الخميس، 22 يونيو 2017

نغمة التمرد والاحتجاج في الأدب العبري المعاصر ( دراسة علمية ) للباحث عبد الوهاب محمد الجبوري // العراق

نغمة التمرد والاحتجاج في الأدب العبري المعاصر ( دراسة علمية )
الباحث عبدالوهاب محمد الجبوري

المقدمة
منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي الغاصب عام 1948 كان تركيز الاهتمام العربي لدراسة هذا الكيان من النواحي العسكرية والسياسية والاقتصادية في بداياته ، وبعد حرب حزيران 1967 توسع هذا الاهتمام ، لكنه لم يشمل دراسة الوثيقة الأدبية الصهيونية بشكل واسع ومفصل كي يصار من خلالها إلى دراسته بشكل تفصيلي من النواحي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية إلا في الفترة التي سبقت حرب تشرين 1973 وما تلاها من محاولات طيبة في هذا المجال ، وان كانت مقتصرة في بداياتها على الأجهزة العسكرية والاستخبارية ومراكز البحوث العربية ، وعلى نشاطات فردية ملحوظة لبعض الكتاب والمتخصصين في عدد من الأقطار العربية لا يمكنها أن تسد (الفجوة) التي ما زالت تعاني منها الدراسات العربية في هذا الجانب ، كما أن الكثير من الباحثين والدارسين لهذا الأدب وبسبب (جدته) عليهم وقلة المصادر وعدم إلمامهم باللغة العبرية فضلا عن اعتبارات داخلية وخارجية ناتجة عن تأثيرات سياسية محددة نجدهم غالباً مايغضون الطرف عن التفاصيل المهمة المتعلقة بالتمييز والطائفية والصراع الداخلي بين التجمعات اليهودية وما يتعلق بحقيقة ما يسمى بالتمرد والاحتجاج داخل الكيان الإسرائيلي الغاصب ، بالإضافة إلى عدم تناولهم قضية التناقض الأساس بين العرب والحركة الصهيونية تجاه المسألة الجوهرية المصيرية ونعني بها قضية فلسطين والاغتصاب الإسرائيلي المدعوم من الامبريالية العالمية .. مقابل ذلك نجد أن الصهيونية السياسية قد جعلت من الأدب العبري سلاحاً لا يقل خطورة وأهمية عن الأسلحة الأخرى السياسية والعسكرية..
وحول هذا الموضوع المهم يعود بي حديث الذكريات إلى بيروت عامي 1972و1973 عندما كنت ادرس اللغة العبرية مساءً في جامعة بيروت العربية واعمل صباحاً في مؤسسة الدراسات الفلسطينية كمترجم لغة عبرية وباحث في الشؤون الفلسطينية والإسرائيلية ، حيث كنا مجموعة من المتخصصين في هذه المجالات نتحدث عن الأدب العبري ، حيث أطلعني احدهم على كتاب صدر حديثا في حينه للشهيد غسان كنفاني عنوانه (في الأدب الصهيوني) وذلك قبل اغتياله رحمه الله من قبل الموساد في 8/7/1972 على ما اذكر.. وقادنا الحديث للتحدث عن الخلفية التاريخية والأبعاد السياسية للأدب العبري وكانت الآراء متفقة حول ما ذهب إليه الشهيد كنفاني من ( أن الصهيونية قاتلت بسلاح الأدب قتالاً لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسي والعسكري لأن هذا الأدب لا يمكن فصله عن الأيديولوجية الصهيونية السياسية مع أن الصهيونية الأدبية كانت سابقة للصهيونية السياسية التي ما لبثت أن تمكنت من تجنيد الأدب لخدمة مخططاتها والسعي لتحقيق أهدافها ) ..
من هنا فان بناء الأيديولوجية الصهيونية يستمد براهين إثباته ويكتسب قوة تصديقه في المجتمع اليهودي عبر الصياغة الفكرية الخاصة لوقائع الصراع مع العرب وأحداثه، سواء فيما يتعلق بمقولة معاداة السامية التي تجد تعبيرها في عداء العرب أو فيما يتعلق بمقولة الشعب اليهودي الواحد التي تجد في الهجرة متعددة الأجناس مسوغا لها أو فيما يتعلق بمقولة الأرض التاريخية التي تجد في الاستجابة الجغرافية العربية الرخوة لعمليات الاحتلال الإسرائيلي ميدانا لتطبيقها ، وهي المقولات الثلاث الأساسية التي تكوّن البنية الجوهرية للأيديولوجية الصهيونية ..
وراح الأدب العبري ، في معظم تصنيفاته وفروعه، يتعامل مع وقائع وأحداث الصراع مع العرب وملابساته المتطورة على أساس المقولات الصهيونية ولا ينفصل عنها ، من هنا كان لابد من توفر شرطين أساسيين لمواجهة هذا التوجه الصهيوني والتعامل معه :
الأول : وجود رؤية عربية تحليلية ، ذلك انه يستحيل إجراء التحليل النقدي لأية قطعة أدبية عبرية دون ملاحظة درجة تشابكها مع البناء الأيديولوجي أو إحدى الظواهر الاجتماعية الواقعة تحت سيطرته وقدراته على الضبط ..
الثاني : الموقف الفلسفي، فليس لباحث أن يقوم على دراسة أدب يقوم في غالبيته العظمى على مفاهيم فلسفية سياسية وعسكرية دون أن يحوز هذا الباحث قدرا من المعرفة الفلسفية تجاه التفكير الفلسفي الصهيوني ومنابعه ليكون في مقدوره رصد المقولات والأعمال الأدبية من شعر وقصة ورواية ومسرحية ومقالة وأعمال فنية .. وحتى نفهم حقيقة التمرد والاحتجاج في الأدب العبري سنعرج في هذه الدراسة الموجزة على مسائل لها علاقة بهذا الجانب وأبرزها الحرب والعنصرية وتأثيرهما على الجماعات اليهودية داخل إسرائيل ..
الأدب العبري والحرب
إن من يدرس الفكر اليهودي الصهيوني وتاريخ الاستيطان اليهودي في فلسطين ومراحل الصراع العربي الإسرائيلي يدرك للوهلة الأولى أن الحروب هي بمثابة أسطورة مغلقة تدخل في إطار البنية العامة لهذا الفكر شأنها في ذلك شأن سائر الأساطير المغلقة التي تتعامل معها الفلسفة الصهيونية مثل أسطورة ارض الميعاد والحق التاريخي في فلسطين والشعب المختار وكذلك أسطورة شعب بلا ارض لأرض بلا شعب ، وبفعل هذه التأثيرات يعيش اليهود تناقضا حادا بين فرضيات الفكر الصهيوني وبين إفرازات المجتمع الإسرائيلي في صراعه مع الواقع العربي الرافض لوجوده، وهذا التناقض الحاد الذي يعيشه اليهود هو الذي يفسر سقوطهم في هوة الجبرية لتصبح الحروب – بالنسبة لهم ـــ تجسيدا عمليا وضرورة حتمية وعملا مقدسا للشخصية اليهودية في جانبيها الصهيوني والإسرائيلي مهما حاول الفكر الصهيوني ، وأداته الأدب العبري، أن يلبسها من أرديته الشرعية المختلفة، وتعبر عالمة النفس الإسرائيلية (عاميا ليبليخ ) عن هذه الظاهرة بقولها: ( إن التعايش مع الحرب كان وما زال جزءاً رئيساً من حياتنا منذ إقامة الدولة وكذلك الفترة السابقة لها ) ..
وقد لازمت مسالة الحرب الاستيطان اليهودي منذ أن وطئت أقدام أول مهاجر يهودي ارض فلسطين وحتى يومنا هذا، وأصبح المجتمع الإسرائيلي يعيش في حالة حرب دائمة مع الدول العربية وضع قواعدها وأسسها العدوانية القادة والمفكرون الصهاينة الأوائل وأدت في مراحل لاحقة إلى ظهور ما سمي بموجة التمرد على (الموت بلا ثمن) ، حسب تعبيرات أدباء وشعراء إسرائيليون ، والذين راحوا يعبرون عن ردود فعل عنيفة تغلغلت بعمق داخل أوساط التجمع الاستعماري الاستيطاني وهزته من الداخل هزاً عنيفاً بسبب حالة الحرب التي لا تطاق وذهب بعضهم إلى القول بان احد أسباب الحرب هو لتحقيق أطماع هؤلاء القادة وكبريائهم وغرورهم غير مبالين بما تسببه من دمار وخراب وقتل لليهود ، وان ما سمي بأدب الاحتجاج لا يخرج عن هذه القاعدة ، وان المرء يقرأ كلمات الاحتجاج صارخة لكنه يشم من خلالها رائحة الدم والحزن والقلق .. حتى أن الكثير من الأدباء والشعراء الإسرائيليين أصيبوا في مراحل من حياتهم المشحونة بالتوتر واليأس والاستنفار والتأهب الدائمين ورأوا أن مثل هذه الظروف إذا استمرت فليس بعيداً اليوم الذي يصلون فيه إلى الحالة التي يكون فيها لكل شاب ثلاث بنات ، حسب تعبيرهم ، وبالرغم من أن هذه الحرب كانت تقطعها من حين لآخر فترات من التوقف أو الهدنة أو الاتفاقيات، إلا أن هذا لم يؤدِ إلى جعل هذا المجتمع يعيش حالة من السلام حتى لو لم يكن هناك تهديد جدي للأمن الإسرائيلي لان الشعار الذي يرفعه قادة إسرائيل والحركة الصهيونية هو ( من يتقدم لقتلك اسبق أنت واقتله ) ، على هذا الأساس نجد إسرائيل بين حرب وأخرى تستعد لخوض حرب جديدة حتى أصبحت الحرب بمثابة المحور الزمني الذي يتحرك الإسرائيليون وفقه في كل مجالات حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ، وان التاريخ الأدبي والاقتصادي والاجتماعي يتم تقسيمه وفقا للحروب وتواريخ نشوبها، وهذه الحروب هي الخطوط الحمراء القوية التي ينتهي عندها جيل ليبدأ بها جيل آخر وعصر جديد، فأحد المشاهد الأولى التي يذكرها الطفل اليهودي هو مشهد أبيه الذاهب إلى الحرب، هذه الحرب ترافقه حتى عندما لا يكون لها ذكر في الأخبار، ففي سن صغيرة نسبيا يفكر الفتى اليهودي في الدور العسكري الذي سيؤديه والخدمة العسكرية التي سيقضيها والجبهة التي سيعمل فيها والمستوطنة الحدودية التي سيخدم فيها ..
وحتى بعد الانتهاء من الخدمة العسكرية يظل الجيش والحرب كامنين في الوعي الذاتي لهذا الفتى أو كاحتمال قريب لان الخدمة في الاحتياط الإسرائيلي أمر مفروض يذكره بالواقع الثابت المتمثل بعسكرة المجتمع الإسرائيلي .. يقول المفكر الإسرائيلي ( امنون روبنشتاين ) في تفسيره لهذه الظاهرة: ) لقـد تربت فـي دولة اليهود أجيال أصبحت الحرب جزءا من حياتها ) ..
وأساس فلسفة الحرب عند اليهود يرتبط بالمعايير الصهيونية المعتمدة على العنصرية والشوفينية والنظرة الذاتية الفوقية، وهي المعايير التي خلقت المجال الخصب لاستنبات العقدة السادية بمساعدة مجمل معطيات استمدت من البيئة والتعاليم التوراتية بعيدا عن المنطق الموضوعي والنشاطات العقلية، فكانت العاطفة الدينية أو ( قومية الدين ) الإطار الذي لفّ اليهود ووحدهم ليخلق منهم وحدة فكرية مصطنعة تتبنى نفس المنطلقات والأهداف رغم الفوارق الاجتماعية التي خلقتها ظروف تاريخية وتطورات وأحداث كثيرة ، هذا إذا افترضنا جدلا إن اليهود من أصل واحد، أما إذا كان العكس، وهو الصحيح، فاليهود ليسوا سوى أفراد من شعوب دانت باليهودية فهم ألمان وروس وإنكليز وفرنسيون... الخ مثلهم كالمسيحيين والمسلمين الذين لا نستطيع القول بأنهم يشكلون قومية واحدة ..
هذا يؤكد أن البناء الصهيوني ضعيف في أساسه ، لا يعرف العمق ، وسطحي ساذج يعتمد على المغالطة والرياء والتلفيق التاريخي والتزوير، ولتغطية هذه الثغرات وتمريرها على العالم أسست الصهيونية كيانها على التشبع بالروح العسكرية بكل معانيها، فلم يعرف التاريخ القديم والحديث دولة يكون اقتصادها وسياستها ومؤسساتها الاجتماعية في خدمة التوجه العسكري إطلاقا مثل إسرائيل التي توظف كل طاقاتها وأجهزتها لخدمة جيشها وليس العكس، ففقد الإنسان ميزاته البشرية وأصبح آلة بيد الجيش وعكس هذا الإنسان فكره وثقافته ليصبح فكرا للآلة لعسكرية ذاتها ، من هنا أصبح الأدب العبري أيضا أدبا مجندا عسكريا يحكي كل ما هو عسكري، مباشرة أو تلميحا، خاصة بعد الانتصارات التي يحققها الجيش الإسرائيلي في كل مرحلة أو صفحة من عملياته العدوانية ..
خلاصة الأمر أن الحرب والعدوان كانا وما زالا بالنسبة لفلسفة الحرب والفكر الصهيوني حقيقة وجودية أو (كابوساً وجودياً لا مفر منه) حسب بعض الساسة والمفكرين اليهود ولذلك تحول المجتمع في إسرائيل بفعل هذا الكابوس إلى ثكنة عسكرية تغذى فيها الأفكار العسكرية وفي مقدمتها النزعة العدوانية والحربية وفي جو مشبع بالحقد والكراهية لكل ما هو عربي وفي إطار من المفاهيم البراقة كالأمن والدفاع والشعارات المضللة كالتمرد على الحرب لكنها تخدم هدفاً مركزياً يمثل الحلم الذي يسعى اليهود لتحقيقه بدعم مطلق من الولايات المتحدة والصهيونية العالمية والمتمثل (بإسرائيل الكبرى) ولاحقا (إسرائيل العظمى) والتحكم في المنطقة من خلال مشروع الشرق الأوسط الكبير ، وباستخدام مختلف الوسائل والأساليب كالعنف والتضليل والتهديد وزرع الخلافات بين العرب والفلسطينيين والحرب وطرح مشاريع التسوية على حساب الحق الفلسطيني والعربي والتعاون العسكري الإقليمي وإقامة العلاقات الاقتصادية والثقافية ... الخ
عنصرية الأدب العبري
تشكل النزعة العنصرية إحدى المكونات الأساسية في الإيديولوجية الصهيونية ، بحيث أصبحت محاربة اندماج اليهود في المجتمعات التي يعيشون فيها من صلب عمل الحركة الصهيونية ورحبت بكل ما من شانه عزل اليهود عن الآخرين .. ولقد اتخذت الصهيونية من المقولة التوراتية الخرافية ( شعب الله المختار ) أساسا أيديولوجيا للتضليل ، باعتبارها احد المفاهيم الرئيسة في الديانة اليهودية ، والتي شكلت أداة بيد الصهيونية لربط اليهود بعضهم ببعض من ناحية ، وتحديد علاقتهم بالآخرين من ناحية ثانية .. ولقد ترتبت على هذه المقولة التوراتية مقولات صهيونية عنصرية عديدة كالتفوق اليهودي ، والتمايز ورفض الاندماج مع الآخرين ، إضافة إلى مسالة ( اضطهاد اليهود ) أو ما تدعيه الصهيونية (معادة السامية ) بحيث جعلت من اليهود الجنس السامي الوحيد ، الأمر الذي دأبت أجهزة الدعاية الصهيونية المختلفة وعلى مدى مراحل التاريخ المختلفة على أشاعته وتوظيفه لصالح أهدافها الإستراتيجية ، ليشكل بعد ذلك احد مبرراتها لممارسة العنف والانتقام والحرب ..
وقد استمد الفكر اليهودي الصهيوني فلسفته من هذه النزعة العنصرية وترجمها فكريا وأدبيا من خلال مجموعة من المفاهيم الدينية التي فسرت تفسيرا عنصريا قوميا، ومن أهم تلك المفاهيم خصوصية الإله وخصوصية العهد والاختيار الإلهي، وخصوصية الخلاص الإلهي ..
وقد أدت الترجمة العنصرية للمفاهيم الدينية إلى تحويل اليهودية إلى ديانة قومية خاصة والى تكوين صورة سلبية للآخر غير اليهودي تصل في قمتها إلى التعبير عن الرغبة في دماره وإبادته لان الخلاص الخاص الذي يحققه الرب لجماعته الخاصة يقابله دمار شامل لأعداء الرب ويمثل هؤلاء الأعداء بقية البشرية، فالبشر ينقسمون إلى يهود وغير يهود، إلى أهل عهد مع الرب وبقية البشر ليسوا من أهل العهد، إلى مختارين وغير مختارين، وفي النهاية إلى مخلصين وغير مخلصين أو هالكين ..
وبذا تكون الصهيونية العالمية قد استخدمت النظريات العرقية الغربية لتبرير نقل اليهود المنبوذين من أوربا إلى فلسطين وتبرير إبادة سكانها الأصليين، وقد وضعت أوربا اليهود والغجر في أدنى السلم العرقي عن أوربا، وبالنسبة للشعوب غير الأوربية فقد اعتبرتهم النظرية الغربية متخلفين حضاريا وعرقيا، واختلقت ما سمي بعبء الرجل الأبيض والذي يفرض عليه غزو الشعوب الأخرى لإدخالها في الحضارة، وهكذا اخذ الفكر اليهودي الصهيوني بهذه النظرية العنصرية وطبقها في طرح برامج التعامل مع العرب، وبرر غزو فلسطين وطرد العرب منها أو إبادتهم بنفس النظرية التبريرية الاستعمارية، وتكونت الرؤية اليهودية ( ببعديها الصهيوني والإسرائيلي ) للعربي الفلسطيني وللعربي عموما من عنصرين:
الأول: يعتبر العربي عضوا في الشعوب الشرقية الملونة المتخلفة ..
الثاني: يرى في العربي ممثلا للاغيار، ووفق هذه الرؤية، فان العربي شخصية متخلفة يجب نقلها إلى المدنية والحضارة على يد الصهيونية التي ترى اليهودي عضوا في الحضارة الغربية منتميا إلى الجنس الأبيض وموضع القداسة، وقد عبرت الكتابات الأدبية العبرية والمقالات السياسية الحديثة والمعاصرة عن هذه النظرية الصهيونية ورؤيتها للعربي المتخلف كمقابل لليهودي الأبيض ، ونجد مثل هذه التعبيرات في كتابات موسى هس وثيودور هرتزل وحاييم وايزمان وجابوتنسكي ودافيد بن غوريون وغيرهم ..
وبموجب هذه الفلسفة كان أمام إسرائيل، أن تختار بين الاستعمار الاستيطاني كهوية وتصبح دولة عنصرية رسمية يقوم نظامها على التمييز العنصري أو التخلص من الآلية والروح الاستعمارية والاستيطانية، ويشير التوجيه الإسرائيلي الحالي إلى تأكيد وضع الدولة العنصرية بشكل رسمي من خلال سيطرة اليمين اليهودي المتطرف، الذي تبنى الأيديولوجية العنصرية الموجهة ضد الفلسطينيين والعرب وتنمية العقيدة العنصرية النظامية من خلال تطوير نظرية لا سامية العرب وإسقاط اللا سامية الأوربية على العرب .. وفي سياق دراستنا هذه سنطلع على نماذج أدبية تبنت هذه المبادئ الصهيونية وروجت لها في النثر والشعر والمقالة السياسية ..
التمرد والاحتجاج في الأدب العبري
التمرد والاحتجاج ليست مسالة جديدة في التجمع اليهودي الصهيوني داخل فلسطين المحتلة ، فهي قديمة وتعود على وجه التقريب لمرحلة الهجرات اليهودية الاستيطانية الاحلالية لفلسطين في القرنين التاسع عشر والعشرين خاصة ، فهناك يعيش اليوم في إسرائيل ، عدا الفلسطينيين العرب ، كتل هجينية من البشر المنحدرين من بلدان كثيرة وأصول مختلفة عن بعضها ثقافيا وفكريا ولا يربطهم أي رابط تاريخي أو قومي أو معنوي سوى الدين ، حتى أن الكثيرين منهم
( وخاصة اليهود الغربيين ) لا يمتون بأي صلة لبني إسرائيل الذين ورد ذكرهم في القران الكريم والذين تعود أصولهم إلى نبي الله إبراهيم عليه السلام (ولنا حديث عن هذا الموضوع في دراسة لاحقة أن شاء الله ) ، ويمكن تقسيم هذه المجموعات اليهودية إلى ثلاث : السفارديم، وهم اليهود الشرقيون الذين هاجروا إلى إسرائيل من بلاد آسيا وأفريقيا وأساسا من الأقطار العربية، والأشكناز، وهم اليهود الذين هاجروا من الأميركيتين والدول الأوروبية وأستراليا وجنوب أفريقيا واليهود الروس ..
ومن هذه الكتل نشأت إسرائيل كدولة أوروبية ينتمي إليها مجتمع أوروبي عصري يختلف عن المجتمعات الشرقية، وقد أدت هذه السياسة إلى استعلاء وسيطرة المجموعة الأوروبية، وتهميش المجموعات الشرقية ، التي لم يكن لها تجربة ذات معنى مع الكارثة التي حلت باليهود الأشكناز في أوروبا، حتى أصبح معظمها أكثر عداء للعرب الفلسطينيين، ويرد ذلك إلى موقعهم الاجتماعي المتدني في المجتمع الإسرائيلي وموقعــهم السياسي مع اليـــمين الإسرائيلي المتطرف .. فضلا عن ذلك فقد جعل الصراع العربي الإسرائيلي العروبة في إسرائيل هي الآخر، وقد انعكس هذا أيضا على اليهود الشرقيين الذين كانت ثقافتهم الأصلية متماهية مع العالم العربي (الآخر)، فظل المجتمع الشرقي بأكثريته على هامش المجتمع الإسرائيلي وهدفا للاستغلال الاقتصادي والتمييز الاجتماعي والتلاعب السياسي والثقافي من قبل النخبة الإسرائيلية الغربية ..
وهكذا افرز التمييز والعنصرية والتفرقة في كل مناحي الحياة بين صفوف المجموعات اليهودية منذ هجرتهم وحتى الوقت الحاضر ، حالة من التمرد والاحتجاج التي تصاعدت بمرور الزمن، ووصلت إلى مراحل خطيرة باتت تهدد التجمع الصهيوني برمته ..
ثم جاءت الحروب الإسرائيلية وعمليات العدوان المستمرة ضد الفلسطينيين والعرب والمقاومة الباسلة للشعب الفلسطيني والخسائر الكبيرة التي يتكبدها المعتدون نتيجة عدوانهم المستمر ، لتلقي بظلالها أيضا على الأدب العبري فراحت موجات التمرد والاحتجاج ونغماته تتصاعد بين الحين والآخر وتعدّت اليهود الشرقيين إلى كل المجموعات اليهودية في إسرائيل ، لان خطرها أصبح شاملا ولا يفرق بين يهودي غربي أو شرقي ..
وكمثال لهذه الحالة ، ونعني بها التمرد والاحتجاج ، هو صعود حزب شاس في التسعينيات من القرن العشرين، فهذا الحزب ليس حزبا سياسيا فحسب، ولكنه أيضا إطار ثقافي تقليدي يعبر عن الشعور بالاغتراب، والغضب والاحتجاج على أجهزة الدولة الإسرائيلية التي تخلت عنهم، ويشارك في الوقت نفسه في استغلال الجمهور الشرقي والتهويل السياسي والثقافي، فهو تعبير حقيقي عن الثقافة اليهودية الشرقية وفي الوقت نفسه وكيل سياسي وأيديولوجي ..
من هنا يمكن القول أن ظهور أدب التمرد والاحتجاج في إسرائيل ، ورفض بعض الأدباء اليهود تسييس الأدب وتجنيده ،هو بمثابة الاحتجاج على الحكومة ومؤسساتها لأنها تحاول فرض أملاءات سياسية على كتاباتهم الأدبية والفكرية ، وليس رفضا للصهيونية العنصرية وممارساتها العدوانية أو رفضا لوجود الكيان الإسرائيلي الغاصب ومحاولات توسعه واحتلال ارض الغير بالقوة وطرد أهلها ، أي ليس هناك أدبا احتجاجيا إنسانيا بالمعنى المعروف لهذا الأدب ، وهذا التصور الخاطئ وقع فيه كتاب وباحثون عرب مع شديد الأسف ..
وكان الأديب العبري ، بعد حرب حزيران 1967 قد ذاب في الآلة العسكرية ليصبح جزءاً منها وخلع الكثير من الأدباء والشعراء (أفكار السلام) و ( مسوح الرهبان ) والتناقض ولبسوا أردية القسوة والشدة والعنف وألغوا كلمات الرحمة والشفقة وبدأوا ينغمسون بكل أحاسيسهم في خضم القتل إلى درجة أصبح سفك الدم العربي متعة بالنسبة إليهم ، وأصبحت الأهداف العنصرية العرقية تجاه العرب واضحة في كل عمل أدبي صهيوني وفي ( نفس كل إسرائيلي لا يرى أي موجب لاحترام العربي أو تقديس حقوقه) حسب تعبير الروائي (عاموس عوز) الذي يدعي بأن الإنسان العربي يشكل تهديداً مباشراً لإسرائيل انطلاقاً من أفكار (بدائية) وبلا (سبب) أو (منطق) وأن من الضروري أن يستعد اليهود لدحر العرب في عقر دارهم بصفتهم (أي اليهود) أمة متحضرة تصارع أمة (متخلفة) وذلك كما جاء في روايته (في مكان ما) ..
وعلى غرار هذا الشعور لدى (عوز) نجد هناك قواسم مشتركة متشابهة للكثير من الأدباء والكتاب والشعراء العبريين في إسرائيل وخارجها ، الذين يرون في إبادة العرب مسألة أساسية لدعم المشروع الصهيوني وفق تعبير فوق ركام المجازر والجثث البشرية .. والأبيات الآتية تمثل نموذجاً من الشعر العبري ذي النزعة الصهيونية العدوانية المتطرفة الذي ظهر بعد احتلال جنوب لبنان عام 1982: ( أطردوا كل الخونة / من البلاد اليهودية / لا نريد هنا / إلا كل صهيوني حقيقي / يصرخ أمام الملأ / يهوذا والسامرة لنا / وانتم سكان يهوذا والسامرة /
اجلسوا بصمت بهدوء / وقولوا شكراً / لأنكم لم ترحلوا بعد / إلى ما وراء البحار ) ..
وتدعي الشاعرة العبرية (نعمي شيمر) أن الدبابات لن تكون أبداً رمزاً لحمل البرتقال طالما أنها لا تزال المركبة الجهنمية التي تحمل الموت والخراب وتزرعه في العالم : ( ربما سنبحر غداً في سفن / من ساحل ايلات حتى ساحل العاج / وعلى المدمرات القديمة / سيشحن البرتقال) ..
ومن نماذج نزعة الحرب والتطرف العرقي ما تجسده هذه الأبيات للجنرال (رافائيل ايتان) وهو يتحدث عن الحرب العراقية الإيرانية : ( ماذا علينا !! / ليذبحوا بعضهم / ليذبح احدهم أخاه /
لماذا نتدخل نحن ؟ ) .. يقول الأديب الإسرائيلي (حانوخ برتوف) أيضا : (حينما جاء إلى هنا أوائل الطليعيين ذوي الأفكار الراقية وأقاموا المجتمع الكيبوتسي اعتقد الجميع أنهم سينقلون بشرى المساواة الحقيقية إلى العالم بالبنطلونات والقمصان الزرقاء .. ولكن ماذا حدث؟ لقد تحولنا إلى مقاتلين وليس لنا خيار في ذلك) ..
لكن موقف الأديب العبري اهتز واختلف كثيرا بعد حرب تشرين 1973 والهزائم العسكرية والأمنية التي تعرضت لها إسرائيل خلال العقود الأخيرة ، فمثلما كانت هذه الحرب شديدة الوطأة على الحكومة الإسرائيلية وعلى جيشها الذي أصيب بصدمة وخسارة لم يألفها من قبل ، كانت قاسية وشديدة أيضا على المجموعات اليهودية ، فتجسدت نغمة الاحتجاج بشكل اكبر وعمّت الحياة الثقافية العبرية ظاهرة نقض معظم ما كان متصورا عن القدرة العسكرية الإسرائيلية ، فكان أن وضعت الادعاءات الإسرائيلية في قفص الاتهام ، إن جاز التعبير، وراحت النتاجات العبرية الأدبية تعبر عن سخطها إزاء العجز الإسرائيلي في تحقيق انتصارات كالتي اعتاد عليها الجيش الإسرائيلي وظهرت احتجاجات صارخة تدعو إلى ما يمكن التعبير عنه : بان يسير الأديب أمام الجندي لا كما سار الجندي أمام الأديب في حرب 1967، وحسب تصور الباحث فان الأدب العبري حاول من خلال نغمة الاحتجاج هذه تحقيق أمرين أساسيين :
الأول: كشف مكامن الضعف في الفكر القيادي العسكري وفي القدرات العسكرية والتقنية والإستراتيجية على حد سواء مع إيجاد التبريرات والمسوغات لهذا الضعف والتقليل من تأثيراته على مجمل الحياة المدنية والعسكرية الإسرائيلية ..
الثاني: تزعم هذا الأدب لحملة شد الأزر بحيث يصبح مطلوبا من الأديب العبري الاستجابة الواعية لمتطلبات تجاوز مثل هذه المواقف حتى يكون بالإمكان مواصلة تنفيذ المشروع الصهيوني كما خطط له منذ البداية، وهنا نجد الأديبة العبرية عنات فاينبرغ تبرر هذا الأمر بقولها :
(للنزاع العربي الإسرائيلي تجليات عديدة في الأدب الإسرائيلي والحروب الكثيرة ونتائجها لا شك أنها تؤثر، في الظاهر أو في الباطن، على حضور ظواهر جديدة في الأدب ، في سنوات السبعينيات ، التي وقعت فيها حرب 1973 وصفت القصة ذلك الإسرائيلي المرهق من الحروب وأفول المجتمع ألطلائعي وتفككه الاشتراكي والانحلال والترف المتفشيين وسط أبناء النخبة الطلائعية، صورة هذا الواقع تنكشف لدى أدباء أكثر جدة مثل يتسحاق بن نير في مجموعته القصصية غروب فردي (1976) ومثل يعقوب شبتاي في روايته ذكرى الأشياء) ..
ومع تصاعد شدة الصدمة التي تلقاها التجمع اليهودي في فلسطين وخارجها وأدراك المستوطنين اليهود فداحة الثمن الذي دفعوه ، بعد كل هزيمة وانكسار عسكري ( حرب الاستنزاف أو الحرب المصرية الإسرائيلية على الجبهة المصرية أو كما يسميها الإسرائيليون حرب الألف يوم والتي بدأت بعد نكسة حزيران وبالتحديد في الأول من تموز عام 1967 وحتى عام 1970 ــ معركة الكرامة عام 1968 ـــ عمليات المقاومة الفلسطينية ـــ حرب تشرين 1973 ـــ عمليات القصف الصاروخي العراقي للأهداف الإسرائيلية عام 1991 ـــ قصف المقاومة اللبنانية عام 2006 ــ بسالة أبطال الانتفاضات الفلسطينية و صمود أهلنا في غزة وعموم فلسطين وغيرها ) فقدَ الفكر العسكري الإسرائيلي خيار النصر الحاسم مثلما فقد مقاتلوه خيار القتل ، وتسبب هذا في نشوء نوع من الصراع داخل البنية الفكرية للمستوطن اليهودي، بين الجبروت والضعف على مواجهة الأحداث وبين الحياة والموت، فانعكس ذلك أيضا على الأدب العبري الذي أصبح متميزا بالذاتية والتذمر والندب واتـسم غالبيته بذكر الموت والقتل والخشية من تصدع ( الهيكل الثالث ) ، مما لم نر مثله في أدب ما قبل هذه المرحلة ، وقد عبرت الروائية ( يائيل دايان) عن هذا الصراع في روايتها ( שני בנים למות ) ( ولدان للموت ) .. فهذه الرواية عبارة عن نسيج بطولات موهومة ( للسوبرمان ) اليهودي واجترار لحوادث سابقة واجهتها عائلة بطلها ( دانيال كالنسكي ) على يد النازية، وبعد هجرته إلى فلسطين تم تنشئته وتربيته لخدمة المشروع الصهيوني في مستوطنة جلعاد واخذ يطبق دروس القتل التي تلقاها ضد العرب، كان هذا قبل أن يواجه الموت، ولكن ما أن واجه الموت، أي موت صديقه وحبيبته، أصبح ذلك أمرا مخيفا ومرعبا بالنسبة له وانعكس هذ مباشرة على سلوكه، وظهر الصراع الذي عانته كاتبة مثل (يائيل دايان ) كدليل على المعاناة واحتدام التناقضات ، وقد عبرت هذه الكاتبة أيضا عن الرؤية نفسها في روايتيها ( الغبار ) و ( طوبى للخائفين ) ..
نصوص أدبية عبرية تطبيقية
كان من ابرز تأثيرات الحرب وإفرازاتها القاسية على المجتمع اليهودي هو أن اللاإرادية والتردد أصبحا محيطا يتخبط فيه أبناء الجيل اليهودي الذين عاشوا الحرب، فلا هم عاقدون العزم على الخروج من الدوامة بالعودة إلى ديارهم الأصلية ولا هم مستسلمون للأوهام التي منّتهم بها الحركة الصهيونية، فأصبحت حياتهم المهددة بالموت جحيما لا يطاق، لا سيما أن الشخصية اليهودية ببعديها الصهيوني والإسرائيلي تحملت من الخصائص السلوكية التي يطغى عليها طابع الخوف والقلق وحب الحياة أكثر من أية شخصية أخرى في العالم ..
ولقد جسدت هذه الانعكاسات السلبية ما حاول الفكر اليهودي الصهيوني كتمانه فترة طويلة ، لكن صدمة مرحلة الحرب الخاسرة و الهزائم العسكرية والسياسية والتمييز العنصري والاجتماعي ، أفقدت الأدب العبري توازنه فترة من الزمن ولم تعد تنفع كل أنواع العلاج الفكري والأدبي كالحماسة والحبكة الروائية والفلسفة التي كان يتميز بها أدب مرحلة الخمسينات والستينات ، وبذلك اختلطت الأمور على المستوطن اليهودي وفقد وضوح الرؤيا والقدرة على التمييز عندما سلم حياته وموته بيد المؤسسة العسكرية الإسرائيلية ، الأمر الذي جعله يواجه مثل هذه الأحداث بأعصاب مشدودة شاعرا بحالات القهر والإحباط، مع أنه وضع كل أدواته في سلة هذه المؤسسة التي فشلت في منحه الأمن والاستقرار والهدوء مما فاقم حالة الانطواء أو الانحراف السلوكي ، وعبر عن هذه الحالة الشاعر ( جبرائيل اليشع ) :
( سائر إلى الاغتراب / متسلح بالاحتمال والقدرة / أراقب باهتمام وحرارة / في عالم جبان/... أتناول المخدرات مع مجهول / فاشعر../ أن الزمان يداعبنا / فلنتحد مع الغريب / لننسى../ قضايانا الكبيرة / والحب الحزين المغنى / ولتضع أيامنا وليالينا / بهذا الكون ) ..
وهكذا سقط المنطق العسكري اليهودي دفعة واحدة منذ أول اختبار حقيقي للمواجهة المسلحة الفاشلة وبات توازن المستوطن اليهودي الانفعالي مضطربا ، وتجسد بشكل هوس ووساوس أكدت عجزه على التوافق مع الظروف المستجدة الناتجة عن صدمة فقدان الأمن والاستقرار إلى درجة توحي أن كل بيت يهودي غدا يحتوي على حائط مبكى ، حسب تعبير بعض الأدباء الإسرائيليين ، ذلك أن الهموم والوساوس والأوهام والإحباط تركت بصماتٍ واضحة على النتاجات الأدبية بعد إدراك اليهودي بُعد المسافة بين مستوى الطموح والإمكانات، وجاء في قصيدة تحمل عنوان ( استعدادات ) للشاعر ( يوتام رؤوبيني) :
( نحن ضائعون الآن/ من سيناء.. من الكثبان/ والمصلحة تقتضي الاستعدادات/ بينما أفتش عن الجمال والوداد/ وضروب الحب/ فهل أنا بين ورد ليلكي/ أم أشواك/ ما هذا الورد وما ذاك الشوك/ والمسافر سيواجه الموت/ والمعركة قريبة/ وواضحة ) ..
وفي قصيدة حربية للشاعر ( أ. رؤوبيني ) بعنوان ( חמש ושלושים ) ( خمسة وثلاثون ) يعبر فيها عن معاناة الصدمة من الحرب فيقول: ( הם הלכו ואינם/ בלילה, ברגל, בלי שביל ובלי דרך/ זנקו אל התוהו ובוהו ההוא/ תהומות אפלות, נקיקים גאיות/ הרים, עמקים, וצוקים אדירים/ את תוהו קדמון בעולם קדומים/ בלב הררי יהודה/ חמשה ושלושים/ כולם צעירים, כולם בחורים ) ) ..
( هم ذهبوا ولم يعودوا / ليلا، مشيا على الأقدام دون طريق ولا سبيل / اندفعوا إلى الفراغ والعدم / أعماق مظلمة، ممرات ضيقة / جبال، سهول، ومنحدرات شديدة / إلى فراغ قديم في عالم القدماء / في قلب جبال يهودا، خمسة وثلاثون / كلهم صغارا، كلهم شباب ) ..
أما الشاعر العبري ( شلومو بن روبين ) فيعبر في قصيدته ( صفحة 95 ) عن مرارة الحرب ويدعي أن اليهود ( طلاب سلام ) فيقول :
( בכל יום אשלח בריכות/ לאויבי והם מי מריבה הפוכה/ ואטע ערוגות הדסים ולצים/ הפכום לקוצים וחרול ערוכים/ אהה לרננים סבבום יענים ) )
( في كل يوم ابعث بتحايا مباركة / إلى أعدائي، وهم يغيرون مجرى العداء / وازرع مزاهر شجيرات الأس والحمقى / يجعلونها أشواكا وقراصا مهيأة / ... آه من الافتراءات حولها الإجابات) ..
وعلى ضوء انعكاسات الحرب على الأدب العبري المعاصر ، يمكن تفهم مغزى ما جاء على لسان احد كبار الأدباء الإسرائيليين المعاصرين ، هو (موشيه شامير ) حيث قال : ( لقد تجاوز إجرامنا إجرام روسيا في الشيشان وافغانستان وإجرام أمريكا في فيتنام وإجرام صربيا في البوسنة ) ، وإسرائيل ، التي تستقي فلسفتها الحربية من الفكر الديني اليهودي والفكر الصهيوني العنصري، هي في نظر شامير ، المكان الوحيد في العالم الذي تعمل فيه فرق قتل قانونية تجاز فيها سياسة القتل ، وينهي شامير كلامه متسائلا: ( ما الذي نكرهه عند النازيين الألمان؟ هل هو عنصريتهم؟ إن عنصريتنا ليست اقل انتشارا أو أذى ) ..
ولو عدنا إلى التأثيرات التي أحدثتها الحروب والانتفاضات الفلسطينية في الشخصية اليهودية لوجدنا مفردات كثيرة تتردد على لسان المستوطن اليهودي مثل: الهروب، القبور، القتل، الدم ، المعارك وانعدام الأمن ... فهذه المفردات تفسر حالة الإحباط والتمرد والاحتجاج والمعاناة اليهودية وشيوعها في الأدب العبري المعاصر ، على الرغم من محاولات البعض من الأدباء اليهود إظهار حالة من عدم اليأس ونوع من التماسك على حد سواء مع مواصلة البعض الآخر منهم استخدام تعبيرات ومفردات تعبر عن الغرور والعجرفة والتضليل التي مازال الأدب العبري المجند يضطلع بها منذ قيام الكيان الإسرائيلي الغاصب وحتى الوقت الحاضر ، وهذا يعكس حالة التناقض والواقع المعاش والحالة النفسية غير السوية ليس فقط بالنسبة للأدباء والكتاب العبريين بل للمستوطنين اليهود بشكل عام ، فالأديب صورة مجتمعه وموضوعاته هي تعبيرات وأحاسيس ذاتية وانعكاسات تعبر عن وضع هذا المجتمع الذي مازال يعيش حالة القلق والتناقض والتمرد بسبب الظروف التي اشرنا إليها سابقا ، والشاعر أو الأديب، الذي لم يذق طعم الموت في ساحات القتال، يتلمس آثاره بالحزن على مقتل قريب أو صديق، فهذا الشاعر
( دانيال نحماني) ، الذي لم يتعرض إلى صدمة لا من قريب ولا من بعيد ، يقول في قصيدة يعبر فيها عن هذه الحالة الشائعة :
( في مكان ما من العالم / صمت كصمت القبور/ ملفع بالضباب الحزين/ هناك واحد من القبور لا ينسى / يقف والد على قبر ولده / عاصرا ألامه بارتعاد قائلا / لابنته.../ ابنتي: اسمعي رجاء اسمعيني / حكايتي عجيبة.. حكاية أخيك / لهب ولهيب كانت بالمرصاد / قصف مدافع وقذائف / كشفت قلاعهم / اقترب المهاجمون واقتادوهم/ وقتلوهم ) ..
وأدب الحرب العبري يعترف بان الحرب لن تحل ( القضية اليهودية ) بل بالانفتاح والذوبان اليهودي في الشعوب التي يعيشون فيها، فالأحداث والحروب التي مرت منذ إنشاء إسرائيل أثبتت عدم جدوى هذه الأساليب في حل ( قضيتهم ) بل زادتها تعقيدا، ويرى بعض الأدباء اليهود أن أوطانهم التي كانوا يعيشون فيها ، تفتح اذرعها لهم شريطة تخليهم عن مفاهيمهم وأفكارهم العنصرية، وبغير هذا السلوك سيظل الرعب والخوف مسيطرين على مشاعر المستوطنين في فلسطين .. ومن هؤلاء الأدباء الذين تبنوا هذه الدعوة هو الشاعر العبري
( اورتسيون برتنا ) حيث يقول في قصيدة بعنوان ( لقاء على الرصيف ) :
( على رصيف التقينا / ارض متحجرة / في غابة / يحيط بالنعش ظلامها / كنهر بعد المعركة/ يسدل الستار على زمن مضى / وتعود المياه / إلى التجاويف / فوق السحاب / الجبال تعلوها الأحزان والأخطاء / دعنا نعبر نحو السرور/ ليكن بعد مهب الريح حشدنا / والعيش والجحور/ مواصلة التعنت يعني / الغرق../ والسقوط / واللقاء ثانية / على الرصيف )..
وباستمرار حالة الحرب والسياسة العدوانية الإسرائيلية والتمييز الداخلي بين الجماعات اليهودية سيظل المستوطنون اليهود يشعرون بعقدهم السابقة وحالة الإحباط واليأس المتأصلة في نفوسهم وسيظل التمرد والاحتجاج يطبعان الجماعات اليهودية ولن تنفع كل الحلول التي تطرحها الحكومة الإسرائيلية بين الحين والآخر ..
تقول الشاعرة ( عليزا شنهار ) : ( المصائب تنساب عبر الحدود/ ببطء/ كقصيدة ملحمية/ ليس ضروريا/ إثارة نوازع الاحتلال/ الآن../ لماذا النزوات؟/ ندمر أنفسنا؟/ بلا اختيار/ الخوف فقط/ يعيدنا للماضي/ يا له من واقع ) ..
ومثل هذا الصوت يتكرر عند الكثير من الأدباء الإسرائيليين ، حتى أصبح ظاهرة شائعة في الأدب العبري ، ويمكن تقصي ملامحها في الشعر والقصة والرواية والمقالة وحتى السينما والمسرح وهناك نماذج أدبية كثيرة يمكن الإشارة إليها في هذا المجال ، لكننا سنكتفي بما أوردناه وسنأتي عليه من نصوص مختارة ..
فالكاتبة ( رفقا زيو ) تضيف لنا سمة أخرى في قصتها ( إجازة في القدس )، حيث تحاول الخروج من المنجرف الخطر الذي وضعها الفكر اليهودي الصهيوني على حافته، فخروجها لم يكن إلا ضمن ظروف معينة : الصهيونية أوقعتها في الإحباط وقادها عقلها للخروج بأبطالها من حومة الموت.. صحيح أنها لم ترحل بعد ، لكن التوجه الفكري الجديد يدلل على رغبة كامنة في نفسها للرحيل ، ويعبر عن هذه الرغبة حديث أبطال قصتها : ( .. يرغب بالسفر إلى لندن أو باريس، فإذا كان ذاك فانه من الحصافة بمكان، وما موضوع سفره سوى تبرير فقط، كما يبدو لي، لكن ينبغي تشجيعه فهذا برأيي نعمة... هذه نتيجة ) ، ثم توضح الكاتبة القلق والاضطراب اللذين يعاني منهما المستوطنون داخل إسرائيل: ( الليالي تتعقبني بالبكاء واجترار الآلام والحنين لرؤية الأم والأب ومشاهدة أفلام سينمائية إلا أن الحقيقة الواقعية تحول دون ذلك.. ) ، وحالة التوتر هذه التي انعكست على عدد من النتاجات الأدبية العبرية لا سبب لها سوى استمرار جو الحرب الذي يعيشه اليهودي وتصاعد العمليات الفدائية والمقاومة العربية فأصبح الأديب العبري، ككل المستوطنين ، يتآكل داخليا بحسرة وقهر واجترار آلالام.. فكيف يهدد بالموت وهو الذي اعتاد التهديد فقط ؟ لقد صدمته الحقيقة، وهو ما عبر عنه الشاعر العبري ( مئير ويزليتر ) في قصيدة له بعنوان ( المزبلة سنة 2000 )نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي قسمات وجوهكم / لا تبعث على الارتياح / أصواتكم لا تعطي الاطمئنان / اتفاقاتكم توجعني / انتم رجال جهالات / أعمالا وأحلاما/ يحكم الحزن خطواتكم / اندحروا لا عيش لي معكم ) ..
وفي قصيدة بعنوان ( صهيونية ) تعبر الشاعرة الإسرائيلية ( استر راب ) عن اعتزازها بكونها تحمل المبادئ الصهيونية العنصرية ، وهي تشبه نفسها ب( شمعة متقدة ) بين آلاف الشموع ، وتقصد اليهود الذين سلكوا منحنى الفلسفة الصهيونية المستمدة من الأساطير التوراتية ، فتقول :
( أنا صهيونية / شلت يميني أن نسيت هذا / أنا صهيونية / من آلاف الشموع المشتعلة / في الليالي / غائرة في جذوة التوراة / والحنين إلى الوطن ) ..
وفي هذا الإطار العنصري يعمل الشاعر ( حاييم نحمان بياليق ) في قصيدته ( حقا إن هذا عقاب الرب ) على انتقاد اليهود الذين يسمحون لأبنائهم بالاندماج مع الشعوب ( الرخيصة ) على حد تعبيره ، وان الرب إنما يقوم بمعاقبتهم لأنهم يخالفون أمره ، فيقول :
(حقا انه التأديب والعقاب العظيم / تكفرون بالرب / وتسكبون الدمع المقدس / وترسمون خطوط نور مخادع / أوحيتم إلى مرمر كريم / فيندمج في عقر الأحجار الرخيصة / لقمة سائغة بين أسنان الشرهين / وتدعونهم يأكلون أجسادكم الحية / صار أبناؤكم بنات / توسلوا إليكم وسط الخشب والحجارة / وفي آذانكم تدوي صرختكم / حقا إن هذا عقاب الرب ) ..
والشاعر (دان عومر) يصف في قصيدته (سن الثلاثين) مبلغ اليأس الذي آل إليه المجتمع الإسرائيلي فيقول : ( في سن الثلاثين / أنا كالبيت المهجور/ تصغر بين أحلامي رصاصات الحرب / وأسمال بالية / تجفف في داخلي قطرات الدم / دم عزتي / مشاعري مدافع عديمة الإرجاع / في سبطاناتها تنمو أشواك صفراء / تقصفني إلى الداخل ) ..
ودعا بعضهم في قصائده بالويل والثبور على قادتهم حيث نجد الشاعر العبري (مئير شيلاف) يقول في قصيدة له : ( ويل للمحاربين من على الكراسي / ولجنود الورق والقلم / وللراقدين للكمين في السرير الدافئ / ولممثلي الأهداف على المكاتب / وللصارخين إلى القتال المتدثرين بالعباءة / يا شعراء الـدم والعنصر / يا كالـحي الوجوه / فـي قبور عبثكم العميقة / يتمـدد موتاي )..
ومع التصاعد المطرد لنغمة التمرد والاحتجاج ، ظهر جيل آخر من الأدباء والشعراء الإسرائيليين راحوا يعبرون عما تطرحه فلسفة الحرب الصهيونية وعما تكنه للإنسانية من حقد وكره ونزعة عدوانية ، وفي هذا يقول الأديب (حانوخ برتوف) : ( إن التغيير هو معرفة القتل والمشكلة هي مشكلة وجود يهودي ولكي يستطيع الوجود توجب عليه القتل) ..
وفي أدب الطفل العبري نجد أن البناء الفني والفكري يكون أشد خطراً مما هو عليه في أدب الكبار ويمكن أن نرى المزيد من التطبيقات العملية للتوجهات الصهيونية حيث يتم التركيز على إدعاءات كاذبة وأفكار مضللة إطارها العام (وجود حق تاريخي لليهود في أرض فلسطين وأن العرب هو الذين تسببوا في غربتهم ألاف السنين وتصوير الأطفال اليهود بأنهم أطفال جبابرة عظماء لا يقهرون ويهزمون العرب الذين يريدون قتلهم من اجل المتعة فقط) .. يقول المفكر الصهيوني (أمنون روبنشتاين) : (لقد نما في الدولة جيل أصبحت الحرب جزءاً من حياته .. لقد آمن جيل 1948 أن حربه هي الأخيرة ولكنه اكتشف فيما بعد أن هذا كان وهماً) ..
والكتابات الأدبية الإسرائيلية التي تتعامل مع موضوعات الطفل الإسرائيلي هذه تعود بداياتها الأولى إلى فترة الخمسينات حين قام متطرف هو (ييغئال ماسيتيون) بإصدار كتاب خاص بالأطفال، أسماه (عصابة حصبمة) وهي عصابة سرية من الأطفال اليهود، تستطيع إلحاق الهزيمة بأعدائها بسهولة ويسر وذلك خلال مغامرات كثيرة تنتهي دائماً بنفس النتيجة .. بعد ذلك ظهر جيل آخر من الكتاب ساروا على نهج (ماسيتيون) في التأليف للأطفال منهم (أرنونة غادوت) وكتابها (فتيات تزوبتك) و(روفائيل ساهار) الذي نشر كتاباً أسماه (عملية في الاهرامات) .. أما أكثر الكتب رواجاً فهي كتب (إيدو ستير) وبطله (عوزيا عوز) و(أن ساريج) وبطله (داندين) .. وتدور هذه السلسلة من الكتب حول الطفل الإسرائيلي (عوزيا عوز) أو(القوي الشجاع) الذي لا يقهر ويسعى دائماً إلى تحقيق أهدافه .. ويتساءل الكاتب (هازي لابين) عن الكتب التي يفضل أن يقرأها لو كان طفلاً يعيش زمن الصراع مع العرب فإنه يرى أن من واجب الكتاب والأدباء العبريين الابتعاد عن كتابة القصص الجميلة التي تتحدث عن الفراشات والزهور وزيت الزيتون النقي لأن هذا سيوقعهم، حسب ادعائه، في كارثة هم في غنى عنها .. أما (أن ساريج) فيرى أن هدفه الرئيس من وراء هذه الكتب هو تغذية قرائه من الأطفال بحب (أرض إسرائيل) وتراثها وكره العرب .. وهو يسعى لان يكون الطفل اليهودي مثل بطل القصة تماماً .. وهكذا نجد أن معظم المختصين في أدب الطفل العبري يعملون على جعل أطفال المستعمرين اليهود يرددون هذه الأغنية التي وضعها لهم (لابين) والتي تقول كلماتها : ( سوف نهاجم الأعداء / خلال الظلام بكل قوة / لأنه لا يوجد لدينا لذة /غير لذة الجريمة ) .. وحين سئل (لابين) عن مثل هذه المؤلفات الحاقدة التي تغذي الشعور بالنقمة والحقد والجريمة لدى الأطفال نراه يحصر التبرير في الحرب التي يخوضها اليهود ضد (أعدائهم) وأن من حقهم مواجهتهم بقوة وبكل الأسلحة .. وفي قصيدة (المشكلة) نجد الشاعر (يعقوب تسيم) يخلق جواً مشحوناً بالرعب يسيطر على البيت الإسرائيلي ولا يوجد هناك من يحميه من شبح الرعب هذا ..
فالزوج الذي تجد الزوجة أمنها في حضنه مشغول في الخارج بحراسة الحدود والزوجة التي تجد الطفلة أمنها في حضنها خائفة ومذعورة .. وهنا تكتمل صورة (المشكلة) التي رسمها (تسيم) بنزعة صهيونية خبيثة بإلقاء اللوم على العرب المسئولين عن خلق جو الرعب هذا وفقدان الأمان الذي بدونه لا يمكن للطفلة أن تنام .. وهكذا في قصيدة حكاية ( لرافي دان ) هي الأخرى تتحدث عن القتل والرعب وأسطورة الحق اليهودي في فلسطين .. زئيف طفل يهودي عاش على ارض فلسطين (منذ آلاف السنين) ومات (منذ آلاف السنين) لا أحد يدري كيف مات: جوعاً أو تحت التعذيب أو برمح طائش .. ألخ .. والسبب هم العرب ..
هذا ما يريد أن يوحي به الأديب (رافي دان) كما أوحى بقدوم اليهودي في فلسطين .. ثم يأتي القصد وهو: أن اقتلوا .. اقتلوا .. فإذا أراد الأطفال ألا يموتوا مثل زئيف ، عليهم أن (يصوبوا بنادقهم تجاه الشرق) ، أي اتجاه العرب .. أما عن علاقة الأدب العبري بالتوراة فإننا نجد ما يسمى بالصهيونية الدينية قد جعلت من الحرب أساساً لوجودها ومرتكزاً للانطلاق نحو غاياتها ولذلك لا نفاجأ عندما يعبر الحاخام العسكري (موشيه جوران) عن تمسكه بمبادئ التضليل وتشويه التاريخ ويعلق (إن الحروب التي خاضتها إسرائيل هي في منزلة الحروب المقدسة ، وأن حرب 1948 هي لتحرير أرض إسرائيل وحرب 1956 هي لاستمرار الدولة وحرب 1967 هي لتحقيق نبوءات إسرائيل) ..
يتبع لاحقا ان شاءالله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق