القديسة قنديشة/ قصة قصيرة ٠
بقلم الأستاذ /صالح هشام/ المغرب
يحزم أسمال عريه القرمزي ، يشدها بإحكام على وسطه ، و يأكل -هرولة- جنبات طريق وعرة ،يسابق خيوط النار، فالسماء ستمطر بردا بحجم بيضة الدجاجة ، يمعن في الهرولة، تتحول ركضا ،يجتاحه خوف شديد ،يشده للأرض ٠
شيء غريب يمسك بتلابيبه ، يعوق ركضه ، يكبر ، يتضخم ، ينتفخ كبالون، بصعوبة يقتلع جسده ،يدحرجه أمامه ،كأنه يسير في الوحل ، أنفاس ساخنة ممزوجة برائحة قرنفل غريبة تعطر قفاه ، تغمر جسده كله ، يغرز عينيه في الفراغ : أنامل بدون أظافر ، ناعمة ، باردة تدغدغ حبيبة أذنه ، يرعش رعشة الذبيح !
قبضتان قويتان تعصران فوديه ، يحس بدوار شديد ،برغبة قوية في القيء ، تثقل خشبته، تنقطع أنفاسه ، صوت لا صوت يشبهه : رخيم ، غريب ، رحيم ، عجيب !
يهمس في أذنيه عذبا ، شبقيا خارقا :
- حبيبي أتلبسني أم ألبسك ؟ أتسكن إلي و أسكن إليك ؟
يجمع ما تبقى من قواه ،يصرخ وأوصاله ترتجف :
-من أنت ؟ من تكونين ؟ وماذا تريدين مني ؟
-أنا عروس البحرفي البحر!
أنا عروس البر في البر !
أنا عروس النهر في النهر!
أنا الناقة الهيفاء الفرعاء ، أنا حمراء الصحراء !
أنظر، ألا ترى أظلافي؟ ألا أشبه حمراء الصحراء؟
يقشعر جسده كالقصبة ، قشعريرة باردة كالصقيع ، تخذله مكابح نفسه ، يفعلها ساخنة في قاع مداسه ٠
- خلقت من أجلك يا رجل ! قدري أن أحل فيك، أن يمتزج دمي بدمك ،فدمي أخضر ودمك أحمر ،لكنهما سيمتزجان !
ينغرز قضيب فولاد في رقبته ، يعوق حركته ، فتتجمد أطرافه تماما ٠٠٠
يتذكرحروفا قرآنية يحفظها : يلملمها ، يحاول جمع شتاتها وترتيبها ، تنفلت من لسانه المتخشب ، تركل في سقف فمه ، يبتلعها أسلاكا شائكة ، تندلق رخوة من بين شفتيه مترهلة ، و تضيع في متاهات خيشومه ، ينطق الخواء : نهنهة ٠٠حمحمة٠٠ همهمة ، أصواتا غريبة ٠
يمتص سمعه صدى فراغ سحيق غير مسموع ، وتتلاشى الهمسات ، يبقى منها في أذنيه، رنين مطرقة ترج سندانا بعنف ٠
يخلص نفسه بعسر، يحرر قدميه بصعوبة ،كأن حبالا مشدودة بأوتاد مغروزة في قلب الأرض، تشده وتتمسك به :
ينطلق كقذيفة طائشة ، يخترق العدم ، يركب صهوة الريح ، صهوة الضوء ، صهوة الصوت ،كحصان شارد جامح بجناحين ، فيعدو ٠٠٠ يعدو ٠٠٠ يلتمس النجاة والسلامة ٠
هسيس الكلاب ، نباحها المكتوم ،حفيف الريح ,خشخشة الأعشاب , تكتكة قدميه :
أصوات نشاز مقلقة ،تمتزج برنين همسات ذلك الشيء في أذنيه ، همسات لم يميز منها شيئا !
يندفع مرعوبا ،ثقيل الخطو ، منهوك القوة، في قعر البيت ، يتهاوى كتلة لحم باردة ، لا أثر للحياة فيها ،تتلقفه أمه بين ذراعيها ، تسنده إلى ركبتيها ، وتصاب بنوبة صراخ : تولول ، تتف ، تردد تعويدات مبهمة ، تتلو آيات قرآنية ، لا تحفظ منها إلا النزر القليل :
-آ عيشة ! آ مولات المرجة !( أحجارك يشدوك) ٠
تبسبس وتكثر من البسبسة ، تعتقدها تطرد الأرواح الشريرة :
- بس ٠٠بس ٠٠بس ،لا هو من ثوبك ولا أنت من ثوبه ، فاخلعي نفسك منه !
تدس أصابعها بتوجس في جسده ، تبحث عن آثارمصة دموية لهذه المسعورة القاتلة !
يهذي ، يهلوس ، ويسقط في صرع مجنون :
- هي ،هي يا أماه ، عيشة مولات المرجة ، قنديشة ، لمست قفاي ، مازلت أشعر بحرارة جسدها الطري ، تغلق مسام جسدي ، وأنفاسها تعطرني ، كانت تداعب زغيبات صدغي ، تغازلني ، تتلذذ بي ، تعض حبة أذني ،تبوح لي بسرها، و تعترف لي بهيامها بي ، كانت تقول :
-يا حبييي إلبسني!
أنت وحدك لباسي !
يا حبيبي أسكن لي!
فأكون سكنا لك !
تتكور حبيبات العرق بلورية براقة، على جبينه الباهت ، تتدحرج ،ثم تندلق ماسحة جغرافية وجهه المتجعد ، و تستقر فائرة في حفيرة منحره ، تشتعل النار في جسده يتحول صفحة حديد ساخن!
تصرخ أمه ، تولول ، تستغيث بزوجته :
- الرجل يموت يا امرأة ، سيضيع منك ، مني ، ومن أولاده !
تقتحم زوجته الغرفة الكئيبة ، تجر جسدها ، منهكة خائرة القوة ، تسند ردفيها براحتيها ، ترتجف صفراء ، كورقة ميتة صفراء ، تفوح منها نتانة حليب ممزوجة بروائح براز صغيرها !
تحمل طستا نحاسيا ،مزينا برسوم قديمة، وفي يدها خرقة قماش أبيض و شيء من بخور (الجاوي ،بخور لالة مكة) تضع شمعة في شمعدان من فضة ، تسنده دعامة خشبية متهالكة ، تتوسط فناء الغرفة، تدغدغ فتيلتها بعود ثقاب ، تمتص شعلة الشمعة بعضا من العتمة ،و تحرر دموعها ،بحرقة تبكيه ، تعدد مناقبه ، كعاشقة نائحة !
تقرفص المسكينة ، تمررالخرقة على جبينه ، تمسح عرق الحمى المتصبب بغزارة ، ينتفض كطائر مذبوح ويصرخ :
-افتحوا النوافد ، أفسحوا الطريق للقادم يا غجر !
يتحجر سؤال حائر على شفتي أمه ، ويضيع في الفراغ :
-من القادم يا قرة عيني ؟ فقط رحمة الله هي القادمة إن شاء الله !
تقتلع زوجته ذاتها المتعبة ، تدفع نفسها أمامها فتتدافع، تتعثر ، تكاد تسقط ، تتمسك بالحائط ، وتشرع النوافد والباب ،فيحدث صريرا رهيبا ، تتسرب نسيمات باردة ، تراقص الستائر البالية ، يلمع نور حاد لمعان البرق ، فيمتص ضوء الشمعة !
رعشة كرعشة الموت تسري في أوصال أمه وزوجته ، و يتلاشى النور القادم شيئا فشيئا، تهدأ النسيمات ، وتعاود الشمعة نشاطها باكية نائحة !
يتسلل من باب الغرفة ، بخطى ثقيلة مسلوب الإرادة :
نائما /صاحيا ،حاضرا / غائبا ، حيا /ميتا ، مومياء محنطة متحركة !
تشرنق يرقة خبل وهبل في متاهات مخه المشلول، فيجن:
-أركض ،أركض ، إرحم نفسك ، أركض وراءها ، هي لك وأنت لها ، حل دمك الأحمرفي دمها الأخضر ،أنتما من الآن :
جسد واحد ، لا إنس ولا جن، أنتما من عبدة عشق قاتل ممنوع ، أركض، فالركض خلاصك من آدميتك!
ويمتطي صهوة عشقه المجنون، يحضنه فراغ ليل جاثوم :
تفقد أمه شبحه في تلافيف العتمة، يخرج لسانها عن طوعها ، و تشق سكون الليل صراخا وعويلا :
-ولدي ياناس ، ولدي ضاع مني ، آه يا ولدي ،يا للكافرة !
وتغيب في غيبوبة أشبه بالموت ، ينفلت من زوجته صوت متقطع ،كصياح دجاجة ، لم تكن تتقن الصراخ :
-وا زماني ٠٠٠ وا راجلي ٠٠ و ا أبو أولادي !
تسيل شعاب القرية بأضواء القناديل ، وكأنها نجوم السماء تتهاوى ، تمتزج وحشة المكان ،بحفيف النسيم وتكتكة النعال والأقدام الحافية فوق التراب والهشيم اليابس!
يشد الكبيرعكازته بقوة ويلوح بها في السماء :
-يا قوم ،الكونتيسة/ قنديشة تضعف أمام شعلة النار ، فالنار وقليل من الملح حكمة ، سلاح ضد سكان العالم السفلي !
-ومن أين لنا بنار الحكمة ،يا سيد القوم ؟
- عدو ا معي :خطوة ٠٠ خطوتان ٠٠ أحرقوا عمائمكم !
- عدوا معي : خطوة ٠٠خطوتان ٠٠ أحرقوا عمائمكم !
ينبرى أحدهم و بسؤال فيه نوع من مآخذة الكبير :
-لكن ما علاقة هذا بإحراق عمائمنا يا سيد ؟
-العمامة غطاء الرأس ،والرأس رأس الحكمة ، والكنتيسة تكره الحكمة ، تكره شعلة النار ، تكره بروميثيوس : شعلة ناره نور فيك، نور في ، نور فينا جميعا ،منذ قديم الزمان ، وغابر المكان !
من حين لآخر ، يومض ضوء كالشمس في عز النهار :
العمائم تلتهما النيران ، يقضم نورها من برنوس الليل :
في كل خطوة قضمة ،في كل عمامة تحرق كسر لصمت المرجة القاتل!
هم أهله و يعرفون حكايته حق المعرفة :
صريع حب مستحيل ،ولا وجهة له غير هذه المرجة الضحلة ويزيدها شغب تزاوج الضفادع وحشة ،تحفها سيقان السمار ! هي مربط ضحايا (الكونتيسة / قنديشة ) فيها تنصب فخاخ إغراءاتها المخملية !
تتشظى ألياف ضوء القمر،تتكسرفوق صفحة ماء المرجة يلوح جسده النحيل مركوزا ، مغروزا في الأرض ، يدور دورة لولبية كمروحية كهربائية ، يصدرعنه شخير غير عاد ،يقترب منه الأهالي بحذر شديد :
كتلة رغوة كزبد البحر ،تغطي وجهه تماما ، عيناه مفتوحتان مغروزتان في محجريهما ،يقترب منه كبيرهم:
- هاهي الكنتيسة ، تمتص رحيق نشوتها ، و لذتها من جسده الغض ،وتمارس عليه ساديتها ،فهو رجل ، وهي تكره الرجال ، منذ أول فتات في معدة البشر ، فأين زوجته ؟
تتقدم امرأة فرعاء رعناء شعثاء ، فيها رائحة غباوة، يربت الكبير ،على كتفها بلطف ، وقال بنبرة حزينة :
-هذه ضرتك ، ستشاركك فراش زوجك ، ولا رباط خيل لك ، فمعركتك ستكون خاسرة ،فهي غير متكافئة ،ماذا تودين قوله لها يا بنيتي ؟
تدحرجت دمعتان كبيرتان على خذيها، رفعت عينيها إلى السماء ، حتى كادت تكسر رقبتها وصاحت :
-أختاه في العشق ، والعشق جنون ،خذيه روحا ،واتركيه لي ولأولاده عظما ولحما ،يعز علي غيابه !
تبتلع ريقها و بريقها ، وتروح في نحيب مكتوم !
حمحمة حصان جامح ، تنهيدة ، وزفرة عظيمة ،تربت على رؤوس أشجار الدفلى ، تمسح مساحة المرجة طولا وعرضا !
فتهدأ حركته ، يسكن جسده ، ترتخي قبضتاه ، ويشد الرحال إلى عالم الأموات !
، يتلاعب الكبير بضفيرتها السوداء ، يقترب من أذنيها، يكاد يلامس مهوى قرطها ، وبصوت خافت :
- على سلامتك، وعلى سلامته ، سيعود إليك قبيل الخيوط الاولى من الفجر ، قضت منه وطرها ، وهي حال وأحوال ، عشاقة ملالة، فلا تقلقي يا ابنتي !
بقلم الأستاذ صالح هشام / المغرب !
الاربعاء / الخميس ٣~٤|٨~٢٠١٦
بقلم الأستاذ /صالح هشام/ المغرب
يحزم أسمال عريه القرمزي ، يشدها بإحكام على وسطه ، و يأكل -هرولة- جنبات طريق وعرة ،يسابق خيوط النار، فالسماء ستمطر بردا بحجم بيضة الدجاجة ، يمعن في الهرولة، تتحول ركضا ،يجتاحه خوف شديد ،يشده للأرض ٠
شيء غريب يمسك بتلابيبه ، يعوق ركضه ، يكبر ، يتضخم ، ينتفخ كبالون، بصعوبة يقتلع جسده ،يدحرجه أمامه ،كأنه يسير في الوحل ، أنفاس ساخنة ممزوجة برائحة قرنفل غريبة تعطر قفاه ، تغمر جسده كله ، يغرز عينيه في الفراغ : أنامل بدون أظافر ، ناعمة ، باردة تدغدغ حبيبة أذنه ، يرعش رعشة الذبيح !
قبضتان قويتان تعصران فوديه ، يحس بدوار شديد ،برغبة قوية في القيء ، تثقل خشبته، تنقطع أنفاسه ، صوت لا صوت يشبهه : رخيم ، غريب ، رحيم ، عجيب !
يهمس في أذنيه عذبا ، شبقيا خارقا :
- حبيبي أتلبسني أم ألبسك ؟ أتسكن إلي و أسكن إليك ؟
يجمع ما تبقى من قواه ،يصرخ وأوصاله ترتجف :
-من أنت ؟ من تكونين ؟ وماذا تريدين مني ؟
-أنا عروس البحرفي البحر!
أنا عروس البر في البر !
أنا عروس النهر في النهر!
أنا الناقة الهيفاء الفرعاء ، أنا حمراء الصحراء !
أنظر، ألا ترى أظلافي؟ ألا أشبه حمراء الصحراء؟
يقشعر جسده كالقصبة ، قشعريرة باردة كالصقيع ، تخذله مكابح نفسه ، يفعلها ساخنة في قاع مداسه ٠
- خلقت من أجلك يا رجل ! قدري أن أحل فيك، أن يمتزج دمي بدمك ،فدمي أخضر ودمك أحمر ،لكنهما سيمتزجان !
ينغرز قضيب فولاد في رقبته ، يعوق حركته ، فتتجمد أطرافه تماما ٠٠٠
يتذكرحروفا قرآنية يحفظها : يلملمها ، يحاول جمع شتاتها وترتيبها ، تنفلت من لسانه المتخشب ، تركل في سقف فمه ، يبتلعها أسلاكا شائكة ، تندلق رخوة من بين شفتيه مترهلة ، و تضيع في متاهات خيشومه ، ينطق الخواء : نهنهة ٠٠حمحمة٠٠ همهمة ، أصواتا غريبة ٠
يمتص سمعه صدى فراغ سحيق غير مسموع ، وتتلاشى الهمسات ، يبقى منها في أذنيه، رنين مطرقة ترج سندانا بعنف ٠
يخلص نفسه بعسر، يحرر قدميه بصعوبة ،كأن حبالا مشدودة بأوتاد مغروزة في قلب الأرض، تشده وتتمسك به :
ينطلق كقذيفة طائشة ، يخترق العدم ، يركب صهوة الريح ، صهوة الضوء ، صهوة الصوت ،كحصان شارد جامح بجناحين ، فيعدو ٠٠٠ يعدو ٠٠٠ يلتمس النجاة والسلامة ٠
هسيس الكلاب ، نباحها المكتوم ،حفيف الريح ,خشخشة الأعشاب , تكتكة قدميه :
أصوات نشاز مقلقة ،تمتزج برنين همسات ذلك الشيء في أذنيه ، همسات لم يميز منها شيئا !
يندفع مرعوبا ،ثقيل الخطو ، منهوك القوة، في قعر البيت ، يتهاوى كتلة لحم باردة ، لا أثر للحياة فيها ،تتلقفه أمه بين ذراعيها ، تسنده إلى ركبتيها ، وتصاب بنوبة صراخ : تولول ، تتف ، تردد تعويدات مبهمة ، تتلو آيات قرآنية ، لا تحفظ منها إلا النزر القليل :
-آ عيشة ! آ مولات المرجة !( أحجارك يشدوك) ٠
تبسبس وتكثر من البسبسة ، تعتقدها تطرد الأرواح الشريرة :
- بس ٠٠بس ٠٠بس ،لا هو من ثوبك ولا أنت من ثوبه ، فاخلعي نفسك منه !
تدس أصابعها بتوجس في جسده ، تبحث عن آثارمصة دموية لهذه المسعورة القاتلة !
يهذي ، يهلوس ، ويسقط في صرع مجنون :
- هي ،هي يا أماه ، عيشة مولات المرجة ، قنديشة ، لمست قفاي ، مازلت أشعر بحرارة جسدها الطري ، تغلق مسام جسدي ، وأنفاسها تعطرني ، كانت تداعب زغيبات صدغي ، تغازلني ، تتلذذ بي ، تعض حبة أذني ،تبوح لي بسرها، و تعترف لي بهيامها بي ، كانت تقول :
-يا حبييي إلبسني!
أنت وحدك لباسي !
يا حبيبي أسكن لي!
فأكون سكنا لك !
تتكور حبيبات العرق بلورية براقة، على جبينه الباهت ، تتدحرج ،ثم تندلق ماسحة جغرافية وجهه المتجعد ، و تستقر فائرة في حفيرة منحره ، تشتعل النار في جسده يتحول صفحة حديد ساخن!
تصرخ أمه ، تولول ، تستغيث بزوجته :
- الرجل يموت يا امرأة ، سيضيع منك ، مني ، ومن أولاده !
تقتحم زوجته الغرفة الكئيبة ، تجر جسدها ، منهكة خائرة القوة ، تسند ردفيها براحتيها ، ترتجف صفراء ، كورقة ميتة صفراء ، تفوح منها نتانة حليب ممزوجة بروائح براز صغيرها !
تحمل طستا نحاسيا ،مزينا برسوم قديمة، وفي يدها خرقة قماش أبيض و شيء من بخور (الجاوي ،بخور لالة مكة) تضع شمعة في شمعدان من فضة ، تسنده دعامة خشبية متهالكة ، تتوسط فناء الغرفة، تدغدغ فتيلتها بعود ثقاب ، تمتص شعلة الشمعة بعضا من العتمة ،و تحرر دموعها ،بحرقة تبكيه ، تعدد مناقبه ، كعاشقة نائحة !
تقرفص المسكينة ، تمررالخرقة على جبينه ، تمسح عرق الحمى المتصبب بغزارة ، ينتفض كطائر مذبوح ويصرخ :
-افتحوا النوافد ، أفسحوا الطريق للقادم يا غجر !
يتحجر سؤال حائر على شفتي أمه ، ويضيع في الفراغ :
-من القادم يا قرة عيني ؟ فقط رحمة الله هي القادمة إن شاء الله !
تقتلع زوجته ذاتها المتعبة ، تدفع نفسها أمامها فتتدافع، تتعثر ، تكاد تسقط ، تتمسك بالحائط ، وتشرع النوافد والباب ،فيحدث صريرا رهيبا ، تتسرب نسيمات باردة ، تراقص الستائر البالية ، يلمع نور حاد لمعان البرق ، فيمتص ضوء الشمعة !
رعشة كرعشة الموت تسري في أوصال أمه وزوجته ، و يتلاشى النور القادم شيئا فشيئا، تهدأ النسيمات ، وتعاود الشمعة نشاطها باكية نائحة !
يتسلل من باب الغرفة ، بخطى ثقيلة مسلوب الإرادة :
نائما /صاحيا ،حاضرا / غائبا ، حيا /ميتا ، مومياء محنطة متحركة !
تشرنق يرقة خبل وهبل في متاهات مخه المشلول، فيجن:
-أركض ،أركض ، إرحم نفسك ، أركض وراءها ، هي لك وأنت لها ، حل دمك الأحمرفي دمها الأخضر ،أنتما من الآن :
جسد واحد ، لا إنس ولا جن، أنتما من عبدة عشق قاتل ممنوع ، أركض، فالركض خلاصك من آدميتك!
ويمتطي صهوة عشقه المجنون، يحضنه فراغ ليل جاثوم :
تفقد أمه شبحه في تلافيف العتمة، يخرج لسانها عن طوعها ، و تشق سكون الليل صراخا وعويلا :
-ولدي ياناس ، ولدي ضاع مني ، آه يا ولدي ،يا للكافرة !
وتغيب في غيبوبة أشبه بالموت ، ينفلت من زوجته صوت متقطع ،كصياح دجاجة ، لم تكن تتقن الصراخ :
-وا زماني ٠٠٠ وا راجلي ٠٠ و ا أبو أولادي !
تسيل شعاب القرية بأضواء القناديل ، وكأنها نجوم السماء تتهاوى ، تمتزج وحشة المكان ،بحفيف النسيم وتكتكة النعال والأقدام الحافية فوق التراب والهشيم اليابس!
يشد الكبيرعكازته بقوة ويلوح بها في السماء :
-يا قوم ،الكونتيسة/ قنديشة تضعف أمام شعلة النار ، فالنار وقليل من الملح حكمة ، سلاح ضد سكان العالم السفلي !
-ومن أين لنا بنار الحكمة ،يا سيد القوم ؟
- عدو ا معي :خطوة ٠٠ خطوتان ٠٠ أحرقوا عمائمكم !
- عدوا معي : خطوة ٠٠خطوتان ٠٠ أحرقوا عمائمكم !
ينبرى أحدهم و بسؤال فيه نوع من مآخذة الكبير :
-لكن ما علاقة هذا بإحراق عمائمنا يا سيد ؟
-العمامة غطاء الرأس ،والرأس رأس الحكمة ، والكنتيسة تكره الحكمة ، تكره شعلة النار ، تكره بروميثيوس : شعلة ناره نور فيك، نور في ، نور فينا جميعا ،منذ قديم الزمان ، وغابر المكان !
من حين لآخر ، يومض ضوء كالشمس في عز النهار :
العمائم تلتهما النيران ، يقضم نورها من برنوس الليل :
في كل خطوة قضمة ،في كل عمامة تحرق كسر لصمت المرجة القاتل!
هم أهله و يعرفون حكايته حق المعرفة :
صريع حب مستحيل ،ولا وجهة له غير هذه المرجة الضحلة ويزيدها شغب تزاوج الضفادع وحشة ،تحفها سيقان السمار ! هي مربط ضحايا (الكونتيسة / قنديشة ) فيها تنصب فخاخ إغراءاتها المخملية !
تتشظى ألياف ضوء القمر،تتكسرفوق صفحة ماء المرجة يلوح جسده النحيل مركوزا ، مغروزا في الأرض ، يدور دورة لولبية كمروحية كهربائية ، يصدرعنه شخير غير عاد ،يقترب منه الأهالي بحذر شديد :
كتلة رغوة كزبد البحر ،تغطي وجهه تماما ، عيناه مفتوحتان مغروزتان في محجريهما ،يقترب منه كبيرهم:
- هاهي الكنتيسة ، تمتص رحيق نشوتها ، و لذتها من جسده الغض ،وتمارس عليه ساديتها ،فهو رجل ، وهي تكره الرجال ، منذ أول فتات في معدة البشر ، فأين زوجته ؟
تتقدم امرأة فرعاء رعناء شعثاء ، فيها رائحة غباوة، يربت الكبير ،على كتفها بلطف ، وقال بنبرة حزينة :
-هذه ضرتك ، ستشاركك فراش زوجك ، ولا رباط خيل لك ، فمعركتك ستكون خاسرة ،فهي غير متكافئة ،ماذا تودين قوله لها يا بنيتي ؟
تدحرجت دمعتان كبيرتان على خذيها، رفعت عينيها إلى السماء ، حتى كادت تكسر رقبتها وصاحت :
-أختاه في العشق ، والعشق جنون ،خذيه روحا ،واتركيه لي ولأولاده عظما ولحما ،يعز علي غيابه !
تبتلع ريقها و بريقها ، وتروح في نحيب مكتوم !
حمحمة حصان جامح ، تنهيدة ، وزفرة عظيمة ،تربت على رؤوس أشجار الدفلى ، تمسح مساحة المرجة طولا وعرضا !
فتهدأ حركته ، يسكن جسده ، ترتخي قبضتاه ، ويشد الرحال إلى عالم الأموات !
، يتلاعب الكبير بضفيرتها السوداء ، يقترب من أذنيها، يكاد يلامس مهوى قرطها ، وبصوت خافت :
- على سلامتك، وعلى سلامته ، سيعود إليك قبيل الخيوط الاولى من الفجر ، قضت منه وطرها ، وهي حال وأحوال ، عشاقة ملالة، فلا تقلقي يا ابنتي !
بقلم الأستاذ صالح هشام / المغرب !
الاربعاء / الخميس ٣~٤|٨~٢٠١٦
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق