الشاعرة ميسرة هاشم
إشكالية الجرأة
عربدة شفاه أم قصيدة موقف
بقلم/ حسين الساعدي/العراق
تقول الكاتبة الفرنسية"آني لوكليرك" (سيكون من الخسارة الفادحة أن تكتب النسوة بأسلوب الرجال ، فهذا يجعلنا عاجزين عن الإحاطة بمدى هذا العالم وتنويعه) .
في تاريخ الأدب قديماً وحديثاً ، شكل الأدب النسوي ظاهرة بارزة ، حيث تناولته الكثير من الدراسات ، سواء أكانت دراسات عربية أم غربية . مع تناول رموز هذا الأدب ، ويمكن أن نعزوا بروز هذه الظاهرة الى طبيعة الصراع الذي تخوضه المرأة في حياتها ، لتحرر نفسها من قيد الرقابة الأخلاقية ، وإنتاج ثقافة منفتحة ، تتسم بالجرأة في ظل مجتمع يسوده منهج التقاليد والعرف الاجتماعي ، الذي يرى أن أي نزعة أو دعوة تحررية تنادي بها المرأة مرادفة للرذيلة ، كذلك هناك مجموعة من العوامل النفسية والسياسية التي ساعدت في أنضاج الوعي الأنثوي عند المرأة ، والتجرد من الحياء وأسقاط الستر الأنثوي في عالم الأدب والشعر الذكوري من أجل أثبات الذات ، لتخرج عن صفة الأحتشام المرتبطة بطبيعتها الفطرية والسايكولوجية فـ(الأدبُ نار مقدّسة، لكنّها نارٌ لا تمتدّ لتُحرقَ سوى النّساء اللاّت تجرأن على فضّ بكارةِ النصّ بأقلامهنّ المتمرّدة، إن تحدثّن عن الجنس)الأدب النسوي:سقوط الجنس من الثالوث المحرم / عبير قاسمي .
ونموذج ذلك نراه في الأدب النسوي اليوناني ، الذي برزت فيه الشاعرة الإغريقية بيليتس ( 43 ق.م – 18م). والتي أشتهرت بأشعار الحب والجمـال والنظرة الجريئة التي أمتازت بها نصوصها الشعرية الفاضحة ، وهي القائلة في إحدى قصائدها (إذا كنت غانية فما الخطأ في ذلك ؟/ أليست هذه وظيفتي الأولى كامرأة / إن أمنا الطبيعة هي التي تقود تصرفاتنا) . أما في الأدب النسوي العربي، فتروي كتب الأدب أن (الأميرة الأندلسية "ولادةَ بنت المستكفي بالله"، كانت على موهبة شعرية نادرة ، قوية الإحساس بكيانها ، وكانت جريئة في القول والسلوك ، تجهر بمكنوناتها ولذاتها ، وتصور مغامراتها الليلية مع عشيقها أبن زيدون بأسلوب يحاكي أساليب الرجال)،(الذخيرة/لأبن بسام):
ترقَّبْ إذا جــنَّ الظَّلامُ زِيارتي
فإنّي رأيْتُ اللَّيلَ أكْتمَ للسِّــِّر
وبِي مِنك ما لو كان بالبَدْرِ ما بَدا وباللَّيل ما أدْجَى وبالنَّجمِ لم يَسْرِ
وطرز ثوبها الحريري على عاتقيه بيتين من شعر :
أنا واللهِ أصـــلحُ للمعـالي
وأمشي مشيتي وأتيهُ تيها
وأُمْكنُ عاشقي من صحنِ خدِّي
وأعطي قبلتي مَنْ يشتهيها
يقول الشاعر نزار قباني:(ليس مطلوباً من القصيدة ،أن تكون مهذبة ،ومؤدبة ،ومطيعة لأبويها،إن أعظم القصائد في تاريخ الأدب هي القصائد المشاكسة) .
قد تكون قصائد الشاعرة "ميسرة هاشم " ضمن هذا الوصف في مشاكستها الواقع الأجتماعي في نظرته للمرأة ،حين أستطاعت من خلال نصوصها الشعرية ، أن تؤسس لنفسها رؤية مميزة ، عبرت بها عن تجربتها الشعرية في تجاوز الممنوع وتناول قضايا تعد بنظر المجتمع من المحرمات . لقد أماطت اللثام عن المسكوت عنه ، وتجاوزت خطوط (التابو)* الحمر ، بكل جرأة في أول مجموعة شعرية لها حملة عنوان (عربدة شفاه) . الذي يعد ديوان أنثى وأنفعالاتها ، فهو يضم العالم الشعري الأنثوي للشاعرة "ميسرة" ، والذي خرقت به المساحة المحتكرة من الشعر الذكوري ، أحتوت نصوصه المفاجأة والدهشة والجرأة والأبتعاد عن الأسلوب التقليدي في تناول موضوعة الشعر النسوي . يقول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار :(الكتابة المبدعة إمكانية كل امرأة لأنه فعل أنوثة) .
لم يكن غرضي من هذه القراءة هو البحث في لغة أو شاعرية "ميسرة هاشم" أنما أترك ذلك للمعنيين من النقاد ، ولكن البحث في تكوينها الفسيولوجي والسايكولوجي كأمرأة قادرة على إيجاد بعد دلالي في نصوصها ، يتسم بعمق المضمون وجرأة القضية ، أن اللغة -أي لغة- مكون كوني ، الكل يتعاطاه سواء كان ذكراً ام أنثى ، فلا يمكن عنصرتها ، وأختزالها بجنس معين دون غيره ، فالمفردة ملك للجميع وليس ملكاً لأحد . كذلك الأدب عامة والشعر خاصة فضاء شاسع بلا حدود ، اللغة فيه هي ( الأنا الجمعي ،والأسلوب الشعري هو الأنا الفردي والعملية الأبداعية هي عملية تموضع الذات) ،قراءة في نص ، الناقد الأردني أيمن دراوشة . نحن نعلم جيداً أن الرجل مهما تجرأ وتجاوز حدود القيم الأخلاقية وجرأة التعبير ، لايتحفظ من أن يبوح بصوت عالي ،فهو في مأمن من اللوم ويتمتع بحصانة الواقع . إذن القضية عند "ميسرة الدليمي"هي(أزمة مساواة وأزمة هوية) ، من أجل أثبات الذات وفك قيود الواقع وتجاوز مكابح(التابو) ، فـ(لا ذكورة ولا أنوثة في الشعر) ، لماذا نعتبر جرأتها وصراحتها تجاوز على المحرمات ؟ بقدر ما هي نتاج ثقة بالنفس أكتسبتها من الحياة ، من خلال تعاملها مع الآخرين ، وإيمان بقضية ، أستطاعت أن تقنع الأخرين بتجربتها المتميزة .نحن أمام شاعرة تعد واحدة من الأصوات الشعرية الجديدة (وضعت يديها على جمرة الشعر) ، تتضح ملامح صورتها الشعرية في سياق حركة الشعر ، فتكون موضع أهتمام ومتابعة ،شاعرة تبحث عن تكوين شخصيتها شعرية ، من خلال خصوصية الطرح الشعري .
فالشاعرة "ميسرة هاشم " تستفز الرجل قبل الأنثى في الأقتراب من مواطن نفوذه الذي أحتكرها له خاصة ، في لحظة تمرد أنثوي على واقع شرقي ، بغض النظر عما تستبطنوه نصوص ديوانها من معاني تثير الأخر في أيماءاتها الجنسية ، فتداعب مخيلة المتلقي وتدغدغ غرائزه بما يتصوره من إباحية أمرأة متمردة على واقع أنثوي يعد من المحرمات الأقتراب منه . الشاعرة "ميسرة"،تستهوي القارئ في قراءة نصوصها ، بوضوح اللغة الشعرية وتحريك ذائقته الشعرية ، من خلال أضاءاتها الشعرية الجذابة . وتنوعها اللغوي وتعددها الصوري،ووحدة البناء الفني المتكامل لنصوصها ، فهي لا تلجأ الى الغموض الملغز الذي يلجأ اليه البعض في الكتابة . فأستخدمت لغة رمزية محملة بالإثارة ، تنطق بكل معاني ودلالات جغرافيتها الأنثوية . فهي تمتلك إمكانية (فلسفة الجسد) التي تجعلها قادرة على الإبداع . فالجسد شكل ركيزة من ركائز النص الشعري الأنثوي الحديث فكان محور القصائد التي تكتبها المرأة ، فهو يختزن البنية الرمزية والمادية عند الكتابة ، ويحقق رغبة الكثير من القراء ، بإستخدام الألفاظ الجريئة والتقرب الى المحظور الأبدي من خلال تتويج ثورية المرأة بالتمرد الأنثوي فـ(الجسد أحد المكونات البنيوية لخطاب الحداثة) فهو ذات دلالة حسية وشعورية شكل مع العقل ترابط عضوي حسب ما يذهب اليه (ميشيل فوكو ) حين يضع الجسد في قلب الأهتمام، ويجعل من العقل مجرد وظيفة . يقول الناقد محمد شنيشل الربيعي عن الشاعرة "ميسرة الدليمي":(أنها تجاوزت حدود النحت بالجسد من مرحلة الإغراء بالكتابة الى مرحلة القوة التأملية بعد الإغراء ) ، التذاوت وحرب الأجساد .. ميسرة هاشم (نموذجا)/ الناقد محمد شنيشل الربيعي . إذن تجاوزت في ديوانها ، خطوط (التابو) الحُمْر ، فلامست موضوع (الجنس) ملامسة مباشرة سواء رمزاً أو إشارةً أو مجازاً في موضوع غواية الجسد في متعة الكتابة . فكانت أكثر جرأة بين أقرانها من الشواعر في أقتحام عوالم الشعر النسوي . فهي ذات جرأة عالية وثبات بالرؤية تميزت بها حتى ملئت الديوان بمفرداتها اللغوية الجريئة ، أضافة الى قدرتها في رسم الصورة الشعرية ، مما أعطاها المسوغ والجرأة في أختراق عوالم الرجل . فهي تكتب بنفس انثوي بحت بعيداً عن النفس الذكوري الذي أعتادت الكثير من النساء الشواعر أعتماده في كتاباتهن . فتستظهر الجانب الجنسي من حياتها بقوة ، الى جانب قضيتها في أطارها الكوني . فلا يحتاج المتلقي إلى قواميس ومعاجم لفهم لغة هذا النص .
أن الجرأة في الكتابة خارج المألوف خطيرة جداً وتصبح مغامرة ، قد يراها البعض بأسلوبها الجريء (وقاحة) ، فيتسبب أسلوبها هذا وأبداء رأيها بحكم طبيعتها الأنثوية إثارة شيء من الحساسية لدى البعض . قد نرى بعض النساء الشواعر لديهن الجرأة في التعبير عن حريتهن فيما يكتبن من الشعر دون أن يخشن لومة لأئم ، وهذه الجرأة لا تعني التمرد على الأخلاق والدين ولكنهن أردنا مواجهة المجتمع بعيوبه . هذا الطرح قد يغير قناعات بعض النساء من اللاتي يرغبن في أن يكن مثلها ، في مواجهة أعراف وقوانين المجتمع ، الذي ينظر الى جرأة الرجل على أنها (حكمة وقوة)، بينما ينظر الى جرأة المرأة (وقاحة) و (قلة أحترام) .
أن مشكلة المتلقي متعلقة قبل كل شيء أن يرى في النص الشعري الجرأة لا القضية ، فهو ينشغل في كلام المرأة أكثر من أنشغاله بالمرأة وقضيتها . فيذهب في مخيلته الى تفسيرات تتجسد في ذهنه على شكل صور فاضحة ، فتذهب به الظنون الى أن النص ربما يكون ذكورياً . والبعض الأخر أعتبر هذا الطرح (عربدة) وليس (قصيدة موقف) تحمل فلسفة أخلاقية مدنية يراها البعض شذوذاً. تؤكد الشاعرة "ميسرة الدليمي"،في أحدى لقاءاتها أن نصوصها تحمل قضية المرأة ، عندما تقول:(هي ليست دعوة إنما انتفاضة ضد مجتمع ذكوري يحبب لنفسه ويحرم لغيره ونعلم جميعنا إِسْتِطَاعَة الرجل كتابه نصوص اكثر جرأة ولن تجد مؤاربة او مثلبة تثار او معارضة أو ناقد ضده فلماذا المرأة لا يسمح لها ممارسة حرية التعبير ..!) . وفي هذا الطرح نرى أن الشاعرة تجافي واقع قضيتها التي تنادي بها ، فتتبنى عنوان لديوانها (عربدة شفاه)، تبتعد به عن هدفها المعلن، نحن نعرف جيداً أن العنوان يشكل عتبة أساسية في قراءة النص ويكشف عن دلالته في فتح أبواب نصوصه أمام المتلقي ، ولكن نرى أنها تنكفئ الى داخل ذاتها فتستهلك ذاتها ، وذلك عندما يتناقض موقفها مع عنونة ديوانها الشعري ، فتحول (أنتفاضتها) الهادئة من أجل حريتها وإنعتاقها الوجودي الى (عربدة شفاه) ، هذا إذا أخذنا بنظر الأعتبار المعنى المعجمي للفظة (عربدة) ، والتي تعني( سُوْءُ الخُلُق . وقيل: أي من شَرِّه. وهو ضَرْب من الانْحِراف في الآداب يتأتَّى عن إِفراطٍ في الطَّعام والشَّراب مَصْحوبٍ بملذَّات إِباحيَّة) .
خاصة وأن القصيدة الحداثوية هي ( قصيدة مواقف ، موقف من إنسان موقف من الزمن موقف من المكان ... وأنها قصيدة وعي أذ تقوم على الوعي التام بالعملية الشعرية ومتطلباتها المعبرة عنها في صورة مواقف كما أنها قصيدة تجديد لما قامت به من ثورة في تغيير الوعي) النص الغائب في القصيدة العربية الحديثة ، د. عبد السلام الربيدي ص٣٦ .
لقد شكلت "ميسرة الدليمي" حضوراً شعرياً في القصيدة النثرية من أجل إبرازها للذات الأنثوية، وكأن صاحبة النص تريد إيصال خطابها بلغتها الخاصة · فهي تبتعد عن الصور والتراكيب المعقدة والأستغراق في المرموز ،بل تتجه إلى السهل الممتنع ، في قول المحرم بقالب فني مبدع ، بعيداً عن التكرار ، وفي ذلك نجحت - بوعي أو بدون وعي - في مخاطبة الآخر دون أن تنفصل عن ذاتها . فلم تكن أفضل من غيرها من الشواعر ، وأنما على الأقل مختلفة عنهن . فشاعرية نصوصها وصلت الى المتلقي قبل أن يصل أسمها ، فلا يحتاج المتلقي إلى قواميس ومعاجم لفهم لغة نصوصها . لقدإخترقت الحواجز النفسية والاجتماعية بأسلوب فني رائع يثير الخيال ويبعث في القاريء دفقات من الإعجاب والجرأة ، وإستثارة المجسات القابعة في أعماق الرجال .من خلال اللغة التي أستخدمتها في أخراج ما بداخلها الى العلن ، وقد نجح أسلوبها في تحريك القاريء من خلال وسائلها وأدواتها . نصوصها الشعرية تثير الأعجاب مثلما تثير الدهشة والأستغراب والرؤى المختلفة لدى المتلقي ، فهناك بعض الصور الشعرية ، ترسمها مصحوبة بتأويلات تتضح في القصيدة ، والتي بلغت ذروة الشعر الحسي الجريء ، ومثلت مرحلة شعرية مميزة لايمكن إنكارها مهما تعارضت مع أذواقنا . وأعتبرها البعض -الصور الشعرية- ليس شعراً ، كونها حسية وجريئة . فهي تنقل الواقع في نصها الشعري ،و(ترى أنها لا تتعدى المألوف سواء في القبلات أو الأحضان أو العناق ، ولسان حالها يقول: هل أنني وحدي التي تحضن حبيبها وتلام على ذلك)
____________________________
* التابو "TABOO" كلمة لاتينية، عرفتها قواميس اللغة ، على إنها تعني الشيء المحرم الذي لا يحل أنتهاكه .
إشكالية الجرأة
عربدة شفاه أم قصيدة موقف
بقلم/ حسين الساعدي/العراق
تقول الكاتبة الفرنسية"آني لوكليرك" (سيكون من الخسارة الفادحة أن تكتب النسوة بأسلوب الرجال ، فهذا يجعلنا عاجزين عن الإحاطة بمدى هذا العالم وتنويعه) .
في تاريخ الأدب قديماً وحديثاً ، شكل الأدب النسوي ظاهرة بارزة ، حيث تناولته الكثير من الدراسات ، سواء أكانت دراسات عربية أم غربية . مع تناول رموز هذا الأدب ، ويمكن أن نعزوا بروز هذه الظاهرة الى طبيعة الصراع الذي تخوضه المرأة في حياتها ، لتحرر نفسها من قيد الرقابة الأخلاقية ، وإنتاج ثقافة منفتحة ، تتسم بالجرأة في ظل مجتمع يسوده منهج التقاليد والعرف الاجتماعي ، الذي يرى أن أي نزعة أو دعوة تحررية تنادي بها المرأة مرادفة للرذيلة ، كذلك هناك مجموعة من العوامل النفسية والسياسية التي ساعدت في أنضاج الوعي الأنثوي عند المرأة ، والتجرد من الحياء وأسقاط الستر الأنثوي في عالم الأدب والشعر الذكوري من أجل أثبات الذات ، لتخرج عن صفة الأحتشام المرتبطة بطبيعتها الفطرية والسايكولوجية فـ(الأدبُ نار مقدّسة، لكنّها نارٌ لا تمتدّ لتُحرقَ سوى النّساء اللاّت تجرأن على فضّ بكارةِ النصّ بأقلامهنّ المتمرّدة، إن تحدثّن عن الجنس)الأدب النسوي:سقوط الجنس من الثالوث المحرم / عبير قاسمي .
ونموذج ذلك نراه في الأدب النسوي اليوناني ، الذي برزت فيه الشاعرة الإغريقية بيليتس ( 43 ق.م – 18م). والتي أشتهرت بأشعار الحب والجمـال والنظرة الجريئة التي أمتازت بها نصوصها الشعرية الفاضحة ، وهي القائلة في إحدى قصائدها (إذا كنت غانية فما الخطأ في ذلك ؟/ أليست هذه وظيفتي الأولى كامرأة / إن أمنا الطبيعة هي التي تقود تصرفاتنا) . أما في الأدب النسوي العربي، فتروي كتب الأدب أن (الأميرة الأندلسية "ولادةَ بنت المستكفي بالله"، كانت على موهبة شعرية نادرة ، قوية الإحساس بكيانها ، وكانت جريئة في القول والسلوك ، تجهر بمكنوناتها ولذاتها ، وتصور مغامراتها الليلية مع عشيقها أبن زيدون بأسلوب يحاكي أساليب الرجال)،(الذخيرة/لأبن بسام):
ترقَّبْ إذا جــنَّ الظَّلامُ زِيارتي
فإنّي رأيْتُ اللَّيلَ أكْتمَ للسِّــِّر
وبِي مِنك ما لو كان بالبَدْرِ ما بَدا وباللَّيل ما أدْجَى وبالنَّجمِ لم يَسْرِ
وطرز ثوبها الحريري على عاتقيه بيتين من شعر :
أنا واللهِ أصـــلحُ للمعـالي
وأمشي مشيتي وأتيهُ تيها
وأُمْكنُ عاشقي من صحنِ خدِّي
وأعطي قبلتي مَنْ يشتهيها
يقول الشاعر نزار قباني:(ليس مطلوباً من القصيدة ،أن تكون مهذبة ،ومؤدبة ،ومطيعة لأبويها،إن أعظم القصائد في تاريخ الأدب هي القصائد المشاكسة) .
قد تكون قصائد الشاعرة "ميسرة هاشم " ضمن هذا الوصف في مشاكستها الواقع الأجتماعي في نظرته للمرأة ،حين أستطاعت من خلال نصوصها الشعرية ، أن تؤسس لنفسها رؤية مميزة ، عبرت بها عن تجربتها الشعرية في تجاوز الممنوع وتناول قضايا تعد بنظر المجتمع من المحرمات . لقد أماطت اللثام عن المسكوت عنه ، وتجاوزت خطوط (التابو)* الحمر ، بكل جرأة في أول مجموعة شعرية لها حملة عنوان (عربدة شفاه) . الذي يعد ديوان أنثى وأنفعالاتها ، فهو يضم العالم الشعري الأنثوي للشاعرة "ميسرة" ، والذي خرقت به المساحة المحتكرة من الشعر الذكوري ، أحتوت نصوصه المفاجأة والدهشة والجرأة والأبتعاد عن الأسلوب التقليدي في تناول موضوعة الشعر النسوي . يقول الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار :(الكتابة المبدعة إمكانية كل امرأة لأنه فعل أنوثة) .
لم يكن غرضي من هذه القراءة هو البحث في لغة أو شاعرية "ميسرة هاشم" أنما أترك ذلك للمعنيين من النقاد ، ولكن البحث في تكوينها الفسيولوجي والسايكولوجي كأمرأة قادرة على إيجاد بعد دلالي في نصوصها ، يتسم بعمق المضمون وجرأة القضية ، أن اللغة -أي لغة- مكون كوني ، الكل يتعاطاه سواء كان ذكراً ام أنثى ، فلا يمكن عنصرتها ، وأختزالها بجنس معين دون غيره ، فالمفردة ملك للجميع وليس ملكاً لأحد . كذلك الأدب عامة والشعر خاصة فضاء شاسع بلا حدود ، اللغة فيه هي ( الأنا الجمعي ،والأسلوب الشعري هو الأنا الفردي والعملية الأبداعية هي عملية تموضع الذات) ،قراءة في نص ، الناقد الأردني أيمن دراوشة . نحن نعلم جيداً أن الرجل مهما تجرأ وتجاوز حدود القيم الأخلاقية وجرأة التعبير ، لايتحفظ من أن يبوح بصوت عالي ،فهو في مأمن من اللوم ويتمتع بحصانة الواقع . إذن القضية عند "ميسرة الدليمي"هي(أزمة مساواة وأزمة هوية) ، من أجل أثبات الذات وفك قيود الواقع وتجاوز مكابح(التابو) ، فـ(لا ذكورة ولا أنوثة في الشعر) ، لماذا نعتبر جرأتها وصراحتها تجاوز على المحرمات ؟ بقدر ما هي نتاج ثقة بالنفس أكتسبتها من الحياة ، من خلال تعاملها مع الآخرين ، وإيمان بقضية ، أستطاعت أن تقنع الأخرين بتجربتها المتميزة .نحن أمام شاعرة تعد واحدة من الأصوات الشعرية الجديدة (وضعت يديها على جمرة الشعر) ، تتضح ملامح صورتها الشعرية في سياق حركة الشعر ، فتكون موضع أهتمام ومتابعة ،شاعرة تبحث عن تكوين شخصيتها شعرية ، من خلال خصوصية الطرح الشعري .
فالشاعرة "ميسرة هاشم " تستفز الرجل قبل الأنثى في الأقتراب من مواطن نفوذه الذي أحتكرها له خاصة ، في لحظة تمرد أنثوي على واقع شرقي ، بغض النظر عما تستبطنوه نصوص ديوانها من معاني تثير الأخر في أيماءاتها الجنسية ، فتداعب مخيلة المتلقي وتدغدغ غرائزه بما يتصوره من إباحية أمرأة متمردة على واقع أنثوي يعد من المحرمات الأقتراب منه . الشاعرة "ميسرة"،تستهوي القارئ في قراءة نصوصها ، بوضوح اللغة الشعرية وتحريك ذائقته الشعرية ، من خلال أضاءاتها الشعرية الجذابة . وتنوعها اللغوي وتعددها الصوري،ووحدة البناء الفني المتكامل لنصوصها ، فهي لا تلجأ الى الغموض الملغز الذي يلجأ اليه البعض في الكتابة . فأستخدمت لغة رمزية محملة بالإثارة ، تنطق بكل معاني ودلالات جغرافيتها الأنثوية . فهي تمتلك إمكانية (فلسفة الجسد) التي تجعلها قادرة على الإبداع . فالجسد شكل ركيزة من ركائز النص الشعري الأنثوي الحديث فكان محور القصائد التي تكتبها المرأة ، فهو يختزن البنية الرمزية والمادية عند الكتابة ، ويحقق رغبة الكثير من القراء ، بإستخدام الألفاظ الجريئة والتقرب الى المحظور الأبدي من خلال تتويج ثورية المرأة بالتمرد الأنثوي فـ(الجسد أحد المكونات البنيوية لخطاب الحداثة) فهو ذات دلالة حسية وشعورية شكل مع العقل ترابط عضوي حسب ما يذهب اليه (ميشيل فوكو ) حين يضع الجسد في قلب الأهتمام، ويجعل من العقل مجرد وظيفة . يقول الناقد محمد شنيشل الربيعي عن الشاعرة "ميسرة الدليمي":(أنها تجاوزت حدود النحت بالجسد من مرحلة الإغراء بالكتابة الى مرحلة القوة التأملية بعد الإغراء ) ، التذاوت وحرب الأجساد .. ميسرة هاشم (نموذجا)/ الناقد محمد شنيشل الربيعي . إذن تجاوزت في ديوانها ، خطوط (التابو) الحُمْر ، فلامست موضوع (الجنس) ملامسة مباشرة سواء رمزاً أو إشارةً أو مجازاً في موضوع غواية الجسد في متعة الكتابة . فكانت أكثر جرأة بين أقرانها من الشواعر في أقتحام عوالم الشعر النسوي . فهي ذات جرأة عالية وثبات بالرؤية تميزت بها حتى ملئت الديوان بمفرداتها اللغوية الجريئة ، أضافة الى قدرتها في رسم الصورة الشعرية ، مما أعطاها المسوغ والجرأة في أختراق عوالم الرجل . فهي تكتب بنفس انثوي بحت بعيداً عن النفس الذكوري الذي أعتادت الكثير من النساء الشواعر أعتماده في كتاباتهن . فتستظهر الجانب الجنسي من حياتها بقوة ، الى جانب قضيتها في أطارها الكوني . فلا يحتاج المتلقي إلى قواميس ومعاجم لفهم لغة هذا النص .
أن الجرأة في الكتابة خارج المألوف خطيرة جداً وتصبح مغامرة ، قد يراها البعض بأسلوبها الجريء (وقاحة) ، فيتسبب أسلوبها هذا وأبداء رأيها بحكم طبيعتها الأنثوية إثارة شيء من الحساسية لدى البعض . قد نرى بعض النساء الشواعر لديهن الجرأة في التعبير عن حريتهن فيما يكتبن من الشعر دون أن يخشن لومة لأئم ، وهذه الجرأة لا تعني التمرد على الأخلاق والدين ولكنهن أردنا مواجهة المجتمع بعيوبه . هذا الطرح قد يغير قناعات بعض النساء من اللاتي يرغبن في أن يكن مثلها ، في مواجهة أعراف وقوانين المجتمع ، الذي ينظر الى جرأة الرجل على أنها (حكمة وقوة)، بينما ينظر الى جرأة المرأة (وقاحة) و (قلة أحترام) .
أن مشكلة المتلقي متعلقة قبل كل شيء أن يرى في النص الشعري الجرأة لا القضية ، فهو ينشغل في كلام المرأة أكثر من أنشغاله بالمرأة وقضيتها . فيذهب في مخيلته الى تفسيرات تتجسد في ذهنه على شكل صور فاضحة ، فتذهب به الظنون الى أن النص ربما يكون ذكورياً . والبعض الأخر أعتبر هذا الطرح (عربدة) وليس (قصيدة موقف) تحمل فلسفة أخلاقية مدنية يراها البعض شذوذاً. تؤكد الشاعرة "ميسرة الدليمي"،في أحدى لقاءاتها أن نصوصها تحمل قضية المرأة ، عندما تقول:(هي ليست دعوة إنما انتفاضة ضد مجتمع ذكوري يحبب لنفسه ويحرم لغيره ونعلم جميعنا إِسْتِطَاعَة الرجل كتابه نصوص اكثر جرأة ولن تجد مؤاربة او مثلبة تثار او معارضة أو ناقد ضده فلماذا المرأة لا يسمح لها ممارسة حرية التعبير ..!) . وفي هذا الطرح نرى أن الشاعرة تجافي واقع قضيتها التي تنادي بها ، فتتبنى عنوان لديوانها (عربدة شفاه)، تبتعد به عن هدفها المعلن، نحن نعرف جيداً أن العنوان يشكل عتبة أساسية في قراءة النص ويكشف عن دلالته في فتح أبواب نصوصه أمام المتلقي ، ولكن نرى أنها تنكفئ الى داخل ذاتها فتستهلك ذاتها ، وذلك عندما يتناقض موقفها مع عنونة ديوانها الشعري ، فتحول (أنتفاضتها) الهادئة من أجل حريتها وإنعتاقها الوجودي الى (عربدة شفاه) ، هذا إذا أخذنا بنظر الأعتبار المعنى المعجمي للفظة (عربدة) ، والتي تعني( سُوْءُ الخُلُق . وقيل: أي من شَرِّه. وهو ضَرْب من الانْحِراف في الآداب يتأتَّى عن إِفراطٍ في الطَّعام والشَّراب مَصْحوبٍ بملذَّات إِباحيَّة) .
خاصة وأن القصيدة الحداثوية هي ( قصيدة مواقف ، موقف من إنسان موقف من الزمن موقف من المكان ... وأنها قصيدة وعي أذ تقوم على الوعي التام بالعملية الشعرية ومتطلباتها المعبرة عنها في صورة مواقف كما أنها قصيدة تجديد لما قامت به من ثورة في تغيير الوعي) النص الغائب في القصيدة العربية الحديثة ، د. عبد السلام الربيدي ص٣٦ .
لقد شكلت "ميسرة الدليمي" حضوراً شعرياً في القصيدة النثرية من أجل إبرازها للذات الأنثوية، وكأن صاحبة النص تريد إيصال خطابها بلغتها الخاصة · فهي تبتعد عن الصور والتراكيب المعقدة والأستغراق في المرموز ،بل تتجه إلى السهل الممتنع ، في قول المحرم بقالب فني مبدع ، بعيداً عن التكرار ، وفي ذلك نجحت - بوعي أو بدون وعي - في مخاطبة الآخر دون أن تنفصل عن ذاتها . فلم تكن أفضل من غيرها من الشواعر ، وأنما على الأقل مختلفة عنهن . فشاعرية نصوصها وصلت الى المتلقي قبل أن يصل أسمها ، فلا يحتاج المتلقي إلى قواميس ومعاجم لفهم لغة نصوصها . لقدإخترقت الحواجز النفسية والاجتماعية بأسلوب فني رائع يثير الخيال ويبعث في القاريء دفقات من الإعجاب والجرأة ، وإستثارة المجسات القابعة في أعماق الرجال .من خلال اللغة التي أستخدمتها في أخراج ما بداخلها الى العلن ، وقد نجح أسلوبها في تحريك القاريء من خلال وسائلها وأدواتها . نصوصها الشعرية تثير الأعجاب مثلما تثير الدهشة والأستغراب والرؤى المختلفة لدى المتلقي ، فهناك بعض الصور الشعرية ، ترسمها مصحوبة بتأويلات تتضح في القصيدة ، والتي بلغت ذروة الشعر الحسي الجريء ، ومثلت مرحلة شعرية مميزة لايمكن إنكارها مهما تعارضت مع أذواقنا . وأعتبرها البعض -الصور الشعرية- ليس شعراً ، كونها حسية وجريئة . فهي تنقل الواقع في نصها الشعري ،و(ترى أنها لا تتعدى المألوف سواء في القبلات أو الأحضان أو العناق ، ولسان حالها يقول: هل أنني وحدي التي تحضن حبيبها وتلام على ذلك)
____________________________
* التابو "TABOO" كلمة لاتينية، عرفتها قواميس اللغة ، على إنها تعني الشيء المحرم الذي لا يحل أنتهاكه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق