الاثنين، 24 يوليو 2017

أشجار الدفلى / ق. ق. / بقلم الاديب صالح هشام // المغرب

أشجار الدفلى/قصة قصيرة ٠ 
بقلم الأستاذ : صالح هشام ٠
ظلال تتمطط،تتمدد ، تتموج صعودا وهبوطا ،تتحول أشكالا غريبة ، مخيفة ، مداري أو معاول كبيرة ، مردة جبار ة ، رؤوسها في الشرق ، أرجلها في الغرب ، تزداد رعبا .كلما تلاشي ضوء الشمس ! 
يقرض الليل أطراف النهارببطء شديد ، يمتص منه نوره، في خجل تمتقع وجنتا شمس باهتة ، تتوردان ، تلبسان كل ألوان قوس قزح ،تسلم مشعل النور لقمر يحدق بعين مفتوحة كبيرة ، نوره كنار تحت رحمة كير مثقوب .
مجبرا سأعبر ذلك الوادي الرهيب ،ليلا سيتحول أفعى كبيرة، تعتصر أضلاعي ، تقلم أظفاري ، و من يدري ؟
تفصلني عنه بضع كلمترات :أحسبها مسافة ما بين السماء والأرض ، وأنا ذرة في ملكوت فسيح :يتعب العين ،يدق الرقبة ويكسر الظهر٠
يتورم قلبي، يتحول إلى أقصى يمين أضلاعي ! 
أشجار الدفلى : ترهبني ، تسلبني إرادتي ، تحف بالوادي من كل الجهات كحارس يحميه من عشاق مغامرات الليل!
أشجار وردية الورود ، نعشقها نهارا ،تتحول سرا مخيفا من أسرار الليل !
أقترب منها ، يركل قلبي في صدري : أسمع ركلاته بوضوح ، يزداد خوفي ، تثقل علي عباءتي ، أشك فيها ، خلسة مني ، قد يكون شئ ما اندس فيها، وقد يفاجئني في أية لحظة !
لن ألتفت خلفي ، بماذا سأجيب إذا سألني هذا الشئ ؟ :
-هل أثقل حملي كاهلك يا صديقي ؟
أثقيل أنا أم خفيف على كتفيك؟! 
ستكون نهايتي لا محالة :سكتة قلبية ، أو هروب عصفور دماغي المجنون مني ، فيحلق بعيدا بعيدا ! 
لا آية قرآن أحفظها ،تنقصني صلابة القلب ، لست جبانا : وحشة المكان تفرض عليك الجبن ٠
أحت الخطو ، أخبط العشواء ،تستوي أمامي الأرض : شجرا وحجرا، و يتخشب جسدي ،لم أعد أشعر به! 
أسابق انتشار حلكة الليل ، أعجز عن حمل نفسي ، أرتجف ، أرتعد كقصبة أمام الريح ، أحسني أسير في الوحل، في الإسمنت ،في الإسفلت ،لاأدري !
كل ماةأعرفه : أني قرادة جائعة تمكنت من حبل وريد الأرض !
يعبر طيف أمي ذاكرتي ، تحذرني : 
-لا تسكب ماء حارا في الأماكن الحساسة من الأرض : رماد قديم ، مربط أنعام ، بقايا خرابة ، لا تؤذيهم ، هم مثلنا لهم أولاد ، فيهم المسلم ، فيهم الكافر يفك الليل عقالهم ، فيسرحون ويمرحون ، ويتركون معازلهم الخفية !
أتمسك بتلابيبها ، ألتصق بركبتيها و بإصرار طفولي : 
- من هم هؤلاء يا أماه ؟ من تقصدين ؟ 
يمتقع لونها ، تصفر وجنتاها حد الاخضرار ، تبصق هنا ، هناك :تندلق كلماتها لا حرف منها ألتقطه ، تنهرني : 
-أصمت يا ولدي ،لا تذكرهم رجاء! لا توقظ عش الدبور في نفسي، فأنا مريضة ،لا تؤلب علي مواجع الماضي إذا كنت تحب أمك ،أصمت ، أصمت ! 
أعرف أنها تعرفهم حق المعرفة ،تعرفهم بأسمائهم ،تميز معتقداتهم وميولاتهم : فأمي قاموس في عالم الجن ! أتذكر حضورها ذات طقوس (سواكن)، طقوس غريبة تحييها فرق شعبية : عيساوة ، هداوة ، كناوة و الدراويش في أضرحة أولياء الله في مواسم سنوية، كانت ترتاح لشطحات كناوة :
فهم يتقنون ساكن" لالة ميرة" و"شمهروش" وأسماء أخرى محاها الزمن من ذاكرتي !
أتذكرها تجذب ، تجذب ، في شطحات صوفية : 
تفرض فقدان الوعي والشعور ، كذلك كانت أمي، على إيقاع هجهوج كناوة ،وهم يصرعون "لالة ميرة" !
موسيقى غريبة ،عجيبة ، تصيبني بدهشة ممزوجة بخوف شديد قاتل ٠ تسقط أمي صريعة الدندنة الكناوية ، كلما ارفعت سرعة إيقاعاتهم٠٠ 
يحيط النسوة بأمي ، إمرأة تضع في يدها مفاتيح ، و أخرى ترشها بماء بارد ،و على جبينها تمرر قطعة ثوب مبلل ، فالتآزر من شروط الجذبة ٠
تستفيق أمي من غيبوبتها وهي تردد :
-"لالة ميرة" ٠٠"لا ميرة " لا لة ميرة "! 
وتخبو نارها ، تصبح رمادا ،يضعف زفيرها ويثقل وزنها ، تتدحرج بلورتان كبيرتان براقتان من عينيها و تغيب في نوبة نحيب مكتوم ٠٠ تسندها مساعدة الفرقة على ركبتيها ٠
ويبدأساكن جديد أكثر إثارة، سحب سوداء من البخور تغطي المكان ، تثير روائح غريبة في نفسي التقزز حد الغثيان .
صور غريبة ،مقرفة : محا الزمان نقوشها من ذاكرتي ، وتتداعى بقاياها كلما تذكرتها ٠ 
ينفش رأسي شوكه ،تطوقني أشجار الدفلى : كجرذ أقع في مصيدتها . يتلوى الوادي يعتصرالجبل صعودا وهبوطا ٠٠ أشعر بمعدتي توجعني ، أتحرك بخطى ثقيلة ، أقاوم صداع الرأس ، أتذكر (لالة ميرة ) ، ( شمهروش) ،فأحمل كلام أمي محمل الجد ، فأحاول الإفلات من قبضة أشجار الدفلى ، وتختلط علي الأحاسيس ،وتتعطل في قوة الإدراك !
تحت ضوء القمر الباهت ٠٠ أجدني تحفني حشود من أشباح و أطياف تترنح كالسكارى ، تتحرك صوبي دفعة واحدة أحس بالبلل ساخنا، يتسرب مني ويستقر في قاع حذائي : ربما تتربص (لالة ميرة) بي ، تريد بقر بطني وتتبول على جثتي ! 
أتعثر في نتوءات الأرض، بومة مفزوعة ، تطير مذعورة ، تلطمني بجناحيها ، أفقد توازني ، أترنح ثم أخر راكعا علي ركبتي ، يصم الخوف أذني ، تصطك أسناني ،ويجف الريق في حلقي ،كتلة لحم :معطلة تماما ، مشلولة الحركة
أحاول النهوض ، أتمسك بالأرض ،يؤجج جذوة الخوف في نفسي ،نقيق الضفادع ، وهمس الصراصير ،وهوام الليل ٠
أصوات كقعقة الرعد تأتيني ٠٠ ثم تفاجئني فرقعة أجنحة ضخمة ، أشعربها تلمس رأسي ،فأركع من جديد ٠ 
تشد أذني قبضة قوية ، تعتصرها ويهمس صوت خافت :
-هل عرفتني يا هذا ؟
قلت وأنا ألوك لساني ثقيلا بين أسناني :
-لا من تكون ؟
يغمرني ضوء يخطف مني البصر ، يتلاشى , ثم يضمحل الصوت في متاهات ذاكرتي ، أغيب عن وعيي , أروح في نوم عميق ٠ربما انتقلت روحي إلى الملكوت الأعلى ، لا أدري : يوم ، يو مان ،سنة ،الله وحده أعلم بأمري ، ما عقلت شيئا! 
أعود إلى وعيي ، أتصبب عرقا، تمسحه أمي بقطعة قماش مبللة من على جبهتي ، وكان ذلك الشيخ ذو الجلباب الأبيض واللحية الكثيفة الثلجية يشد على سبابتي ويتمتم بكلمات غير مفهومة .
التفت ذات اليمين وذات الشمال: غابة من الأرجل تحفني ، والحضرة على أشدها كل في جذبته ، في حلوله الصوفي :
هناك من يشرب ماء حارا ،وهناك من يغرز السكاكين في جلده دون إراقة ولو قطرة دم ، وعلى إيقاع الهجهوج يعزف ساكن( لا لة ميرة ) ،بدات أبحث في ذاكرتي عن مثيل لهذا المشهد ، تذكرته يشدني لماضي محن أمي ، أطبق جفني من جديد وأروح في نومة / موتة ،وربما ستكون طويلة هذه المرة !
الاحد/ 19 ابريل/ 2015 
بقلم الأستاذ :صالح هشام .
للتوضيح : -----------------------------------------------------
شمهروس ولالة ميرة من اساء الجن في التراث الشعبي المغربي .
- كناوة ، عيساوة ، هداوة ، فرق موسيقي شعبية تحيي طقوس الجذبة
- الجذبة : من الطقوس والعادات والممارسات 
- الساكن : طقس من طقوع صرع الجن بواسطة موسيقى ذات طابع خاص
-الهجهوج: أداة وترية موسيقية شعبية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق