اللغة هي الهوية
سأنطلقُ في محاضرتي من عنوانِ الندوةِ ( اللغةُ تساوي الهويةَ) الذي أرى فيه تجنّيا على اللغةِ، فهي أكبر من أن يساويها شيءٌ، حتى ولو كانَ هذا الشيءُ "الهويةَ" فلغتي تكشفُ عن هويّتِي، وتدلُّ عليها، واللغةُ في حدِّ ذاتها هي الصورةُ الحقيقيةُ لوجهِ المجتمع وملامِحه في زمن ما، ولا يمكن أن تكونَ هذه اللغةُ مخالفةً أو مناوئةً لواقعِ هذا الزمنِ. فما أن ينطق أحدنا، ومن مجرّدِ سماعِ لهجتِهِ ينبري السامعُ قائلا له:" أنت من منطقة كذا؟". فاللغةُ إذن هي الهويّةُ الثقافيّةُ والسياسيّةُ للشعوبِ، وهي جوازُ المرورِ إلى الآخر، وهي الكاشفُ الحقيقيُّ لمسارِ هذه الأمةِ.
من هنا تأتي مخالفتي للعنوان بأنّ اللغةَ لا تساوي الهويةَ فقط، بل هي الهويةُ بذاتَها هويتُنا القوميّةُ والوطنيّةُ والعربيّةُ، نُعرفُ من خلالها، ونُستكشف من بين حروفها، وكلماتِها، وعباراتِها. هذه اللغةُ التي نَمرحُ بين ظهرانيها معبرينَ من خلالِها عما يجولُ في خاطرِنا من شعرٍ وقصصٍ ورواياتٍ ومقالاتٍ وخواطرَ، تمنحُنا اللذةَ في التعبير بأيسرِ العباراتِ وأمتنها، وليس من الغرابة بشيء أن تكونَ تلك اللغةُ هويتَنا.
عندما نقول ( اللغة القومية) نجيّرُ المسمّى لنقول: اللغةُ الأمُّ، وهل هناك أكثرُ من مفهومِ الأمِّ دلالةً على الحنان، والحب، والوفاء، والانتماء، والقداسة. الأمُّ التي حفظَتْنا وحافظْنَا من خلالِها على هويّتِنا ووجودنا، ساعدنا في ذلك، مرجعٌ إلهيٌّ كبيرٌ ألا وهو القرآنُ الكريمُ، الذي كان له دورُهُ الكبيرُ في حفظِ اللغةِ العربيةِ من الضمور على مدى قرونٍ طويلةٍ، بل ساهم في نَمائها وازدهارها وانتشارها على بقعة واسعة من العالم، وليس أدل على أهمّية هذه اللغةِ من اعتمادِها لغةً رسميةً في الأممِ المتحدةِ، يُتَرجمُ لَها وتُتَرجَمُ إلى لغات عالَميّةٍ.
ولمّا كانت اللغةُ هي الهويّةُ، فهل من أمّةٍ حريصةٍ على البقاء والاستمرارِ إلاّ وتجهَدُ لكي تظلَّ لغتُها لغةً عصريّةً معبّرةً، قادرةً على التكيّفِ والتعبيرِ عن كلِّ مستجداتِ هذا العصرِ, والحقُّ يقالُ: ما من أمةٍ ضاقت ذرعًا بلغتِها، وضاقَتْ لغتُها عن استيعابِ مستجداتِ العصر، إلاّ وسعَتْ لاستبدالِها بلغةٍ بديلةٍ عصريةٍ، فكان مصيرُها محوًا لهويّتها وطمسًا لوجودها. وكلنا يعلمُ أن الاستعمارَ الذي مرَّ على بلادِنا العربية، بأشكالِه المختلفةِ، إنّما كانَ هَمُّه الأولُ مَحوَ هويتِنا، عن طريقِ استئصال لغتنا، واستبدالها بأخرى، وقد بدأت بوادرُ الضعفُ تدبُّ في لغتِنا منذُ أواخرِ حكمِ العثمانيين، حينما بدأ التورانيون يحكمُون، وشرع حزبُ الترقي والاتحاد الحاكمُ حينئذ محاولة تتريك جميعِ الولاياتِ، بهدفِ القضاءِ على العنصرِ العربي، وعلى اللغةِ العربيةِ، وللغرضِ نفسهِ سعَتْ فرنسا بسياسةِ الفرنسة. وما من أمّة طغت على أمة أخرى وطمسَتْ هويَتَها، إلا وكانت اللغة سبيلها إلى ذلك. ولكنّ لغتنا صمدت بفعل إرادة الشعوب العربية، وتراثها الأصيل، وتمسّكها بأصالتها وهويّتها.
ومن ثَمةَ جاءَ الاستعمارُ الثقافِيُّ، بمحاولةٍ جديدةٍ لطمسِ الهويّةِ العربيةِ، عن طريقِ هدمِ اللغةِ من الداخلِ، وحرفِها عن مسارِها القوميِّ والتوحيدي، باستعداءِ أهلِها عليها، انطلاقا من المثلِ القائلِ (سوسُ الخشبِ منه وفيه)، ففي مقالٍ للدكتور المصري عبد العزيز حمودة، يدافعُ فيه عن اللغةِ مؤكّدًا على قدرتِها على مسايرةِ كل العصور قائلاً:"إنّ هناك اتهاماتٍ صريحةً توجَّهُ للغةِ العربيةِ من أبناءِ جلدتِها، بأنها لغةٌ عاجزةٌ عن استيعابِ مصطلحاتِ العصرِ وعُلومِه وتقدّمِه، وهذه اتهاماتٌ عاريةٌ عن الصحة" وبهذا الصددِ أيضا يقولُ الدكتور الأردني العلاّمة ناصر الدين الأسد ردًّا على من يشكو صعوبةَ اللغةِ العربية: " هو ادعاءٌ وضعَهُ بعضُ الأجانبِ في نفوسِ بعض أبنائنا، فأخذوا يردّدون أنّ هذه اللغةَ صعبةٌ، وهي لغةٌ ميتةٌ ولغةٌ مندثرةٌ ولغةٌ ليس لها وجودٌ حضاريٌّ في الوقت الحاضر، وهي عاجزةٌ عن مواكبةِ العصرِ ومسايرة متطلبات العلم، فاستقرَّ في نفسِ التلميذِ من نشأتِهِ الأولى حتى نهاية المرحلة الجامعيةِ أن هذه اللغةَ صعبةٌ، ولذلك ينصرفُ عنها إلى أي لغة أخرى يعتقد أنَّها أسهلُ منها".
وهذا ما يسمّى بعمليّةِ (هدمِ اللغة من الداخل). وهو أكبرُ خطرٍ يتهددُ لغتَنا وهويتنا وتراثنا ووجودنا، حيث ذهبَ بالبعضِ لاستبدالِ الكثيرِ من الكلماتِ العربية ذاتِ الإيحاء الدقيق والواضح بكلمات غريبةٍ عنّا، بعيدةٍ عن أصالتِنا. وباعتقادي أن اللغةَ العربيةَ في بلادنا بالرغم من العنايةِ الجديّةِ الموجهةِ من القيادةِ السياسيةِ، هي في خطر عظيمٍ، إذا لم نتداركِ الأمر سريعًا، ونحتطْ لهُ، ولعل ما يُسعى له تحت شعارِ تمكين اللغةِ العربيةِ من الثباتِ والانتشارِ هي خطوةٌ من خطواتِ هذا التداركِ.
لأجل هذا ولكي نعزّزَ هويّتنا، يجب علينا أن نحبّ لغتَنا، وأن نحبّها بصدق دون مواربةٍ، ودون التقليل من شأنها، وهذا الأمر يُبدَأ به من البيتِ،والحارةِ. سيسأل أحدُكم : وهل الأبوان مؤهلانِ للتحدثِ باللغةِ العربيةِ الفصحى؟، وهل هما قادرانِ على تعليمِ أولادِهما ذلك؟ والجواب على ذلك: هذا ما يجب أن يحدثَ، وأن نكونَ قد تعلماه، ولكنْ سنهوّنُ الأمرَ وننطلقُ من المدرسةِ، من المعلمِ الذي يعتبِرُهُ الطفلُ قدوةً له في كل شيءٍ، وأهمّها الكلام، فالطفلُ حينما يسمعُ معلمَهُ يتكلمُ الفصحى، سيحبُّ اللغةَ، ويحاولُ التكلّمَ بها، والتحدّثَ مثله، ولكن إذا كان بعضُ مدرّسي اللغةِ العربيةِ الاختصاصيين، يشرحونَ الدروسَ للتلاميذِ باللغةِ المحكيّة، فليس علينا أن نعتب على معلمي المواد الأخرى.
إنّ اللغةَ العربيةَ -كما يعلم الكثيرون منكم- بدءًا من الصف الأوّل الابتدائي، ولغايةِ التخرّجِ من الجامعةِ – طبعًا باستثناءِ قسمِ اللغةِ العربيةِ- لا تدرَّسُ أكثرَ من حصةٍ واحدةٍ يوميًّا بالفُصحى،- وحبّذا أن يكون كلامي صحيحًا- بينما تدرّسُ بقيّةُ الحصصِ كالتاريخِ والجغرافيا وبقيةِ الموادِ باللغةِ العربيةِ المحكيةِ، ومن هنا يأتي الخطرُ. وكثيرةٌ هي الاقتراحاتُ والتوصياتُ بأنْ يكونَ تعليمُ جميعِ الموادِ الدراسيّةِ، في المرحلةِ الابتدائيةِ باللغةِ العربيةِ الفصحى.
أمّا ما يُقالُ عن كراهيّةِ التلاميذِ للّغةِ العربيةِ، وشكوى المعلمين من ذلك، فهذا الأمر يعودُ برأيي لسببين:
أولاهما: يقعُ على عاتقِ المعلمينَ والمدرّسينَ أنفسِهم، وبخاصةٍ الذين يعلمونَ مادةَ اللغةِ العربيةِ، حيثُ يتحمّلون جزءًا من المسؤوليّةِ، لأنّ البعضَ منهم لا يسعى إلى تحبيبِ الطفلِ أو التلميذِ بلغَتِهِ، وجعلِهِ يعشقُها، ولا يشجعونَهُ على التحدّثِ بالفصحى دائما. وإذا ما أخطأَ يحاسبونَه بقسوةٍ على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ دون تحفيزٍ أو تشجيعٍ، فينتابُهُ نوعٌ من الإحباطِ والكراهيةِ لتلك اللغةِ التي تقفُ في طريقِ نجاحِهِ. لهذا أشدّدُ على أنّ حبَّ الطفلِ للغتِهِ، يأتي من حبِّ وعشقِ معلمِهِ لها قبلَ كلِّ شيءٍ.
أمّا السببُ الثاني فيعودُ إلى التعقيدِ النَّحْويِّ والصّرْفِيّ الذي تحفلُ به قواعدُنا النَّحْوِيَّةُ، مِمّا ينعكِسُ سلبًا على المتعلِّمِ، ويدفعُهُ للنّفورِ منها، ورفض الكلام والحديث بتلك اللُّغةِ. ونجدُ اليومَ عددًا من علماءِ اللغةِ والنَّحْوِ يسعَوْنَ لتذليلِ هذا السببِ، بالسعي لتبسيطِ قواعدِ اللغةِ العربيةِ بِما يتناسبُ مع سِنِي الدراسةِ والمرحلة العمرية، إضافة إلى تقديمِ اقتراحاتٍ بالتخلي عن بعضِ القواعدِ النَّحْوِيَّةِ المعقّدةِ التي أصبحتْ حجرَ عثرةٍ أمامَ التلاميذِ والمختصينَ على السواءِ.
واليومَ واجبُنا الوطنِيُّ والقومِيُّ، يحتّمُ علينا أن نواكبَ العصرَ، وأن نجاريَ الأممَ في تطوّرَِها، وهذا لا يتأتَّى بِمعزِلٍ عن تعلّم لغةِ الآخرِ، والحوارِ معه، والأخذِ منه فيما يُرقّي حالَنا، ويرفعُ من قدراتِِنا الاقتصاديّةِ والعلميّةِ المعرفيّةِ والحضاريّةِ، ولكنْ على ألاّ يؤثِّر ذلك على انتمائِنا القوميِّ والوطنِيِّ، فالحياةُ العصريةُ تتطلبُ منّا أن نتعلّمَ لغاتٍ أخرى، كاللغة الانكليزية مثلاً كلغةِ العملِ والعلمِ اليوم، على أن تبقى تلكَ اللغةُ ذاتُ وظيفةٍ محدودةٍ، وأهدافٍ خاصةٍ، ولا تكونُ على حسابِ لغتِنا الأمِّ وانتمائِنا القوميِّ، وأداةِ تفكيرِنا التاريخيِّ.
من أجلِ كلِّ هذا أدعو إلى تعلّمِ اللغةِ الأمِّ أولاً، وإتقانِها، والابتعاد عن استعمال الكلمات الأجنبية التي لا تَمتُّ إلى أصالتِنا وعروبتِنا، وقوميتِنا بصلة. وإنّ التلفّظَ بكلماتٍ أجنبيّةٍ غريبةٍ عن لغتنا، لا ينمّ على ثقافَةٍ وعلمٍ، ولا يدلُّ على رقيٍّ وحضارةٍ، بل هو مظهرٌ من مظاهرِ الدونيّةِ التي يشعر بها هذا المتحدث. فالذي يعتقدُ بأن اللغةَ الانكليزيّةَ مثلاً، أكثرُ تعبيْرًا عما في نفسه من لغتِهِ العربيّةِ، إنّما هو واهمٌ بل غيْرُ عارفٍ بمكنوناتِ لغتِهِ وقدراتِها على استيعاب كل ما هو جديدٍ.
وأبلغُ مثالٍ على ما أقولُ أنّهُ في زمنِ القياصرةِ، كانتِ الفرنسيّةُ هي لغةُ البلاطِ الروسيِّ وطبقةِ النبلاءِ، الذين كانوا يحتقرونَ الروسيّةَ، ويحطّونَ من شأنِها، فماذا حلَّ بهمْ وأين هُمُ الآنَ؟ لقد كنسَهُم التاريخُ ولم يبقَ منهم أحدٌ، أمّا الذي بقيَ فهو الأدبُ الروسيُّ مجسّدًا بأقلامِ جهابذةِ القصةِ والروايةِ باللغةِ الروسيةِ الأمِّ.
لِهذا أقول أنّ من سماتِ الأممِ المتقدمةِ التي تسعى لترويجِ حضارتِها حيازتها للغةٍ تعتزُّ بها، وتعتبرها رمزًا لهويتها، وبصمودِ اللغةِ وانتشارِها وفرضِ وجودِها، يمكنُ أن تروّجَ حضارتَها، وتثبتُ وجودَها.
وهنا لا يسعني إلا أن أشيْرَ هنا لكتابِ (اللغةُ والهويّةُ) لمؤلفِهِ جون جوزيف، الذي يقدّم فيهِ رؤيةً متماسكةً عن الهويّةِ بوصفِها ظاهرةً لغويةً، ويقدّمُ فهمًا تاريخيًّا للفرقِ بين ما هو طبيعيٌّ واعتباطيٌّ في اللغةِ، ويرى أنّه:"بما أنّ اللغةَ هي الوعاءُ الحاوي للثقافةِ ووسيلةٌ من وسائلِ التفكيرِ الذي يحددُ رؤيةَ العالَمِ ونواميسِهِ لذلك شكّلَتْ معرفتُها أهمَّ ركيزةٍ لتحصينِ الهويةِ والذاتِ والشخصيةِ وانّ من الواجبِ الدفاعَ عنها لحفظِ المكانةِ والاستمرارِ بينَ الأممِ" وقد أشار ابن خلدون في مقدمتِهِ إلى أهمّيةِ اللغةِ، واعتبرِها سببًا رئيسًا لانتصارِ الأممِ، ونجاحها، حيث يقول:"غلبة الأمة بلغتِها".
ولكي تبقى لغتُنا حيّةً، ناميةً، متطوّرةً، غنيةً، لا بدَّ لها من تَمثُّل نشاطاتِ العالَمِ العلميّةِ، والحضاريّةِ، فتتجهُ للترجَمةِ التي تجسّدُ هذه النشاطاتِ، وبذلك نفتحُ الأبوابَ المغلقةَ بلغتِنا، للدخولِ للعالَمِ الجديدِ في العلومِ والتكنولوجيا والآدابِ والفنون، كوسيلةٍ فعالةٍ تُبْقِي الدولَ في الصفوفِ الأماميةِ في مجال التقدمِ والتطورِ بما تتيحُهُ من تواصلٍ علميٍّ حضاريٍّ مع الآخرِ، الآخرِ الذي استطاعَ أن يحققَ نجاحاتٍ متميزةً، وينجزَ قفزاتٍ كثيرةً في مجالاتِ المعرفةِ المختلفةِ. ، ففي عصرِنا الحالي تتعاظمُ الحاجةُ للمعرفةِ، ويزدادُ دورُها خطورةً وحساسيةً؛ لما نراه من تقدّمٍ تكنولوجِيٍّ، وانفجارٍ معرفِيٍّ هائلٍ، ويبدو واضحًا أنّ الترجَمةَ تزدادُ أهميّةً لدى الدولِ المستوردةِ للمعرفةِ العلميةِ، وإذا بقيت تابعة للدول التي تصدر لها تلك المعرفة، لن تستطيع إنجازَ مشروعِها العلمي الخاصّ بها، إلا إذا نجحَتْ في الاستقلالِ التدريجي عن مصادرِ الإنتاج المعرفِيِّ في العالم الآخر. واستطاعت أن تقدّمَ لأبنائها كتبًا مترجمةً للعربية، يستقون منها ما يحتاجون إليه من مواردِ العلمِ والمعرفةِ، وبهذا الأمر نكون قد أغنينا لغتَنا من جهة، وخرجْنا من نطاقِ التبعية المعرفيّةِ من جهةٍ أخرى.
وإذا عُدْنا للتاريخِ فإننا سنرى شواهدَ كثيرةً تدلِّلُ على ما أقولُ؛ حيثُ ازدهرَتِ الترجمةُ في العصور الذهبية للحضارةِ العربية الإسلامية وخاصةً في مجالِ الأنشطة العلمية فقد استطاعَ المسلمونَ - وبالأخصِّ في العصر العباسي- أن ينقلُوا ما لدى الحضاراتِ الأخرى السابقةِ من علومٍ ومعارفَ في مجالاتٍ كثيرةٍ متنوعةٍ، إذْ شهدتِ الترجمةُ في عهد الخليفةِ المأمونِ نشاطا مكثفا عزَّ نظيْرُه، ولعلَّ البعضَ يعلمَ أنّ الترجمةَ في زمنِ المأمونِ قد حققتْ شأوًا كبيْرًا، حيثُ كانَ الخليفةُ يكافئُ المترجمَ بمنحِهِ وزنَ كتابِهِ ذهبًا، حتى سمّي عصرُه بالعصرِ الذّهبي. فقد تُرجمتْ في زمنِهِ أمهاتُ الكتبِ ككتبِ أفلاطونَ وأرسطو وسقراطَ وجالينوسَ. فلماذا لا نعيدُ الكرّةَ نحن اليومَ ونشجّعُ مترجمينا للاتجاهِ نحو العلومِ المعرفيّةِ، وربّما هذا ما جعل الحضارة العربية الإسلامية مصدر إشعاع علمي حضاري للأمم الأخرى على مدى سنوات طويلة.
وليس بعيدًا عن أذهانكم ما وصلَ إليه الغربُ من تقدّمٍ وحضارةٍ بفضلِ ما ترجموهُ إلى لغتِهِم عن العربية من كتبٍ علميّةٍ واجتماعيّةٍ وغيرها، وتمثلوهُ تمثّلا صحيحًا مما أنتجَ حضارةً وتقدّمًا باتوا يصدرونَها للخارج. فلماذا لا نحذوا حذوَهم نحن اليومَ ونترجمُ من كتبِهم وكتبِ علمائِهم إلى لغتِنا ما يعودُ علينا بالنفع والفائدةِ.
ختامًا إذا أردنا أن نعزّز وجودَنا القومي والوطني، ونؤسسَ لهويّتِنا وحضارتِنا، ونروّجَ لتراثنا، فعلينا أن نتوجّهَ للغتنا العربيةِ لغتنا الأمِّ الحنون، حاملةِ حضارتِنا وثقافتِنا وتراثِنا، ورمزِ هويّتنا التي نُعرفُ بِها، لأنّ الهويّةَ مفهومٌ ذو دلالةٍ لغويةٍ وفلسفيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ، هذه الهويّةَ لا يُمكنُ أن تغتنِي إلا بالحفاظِ عليها، والاهتمامِ بها والعملِ على تطويرها نحو الأفضل.
.
- جريدة النور السورية
- الملحق الثقافي لجريدة الثورة السورية
سأنطلقُ في محاضرتي من عنوانِ الندوةِ ( اللغةُ تساوي الهويةَ) الذي أرى فيه تجنّيا على اللغةِ، فهي أكبر من أن يساويها شيءٌ، حتى ولو كانَ هذا الشيءُ "الهويةَ" فلغتي تكشفُ عن هويّتِي، وتدلُّ عليها، واللغةُ في حدِّ ذاتها هي الصورةُ الحقيقيةُ لوجهِ المجتمع وملامِحه في زمن ما، ولا يمكن أن تكونَ هذه اللغةُ مخالفةً أو مناوئةً لواقعِ هذا الزمنِ. فما أن ينطق أحدنا، ومن مجرّدِ سماعِ لهجتِهِ ينبري السامعُ قائلا له:" أنت من منطقة كذا؟". فاللغةُ إذن هي الهويّةُ الثقافيّةُ والسياسيّةُ للشعوبِ، وهي جوازُ المرورِ إلى الآخر، وهي الكاشفُ الحقيقيُّ لمسارِ هذه الأمةِ.
من هنا تأتي مخالفتي للعنوان بأنّ اللغةَ لا تساوي الهويةَ فقط، بل هي الهويةُ بذاتَها هويتُنا القوميّةُ والوطنيّةُ والعربيّةُ، نُعرفُ من خلالها، ونُستكشف من بين حروفها، وكلماتِها، وعباراتِها. هذه اللغةُ التي نَمرحُ بين ظهرانيها معبرينَ من خلالِها عما يجولُ في خاطرِنا من شعرٍ وقصصٍ ورواياتٍ ومقالاتٍ وخواطرَ، تمنحُنا اللذةَ في التعبير بأيسرِ العباراتِ وأمتنها، وليس من الغرابة بشيء أن تكونَ تلك اللغةُ هويتَنا.
عندما نقول ( اللغة القومية) نجيّرُ المسمّى لنقول: اللغةُ الأمُّ، وهل هناك أكثرُ من مفهومِ الأمِّ دلالةً على الحنان، والحب، والوفاء، والانتماء، والقداسة. الأمُّ التي حفظَتْنا وحافظْنَا من خلالِها على هويّتِنا ووجودنا، ساعدنا في ذلك، مرجعٌ إلهيٌّ كبيرٌ ألا وهو القرآنُ الكريمُ، الذي كان له دورُهُ الكبيرُ في حفظِ اللغةِ العربيةِ من الضمور على مدى قرونٍ طويلةٍ، بل ساهم في نَمائها وازدهارها وانتشارها على بقعة واسعة من العالم، وليس أدل على أهمّية هذه اللغةِ من اعتمادِها لغةً رسميةً في الأممِ المتحدةِ، يُتَرجمُ لَها وتُتَرجَمُ إلى لغات عالَميّةٍ.
ولمّا كانت اللغةُ هي الهويّةُ، فهل من أمّةٍ حريصةٍ على البقاء والاستمرارِ إلاّ وتجهَدُ لكي تظلَّ لغتُها لغةً عصريّةً معبّرةً، قادرةً على التكيّفِ والتعبيرِ عن كلِّ مستجداتِ هذا العصرِ, والحقُّ يقالُ: ما من أمةٍ ضاقت ذرعًا بلغتِها، وضاقَتْ لغتُها عن استيعابِ مستجداتِ العصر، إلاّ وسعَتْ لاستبدالِها بلغةٍ بديلةٍ عصريةٍ، فكان مصيرُها محوًا لهويّتها وطمسًا لوجودها. وكلنا يعلمُ أن الاستعمارَ الذي مرَّ على بلادِنا العربية، بأشكالِه المختلفةِ، إنّما كانَ هَمُّه الأولُ مَحوَ هويتِنا، عن طريقِ استئصال لغتنا، واستبدالها بأخرى، وقد بدأت بوادرُ الضعفُ تدبُّ في لغتِنا منذُ أواخرِ حكمِ العثمانيين، حينما بدأ التورانيون يحكمُون، وشرع حزبُ الترقي والاتحاد الحاكمُ حينئذ محاولة تتريك جميعِ الولاياتِ، بهدفِ القضاءِ على العنصرِ العربي، وعلى اللغةِ العربيةِ، وللغرضِ نفسهِ سعَتْ فرنسا بسياسةِ الفرنسة. وما من أمّة طغت على أمة أخرى وطمسَتْ هويَتَها، إلا وكانت اللغة سبيلها إلى ذلك. ولكنّ لغتنا صمدت بفعل إرادة الشعوب العربية، وتراثها الأصيل، وتمسّكها بأصالتها وهويّتها.
ومن ثَمةَ جاءَ الاستعمارُ الثقافِيُّ، بمحاولةٍ جديدةٍ لطمسِ الهويّةِ العربيةِ، عن طريقِ هدمِ اللغةِ من الداخلِ، وحرفِها عن مسارِها القوميِّ والتوحيدي، باستعداءِ أهلِها عليها، انطلاقا من المثلِ القائلِ (سوسُ الخشبِ منه وفيه)، ففي مقالٍ للدكتور المصري عبد العزيز حمودة، يدافعُ فيه عن اللغةِ مؤكّدًا على قدرتِها على مسايرةِ كل العصور قائلاً:"إنّ هناك اتهاماتٍ صريحةً توجَّهُ للغةِ العربيةِ من أبناءِ جلدتِها، بأنها لغةٌ عاجزةٌ عن استيعابِ مصطلحاتِ العصرِ وعُلومِه وتقدّمِه، وهذه اتهاماتٌ عاريةٌ عن الصحة" وبهذا الصددِ أيضا يقولُ الدكتور الأردني العلاّمة ناصر الدين الأسد ردًّا على من يشكو صعوبةَ اللغةِ العربية: " هو ادعاءٌ وضعَهُ بعضُ الأجانبِ في نفوسِ بعض أبنائنا، فأخذوا يردّدون أنّ هذه اللغةَ صعبةٌ، وهي لغةٌ ميتةٌ ولغةٌ مندثرةٌ ولغةٌ ليس لها وجودٌ حضاريٌّ في الوقت الحاضر، وهي عاجزةٌ عن مواكبةِ العصرِ ومسايرة متطلبات العلم، فاستقرَّ في نفسِ التلميذِ من نشأتِهِ الأولى حتى نهاية المرحلة الجامعيةِ أن هذه اللغةَ صعبةٌ، ولذلك ينصرفُ عنها إلى أي لغة أخرى يعتقد أنَّها أسهلُ منها".
وهذا ما يسمّى بعمليّةِ (هدمِ اللغة من الداخل). وهو أكبرُ خطرٍ يتهددُ لغتَنا وهويتنا وتراثنا ووجودنا، حيث ذهبَ بالبعضِ لاستبدالِ الكثيرِ من الكلماتِ العربية ذاتِ الإيحاء الدقيق والواضح بكلمات غريبةٍ عنّا، بعيدةٍ عن أصالتِنا. وباعتقادي أن اللغةَ العربيةَ في بلادنا بالرغم من العنايةِ الجديّةِ الموجهةِ من القيادةِ السياسيةِ، هي في خطر عظيمٍ، إذا لم نتداركِ الأمر سريعًا، ونحتطْ لهُ، ولعل ما يُسعى له تحت شعارِ تمكين اللغةِ العربيةِ من الثباتِ والانتشارِ هي خطوةٌ من خطواتِ هذا التداركِ.
لأجل هذا ولكي نعزّزَ هويّتنا، يجب علينا أن نحبّ لغتَنا، وأن نحبّها بصدق دون مواربةٍ، ودون التقليل من شأنها، وهذا الأمر يُبدَأ به من البيتِ،والحارةِ. سيسأل أحدُكم : وهل الأبوان مؤهلانِ للتحدثِ باللغةِ العربيةِ الفصحى؟، وهل هما قادرانِ على تعليمِ أولادِهما ذلك؟ والجواب على ذلك: هذا ما يجب أن يحدثَ، وأن نكونَ قد تعلماه، ولكنْ سنهوّنُ الأمرَ وننطلقُ من المدرسةِ، من المعلمِ الذي يعتبِرُهُ الطفلُ قدوةً له في كل شيءٍ، وأهمّها الكلام، فالطفلُ حينما يسمعُ معلمَهُ يتكلمُ الفصحى، سيحبُّ اللغةَ، ويحاولُ التكلّمَ بها، والتحدّثَ مثله، ولكن إذا كان بعضُ مدرّسي اللغةِ العربيةِ الاختصاصيين، يشرحونَ الدروسَ للتلاميذِ باللغةِ المحكيّة، فليس علينا أن نعتب على معلمي المواد الأخرى.
إنّ اللغةَ العربيةَ -كما يعلم الكثيرون منكم- بدءًا من الصف الأوّل الابتدائي، ولغايةِ التخرّجِ من الجامعةِ – طبعًا باستثناءِ قسمِ اللغةِ العربيةِ- لا تدرَّسُ أكثرَ من حصةٍ واحدةٍ يوميًّا بالفُصحى،- وحبّذا أن يكون كلامي صحيحًا- بينما تدرّسُ بقيّةُ الحصصِ كالتاريخِ والجغرافيا وبقيةِ الموادِ باللغةِ العربيةِ المحكيةِ، ومن هنا يأتي الخطرُ. وكثيرةٌ هي الاقتراحاتُ والتوصياتُ بأنْ يكونَ تعليمُ جميعِ الموادِ الدراسيّةِ، في المرحلةِ الابتدائيةِ باللغةِ العربيةِ الفصحى.
أمّا ما يُقالُ عن كراهيّةِ التلاميذِ للّغةِ العربيةِ، وشكوى المعلمين من ذلك، فهذا الأمر يعودُ برأيي لسببين:
أولاهما: يقعُ على عاتقِ المعلمينَ والمدرّسينَ أنفسِهم، وبخاصةٍ الذين يعلمونَ مادةَ اللغةِ العربيةِ، حيثُ يتحمّلون جزءًا من المسؤوليّةِ، لأنّ البعضَ منهم لا يسعى إلى تحبيبِ الطفلِ أو التلميذِ بلغَتِهِ، وجعلِهِ يعشقُها، ولا يشجعونَهُ على التحدّثِ بالفصحى دائما. وإذا ما أخطأَ يحاسبونَه بقسوةٍ على كلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ دون تحفيزٍ أو تشجيعٍ، فينتابُهُ نوعٌ من الإحباطِ والكراهيةِ لتلك اللغةِ التي تقفُ في طريقِ نجاحِهِ. لهذا أشدّدُ على أنّ حبَّ الطفلِ للغتِهِ، يأتي من حبِّ وعشقِ معلمِهِ لها قبلَ كلِّ شيءٍ.
أمّا السببُ الثاني فيعودُ إلى التعقيدِ النَّحْويِّ والصّرْفِيّ الذي تحفلُ به قواعدُنا النَّحْوِيَّةُ، مِمّا ينعكِسُ سلبًا على المتعلِّمِ، ويدفعُهُ للنّفورِ منها، ورفض الكلام والحديث بتلك اللُّغةِ. ونجدُ اليومَ عددًا من علماءِ اللغةِ والنَّحْوِ يسعَوْنَ لتذليلِ هذا السببِ، بالسعي لتبسيطِ قواعدِ اللغةِ العربيةِ بِما يتناسبُ مع سِنِي الدراسةِ والمرحلة العمرية، إضافة إلى تقديمِ اقتراحاتٍ بالتخلي عن بعضِ القواعدِ النَّحْوِيَّةِ المعقّدةِ التي أصبحتْ حجرَ عثرةٍ أمامَ التلاميذِ والمختصينَ على السواءِ.
واليومَ واجبُنا الوطنِيُّ والقومِيُّ، يحتّمُ علينا أن نواكبَ العصرَ، وأن نجاريَ الأممَ في تطوّرَِها، وهذا لا يتأتَّى بِمعزِلٍ عن تعلّم لغةِ الآخرِ، والحوارِ معه، والأخذِ منه فيما يُرقّي حالَنا، ويرفعُ من قدراتِِنا الاقتصاديّةِ والعلميّةِ المعرفيّةِ والحضاريّةِ، ولكنْ على ألاّ يؤثِّر ذلك على انتمائِنا القوميِّ والوطنِيِّ، فالحياةُ العصريةُ تتطلبُ منّا أن نتعلّمَ لغاتٍ أخرى، كاللغة الانكليزية مثلاً كلغةِ العملِ والعلمِ اليوم، على أن تبقى تلكَ اللغةُ ذاتُ وظيفةٍ محدودةٍ، وأهدافٍ خاصةٍ، ولا تكونُ على حسابِ لغتِنا الأمِّ وانتمائِنا القوميِّ، وأداةِ تفكيرِنا التاريخيِّ.
من أجلِ كلِّ هذا أدعو إلى تعلّمِ اللغةِ الأمِّ أولاً، وإتقانِها، والابتعاد عن استعمال الكلمات الأجنبية التي لا تَمتُّ إلى أصالتِنا وعروبتِنا، وقوميتِنا بصلة. وإنّ التلفّظَ بكلماتٍ أجنبيّةٍ غريبةٍ عن لغتنا، لا ينمّ على ثقافَةٍ وعلمٍ، ولا يدلُّ على رقيٍّ وحضارةٍ، بل هو مظهرٌ من مظاهرِ الدونيّةِ التي يشعر بها هذا المتحدث. فالذي يعتقدُ بأن اللغةَ الانكليزيّةَ مثلاً، أكثرُ تعبيْرًا عما في نفسه من لغتِهِ العربيّةِ، إنّما هو واهمٌ بل غيْرُ عارفٍ بمكنوناتِ لغتِهِ وقدراتِها على استيعاب كل ما هو جديدٍ.
وأبلغُ مثالٍ على ما أقولُ أنّهُ في زمنِ القياصرةِ، كانتِ الفرنسيّةُ هي لغةُ البلاطِ الروسيِّ وطبقةِ النبلاءِ، الذين كانوا يحتقرونَ الروسيّةَ، ويحطّونَ من شأنِها، فماذا حلَّ بهمْ وأين هُمُ الآنَ؟ لقد كنسَهُم التاريخُ ولم يبقَ منهم أحدٌ، أمّا الذي بقيَ فهو الأدبُ الروسيُّ مجسّدًا بأقلامِ جهابذةِ القصةِ والروايةِ باللغةِ الروسيةِ الأمِّ.
لِهذا أقول أنّ من سماتِ الأممِ المتقدمةِ التي تسعى لترويجِ حضارتِها حيازتها للغةٍ تعتزُّ بها، وتعتبرها رمزًا لهويتها، وبصمودِ اللغةِ وانتشارِها وفرضِ وجودِها، يمكنُ أن تروّجَ حضارتَها، وتثبتُ وجودَها.
وهنا لا يسعني إلا أن أشيْرَ هنا لكتابِ (اللغةُ والهويّةُ) لمؤلفِهِ جون جوزيف، الذي يقدّم فيهِ رؤيةً متماسكةً عن الهويّةِ بوصفِها ظاهرةً لغويةً، ويقدّمُ فهمًا تاريخيًّا للفرقِ بين ما هو طبيعيٌّ واعتباطيٌّ في اللغةِ، ويرى أنّه:"بما أنّ اللغةَ هي الوعاءُ الحاوي للثقافةِ ووسيلةٌ من وسائلِ التفكيرِ الذي يحددُ رؤيةَ العالَمِ ونواميسِهِ لذلك شكّلَتْ معرفتُها أهمَّ ركيزةٍ لتحصينِ الهويةِ والذاتِ والشخصيةِ وانّ من الواجبِ الدفاعَ عنها لحفظِ المكانةِ والاستمرارِ بينَ الأممِ" وقد أشار ابن خلدون في مقدمتِهِ إلى أهمّيةِ اللغةِ، واعتبرِها سببًا رئيسًا لانتصارِ الأممِ، ونجاحها، حيث يقول:"غلبة الأمة بلغتِها".
ولكي تبقى لغتُنا حيّةً، ناميةً، متطوّرةً، غنيةً، لا بدَّ لها من تَمثُّل نشاطاتِ العالَمِ العلميّةِ، والحضاريّةِ، فتتجهُ للترجَمةِ التي تجسّدُ هذه النشاطاتِ، وبذلك نفتحُ الأبوابَ المغلقةَ بلغتِنا، للدخولِ للعالَمِ الجديدِ في العلومِ والتكنولوجيا والآدابِ والفنون، كوسيلةٍ فعالةٍ تُبْقِي الدولَ في الصفوفِ الأماميةِ في مجال التقدمِ والتطورِ بما تتيحُهُ من تواصلٍ علميٍّ حضاريٍّ مع الآخرِ، الآخرِ الذي استطاعَ أن يحققَ نجاحاتٍ متميزةً، وينجزَ قفزاتٍ كثيرةً في مجالاتِ المعرفةِ المختلفةِ. ، ففي عصرِنا الحالي تتعاظمُ الحاجةُ للمعرفةِ، ويزدادُ دورُها خطورةً وحساسيةً؛ لما نراه من تقدّمٍ تكنولوجِيٍّ، وانفجارٍ معرفِيٍّ هائلٍ، ويبدو واضحًا أنّ الترجَمةَ تزدادُ أهميّةً لدى الدولِ المستوردةِ للمعرفةِ العلميةِ، وإذا بقيت تابعة للدول التي تصدر لها تلك المعرفة، لن تستطيع إنجازَ مشروعِها العلمي الخاصّ بها، إلا إذا نجحَتْ في الاستقلالِ التدريجي عن مصادرِ الإنتاج المعرفِيِّ في العالم الآخر. واستطاعت أن تقدّمَ لأبنائها كتبًا مترجمةً للعربية، يستقون منها ما يحتاجون إليه من مواردِ العلمِ والمعرفةِ، وبهذا الأمر نكون قد أغنينا لغتَنا من جهة، وخرجْنا من نطاقِ التبعية المعرفيّةِ من جهةٍ أخرى.
وإذا عُدْنا للتاريخِ فإننا سنرى شواهدَ كثيرةً تدلِّلُ على ما أقولُ؛ حيثُ ازدهرَتِ الترجمةُ في العصور الذهبية للحضارةِ العربية الإسلامية وخاصةً في مجالِ الأنشطة العلمية فقد استطاعَ المسلمونَ - وبالأخصِّ في العصر العباسي- أن ينقلُوا ما لدى الحضاراتِ الأخرى السابقةِ من علومٍ ومعارفَ في مجالاتٍ كثيرةٍ متنوعةٍ، إذْ شهدتِ الترجمةُ في عهد الخليفةِ المأمونِ نشاطا مكثفا عزَّ نظيْرُه، ولعلَّ البعضَ يعلمَ أنّ الترجمةَ في زمنِ المأمونِ قد حققتْ شأوًا كبيْرًا، حيثُ كانَ الخليفةُ يكافئُ المترجمَ بمنحِهِ وزنَ كتابِهِ ذهبًا، حتى سمّي عصرُه بالعصرِ الذّهبي. فقد تُرجمتْ في زمنِهِ أمهاتُ الكتبِ ككتبِ أفلاطونَ وأرسطو وسقراطَ وجالينوسَ. فلماذا لا نعيدُ الكرّةَ نحن اليومَ ونشجّعُ مترجمينا للاتجاهِ نحو العلومِ المعرفيّةِ، وربّما هذا ما جعل الحضارة العربية الإسلامية مصدر إشعاع علمي حضاري للأمم الأخرى على مدى سنوات طويلة.
وليس بعيدًا عن أذهانكم ما وصلَ إليه الغربُ من تقدّمٍ وحضارةٍ بفضلِ ما ترجموهُ إلى لغتِهِم عن العربية من كتبٍ علميّةٍ واجتماعيّةٍ وغيرها، وتمثلوهُ تمثّلا صحيحًا مما أنتجَ حضارةً وتقدّمًا باتوا يصدرونَها للخارج. فلماذا لا نحذوا حذوَهم نحن اليومَ ونترجمُ من كتبِهم وكتبِ علمائِهم إلى لغتِنا ما يعودُ علينا بالنفع والفائدةِ.
ختامًا إذا أردنا أن نعزّز وجودَنا القومي والوطني، ونؤسسَ لهويّتِنا وحضارتِنا، ونروّجَ لتراثنا، فعلينا أن نتوجّهَ للغتنا العربيةِ لغتنا الأمِّ الحنون، حاملةِ حضارتِنا وثقافتِنا وتراثِنا، ورمزِ هويّتنا التي نُعرفُ بِها، لأنّ الهويّةَ مفهومٌ ذو دلالةٍ لغويةٍ وفلسفيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ، هذه الهويّةَ لا يُمكنُ أن تغتنِي إلا بالحفاظِ عليها، والاهتمامِ بها والعملِ على تطويرها نحو الأفضل.
.
- جريدة النور السورية
- الملحق الثقافي لجريدة الثورة السورية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق