قصيدة النثر تحطيم القيود
نزوعاً إلى الحرية
قبل الخوض في ماهية هذا العنوان، يلحّ علي تساؤل قض مضجعي منذ زمن. هل قصيدة التفعيلة، أو قصيدة النثر، هي حداثة قياسا للشعر الخليلي؟ وإذا كانت كذلك فما الدوافع التي وصلت بها لهذا النوع الأدبي أو ذاك؟
بداية أرى أن الشعر منذ وصوله إلينا عبر الأزمنة مرّ بمراحل هامة عكست بشكل أو بآخر الأوضاع الطبيعية الاجتماعيّة والسياسيّة آنذاك، فمن الطبيعي أن تتجلّى بقساوة الصحارى، وعنفوان البحار، ونظام الكون بقوانينه الصارمة، ومع ضعف الإنسان أمامها وعدم قدرته على تطويع تلك القوانين من خلال فهمها. واجتماعيّا كانت حياة الناس مرتبطة بواقع اجتماعي لا تستطيع الانفكاك عنه بيسر، حياة لصيقة الصلة برب الأسرة ومعيلها، و سياسيّا يتجلّى بخضوع الناس بشكل أو بآخر لشيخ القبيلة أو الأمير أو الملك، وعدم الخروج على طاعة الجماعة. كل ذلك انعكس على حياة الفرد، وجعله يرى قيدًا في كل ما يحيط به، فكان يرى نفسه مقيّدًا بوجود الماء، والزرع، والكلأ والشيخ والملك ...وغير ذلك، كل هذا انعكس على الأدب بعامة، والشعر بخاصة، فوُلدَ الشعر صورة عن الواقع المعاش حوله مقيّدا بأوزان محددة وبحور ثابتة، وبطبيعة قاسية تتلاءم والواقع البيئي الصحراوي الجبلي، حتى وإن لم تكن تلك القيود مكتشفة خليليا بعد.
ومع تطوّر الحياة، وسيطرة الإنسان على الطبيعة، باكتشاف قوانينها وفهمها. وتحايله عليها لكي يطوّعها، وخرج الناس على سلطة شيخ القبيلة، أو الأمير، ورفضوا التبعيّة نزوعا للحرية، انعكس هذا على طبيعتهم البشرية ومنها الشعرية، فنزعوا نحو الحرية في التعبير عما في النفس، فوجدوها في الوحش والغابة والأفق والفضاء، في العصفور الرافض لأجمل الأقفاص وأطيب الأطعمة مقابل رفرفة في سماء حرّة، حتى صار يراها في امتداد نظره في الأفق البعيد، والبحر المتماوج والمنفتح، واليوم وبعد قرون وعقود من الاحتلال الأجنبي بكافة أنواعه،كُمّت فيه الأفواه، واعتقلت الحرية، وسفحت على محرابها الدماء، عزّز لدى المكبّلين بأيديهم وألسنتهم هذا النزوع نحو الحرية، فكان التعبير الأدبي واحدا من تلك السبل التي عبّر من خلالها عن توقه للانطلاق، فكان الانقلاب على كل القيود القائمة في طريقه، وكان من تلك القيود الشعر المقيّد بأوزانه وقوافيه وأنواعه.
من هنا نجد أن للبيئتين السياسية والاجتماعية التأثير الأوّل على الشاعر العربي، فجاء شعره صورة عن حياته. قيدٌ بقيدٍ، فوجدت القصيدة الجاهلية بقيودها العامة،.وبعد توسع رقعة الدولة العربية الإسلامية وامتدادها من الصين إلى حدود الأطلسي، وبسبب الاختلاط والتطور الذي طرأ على المشهد الثقافي آنذاك بدأ النزوع إلى التحرر من القديم مع بداية العصر العباسي مع أبي نواس الذي بادر بالخروج على نمطية القصيدة العربية التقليدية وهاجم وسخر من الأطلال والوقوف عليها، فكانت ثورة على الماضي أكثر منها تندرًا بالماضين:
عاج الشـقيّ على رسمٍ يسائله وعجتُ أسأل عن خمارة البلدِ
يبكي على طلل الماضين من أسدٍلا درّ درّك قل لي من بنو أسدِ؟
وأخذت القصيدة ترق وتشفّ أكثر فأكثر فإذا بها عند ابن الرومي أرقّ من عرف الورد:
يا فؤادي تيّمَـتْني وحيـدُفقلبـي بها معنّىً عميـدُ
غادةٌ زانـها من الغصنِ قدٌّومـن الظبيِ مقلتان وجيدُ
وترافق هذا التحرر مع ظهور الموشحات في الأندلس التي تلاعبت بالشكل حينا وبالوزن أحيانا، وصولا إلى اليوم حيث كان الانقلاب الأول بظهور قصيدة التفعيلة مع ظهور شعراء معروفين كالشاعرة نازك الملائكة، والتي تقول:» وكانت أول قصيدة حرة الوزن تُنشر قصيدتي المعنونة « الكوليرا « وهي على بحر ( الخبب)، ومن قولها (حرّة) يبدو لي أن سبب الكتابة بهذا الأسلوب، آنذاك كان نشدان الحرية لاشيء غيره. ومثلها السياب، و البياتي، وأدونيس ، فكانت ثورة حقيقية على الموروث وطبيعته وشكله، حيث أتت تلك القصائد على الشعر الخليلي، بتكسير البيت وتحطيم أركانه، ولكنْ مع محافظتها على تلك النغمة اللطيفة فيه، فتركت التفعيلة شاهدا على الوزن، وإن كانت تحررّت من قيدي الروي والقافية من جهة، والشطرين من جهة أخرى، إلا أنّها ظلت مشدودةً للقديم بتلك التفعيلة التي باتت هاجسا لدى شعراء آخرين رأوا فيها تقييدا لحريتهم التي يطمحون لأن تكون كاملة غير منقوصة.
أمّا الماغوط، فكان أكثرهم جرأة بالخروج عن المألوف والاتجاه إلى القصيدة المحرّرة من كل شيء،كقوله: مذ كانت رائحة الخبز / شهية كالورد / كرائحة الأوطان على ثياب المسافرين / وأنا أسرّح شعري كل صباح / وأرتدي أجمل ثيابي / وأهرع كالعاشقِ في موعده الأول / لانتظارها / لانتظار الثورة التي يبستْ.
وهكذا كان الانقلاب الثالث على قصيدة التفعيلة ليبرز نوع أدبي جديد، تحرّرَ من التفعيلةِ، واتجهَ للتعبير بقصيدة سيختلف النقاد على تسميتها إلى أن تستقر عند إجماع ما.
والآن أسأل هل ما حدث من انقلابات عل الشعر منذ قيامه حتى اليوم يمكن أن يدرج تحت اسم حداثة، أم تطوّر وتحديث؟. ففي مقال للدكتور عاطف البطرس بعنوان هوية القصيدة الحديثة مقاربة سيسيولوجية، يفرّق ما بين الحداثة والتحديث، فيقول:»التحديث فعالية سياسية اجتماعية تروم تطوير البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية». أمّا الحداثة برأيه :» فعل حضاري تاريخي متصل من إنتاج النشاط البشري...من حق الجميع الاستفادة من إنتاجياتها على كافة المستويات»ويرى أيضا :»أنّ الحداثة ليست مجرد انتقال زمني، من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، إنّها انفصال نوعي يقوم على قطيعة معرفية، مع فكر العالم القديم، والجوهر الفلسفي للحداثة... والقطيعة لا تنفي التراكم المعرفي، وإنّما قطيعة مع أنماط التفكير وأساليبه» وما يؤكّده هذا التعريف برأيي أنّ هذا الانفصال النوعي للقطيعة المعرفية، إنّما يرتكز بشكل أو بآخر على الرفض النوعي لكل أنواع التقييد للحرّية المفقودة في زمن النهوض والبحث عن الذات.
برأيي لا أرى أنّ هناك قطيعة معرفية لمجرّد القطيعة، بل أراها خاضعة لقانون التطوّر، وتداخل الأزمنة الذي أفرز تعدّدا في الأنماط الثقافية، سواء أكان هذا النمط تقليديًّا استرجاعيًّا يلوي بأعناق الحياة الثقافية إلى الخلف نحو حقل الأصولية، أو كان نَمطًا ذا رؤية مستقبلية طامحة، يعمل على التجديد بعيدا عن القوالب الجاهزة، أو نمطًا يتّكئ على الماضي ليأتي بخلطة ثقافية، عائدًا للخلف لينطلق نحو الأمام قافزا حاجز الحاضر نحو المستقبل.
لكلّ هذا أرى أنّ وراء الشعر الحديث وبخاصة قصيدة النثر، تطوّرًا طبيعيًّا للنزعة البشرية الساعية إلى الحرية المطلقة، لهذا كان رفضُ القيود على الشعر، تعبيْرًا غيرَ مباشر لرفض القيود على الحياة البشرية. ومن أجل ذلك كان الانقلاب على الموروث المقيّد، إلى المعاصر حرٍّ. وكان من نتاج هذا النزوع البشري ظهور قصيدة جديدة، لا هي شعرٌ ولا نثرٌ، فجاءت الاجتهادات من الأدباء والنقاد، فمنهم من جمعهما معا وقال : هي قصيدة النثر، ومنهم من قال: بل هو الشعر الحر ، وبرز من يقول : لا هي شعر ولا نثر بل نثيرة ، وإلى ما هنالك من أسماء لا تزال بين أخذ ورد.
ففي دراسة للدكتور «أحمد زياد محبك» صادرة عن اتحاد الكتاب العرب بعنوان ( قصيدة النثر) يقول في المقدمة:» تعلن هذه الدراسة منذ البدء، أنها بعيدة كل البعد عن أي نقاش نظري حول قصيدة النثر، فلن تخوض في شرعية هذا المصطلح» فالكاتب إذن أسمى دراسته بهذا العنوان مكرّسا اسمها»قصيدة النثر» دون أن يحزم أمره فيه.
أمّا الكاتب المغربي محمد عالي خنفر، يرفض هذا التعريف ويعتقد أن من يستعمله قد وقع في خطأ عندما جمع القصيدة وهي شعر إلى النثر بمفهومه المعروف. فيقول :» وذلك لأن المصطلح المعتمد حاليا، هو مصطلح متناقض أصلا، لكونه يجمع بين النقيضين اللذين لا يمكن الجمع بينهما» ويقترح الكاتب أن تسمى بـ» النثيرة» إذ يقول: «فهو المصطلح العربي المناسب لهذا الجنس، وليس المصطلح المستورد» وبالتالي هو يعارض الأستاذ رشيد يحياوي في كتابه ( قصيدة النثر تعاريف ومغالطات) الذي يقول في تعريف قصيدة النثر: «هي قصيدة تتميز بواحدة أو أكثر من خصائص الشعر الغنائي، غير أنها تعرض في المطبوعات على هيئة النثر وهي تختلف عن الشعر النثري بقصرها وبما فيها من تركيز. وتختلف عن الشعر الحر بأنها لا تهتم بنظام المتواليات البيتية. وعن فقرة النثر بأنها ذات إيقاع ومؤثرات صوتية أوضح مما يظهر في النثر مصادفة واتفاقاً من غير غرض”.
وما جاء في كتاب سوزان برنار المعنون بـ:” قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا” ما يؤكّد على أنها وليدة لطلب الحرية فتقول: هي “قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور.خُلْق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد”.
أما الشاعر أنسي الحاج فيصف قصيدة النثر بقوله:” لتكون قصيدة النثر قصيدة حقاً لا قطعة نثر فنية، أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة: الإيجاز والتوهج والمجانية”.
من هنا نشأ الالتباس على اسم الشعر بدخول هذا النوع الأدبي، الذي كما يبدو اعتمد مفاهيم وأعرافاً جديدة ظهرت مع بزوغ شمس الحرية وسطوعها في مكان وهي: (التخطّي، والتجاوز، والمغامرة، والاختلاف، والمغايرة). وكلّها تبدو ألفاظًا مترعة بالمفهوم الزماني: “إلغاء ما سبق، والوعد بِما يلي” فهبَّ الأدباء والشعراء لعيش تجربة الحرية في مناخ ديمقراطي، فكان الانقلاب على القديم المقدّس، بدأ بالثورة والتخطي، لتنشأ قصيدة التفعيلة، ثم كان شيءٌ من الاختلاف والمغايرة، لتطلَّ قصيدة النثر. ولكنّني أرى بعكس ما ورد قبل قليل، أن هذا النزوع للحرية من خلال التجاوز والاختلاف والمغايرة لا يقصد منه نفي الشعر القديم، وأوزانه وقيوده، بل نوع من التحرّر الاجتماعي السياسي الثقافي جاء به الواقع الجديد، نهوض بعد ركود، تحرر بعد استعمار، مطالبة بالحرية في ظلّ أنظمة استبدادية. وهذا ما أفضى بقصيدة النثر إلى الاتجاه نحو الكتابة الذهنية، الذي تعود أسبابه إلى إقصاء كل ما هو غنائي والتضييق عليه.
لا شكّ بأن قصيدة النثر قد قطعت شوطا بعيدا ووجدت لها موطئ قدم بين الأنواع الأدبية، وصار لها حضورها في المشهد الثقافي بعامة. وبدأت مرحلة المزاحمة للشعر، ففي بناء القصيدة تنوع لافت من بناءٍ غنائي إلى البناء المتنامي، والدرامي والحواري والقصصي. ومن حيث اللغة نجد اللغة العادية، ولغة الصور الموحية، والصور المبهمة، والمغلقة، ولغة الإيقاع الداخلي، والموسيقى الداخلية، ومن حيث الشكل تطالعك القصيدة الطويلة، والقصيدة القصيرة، وقصيدة الومضة، والقصائد ذوات النهايات المتألقة، والمفاجئة، وغير المتوقعة.
هذه هي قصيدة النثر التي بالرغم من كل الاعتراضات عليها، أخذت تشق طريقها ببطء أحيانا، وبقوّة أحيانا أخرى، وفي كلا الحالين، يبقى التحدي سيد الموقف في أن تنطلق ناسفةً كل شيء، أو تنكفئَ عند حاجز ما، أو تشقَّ طريقا جديدة مغايرة لكل ما سبق.
ملحق ثقافي - جريدة الثورة السورية
20/1/2009م
عادل نايف البعيني
نزوعاً إلى الحرية
قبل الخوض في ماهية هذا العنوان، يلحّ علي تساؤل قض مضجعي منذ زمن. هل قصيدة التفعيلة، أو قصيدة النثر، هي حداثة قياسا للشعر الخليلي؟ وإذا كانت كذلك فما الدوافع التي وصلت بها لهذا النوع الأدبي أو ذاك؟
بداية أرى أن الشعر منذ وصوله إلينا عبر الأزمنة مرّ بمراحل هامة عكست بشكل أو بآخر الأوضاع الطبيعية الاجتماعيّة والسياسيّة آنذاك، فمن الطبيعي أن تتجلّى بقساوة الصحارى، وعنفوان البحار، ونظام الكون بقوانينه الصارمة، ومع ضعف الإنسان أمامها وعدم قدرته على تطويع تلك القوانين من خلال فهمها. واجتماعيّا كانت حياة الناس مرتبطة بواقع اجتماعي لا تستطيع الانفكاك عنه بيسر، حياة لصيقة الصلة برب الأسرة ومعيلها، و سياسيّا يتجلّى بخضوع الناس بشكل أو بآخر لشيخ القبيلة أو الأمير أو الملك، وعدم الخروج على طاعة الجماعة. كل ذلك انعكس على حياة الفرد، وجعله يرى قيدًا في كل ما يحيط به، فكان يرى نفسه مقيّدًا بوجود الماء، والزرع، والكلأ والشيخ والملك ...وغير ذلك، كل هذا انعكس على الأدب بعامة، والشعر بخاصة، فوُلدَ الشعر صورة عن الواقع المعاش حوله مقيّدا بأوزان محددة وبحور ثابتة، وبطبيعة قاسية تتلاءم والواقع البيئي الصحراوي الجبلي، حتى وإن لم تكن تلك القيود مكتشفة خليليا بعد.
ومع تطوّر الحياة، وسيطرة الإنسان على الطبيعة، باكتشاف قوانينها وفهمها. وتحايله عليها لكي يطوّعها، وخرج الناس على سلطة شيخ القبيلة، أو الأمير، ورفضوا التبعيّة نزوعا للحرية، انعكس هذا على طبيعتهم البشرية ومنها الشعرية، فنزعوا نحو الحرية في التعبير عما في النفس، فوجدوها في الوحش والغابة والأفق والفضاء، في العصفور الرافض لأجمل الأقفاص وأطيب الأطعمة مقابل رفرفة في سماء حرّة، حتى صار يراها في امتداد نظره في الأفق البعيد، والبحر المتماوج والمنفتح، واليوم وبعد قرون وعقود من الاحتلال الأجنبي بكافة أنواعه،كُمّت فيه الأفواه، واعتقلت الحرية، وسفحت على محرابها الدماء، عزّز لدى المكبّلين بأيديهم وألسنتهم هذا النزوع نحو الحرية، فكان التعبير الأدبي واحدا من تلك السبل التي عبّر من خلالها عن توقه للانطلاق، فكان الانقلاب على كل القيود القائمة في طريقه، وكان من تلك القيود الشعر المقيّد بأوزانه وقوافيه وأنواعه.
من هنا نجد أن للبيئتين السياسية والاجتماعية التأثير الأوّل على الشاعر العربي، فجاء شعره صورة عن حياته. قيدٌ بقيدٍ، فوجدت القصيدة الجاهلية بقيودها العامة،.وبعد توسع رقعة الدولة العربية الإسلامية وامتدادها من الصين إلى حدود الأطلسي، وبسبب الاختلاط والتطور الذي طرأ على المشهد الثقافي آنذاك بدأ النزوع إلى التحرر من القديم مع بداية العصر العباسي مع أبي نواس الذي بادر بالخروج على نمطية القصيدة العربية التقليدية وهاجم وسخر من الأطلال والوقوف عليها، فكانت ثورة على الماضي أكثر منها تندرًا بالماضين:
عاج الشـقيّ على رسمٍ يسائله وعجتُ أسأل عن خمارة البلدِ
يبكي على طلل الماضين من أسدٍلا درّ درّك قل لي من بنو أسدِ؟
وأخذت القصيدة ترق وتشفّ أكثر فأكثر فإذا بها عند ابن الرومي أرقّ من عرف الورد:
يا فؤادي تيّمَـتْني وحيـدُفقلبـي بها معنّىً عميـدُ
غادةٌ زانـها من الغصنِ قدٌّومـن الظبيِ مقلتان وجيدُ
وترافق هذا التحرر مع ظهور الموشحات في الأندلس التي تلاعبت بالشكل حينا وبالوزن أحيانا، وصولا إلى اليوم حيث كان الانقلاب الأول بظهور قصيدة التفعيلة مع ظهور شعراء معروفين كالشاعرة نازك الملائكة، والتي تقول:» وكانت أول قصيدة حرة الوزن تُنشر قصيدتي المعنونة « الكوليرا « وهي على بحر ( الخبب)، ومن قولها (حرّة) يبدو لي أن سبب الكتابة بهذا الأسلوب، آنذاك كان نشدان الحرية لاشيء غيره. ومثلها السياب، و البياتي، وأدونيس ، فكانت ثورة حقيقية على الموروث وطبيعته وشكله، حيث أتت تلك القصائد على الشعر الخليلي، بتكسير البيت وتحطيم أركانه، ولكنْ مع محافظتها على تلك النغمة اللطيفة فيه، فتركت التفعيلة شاهدا على الوزن، وإن كانت تحررّت من قيدي الروي والقافية من جهة، والشطرين من جهة أخرى، إلا أنّها ظلت مشدودةً للقديم بتلك التفعيلة التي باتت هاجسا لدى شعراء آخرين رأوا فيها تقييدا لحريتهم التي يطمحون لأن تكون كاملة غير منقوصة.
أمّا الماغوط، فكان أكثرهم جرأة بالخروج عن المألوف والاتجاه إلى القصيدة المحرّرة من كل شيء،كقوله: مذ كانت رائحة الخبز / شهية كالورد / كرائحة الأوطان على ثياب المسافرين / وأنا أسرّح شعري كل صباح / وأرتدي أجمل ثيابي / وأهرع كالعاشقِ في موعده الأول / لانتظارها / لانتظار الثورة التي يبستْ.
وهكذا كان الانقلاب الثالث على قصيدة التفعيلة ليبرز نوع أدبي جديد، تحرّرَ من التفعيلةِ، واتجهَ للتعبير بقصيدة سيختلف النقاد على تسميتها إلى أن تستقر عند إجماع ما.
والآن أسأل هل ما حدث من انقلابات عل الشعر منذ قيامه حتى اليوم يمكن أن يدرج تحت اسم حداثة، أم تطوّر وتحديث؟. ففي مقال للدكتور عاطف البطرس بعنوان هوية القصيدة الحديثة مقاربة سيسيولوجية، يفرّق ما بين الحداثة والتحديث، فيقول:»التحديث فعالية سياسية اجتماعية تروم تطوير البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية». أمّا الحداثة برأيه :» فعل حضاري تاريخي متصل من إنتاج النشاط البشري...من حق الجميع الاستفادة من إنتاجياتها على كافة المستويات»ويرى أيضا :»أنّ الحداثة ليست مجرد انتقال زمني، من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، إنّها انفصال نوعي يقوم على قطيعة معرفية، مع فكر العالم القديم، والجوهر الفلسفي للحداثة... والقطيعة لا تنفي التراكم المعرفي، وإنّما قطيعة مع أنماط التفكير وأساليبه» وما يؤكّده هذا التعريف برأيي أنّ هذا الانفصال النوعي للقطيعة المعرفية، إنّما يرتكز بشكل أو بآخر على الرفض النوعي لكل أنواع التقييد للحرّية المفقودة في زمن النهوض والبحث عن الذات.
برأيي لا أرى أنّ هناك قطيعة معرفية لمجرّد القطيعة، بل أراها خاضعة لقانون التطوّر، وتداخل الأزمنة الذي أفرز تعدّدا في الأنماط الثقافية، سواء أكان هذا النمط تقليديًّا استرجاعيًّا يلوي بأعناق الحياة الثقافية إلى الخلف نحو حقل الأصولية، أو كان نَمطًا ذا رؤية مستقبلية طامحة، يعمل على التجديد بعيدا عن القوالب الجاهزة، أو نمطًا يتّكئ على الماضي ليأتي بخلطة ثقافية، عائدًا للخلف لينطلق نحو الأمام قافزا حاجز الحاضر نحو المستقبل.
لكلّ هذا أرى أنّ وراء الشعر الحديث وبخاصة قصيدة النثر، تطوّرًا طبيعيًّا للنزعة البشرية الساعية إلى الحرية المطلقة، لهذا كان رفضُ القيود على الشعر، تعبيْرًا غيرَ مباشر لرفض القيود على الحياة البشرية. ومن أجل ذلك كان الانقلاب على الموروث المقيّد، إلى المعاصر حرٍّ. وكان من نتاج هذا النزوع البشري ظهور قصيدة جديدة، لا هي شعرٌ ولا نثرٌ، فجاءت الاجتهادات من الأدباء والنقاد، فمنهم من جمعهما معا وقال : هي قصيدة النثر، ومنهم من قال: بل هو الشعر الحر ، وبرز من يقول : لا هي شعر ولا نثر بل نثيرة ، وإلى ما هنالك من أسماء لا تزال بين أخذ ورد.
ففي دراسة للدكتور «أحمد زياد محبك» صادرة عن اتحاد الكتاب العرب بعنوان ( قصيدة النثر) يقول في المقدمة:» تعلن هذه الدراسة منذ البدء، أنها بعيدة كل البعد عن أي نقاش نظري حول قصيدة النثر، فلن تخوض في شرعية هذا المصطلح» فالكاتب إذن أسمى دراسته بهذا العنوان مكرّسا اسمها»قصيدة النثر» دون أن يحزم أمره فيه.
أمّا الكاتب المغربي محمد عالي خنفر، يرفض هذا التعريف ويعتقد أن من يستعمله قد وقع في خطأ عندما جمع القصيدة وهي شعر إلى النثر بمفهومه المعروف. فيقول :» وذلك لأن المصطلح المعتمد حاليا، هو مصطلح متناقض أصلا، لكونه يجمع بين النقيضين اللذين لا يمكن الجمع بينهما» ويقترح الكاتب أن تسمى بـ» النثيرة» إذ يقول: «فهو المصطلح العربي المناسب لهذا الجنس، وليس المصطلح المستورد» وبالتالي هو يعارض الأستاذ رشيد يحياوي في كتابه ( قصيدة النثر تعاريف ومغالطات) الذي يقول في تعريف قصيدة النثر: «هي قصيدة تتميز بواحدة أو أكثر من خصائص الشعر الغنائي، غير أنها تعرض في المطبوعات على هيئة النثر وهي تختلف عن الشعر النثري بقصرها وبما فيها من تركيز. وتختلف عن الشعر الحر بأنها لا تهتم بنظام المتواليات البيتية. وعن فقرة النثر بأنها ذات إيقاع ومؤثرات صوتية أوضح مما يظهر في النثر مصادفة واتفاقاً من غير غرض”.
وما جاء في كتاب سوزان برنار المعنون بـ:” قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا” ما يؤكّد على أنها وليدة لطلب الحرية فتقول: هي “قطعة نثر موجزة بما فيه الكفاية، موحّدة، مضغوطة، كقطعة من بلّور.خُلْق حرّ، ليس له من ضرورة غير رغبة المؤلف في البناء خارجاً عن كلّ تحديد”.
أما الشاعر أنسي الحاج فيصف قصيدة النثر بقوله:” لتكون قصيدة النثر قصيدة حقاً لا قطعة نثر فنية، أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة: الإيجاز والتوهج والمجانية”.
من هنا نشأ الالتباس على اسم الشعر بدخول هذا النوع الأدبي، الذي كما يبدو اعتمد مفاهيم وأعرافاً جديدة ظهرت مع بزوغ شمس الحرية وسطوعها في مكان وهي: (التخطّي، والتجاوز، والمغامرة، والاختلاف، والمغايرة). وكلّها تبدو ألفاظًا مترعة بالمفهوم الزماني: “إلغاء ما سبق، والوعد بِما يلي” فهبَّ الأدباء والشعراء لعيش تجربة الحرية في مناخ ديمقراطي، فكان الانقلاب على القديم المقدّس، بدأ بالثورة والتخطي، لتنشأ قصيدة التفعيلة، ثم كان شيءٌ من الاختلاف والمغايرة، لتطلَّ قصيدة النثر. ولكنّني أرى بعكس ما ورد قبل قليل، أن هذا النزوع للحرية من خلال التجاوز والاختلاف والمغايرة لا يقصد منه نفي الشعر القديم، وأوزانه وقيوده، بل نوع من التحرّر الاجتماعي السياسي الثقافي جاء به الواقع الجديد، نهوض بعد ركود، تحرر بعد استعمار، مطالبة بالحرية في ظلّ أنظمة استبدادية. وهذا ما أفضى بقصيدة النثر إلى الاتجاه نحو الكتابة الذهنية، الذي تعود أسبابه إلى إقصاء كل ما هو غنائي والتضييق عليه.
لا شكّ بأن قصيدة النثر قد قطعت شوطا بعيدا ووجدت لها موطئ قدم بين الأنواع الأدبية، وصار لها حضورها في المشهد الثقافي بعامة. وبدأت مرحلة المزاحمة للشعر، ففي بناء القصيدة تنوع لافت من بناءٍ غنائي إلى البناء المتنامي، والدرامي والحواري والقصصي. ومن حيث اللغة نجد اللغة العادية، ولغة الصور الموحية، والصور المبهمة، والمغلقة، ولغة الإيقاع الداخلي، والموسيقى الداخلية، ومن حيث الشكل تطالعك القصيدة الطويلة، والقصيدة القصيرة، وقصيدة الومضة، والقصائد ذوات النهايات المتألقة، والمفاجئة، وغير المتوقعة.
هذه هي قصيدة النثر التي بالرغم من كل الاعتراضات عليها، أخذت تشق طريقها ببطء أحيانا، وبقوّة أحيانا أخرى، وفي كلا الحالين، يبقى التحدي سيد الموقف في أن تنطلق ناسفةً كل شيء، أو تنكفئَ عند حاجز ما، أو تشقَّ طريقا جديدة مغايرة لكل ما سبق.
ملحق ثقافي - جريدة الثورة السورية
20/1/2009م
عادل نايف البعيني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق