائدة ..غاب قليلا ثم عاد ..غيّر ملابسه ثم جلس ..كان يبادلها نظرات تحترق شوقا ..غيّر مجلسه ..خاصرها بذراعه الوارفة ثم وشوش في أذنها : أحبك ..أشتاق إليك بقوّة ..كانت نبرته الخافتة مغرية حدّ الذوبان ..واصل الهمس..ماذا لو أكملنا سهرتنا في الغرفة
فنرتاح أكثر ..بكلّ وضوح كانت الدعوة ..بكل توهّج كان النداء ..
انتفضت العصفورة المبللة مصعوقة بالوجه الآخر الذي سقط عنه القناع .
انتصبت نخلة سامقة ..وبكل شموخ وضعت ورقات نقدية حذو قائمة الأطعمة وانطلقت ..دون التفات ..ظل في مقعده واجما ..وقد أحرق اليابس بعد الأخضر ..
أغرق ما جف من دمع ..حزم حقائبه ورحل ..{ يتبع }
3 قصة مختلفة ...الفصل الثالث
ـــــ قصة مختلفة ـــــــ
الفصل الثالث
رممت ما تشظى في حديقتها من شجر وظلال وزهر ..جعلت حولها أقواسا ودوائر ..
شموسا وأقمارا .. أغمارا من الدفء والضياء ..
لملمت ما تفلّت في فضاء السنين من فراشات الحلم ..لوّنتها بكل الألوان ..ما عدا الأسود ..لقد اقتلعته من الجذور ..
بات فضاؤها بلا كدمات ..بلا عثرات ...بلا حسرة ..لا شيء غير النجوم ترصعه ..في انتظار انبلاج الفجر
كانت تستيقظ صباحا على شذا تلك الليمونة المغروسة عند نافذتها ..تسارع اليها ..تسقيها ..
تنقي ماسقط عند قدميها من أوراق جافة ..تنتظر نضوج حباتها على موقد الشوق واللهفة ..
تذكرها تلك الحبات الذهبية بأكواب العصير المثلجة التي كانا يتناولانها معا في الأماسي الصيفيّة ..
تنتفض كلما خطر ببالها ..تركض الى غرفتها تسدل الستائر خشية أن تتسلّل ملامحه اليها ليلا وتسلمها الى الأرق ...عندما يثقلها غيابه بالحضور يختنق النبض في أوردتها وتضيق فسحة الانتظار ..
تركض نحو حديقة الحيوانات القريبة من مقر اقامتها ...ورغم إحساسها بالوحدة يكتظ فراغها بمشاهد متنوعة ..الفيلة تتحاور بصمت ...الطيور السجينة ترفّ كي لاتنسى أجنحتها الطيران ..تتحسّس حقيبة يدها ..تخرج ما جلبته من طعام تزق به بجعات ما تتوقف عن عزف سمفونيتها في البحيرة التي تتوسط الحديقة ..تبتسم شفتاها ..تتلاحق خفقات فؤادها لمشهد مراهقيْن في حالة دوار عشقي ..تتلمّس ملامح وجهها المنعكسة على صفحة الماء ولا تجرؤ على التساؤل ..تمرر أناملها على خصلة ثائرة خشية أن تفضحها شعيْرات بيضاء أطلت بخفر ..هذه اللوحة المتناسقة :الخضرة ..الايقلعات المتناغمة والحيوانات الجميلة تجعلها تحس أنها نشاز فتعود أدراجها الى البيت مشيا ...وما صفع خطواتها لوجه الأرض الا نوع من الجلد لتفكيرها الذي لا يتوقف عن التساؤلات ..
لماذا تسكنها ذكراه ؟ لماذا يثقل الصمت وتتسع براحات الهجر ويجف حلق الاصطبار ؟لماذا لاتحدث تغييرات جذرية في بيتها تمحو معالم الماضي وترسم لوحة آتٍٍ مونق ..؟ لماذا؟ولماذا لا تسكت هذه الآلة
عن الجرش والدوران ؟
وذات إشراقة ..كانت تجلس في حديقة بيتها ..شاقها الحنين إلى الفرشاة والألوان ..بادرت بإحضار عدّة
الرسم ..انهمكت تنتقي الألوان وبدأت بالأبيض ..داعبتها ابتسامة خفيفة ..الأبيض فأل خير ورمز للنقاء وهذا
الأخضر العشبي المنعش سيملأ فضاء اللوحة خصوبة سندسية وحياة دافئة ..أما أنتَ أيها الأزرق ..أيها الأمل الدائم الرفيفِ بين جوانحي ..كم تذكرني ببدلة العمال الكادحين !
ترى أي لوحة ستلملم هذه الشظايا؟
كم ستكون جميلة لو أثّثتها بركض الأطفال خلف فراشات ذهبيّة..!كم ستكون متوهّجة لو توسّطتها شمس تموز!..كم ستكون نضرة مورقة لو امتلأت زواياها مطامير قمح وخير !
كانت فرشاتها تأبى أن ترسم إلا الحضورمتشحا بمئزر اللقاء المخملي ..خامرتها خفقة خاطفة ..ماذا لو مر الآن من هنا؟ هل سيستمرىء هذا الجمال؟
طردت هذه الهواجس وجمعت ألوانها ورموزها وفرّت من ذاتها الى ذاتها ..
خبّأت وجهها عن المرآة المنتصبة في البهو كالقناص تترصد كل حركة وكل لمحة والتماعة تصدر عنها ..
تتجسس عليها حتى من وراء قضبان أضلاعها ..تحاصر كل نبضة قد تنبت في وجدانها المتيبّبس عطشا الى إيقاف الزمن ..فيتحرر الحاضر من الماضي وتمتدّ جسور الوصل نحو نهر العودة واللقاء ..
تمتمتْ كم أحببته !
ليتني أغرقته في بركة النسيان الآسنة ..
عادت من العمل مرهقة ذات مساء ..استلقت على فراشها تستدعي النوم وتتوسل اليه بالإسراع ..وبين غفوة واستفاقة سمعت خطاه تطرق دهاليز وجدانها بإلحاح ..فاجأها صوته يخترق براحات الفكر ويطوي منعرجات الزمن ..انتفضت ...بسملت ..حوقلت ..لكنه هنا ..ككل مرة يفاجئها بإطلالته ثم يباغتها بالغياب والصمت ..قال : اشتقت ..أحتاجك ..أدمنتك ولا أريد منك برْءا ..تجمدت ..احمرّت وجنتاها ..ارتفعت حرارتها ..ثم غسلها العرق ..ودّت لو يهز الكون اعطافه احتفاء بهذه اللحظة ..أرادت أن تركض نحوه
وتحضن هامته المنتصبة امامها ..قدماها متسمرتان ..تغوصان وتغوصان ..هدّتها محاولة اقتلاعهما فتهالكت على رمل بارد كالصقيع ..وقبل أن تفترّ شفتاها ..رأت هامته تتلاشى
غبارا شفيفا ..يغطي فضاء الغرفة ..لم تصدق ما سمعت و رأت ..لماذا جاء؟ وكيف تلاشى ؟
أغمضت عينيْها ودست وجهها في وسادة أحلامها تبحث عن ذاك النجم ..البعيد ...../ انتهت
23 juillet 2016 ·
القصة :
قصة مختلفة ..تتكون من ثلاثة أجزاء
1 الفصل الأول
التقيا ذات صدفة ..وعند منعرج المصير توقفا ينظر كل منهما إلى الآخر ..في أول مصافحة لهما أطلّ من نافذة الحروف وقال لها : "قرأتك بهدوء..رفّ جناحها ..اطمأنّتْ .
هي تعرف أن القراءات كثيرة وتدرك جيّدا أن أفضلها قراءة العقل للوجدان ..عناق الفكر للشعور ..ابتسمت ..تمتمتْ شفتاها ..ربما ..
نسجت اللقاءات بينهما بساطا سحريا فيه من الخيال سَدًى ومن الواقع لُحْمةً ..طرّزت الكلمات كل المسافات بتفاصيل الحلم العطر ..قال لها ذات بوْحٍ : "أحبك ..أفرح لوجودك وبوجودك ..ودون تردد قالت : لماذا أنا؟؟ قال : لأنك مخلوط من روح أعرفها وملامح سكنتني قبل اللقاء بك ..أنتِ حرف أعرف منبعه وأعرف كل ملامح أنوثتك ومشاعرك ومكامن أسرارك/ أنثى ..ثقي عرفتك روحا وحرفا قبل كل شيء آخر ..أنتِ تهمينني أكثر من أي شيء وتأكدي أريد ـ فعلا ـ أن أعيش معك حالة حب صادقة ونقية وكفى " ...توارت خلف أسوار الصمت ..لم تفرح ..لم تحزن ..ظلت تتلمّس نبضاته في شرايين الانتظار ..تخشى إيقاع العذاب عندما يتفجّر مع كل نبضة ..دارت في فلك فراغها وغاصت في عمق عمقها ..همست : "لكنك جئت في الزمن الغلط " أمسك أطراف راحتها وغرّد : قد تتسرّب نضارتك رملا بين أناملك ..قد تنطفئ شعلة التوهج في مقلتيْك ..قد ..وقد ..ولكنني أهواك يقوّة ..ضمة واحدة منك تكفيني ..لا تتردّدي ..حسّسيني بدفء مشاعرك ..لا تخافي المرآة غاليتي ..أسندي مشاعرك على صدْقي ..لا تتحسّري على ما مضى ..كل ثانية لنا معًا ستكون صبًا ونبضا وبريقا ..ثقي سأظل أحبك ..لا غاية من وجودي إلا أنتِ ..أشرقي بين أضلعي قصيدة عشقٍ ..توهّجي شمسًا في مداري ..كوني أنا ..
ضفرت جدائل الضياء بين سمائهما والأرض ..هطلت الحروف زخّات تمطر سنوات الجدب ..أزهرت حقول الوعود..تحدّت السنابل عقم الوجع ..بدأت مواسم الضباب تلملم عباءة الغسق ..
ركض نبض الحياة بين الصخور دون تعثّر ..مدّت راحتيْها تلتقط حبات القطر رذاذ حب ستخضر له أعواد الكبريت الساكنة في موقد الانتظار ..موسم الحصاد هلت بشائره ...
أحرق اخضرار الحلم وأسدل الستار ورحل ....{ يتبع }
2 ..قصة مختلفة ـــ الفصل الثاني ـــ
غاب ..كانت بعده تعدّ الأيام ..انتظرت ..ثم أصبحت تنضّد حِزَم السنين بعضها فوق بعض ..توقفت عن الانتظار وتحولت إلى رصد قطيع الشيب الذي هاجمها مدججا بالبياض والفتور ..استكانت وانتظمت في سلك العنوسة ..
عصفت به رياح الحنين ..هزّ الشوق حروفه فاشتعلت من جديد ..ترسّم المسار ..ومن رماد السديم انبثق عصفور الودّ ورديّ الأنغام ..
وذات ميلاد ..عاد ..
استقبلته خزانة فساتينها ..تعطرت مسام الانتظار ..توالد النرجس والياسمين بين خصلات الشِّعْر واللقاء ..راحت تلتقية مراهقةً في أول موعد ..
كان ذلك ذات مساء ..جلسا في الصفّ الأول بمسرح المدينة ..كان المسرح دائريّ الشكل
رومانيّ الهندسة ..طوابقه تعجّ بالمتفرّجين والستارة الحمراء منسدلة بكل وقار ..في انتظار الضربات الثلاث موسيقى حالمة كانت تدفىء المكان والأضواء خافتة ..
كان يتسليان بحبات الحلم والعتاب قبل العرض ..قالت سامحتك ..يكفيني من الكون وجودك معي ..أنتَ هنا ..
انطلق العرض وهما يسبحان في دفء راحتيْهما تهدهدهما رقصات الأضواء الخافتة ورعشة الستارة بين فصل ومشهد ..
أفلت الزمن أثناء تلك الجلسة فلم يحصيا له الدقائق ولا الساعات ..
خرجا بعد ذلك إلى شارع كبير كان يستحم بأمطار قويّة ..رقص قلبها طربا ..إنها تعشق المطر ..لم تحتمِ بمطريتها ..بل ركضت كالطفلة تدفعها سعادة غامرة ..دارت حول نفسها مرات ومرات ..فراشة حول شمعة مضاءة ..لحقها ..أمسكها ..أخمد جنونها بضمة انتظرتها طويلا ..استكانت ..ظلت ترتجف ..عصفورة مبلّلة في ليلة شتائيّة ..
قال ــ كأنما ليوقظها من غفوتها ــ والآن؟
قالت: أنا جائعة ..أحس أن لديّ القابلية لأكل خروف محشوّ بأكمله ..وضحكت بكل الفرح وكل النقاء ..
الشارع طويل ومضاء ..تتوسطه الأشجار الصامتة ..جوقة العصافير ساكنة في هدْأة المساء
تلك الأشجار تنبعث منها موسيقى الحناجر المزقزقة والمناقير التي تلتقط حبات الحياة طيلة النهار ..سيمفونية العصافير تتوقف بعد يوم من الكدّ ..
المطاعم الفاخرة والفنادق في انتظار الزبائن ..إنها ليلة الأحد ..ليلة عطلة والناس في هذا البلد لا يبخلون على أنفسهم ببعض الرفاهة يوما في الأسبوع يتحررون أثناءه من ثقل أسبوع بأكمله ..إنها ليلة من ألف ليلة وليلة ..
أخبرها باسم الفندق الذي نزل به حال وصوله هذا الصباح ..قادتهما الخطوات اليه ..توجّها مباشرة إلى المطعم ..كان شعرها مبللا ..تخففت من المعطف ..اتخذت مجلسها قبالته ..كانت تودّ أن تطبع صورته بين جوانحها ..أخذت قائمة الأطعمة وبدأت تصعّد بصرها وتصوّبه بحثا عما يحرك شهيتها رغم الجوع الذي كان يعتصر أمعاءها ..هي صعبة الرضا على المائدة ..غاب قليلا ثم عاد ..غيّر ملابسه ثم جلس ..كان يبادلها نظرات تحترق شوقا ..غيّر مجلسه ..خاصرها بذراعه الوارفة ثم وشوش في أذنها : أحبك ..أشتاق إليك بقوّة ..كانت نبرته الخافتة مغرية حدّ الذوبان ..واصل الهمس..ماذا لو أكملنا سهرتنا في الغرفة
فنرتاح أكثر ..بكلّ وضوح كانت الدعوة ..بكل توهّج كان النداء ..
انتفضت العصفورة المبللة مصعوقة بالوجه الآخر الذي سقط عنه القناع .
انتصبت نخلة سامقة ..وبكل شموخ وضعت ورقات نقدية حذو قائمة الأطعمة وانطلقت ..دون التفات ..ظل في مقعده واجما ..وقد أحرق اليابس بعد الأخضر ..
أغرق ما جف من دمع ..حزم حقائبه ورحل ..{ يتبع }
3 قصة مختلفة ...الفصل الثالث
ـــــ قصة مختلفة ـــــــ
الفصل الثالث
رممت ما تشظى في حديقتها من شجر وظلال وزهر ..جعلت حولها أقواسا ودوائر ..
شموسا وأقمارا .. أغمارا من الدفء والضياء ..
لملمت ما تفلّت في فضاء السنين من فراشات الحلم ..لوّنتها بكل الألوان ..ما عدا الأسود ..لقد اقتلعته من الجذور ..
بات فضاؤها بلا كدمات ..بلا عثرات ...بلا حسرة ..لا شيء غير النجوم ترصعه ..في انتظار انبلاج الفجر
كانت تستيقظ صباحا على شذا تلك الليمونة المغروسة عند نافذتها ..تسارع اليها ..تسقيها ..
تنقي ماسقط عند قدميها من أوراق جافة ..تنتظر نضوج حباتها على موقد الشوق واللهفة ..
تذكرها تلك الحبات الذهبية بأكواب العصير المثلجة التي كانا يتناولانها معا في الأماسي الصيفيّة ..
تنتفض كلما خطر ببالها ..تركض الى غرفتها تسدل الستائر خشية أن تتسلّل ملامحه اليها ليلا وتسلمها الى الأرق ...عندما يثقلها غيابه بالحضور يختنق النبض في أوردتها وتضيق فسحة الانتظار ..
تركض نحو حديقة الحيوانات القريبة من مقر اقامتها ...ورغم إحساسها بالوحدة يكتظ فراغها بمشاهد متنوعة ..الفيلة تتحاور بصمت ...الطيور السجينة ترفّ كي لاتنسى أجنحتها الطيران ..تتحسّس حقيبة يدها ..تخرج ما جلبته من طعام تزق به بجعات ما تتوقف عن عزف سمفونيتها في البحيرة التي تتوسط الحديقة ..تبتسم شفتاها ..تتلاحق خفقات فؤادها لمشهد مراهقيْن في حالة دوار عشقي ..تتلمّس ملامح وجهها المنعكسة على صفحة الماء ولا تجرؤ على التساؤل ..تمرر أناملها على خصلة ثائرة خشية أن تفضحها شعيْرات بيضاء أطلت بخفر ..هذه اللوحة المتناسقة :الخضرة ..الايقلعات المتناغمة والحيوانات الجميلة تجعلها تحس أنها نشاز فتعود أدراجها الى البيت مشيا ...وما صفع خطواتها لوجه الأرض الا نوع من الجلد لتفكيرها الذي لا يتوقف عن التساؤلات ..
لماذا تسكنها ذكراه ؟ لماذا يثقل الصمت وتتسع براحات الهجر ويجف حلق الاصطبار ؟لماذا لاتحدث تغييرات جذرية في بيتها تمحو معالم الماضي وترسم لوحة آتٍٍ مونق ..؟ لماذا؟ولماذا لا تسكت هذه الآلة
عن الجرش والدوران ؟
وذات إشراقة ..كانت تجلس في حديقة بيتها ..شاقها الحنين إلى الفرشاة والألوان ..بادرت بإحضار عدّة
الرسم ..انهمكت تنتقي الألوان وبدأت بالأبيض ..داعبتها ابتسامة خفيفة ..الأبيض فأل خير ورمز للنقاء وهذا
الأخضر العشبي المنعش سيملأ فضاء اللوحة خصوبة سندسية وحياة دافئة ..أما أنتَ أيها الأزرق ..أيها الأمل الدائم الرفيفِ بين جوانحي ..كم تذكرني ببدلة العمال الكادحين !
ترى أي لوحة ستلملم هذه الشظايا؟
كم ستكون جميلة لو أثّثتها بركض الأطفال خلف فراشات ذهبيّة..!كم ستكون متوهّجة لو توسّطتها شمس تموز!..كم ستكون نضرة مورقة لو امتلأت زواياها مطامير قمح وخير !
كانت فرشاتها تأبى أن ترسم إلا الحضورمتشحا بمئزر اللقاء المخملي ..خامرتها خفقة خاطفة ..ماذا لو مر الآن من هنا؟ هل سيستمرىء هذا الجمال؟
طردت هذه الهواجس وجمعت ألوانها ورموزها وفرّت من ذاتها الى ذاتها ..
خبّأت وجهها عن المرآة المنتصبة في البهو كالقناص تترصد كل حركة وكل لمحة والتماعة تصدر عنها ..
تتجسس عليها حتى من وراء قضبان أضلاعها ..تحاصر كل نبضة قد تنبت في وجدانها المتيبّبس عطشا الى إيقاف الزمن ..فيتحرر الحاضر من الماضي وتمتدّ جسور الوصل نحو نهر العودة واللقاء ..
تمتمتْ كم أحببته !
ليتني أغرقته في بركة النسيان الآسنة ..
عادت من العمل مرهقة ذات مساء ..استلقت على فراشها تستدعي النوم وتتوسل اليه بالإسراع ..وبين غفوة واستفاقة سمعت خطاه تطرق دهاليز وجدانها بإلحاح ..فاجأها صوته يخترق براحات الفكر ويطوي منعرجات الزمن ..انتفضت ...بسملت ..حوقلت ..لكنه هنا ..ككل مرة يفاجئها بإطلالته ثم يباغتها بالغياب والصمت ..قال : اشتقت ..أحتاجك ..أدمنتك ولا أريد منك برْءا ..تجمدت ..احمرّت وجنتاها ..ارتفعت حرارتها ..ثم غسلها العرق ..ودّت لو يهز الكون اعطافه احتفاء بهذه اللحظة ..أرادت أن تركض نحوه
وتحضن هامته المنتصبة امامها ..قدماها متسمرتان ..تغوصان وتغوصان ..هدّتها محاولة اقتلاعهما فتهالكت على رمل بارد كالصقيع ..وقبل أن تفترّ شفتاها ..رأت هامته تتلاشى
غبارا شفيفا ..يغطي فضاء الغرفة ..لم تصدق ما سمعت و رأت ..لماذا جاء؟ وكيف تلاشى ؟
أغمضت عينيْها ودست وجهها في وسادة أحلامها تبحث عن ذاك النجم ..البعيد ...../ انتهت
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق