الضحك على اللحى ...
قصة : مصطفى الحاج حسين .
قال لي أحدُ الشعراء الكبار ، ممّن يحتلّون مكانة مرموقة في خارطة الشعر العربي الحديث ، بعد أن شكوتُ له صعوبة النشر ، التي أُعانيها وزملائي الأدباء الشباب:
- هذا لأنّكم لا تفهمون قواعد اللعبة !! . قلت بدهشة :
- كيف !! .. علّمني .. أرجوك .
ابتسم شاعري الموقّر ، وأجاب :
- عليكَ أن تكتب دراسات نقديّة ، عن أولئك الذين يتحكمون ، بحكم وظائفهم ، في وسائل الإعلام ، فكلُّ المحررين ورؤسائهم ، في الأصل أدباء ، اكتب عنهم مادحاً ، وستُفتحُ لك أبوابُ النّشر على مصاريعها .
وقبل أن أعلّق على كلامه .. تابع يقول:
- عندي فكرة ، مارأيك أن تكتب دراسة عن مجموعة " قطار الماء " ، التي صدرت مؤخراً ، ألا تعرفُ " رمضان النايف " صاحب المجموعة ؟؟ هو رئيس تحرير " وادي عبقر " ، وهي تدفع " بالدولار " .
اقتنعت بالفكرة مكرهاً ، فأنا قاص . ماعلاقتي بالكتابة النقدية عن شعراء الحداثة !.
غادرت مقهى " الموعد " ، ودلفتُ إلى المكتبة المجاورة ، ولحسنِ الحظ لم أعان من البحث عن المجموعة كثيراً ، غير أنّي فوجئتُ بارتفاع ثمنها .
عندما أبصرت زوجتي المجموعة في يدي ، صاحت مستنكرة :
- ماذا تحمل ؟! .. هل عدتَ إلى شراءِ الكتب ؟ .
ابتسمتُ لعلّي أُخففُ من غلوائها ، فهي سريعة الغضب ، وسليطةُ اللسان ، تزوجتني بعد أن أعجبت بكتاباتي ، وأنا لا أنكرُ وقوفها إلى جانبي وتشجيعها لي في السّنة الأولى من زواجنا ... كانت توفّر لي الوقت الملائم للكتابة ، لكنها سرعان ماتغيرت بعد أن حطّ مولودنا الأول بعبئه على أعناقنا ، خاصةً وأنها كانت تُتَابعُ ما يصلني من ردود الدوريات العربية والمحلّية ، حاملة الكلمة ذاتها ، بالأسلوب ذاته :
- " نعتذر عن نشر قصّتك، لأنّها لا تنسجم وقواعد النشر في المجلة ، وفي الوقت عينه ،فإنّ هيئة التحرير ، ترحب بأية مساهمات أخرى ، تردها منكم .'
في البداية كانت " مديحة " تلومني لأنّي لا أجيد انتقاء القصة المناسبة لكل مجلة.. لكنها عندما وجدت أن هذه العبارة ،
تكررت على جميع قصصي المتنوعة الأغراض ، أيقنت أنّي كاتب غير موهوب ، ولهذا أخذت تطالبني بالبحث عن عمل إضافي ، بدلاً من تضيع الوقت في كتابة لا طائل منها ، فقدت إيمانها بموهبتي ، وراحت تعمل على قتل هذا الهوس الذي تملكني منذ الصغر .
وخلال فترة وجيزة ، تحوّلت " مديحة " إلى عدو للأدب ، فأخذت تسخر من كتاباتي ، وباتت تعيّرني بما يردني من اعتذارات ، وصارت تضيق بكتبي ، ومن الأمكنة التي تشغلها .
ذات يوم عدتُ لأجد جميع ما أملكه من كتب ، ومادبّجتهُ من قصص قد تكوّمَ على السقيفة ، إلى جانب المدفأة .
ولكي لا أفكر بالكتابة مرّة أخرى ، صمّمت على أن تبعدني عن أصدقائي الأدباء ، فسلّطت عليّ إخوتها ، لكي يرغموني على مشاركتهم في اللعب بورق الشدة ، وطاولة الزهر ، واستطاعت أن تجبرني ، على العمل مع أخيها سائق الأوتوبيس ، كمعاون له أجمع أجرة الركاب ، وأنادي بصوت عال خجول :
- جامعة .. سياحي .. سيف الدولة .
وهذا ماجعلها اليوم تدهش ، حين رأتني أدخل وبيدي المجموعة الشعرية ..
قلت لها :
- اسمعي يامديحة .. هذه المجموعة سوف تفتح لي آفاق النشر .
ذهلتُ .. لقد ضمّت المجموع
ة خمس قصائد ، وأطول قصيدة تتألّف من عدّة أسطر . وكلّ سطر يتكوّن من مفردة واحدة ، وقد يرافقها إشارة تعجّب أو استفهام ، أو بعض نقاط .ولكي أكون منصفاً عليّ أن أصف المجموعة بدقة .
بعد الغلاف الأول ، تجد على الورقة الأولى ، عنوان المجموعة ، واسم الشاعر . تقلب الصفحة . تطالعُك عبارة - جميع الحقوق محفوظة - تنتقل إلى الصفحة الثالثة فترى عنوان المجموعة مكرراً بشكل مجسّم ، تأتي إلى الرابعة ، فتقرأ : - صمم الغلاف الفنان العالمي " ديكاسو " وعلى الخامسة يبرز أمامك الاهداء - إلى أصحاب الكلمة الملساء - . وفي الصفحة السادسة ، تعثر على تنويه هام : - الرسوم الداخلية ، لوحات لفنانين عالميين .
وسوف تستوقفُك على الصفحة السابعة ، ملاحطة ضرورية جداً بالنسبة للنقاد :
- كتبت هذه القصائد مابين حصار بيروت ، وحرب الخليج الأولى .
في الصفحة الثامنة ، ستقع على مقدمة نقدية ، كتبها أحدُ النقادِ البارزين ، الذي يستطيع أن يرفعَ ويحطّ من قيمة أيّ أديب كان على وجه المعمورة ، استغرقت تسع صفحات . وعلى متن الصفحة السّابعة عشرة ، ستحطّ الرحال على مقدمة أخرى ، ولكن بقلم الشاعر نفسه ، يتحدّث فيها عن تجربته الشعرية الفريدة ، وعن ذكرياته الأليمة في المعتقل ، يوم تعثّر بإحدى الطاولات وحطّم ماعليها ، وهو في حالة سكر شديد ، مما دفع السّلطة التي لا تميز بين الفنان المبدع والإنسان العادي ، إلى زجه بالسجن ، مثله مثل باقي المجرمين . وكان عدد صغحات مقدمته ثلاث عشرة .
وهنا تنتقل إلى الصغحة التالية ، تقرأ عنوان القصيدة الأولى :
- طار القطار غوصاً -
بعد العنوان الذي انفرد بصفحة كاملة ، تقع على القصيدة التي تتألف من ست مفردات ، توزعت على ستة أسطر :
- (( حدقت / في / شهوتي !! / وقلتُ: /صباح الخير/ )) .
وتنتهي القصيدة .
ولأنّ القصيدة ، أو لأنّ معناها تافه وبذيء ، وجدتني أصرخ :
- مديحة .. أرجوك أريد قهوة .
وتصاعف غيظي أكثر ، حين تناهى إليّ صوت " مديحة " الساخر :
- حاضر يازوجي العزيز .. يامكتشف اللعبة والمفاتيح .
وحتى لا أشردَ عمّا كنتُ عازماً على تنفيذه ، عدتُ لأتابع قراءتي .
على صدر الصفحة الرابعة والثلاثين ، ستبصر لوحة فنية مغلقة ، مستعصية . وتتهادى إليك الصفحة الخامسة والثلاثون، حاملة معها .. عنوان القصيدة الثانية :
- تضاريس السّحاب -
ليطالعك الإهداء على الصفحة اللاحقة :
- (( مهداة .. إلى كلّ جندي على تخوم الهزبمة )) .
أما الصغحة السابعة والثلاثون ، فقد فخرت بحمل العنوان من جديد ، وبشكل فني مختلف ، وأسفل العنوان ، استلقت قصيدة طويلة :
- (( عواء / الليل / أرعب / أحرفي .. / أوقدت / أصابعي / للكتابة .. / و ... / فجأة / قفز / القلم / حين / اعتقلتني / أوراقي / . )) .
وبما أنّ القصيدة كانت مطولة ، احتلت ثلاثة عشر سطراً ، فقد اقتضى ذلك أن تمتد لتصل إلى الصفحة الأربعين .
وضعت " مديحة " فنجان القهوة ، على الطاولة التي نستخدمها لكل شيء ، وقالت:
- ألم تباشر بدراستك التي ستفتح علينا ليلة القدر ؟!
حاولت أن أكظم غيظي ، فأجبت :
- لم أنتهِ من قراءتها بعد ، لكنها تبدو لي مجموعة سخيفة .
تراجعت مديحة بعض الشيء :
- سخيفة أم جميلة .. أنت ماذا يهمك ؟.. المهم أن يفسحوا لك مجالاً للنشر .
- ولكنّي سأنافق يامديحة ، وأنا ..
وهنا قاطعتني بانفعال :
- أنت ماذا ؟.. أنا أعرف أنه لا يعجبك العجب ، مَن منَ الكتّاب يعجبك ؟ .. بما فيهم
أصدقاؤك !! .
ومن حسن الحظ ، صرخ ابننا ، بعد أن سمعنا ارتطام جسمه فوق أرض المطبخ ، وهذا ما أنقذني من لسان " مديحة " التي ركضت كمجنونة ، فعدت إلى المجموعة .
وسيراً على قوانين المجموعة ونظمها، ستركض الصفحة التالية بمثابة فسحة للتأمل في الفراغ الأبيض ، وقد توحي بمقص الرقابة التقليدي، في حين رفعت الصفحة الثالثة والأربعون عقيرتها ، لتعلن عن عنوان القصيدة الثالثة :
- خرير السّراب -
وتخرج إليكَ القصيدةُ ، في الصفحة الرابعة والأربعين :
منظومة على صفحة ونصف ، ممتدة على ثمانية أسطر :
- (( نافذتي / مغلقة / على / هواجسي، / وأنا / والنار / متشابهان / بجليدنا )) .
هنا نكون قد وصلت إلى الصفحة السادسة والأربعين ، وكما جرت العادة ، سترقص أمامك لوحة فنية جديدة ، وإلى جوار اللوحة ، على صدر الصفحة الأخرى ، كان عنوان القصيدة الرابعة:
- نحن أصل الفراغ -
أما القصيدة التي احتضنتها الصفحة الثامنة والأربعون ، فقد كانت مؤلفة من جملة واحدة ، توزعت على ثلاثة أسطر :
- (( حفيف .. / الشوق !! .. / الصامت ؟.)).
باغتني صوت مزمار الأوتوبيس ، فأدركت أن " هاشم " شقيق زرجتي جاء ليأخذني معه إلى العمل ، وسمعت صوت " مديحة " التي فتحت باب المنزل ، تنادي على أخيها أن ينزل من السيارة ، ويدخل ليتناول الغداء معنا ، لكنّ " هاشم " مستعجل ، لذلك طلب أن أخرج إليه ، دخلت
" مديحة " قائلة :
- ألم تسمع صوت " الزمور" ؟.. أجّل كتابة مقالتك إلى الليل .
ولأني لا أطيقُ هذا العمل وأخجل منه ، فأنا مدرس ، أصادفُ الكثيرين من طلابي ، وكم أعاني من العذاب والحياء حين آخذُ منهم الأجرة ، ولهذا وجدتها فرصة لأتنصل من العمل :
- لن أشتغل اليوم .. قولي " لهاشم " أن يأخذ
أخاك " صلاح " .
صاحت مديحة :
- إذا كنت لا تنوي الكتابة ، فلماذا لا تريد أن تشتغل ؟!.
قلت ، لكي أطمئنها بعض الشيء :
- حتى الآن لم أتخذ قراري برفض الكتابة .
يعني هل ستكتب ؟
أجبت وأنا كلّي حيرة :
- سأحاول .. سأحاول .
عدت إلى الديوان ، وجرياً على العادة تشاهد في الصفحة الخمسين ، لوحة فنية تتربع ، يليها العنوان العريض للقصيدة الخامسة والأخيرة :
- أهازيج الموت -
وخلف هذا العنوان ، على الصفحة الواحدة والخمسين ، إهداء حار :
- (( إلى لوزان وعينيها .. )) .
ثمّ تتبدّى القصيدة على الصفحة التالية :
- (( الصبح / أصبح / يا.. / رندة / والقلب !/
تثاءب !!/ بنشوى / ذكراك . )) .
وكما تلاحظ فقد احتلت القصيدة صفحة ونصف ، لأنّها توزعت على ثمانية أسطر .
على شغف محترق للوصول إلى الفهرس ، تقفز الصفحتان لتحتوياه .. ثم تنفردُ الصفحة السادسة والخمسون بخصوصيتها ، في عرض ما صدر للمؤلف .. وفي الصفحة التي تتبعُها ، كُتبت عناوين المجموعات التي تحتَ الطبع للمؤلف :
1 - الوردةُ القادمةُ من حتفها .
2 - أجهشت بشذاها المعطوب .
3 - وانكسرَ الأريجُ على جناحي فراشة .
4 - فاستفاقَ غبارُ الطّلع .
ولقد خُصصت الصفحة الثامنة والخمسون ، والتي بعدها ، من أجل التصويب الذي سقط سهواً .
تنتهي الصفحة الأخيرة من المجموعة ، بتقاريظ تحت عنوان :
- " مقتطفات ممّا سيكتب عن المجموعة "
(( لقد حلّق الشاعر " رمضان النايف " في مجموعته هذه ، إلى مافوق العالمية بعشرة أمتار وسبعة مليمترات . )) .
امرؤ التيس .. جريدة اللف والدوران .
- (( الحداثة عند رمضان النايف ، حداثةُ وعي ومغامرة ، ترتبط بالتراث التليد ، بقدر المسافة التي تبتعدُ عنه .)) .
مجلة : نواجذُ النقد .. المتخبّي .
ولأنّ الصفحة انتهت ، اضطرت دار النشر ، حرصاً منها على أهمية ما سيقال ، لكتابة التعليقين الآخرين ، على الغلاف الخارجي ، تحت صورة الشاعر الباسم :
- (( لقد أبصرتُ ، بعد عمىً طويل ، ذلك الزخم الفلسفي ، الذي يغلي ويبقبقُ في سطور المجموعة. )).
- أبو العلاء المغري .. في حوار له بعد عودته من بغداد .
- (( كلما قرأت رمضان النايف ، أشعر أنني مبتدئ في كتابة الشعر .)).
جريدة : صوت الكلمة الفارغة .. أبو الدعاس .
ولكي لا نقول عن دار النشر ، إنها نرجسية ، تحبّ المدح ، فهاهي تثبتُ نقداً حاداً ' لعباس محمود العياض " ، كتبه في مجلة الكلمة المشنوقة من أهدابها :
- (( في المجموعة ثمة نقص واضح للعيان ، فأين الصفحة التي تخصص عادة في كل الكتب ، وهي هامة للغاية، ألا وهي - صدر عن دار النشر . أرجو من دار النشر العظيمة الصيت أن تتلافى مثل هذا الخطأ القاتل.)).
عندما دخلت " مديحة ً ، وجدتني قد مزقت كل ماكتبته من قصص ، وقبل أن تستفيق من دهشتها ، خاطبتها :
- أنا مستعد أن أعمل مع " هاشم " مثل الحمار .
اقتربت " مديحة " مني ، لمحتُ حزناً في عينيها ، لمحتُ عطفاً ، حباً ، دمعاً ساخناً مثل دمعي ، مسّدت شعري ، ضمّت رأسي إليها ، أنهضتني من فوق كرسيّ ، مسحت دمعتي بباطن كفّها ، التقت نظراتنا ، اختلجت شفاهُنا ، تدانت ، وسرى فيها اللهب.
مصطفى الحاج حسين .
حلب ..
قصة : مصطفى الحاج حسين .
قال لي أحدُ الشعراء الكبار ، ممّن يحتلّون مكانة مرموقة في خارطة الشعر العربي الحديث ، بعد أن شكوتُ له صعوبة النشر ، التي أُعانيها وزملائي الأدباء الشباب:
- هذا لأنّكم لا تفهمون قواعد اللعبة !! . قلت بدهشة :
- كيف !! .. علّمني .. أرجوك .
ابتسم شاعري الموقّر ، وأجاب :
- عليكَ أن تكتب دراسات نقديّة ، عن أولئك الذين يتحكمون ، بحكم وظائفهم ، في وسائل الإعلام ، فكلُّ المحررين ورؤسائهم ، في الأصل أدباء ، اكتب عنهم مادحاً ، وستُفتحُ لك أبوابُ النّشر على مصاريعها .
وقبل أن أعلّق على كلامه .. تابع يقول:
- عندي فكرة ، مارأيك أن تكتب دراسة عن مجموعة " قطار الماء " ، التي صدرت مؤخراً ، ألا تعرفُ " رمضان النايف " صاحب المجموعة ؟؟ هو رئيس تحرير " وادي عبقر " ، وهي تدفع " بالدولار " .
اقتنعت بالفكرة مكرهاً ، فأنا قاص . ماعلاقتي بالكتابة النقدية عن شعراء الحداثة !.
غادرت مقهى " الموعد " ، ودلفتُ إلى المكتبة المجاورة ، ولحسنِ الحظ لم أعان من البحث عن المجموعة كثيراً ، غير أنّي فوجئتُ بارتفاع ثمنها .
عندما أبصرت زوجتي المجموعة في يدي ، صاحت مستنكرة :
- ماذا تحمل ؟! .. هل عدتَ إلى شراءِ الكتب ؟ .
ابتسمتُ لعلّي أُخففُ من غلوائها ، فهي سريعة الغضب ، وسليطةُ اللسان ، تزوجتني بعد أن أعجبت بكتاباتي ، وأنا لا أنكرُ وقوفها إلى جانبي وتشجيعها لي في السّنة الأولى من زواجنا ... كانت توفّر لي الوقت الملائم للكتابة ، لكنها سرعان ماتغيرت بعد أن حطّ مولودنا الأول بعبئه على أعناقنا ، خاصةً وأنها كانت تُتَابعُ ما يصلني من ردود الدوريات العربية والمحلّية ، حاملة الكلمة ذاتها ، بالأسلوب ذاته :
- " نعتذر عن نشر قصّتك، لأنّها لا تنسجم وقواعد النشر في المجلة ، وفي الوقت عينه ،فإنّ هيئة التحرير ، ترحب بأية مساهمات أخرى ، تردها منكم .'
في البداية كانت " مديحة " تلومني لأنّي لا أجيد انتقاء القصة المناسبة لكل مجلة.. لكنها عندما وجدت أن هذه العبارة ،
تكررت على جميع قصصي المتنوعة الأغراض ، أيقنت أنّي كاتب غير موهوب ، ولهذا أخذت تطالبني بالبحث عن عمل إضافي ، بدلاً من تضيع الوقت في كتابة لا طائل منها ، فقدت إيمانها بموهبتي ، وراحت تعمل على قتل هذا الهوس الذي تملكني منذ الصغر .
وخلال فترة وجيزة ، تحوّلت " مديحة " إلى عدو للأدب ، فأخذت تسخر من كتاباتي ، وباتت تعيّرني بما يردني من اعتذارات ، وصارت تضيق بكتبي ، ومن الأمكنة التي تشغلها .
ذات يوم عدتُ لأجد جميع ما أملكه من كتب ، ومادبّجتهُ من قصص قد تكوّمَ على السقيفة ، إلى جانب المدفأة .
ولكي لا أفكر بالكتابة مرّة أخرى ، صمّمت على أن تبعدني عن أصدقائي الأدباء ، فسلّطت عليّ إخوتها ، لكي يرغموني على مشاركتهم في اللعب بورق الشدة ، وطاولة الزهر ، واستطاعت أن تجبرني ، على العمل مع أخيها سائق الأوتوبيس ، كمعاون له أجمع أجرة الركاب ، وأنادي بصوت عال خجول :
- جامعة .. سياحي .. سيف الدولة .
وهذا ماجعلها اليوم تدهش ، حين رأتني أدخل وبيدي المجموعة الشعرية ..
قلت لها :
- اسمعي يامديحة .. هذه المجموعة سوف تفتح لي آفاق النشر .
ذهلتُ .. لقد ضمّت المجموع
ة خمس قصائد ، وأطول قصيدة تتألّف من عدّة أسطر . وكلّ سطر يتكوّن من مفردة واحدة ، وقد يرافقها إشارة تعجّب أو استفهام ، أو بعض نقاط .ولكي أكون منصفاً عليّ أن أصف المجموعة بدقة .
بعد الغلاف الأول ، تجد على الورقة الأولى ، عنوان المجموعة ، واسم الشاعر . تقلب الصفحة . تطالعُك عبارة - جميع الحقوق محفوظة - تنتقل إلى الصفحة الثالثة فترى عنوان المجموعة مكرراً بشكل مجسّم ، تأتي إلى الرابعة ، فتقرأ : - صمم الغلاف الفنان العالمي " ديكاسو " وعلى الخامسة يبرز أمامك الاهداء - إلى أصحاب الكلمة الملساء - . وفي الصفحة السادسة ، تعثر على تنويه هام : - الرسوم الداخلية ، لوحات لفنانين عالميين .
وسوف تستوقفُك على الصفحة السابعة ، ملاحطة ضرورية جداً بالنسبة للنقاد :
- كتبت هذه القصائد مابين حصار بيروت ، وحرب الخليج الأولى .
في الصفحة الثامنة ، ستقع على مقدمة نقدية ، كتبها أحدُ النقادِ البارزين ، الذي يستطيع أن يرفعَ ويحطّ من قيمة أيّ أديب كان على وجه المعمورة ، استغرقت تسع صفحات . وعلى متن الصفحة السّابعة عشرة ، ستحطّ الرحال على مقدمة أخرى ، ولكن بقلم الشاعر نفسه ، يتحدّث فيها عن تجربته الشعرية الفريدة ، وعن ذكرياته الأليمة في المعتقل ، يوم تعثّر بإحدى الطاولات وحطّم ماعليها ، وهو في حالة سكر شديد ، مما دفع السّلطة التي لا تميز بين الفنان المبدع والإنسان العادي ، إلى زجه بالسجن ، مثله مثل باقي المجرمين . وكان عدد صغحات مقدمته ثلاث عشرة .
وهنا تنتقل إلى الصغحة التالية ، تقرأ عنوان القصيدة الأولى :
- طار القطار غوصاً -
بعد العنوان الذي انفرد بصفحة كاملة ، تقع على القصيدة التي تتألف من ست مفردات ، توزعت على ستة أسطر :
- (( حدقت / في / شهوتي !! / وقلتُ: /صباح الخير/ )) .
وتنتهي القصيدة .
ولأنّ القصيدة ، أو لأنّ معناها تافه وبذيء ، وجدتني أصرخ :
- مديحة .. أرجوك أريد قهوة .
وتصاعف غيظي أكثر ، حين تناهى إليّ صوت " مديحة " الساخر :
- حاضر يازوجي العزيز .. يامكتشف اللعبة والمفاتيح .
وحتى لا أشردَ عمّا كنتُ عازماً على تنفيذه ، عدتُ لأتابع قراءتي .
على صدر الصفحة الرابعة والثلاثين ، ستبصر لوحة فنية مغلقة ، مستعصية . وتتهادى إليك الصفحة الخامسة والثلاثون، حاملة معها .. عنوان القصيدة الثانية :
- تضاريس السّحاب -
ليطالعك الإهداء على الصفحة اللاحقة :
- (( مهداة .. إلى كلّ جندي على تخوم الهزبمة )) .
أما الصغحة السابعة والثلاثون ، فقد فخرت بحمل العنوان من جديد ، وبشكل فني مختلف ، وأسفل العنوان ، استلقت قصيدة طويلة :
- (( عواء / الليل / أرعب / أحرفي .. / أوقدت / أصابعي / للكتابة .. / و ... / فجأة / قفز / القلم / حين / اعتقلتني / أوراقي / . )) .
وبما أنّ القصيدة كانت مطولة ، احتلت ثلاثة عشر سطراً ، فقد اقتضى ذلك أن تمتد لتصل إلى الصفحة الأربعين .
وضعت " مديحة " فنجان القهوة ، على الطاولة التي نستخدمها لكل شيء ، وقالت:
- ألم تباشر بدراستك التي ستفتح علينا ليلة القدر ؟!
حاولت أن أكظم غيظي ، فأجبت :
- لم أنتهِ من قراءتها بعد ، لكنها تبدو لي مجموعة سخيفة .
تراجعت مديحة بعض الشيء :
- سخيفة أم جميلة .. أنت ماذا يهمك ؟.. المهم أن يفسحوا لك مجالاً للنشر .
- ولكنّي سأنافق يامديحة ، وأنا ..
وهنا قاطعتني بانفعال :
- أنت ماذا ؟.. أنا أعرف أنه لا يعجبك العجب ، مَن منَ الكتّاب يعجبك ؟ .. بما فيهم
أصدقاؤك !! .
ومن حسن الحظ ، صرخ ابننا ، بعد أن سمعنا ارتطام جسمه فوق أرض المطبخ ، وهذا ما أنقذني من لسان " مديحة " التي ركضت كمجنونة ، فعدت إلى المجموعة .
وسيراً على قوانين المجموعة ونظمها، ستركض الصفحة التالية بمثابة فسحة للتأمل في الفراغ الأبيض ، وقد توحي بمقص الرقابة التقليدي، في حين رفعت الصفحة الثالثة والأربعون عقيرتها ، لتعلن عن عنوان القصيدة الثالثة :
- خرير السّراب -
وتخرج إليكَ القصيدةُ ، في الصفحة الرابعة والأربعين :
منظومة على صفحة ونصف ، ممتدة على ثمانية أسطر :
- (( نافذتي / مغلقة / على / هواجسي، / وأنا / والنار / متشابهان / بجليدنا )) .
هنا نكون قد وصلت إلى الصفحة السادسة والأربعين ، وكما جرت العادة ، سترقص أمامك لوحة فنية جديدة ، وإلى جوار اللوحة ، على صدر الصفحة الأخرى ، كان عنوان القصيدة الرابعة:
- نحن أصل الفراغ -
أما القصيدة التي احتضنتها الصفحة الثامنة والأربعون ، فقد كانت مؤلفة من جملة واحدة ، توزعت على ثلاثة أسطر :
- (( حفيف .. / الشوق !! .. / الصامت ؟.)).
باغتني صوت مزمار الأوتوبيس ، فأدركت أن " هاشم " شقيق زرجتي جاء ليأخذني معه إلى العمل ، وسمعت صوت " مديحة " التي فتحت باب المنزل ، تنادي على أخيها أن ينزل من السيارة ، ويدخل ليتناول الغداء معنا ، لكنّ " هاشم " مستعجل ، لذلك طلب أن أخرج إليه ، دخلت
" مديحة " قائلة :
- ألم تسمع صوت " الزمور" ؟.. أجّل كتابة مقالتك إلى الليل .
ولأني لا أطيقُ هذا العمل وأخجل منه ، فأنا مدرس ، أصادفُ الكثيرين من طلابي ، وكم أعاني من العذاب والحياء حين آخذُ منهم الأجرة ، ولهذا وجدتها فرصة لأتنصل من العمل :
- لن أشتغل اليوم .. قولي " لهاشم " أن يأخذ
أخاك " صلاح " .
صاحت مديحة :
- إذا كنت لا تنوي الكتابة ، فلماذا لا تريد أن تشتغل ؟!.
قلت ، لكي أطمئنها بعض الشيء :
- حتى الآن لم أتخذ قراري برفض الكتابة .
يعني هل ستكتب ؟
أجبت وأنا كلّي حيرة :
- سأحاول .. سأحاول .
عدت إلى الديوان ، وجرياً على العادة تشاهد في الصفحة الخمسين ، لوحة فنية تتربع ، يليها العنوان العريض للقصيدة الخامسة والأخيرة :
- أهازيج الموت -
وخلف هذا العنوان ، على الصفحة الواحدة والخمسين ، إهداء حار :
- (( إلى لوزان وعينيها .. )) .
ثمّ تتبدّى القصيدة على الصفحة التالية :
- (( الصبح / أصبح / يا.. / رندة / والقلب !/
تثاءب !!/ بنشوى / ذكراك . )) .
وكما تلاحظ فقد احتلت القصيدة صفحة ونصف ، لأنّها توزعت على ثمانية أسطر .
على شغف محترق للوصول إلى الفهرس ، تقفز الصفحتان لتحتوياه .. ثم تنفردُ الصفحة السادسة والخمسون بخصوصيتها ، في عرض ما صدر للمؤلف .. وفي الصفحة التي تتبعُها ، كُتبت عناوين المجموعات التي تحتَ الطبع للمؤلف :
1 - الوردةُ القادمةُ من حتفها .
2 - أجهشت بشذاها المعطوب .
3 - وانكسرَ الأريجُ على جناحي فراشة .
4 - فاستفاقَ غبارُ الطّلع .
ولقد خُصصت الصفحة الثامنة والخمسون ، والتي بعدها ، من أجل التصويب الذي سقط سهواً .
تنتهي الصفحة الأخيرة من المجموعة ، بتقاريظ تحت عنوان :
- " مقتطفات ممّا سيكتب عن المجموعة "
(( لقد حلّق الشاعر " رمضان النايف " في مجموعته هذه ، إلى مافوق العالمية بعشرة أمتار وسبعة مليمترات . )) .
امرؤ التيس .. جريدة اللف والدوران .
- (( الحداثة عند رمضان النايف ، حداثةُ وعي ومغامرة ، ترتبط بالتراث التليد ، بقدر المسافة التي تبتعدُ عنه .)) .
مجلة : نواجذُ النقد .. المتخبّي .
ولأنّ الصفحة انتهت ، اضطرت دار النشر ، حرصاً منها على أهمية ما سيقال ، لكتابة التعليقين الآخرين ، على الغلاف الخارجي ، تحت صورة الشاعر الباسم :
- (( لقد أبصرتُ ، بعد عمىً طويل ، ذلك الزخم الفلسفي ، الذي يغلي ويبقبقُ في سطور المجموعة. )).
- أبو العلاء المغري .. في حوار له بعد عودته من بغداد .
- (( كلما قرأت رمضان النايف ، أشعر أنني مبتدئ في كتابة الشعر .)).
جريدة : صوت الكلمة الفارغة .. أبو الدعاس .
ولكي لا نقول عن دار النشر ، إنها نرجسية ، تحبّ المدح ، فهاهي تثبتُ نقداً حاداً ' لعباس محمود العياض " ، كتبه في مجلة الكلمة المشنوقة من أهدابها :
- (( في المجموعة ثمة نقص واضح للعيان ، فأين الصفحة التي تخصص عادة في كل الكتب ، وهي هامة للغاية، ألا وهي - صدر عن دار النشر . أرجو من دار النشر العظيمة الصيت أن تتلافى مثل هذا الخطأ القاتل.)).
عندما دخلت " مديحة ً ، وجدتني قد مزقت كل ماكتبته من قصص ، وقبل أن تستفيق من دهشتها ، خاطبتها :
- أنا مستعد أن أعمل مع " هاشم " مثل الحمار .
اقتربت " مديحة " مني ، لمحتُ حزناً في عينيها ، لمحتُ عطفاً ، حباً ، دمعاً ساخناً مثل دمعي ، مسّدت شعري ، ضمّت رأسي إليها ، أنهضتني من فوق كرسيّ ، مسحت دمعتي بباطن كفّها ، التقت نظراتنا ، اختلجت شفاهُنا ، تدانت ، وسرى فيها اللهب.
مصطفى الحاج حسين .
حلب ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق