السبت، 18 فبراير 2017

حياة لاتفصح بأكثر من وجع /// للاديب محمد دريوش /// المغرب

حياة لا تفصح بأكثر من وجع.
... وإني أعلم يا امرأة، أنك ما أتيت إلى عالمي بمحض صدفة أو إرادة منك، بل استجلبك إلي قدري المولع بإيذائي، في تواطىء مقيت مع حظي العاثر، ورماك أمامي دفعة واحدة من دون أية مقدمات. هكذا وجدت نفسي وجها لوجه، في ذلك المساء البعيد العالق بقعر ذاكرتي المفجوعة، مع إحساس موحش بالضياع تختر تحت وطأته الوقت وانمحى لحدته كل ما انفرط من سنوات عمري الماضي.. كأنني ولدت للتو، كأنني أطلقت سراح صرختي الأولى بوجه الحياة للتو. إحساس جديد علي تماما نبت بداخلي كأي وجع نتأ فجأة من وسط العدم، ولم أستطع أن أجلوه، لكني كنت مكتوف القلب والعقل أمام ذلك الخدر الذي تسلل عبر مسامات هذا الصلصال الذي يخط هذه السطور، والتف على العضلة المترمدة الراكدة وسط صدري بعدما دك كل القلاع والحصون المنصوبة بإحكام على مداخلها. 
لا أتذكر هل كنت أنا من اجترحت خطيئة النظر أولا، أم كنت أنت من بادرت إلى فعل ذلك، لا يهم. لا يهم، تحديدا في هذه اللحظة التي لن يفيد فيها التدقيق في تفاصيل الأشياء في شيء؛ فما وقع كان ليقع حتى ولو تحالفت دون تحققه كل جيوش العالم.
لما ارتطمت نظراتي بتلك العينين الشهلاوين اللتين تنام تحت جفنيهما آلاف الألغاز المبهمة والنصال المدببة التي تصيب الرائي في مقتل، أصغيت لقلبي وخفقاته المنخطفة فما سمعت له نبضا.. كأنه قطعة من خلاء تفحمت بها الحياة.
هل حقا ولدت ساعتها أم أنني كنت من المهلكين؟ لا أدري.. ولا يؤرقني هوس معرفة ذلك حتى. المهم أنني حين أمعن في استحضار تلك اللحظة، يتجدد وجعي يا من تنكأ، في كل مرة يشاركني فيها طيفك قضم أظافر الوقت من فرط الندم، جرحي المفتوح الما اندمل.
مكتظ أنا بحنيني إليك. أقولها قبل أن يجفل مني الكلام ويولي هاربا كما تجفل الأشجار وتختفي من وراء نافذة قطار. أمشي بقلب مترب، حافيا من كل الأحاسيس التي ترمي بي وسط يأسي. أمشي أعزل إلا من ظلي الذي شاخ من كثرة البحث عن أثرك بين كل هؤلاء النساء. أمشي إليك والخوف يلوكني من مغبة إضاعة ملامحك كلما فتحت جوارير الذاكرة التي علاها الغبار وتشقق لحاؤها كمثل شجرة بحديقة مهملة.
... وإني أعلم يا امرأة أنك، حينها، تركتني أهوي إلى الأرض مدحورا، مضرج القلب، مهزوز الكبرياء، لتنهال علي لسعات فجيعتي كالسياط، وبإيعاز من نفسي المكلومة، تلذذت سقوطي وتناثر أشلائي المشدوخة على مذبح قلبك. رأيت نصال صدك تنغرس يكل جسدي دون هوادة. رأيت ذلك العشق الطاعن في القلب مخدوشا بين أضلعي، وضعت مني وسط عرامة تكلس الأحاسيس. رأيت يد القدر المعروقة تستلك من حياتي، فداهمتني رجفة كرجفة الموت حين يتسلل إلى الجسد طاردا الروح خارج حدوده. رأيتني مسجى على نعش يوشك أن يدلج عنه في ظلماء القبر. رأيتني أستجدي مزيدا من الصحو، ورأيت الموت يوغل مشرطه، يجتثني من الحياة ويجهض كل مشاريع العمر.
العمر قصير حبيبتي، يحملنا عنوة إلى نهايات ما كنا لنتفاداها حتى ولو غيرنا الطريق الذي نسلكه. العمر قصير، والقدر يحيك مصائرنا بإصرار عنكبوت، ومهما حاولنا يا حبيبتي، سنترتطم عند نهاية الطريق بما ظننا عبثا أننا خاتلناه ونصبنا له الكمائن.
العمر قصير والقدر ماكر، وأنت كنت على مرمى حجر مني لولا حظي العاثر. العمر قصير وجسر الصبر أوهى وأقصر. العمر قصير جدا، ويلزمني عمرا آخر أو أكثر..
لو فقط تعلمين ما ألم بي بعد تلك النظرة التي اعتصرت نياط قلبي. لو فقط تعلمين بأي هاوية رماني خبل الحب حين استمسك بي وأحكم قبضته علي أنا المعطوب بخيبات شتى. لو فقط تعلمين أن ذلك الرجل الغارق في هجير حبك القائظ وانكسارت ماضوية، ما كان ليتحمل اكتظاظ قلبه بحب آخر تفوق شرارته حنكته، وكأي قلب آيل للخراب، انفتحت شهية الحياة في قضمه بتفكه تام.
... وإني أعلم يا امرأة، أن اليأس كان ينبت في قلبي رويدا رويدا، وكنت في كل مرة، حين يفدحني الحنين، ألتفت إلى الماضي الموغل في الوجع، وأتلمس طريقي إلى تلك النظرة الأولى التي التصقت بذاكرتي، وأبتني منها فيضا من أحلام وردية.. أتردد طويلا، ولسبب غامض، في نطق تلك الكلمة "أحبك".. لو فقط ما اعتقل الصمت لغتي عندما كان لتلك الكلمة جدواها. لو فقط نطقتها وما تركتها تنكمش بداخلي لتصير غصة بحلقي، وصارت تنحت بداخلي، كل يوم، خنادق وأقبية تراكم بها على مر السنين وساوسي أمام فتور قدري الذي اجتذب إلى أشداقه كل أمنياتي وطرحها جثثا هامدة.
ها قد غزا الشيب شعر رأسي كما تغزو ندف الثلج قمم الجبال. تعبت كثيرا، وباتت نهاية كل شيء وشيكة. ما همني الآن أن أصير حياة موقوتة، مجرد دهشة أخرى من فيض الغوامض التي تحفل بها هذه الحماقة الكبيرة النازفة المسماة "حياة".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق