الثلاثاء، 25 يوليو 2017

قصة قصيرة / بقلم الاستاذ : صالح هشام // المغرب

قصة قصيرة :حافة الهاوية٠
بقلم الأستاذ : صالح هشام ٠
بلورتان زجاجيتان باردتان ،تمسحان جبيني المثلج ، المتصبب عرقا ، خلتهما في البداية : 
يدا ناعمة ألفتها ، أتحسسها براحتي ،لم تكن لا يد زوجتي ولايد أمي ولا يد أي أحد .
أشعر ببلل يجتاحني ، يتسلل باردا بين ضلوعي و منامتي، و ينحدر إلى أسفل سروالي ،أتمسك بالحائط ،أسنده ظهري ، تلتصق به يداي ، مرفوعتان إلى أعلى كمصلوب .أمرر يدي على ظهره،أحسه أملس ناعما ، يلتصق به زر كهرباء كقرادة ،أريد تشغيله ، أجده معطلا تماما ،أمعن في الالتصاق بالحائط و أتمسك به، أرشف منه رشفة أمن وأمان في سواد هذا الليل ٠
يضمني أكثر ، يكاد يعصر ضلوعي ،وبحنان يسلمني إلى الباب يدا بيد ،تختلط علي الأبواب، كلها تتشابه ،فقط تختلف في الفراغات ٠ لم أعد أعرف أ أنا على الخلفي أم على الأمامي ؟!
لايهم هذا ،ما يهمني هو أنه دفع بي إلى خارج البيت ، ساعدني على الخروج فخرجت بسلام ، أنحني على ركبتيى حد الركوع ، أكاد أقبل التراب ، أتحسس نتوءات الأرض ، أحبو ، أحبو ، أحبو : أرنب جائع يبحث عن عشب ،أو جزرة أو أي شئ يسد الرمق .
أ رفع هامتي/قامتي ، أجدني قشة يابسة في مهب ريح صرصر ، استقيم بصعوبة ، أجس نبض المكان ، أن أخطو خطوتي الأولى ،والثانية تأتي بعد نجاح الأولى. أضم يدي ، أخفيهما تحت ثيابي ، تحت إبطي ، أموت فرقا من العتمة ، يقولون : 
-ظلمة الليل تقطع اليد الشاردة عن صدر صاحبها .
أقيس موضع خطوتي الأولى ،أثبتها ،ثم أقيس الثانية ، أشعربالمسافة بينهما شاسعة: أنط فوق مدينة عملاقة دفعة واحدة · تفشل محاولاتي ،أبحث من جديد عن نقطة ضعف المكان ،تزل قدمي، وأعلق في الفراغ ، أستغيث ، أصرخ ،أطلب النجدة من لا شئ ·
أشعر بألم شديد من الكاحل إلى الحوض ، أخال وركي انتزع من مكانه ،أقول في نفسي:
-ربما أتسلق ظهر جبل صخري ،لكني لست ( عنكبوتا ) وحتى لو كنته ، لن أنجح في عبور هذه المتاهات : فمقصدي المنحدر ٠
أحدد هذه المرة موقعي من جغرافية التيه ، لن أخبط العشواء ،لدي أقدام بشرية و ليس أظلاف كائنات أسطورية ،وأقدامي تفتقر لمرونة كافية، يقولون:
في تاريخ الهذيان ، هناك أقوام لهم أظلاف ،لكنهم يتسلقون كالماعز ،ينطون كالغزلان ولا يعدون كالبشر ٠
-وما علاقتي أنا بهذا ؟ و لتكن لهم حتى الحوافر ! أظن أن نوبة هذيان تمكنت مني ! فمرماي المنحدر ،سأهبط ،سأنزل ،سأهوي ، بوصلتي تدلني على مقصدي ، لكن أظنها لم تكن دقيقة كفاية ، كانت صدئة ،يكذب حدسي، يخيب ظني . فأخطئ هدفي ،تزل قدماي ،لكمة قوية على قفاي ،أخرى على مؤخرتي ، تقذفني في هوة سحيقة ، قرارها العدم ، هوة لانهاية لها : إنها الهاوية ،لكن لماذا هذا الاسم ؟
الهاوية :من هوى ضاع، ومن ضاع ضاع ، لن يعود أبدا ٠ وأنا لن أعود من حيث أتيت، أسدل ستار عيني ، أطبق جفني ، ألصق الرمش على الرمش ، وأغيب في غيبوبتي ،ترتخي عضلاتي ،يدق قلبي بعنف ،و يدق ٠٠ يدق ٠٠يدق ، تخبو دقاته تضعف ، يكاد يسكن ، يتوقف ،ربما سأموت ٠
إني أهوي ،إني في طريقي إلى الهاوية ٠ أشعر أن كل عضو في جسمي يتخشب ربما سأمحى بعد دقائق سأزول تماما ،تغيب عيناي في محجريهما ،تتشابك أسناني، تصطك ،يجف ريقي،أبتلعه شوك زقوم في حلقي ، أحس شيئا ما يضغط على صدري يكاد يخنق في النفس ،أستغيث :
-جرعة ماء ، جرعة ماء ، أموت عطشا !
لا مجيب يجيبني ،تصطدم استغاثاتي بالفراغ ٠ أسلم روحي وجسدي للهاوية، أتركني أنساب بهدوء . تسرقني مني الهاوية، لم أقاوم، فجسدي لم يكن مني ،ولم أكن منه ، كنت مخذرا تماما :
انحدار الهاوية :جميل ، أتعود عليه ، أألفه ، فيروقني حد الانتشاء : تربته رطبة ناعمة ،جبل من زبد ،أغوص فيه ،أهبطه من قمته إلى سفحه ،لا أشعر بألم بين فخدي فأتلذذ بالهبوط : أهوي من سابع سماء إلى العدم ، إلى الفراغ ،لا شئ إلا الفراغ ، ومن يدري؟ فتفكيري محدود لا يتجاوز أصابع رجلي ٠
ربما تقذفني الهاوية ،في بحر من عسل ،شطآنه مخملية ذهبية ،أ و في جنة من جنان الخلد ،أما نهر الطمي فأستبعده تماما ، ما دمت أنزلق في هذا الزبد ،ولم أشعر بألم ،لم أحس بدوار ولا بغثيان ٠
هناك أرى ، أسمع ،لا أدري : فحواسي معطلة تماما ، ثمة حشود الناس يركضون كالجياد ، يركبهم الخوف : يتموجون كأسراب حيتان ،تهرب من قروش ،أسأل أحدالهاربين بتطفل :
-ما دهاكم يا قوم ؟ إنكم تعدون في كل الاتجاهات ،فأين سيكون ، مرساكم ومستقركم إن شاء الله؟
-يا ضيف ، يا ثقيل ! نحن لا أرض ،لا وطن، لا مستقرولا مرسى لنا ، نعدو كالمجانين ،في متاهات اللاشئ !
-وما لكم أنتم اتركوا من أراد أن يعدو أ و لا يعدو فذلك شأنه!
-أن نعدو عدوه ،أو نموت ،فنحن في الهاوية : فيها لا محالة في الهوى سوى ٠
كيف ذلك ؟ ما ذا تعني ؟
- هؤلاء الهاربون أصيبوا بمرض الخوف !
- الخوف ؟ ومماذا يخافون ؟
- من الخوف ، وننتصر عليه، بنظيره، بالخوف ، نحن أيضا أصابتنا عدوى الخوف: الخوف من أنفسنا ، من وجودنا وحتى من لاشيء .
نعدو جماعة ،فنتلف أثرنا ، ويحتمي بعضنا ببعض ،نحمي أجسادنا بأجساد غيرنا ،لا نترك للخوف مجالا ليحدد الطريدة ٠ نقتدي بالطير والحيوان والأسماك في تماسكها لقهر الخوف ٠ ألا ترى يا ضيف ، أسراب الطيور تحلق في الفضاء بالملايين ؟ تطير هنا ٠٠هناك ٠٠ جماعة ، تتلف تركيز الجوارح ، فتعجزعن تحديد الهدف ٠هذا هو سر الهروب الجماعي ،فقطعان الأبقار الوحشية تشتت انتباه الأسود ،فيفلت جسد بجسد ، وتنجو روح بروح، اتحاد نا في الخوف من الخوف هو سر استمرارية نسلنا وسلالتنا إلى الأبد ! هذا هو سرتجمع الأسراب : طيورا وحيوانا وأسماكا وحتى بشرا أو حجرا أو شجرا ٠
اعد، اعد ، اجر قرب أية جماعة وتظاهر بالخوف، فالكل سيجري و سيعدو وراءك بلا هوادة ٠ فالخوف يصيبهم بعدوى الخوف .
أشعربرغبة جامحة في العدو، في الهروب مع الهاربين من اللاشئ ، يهربون ، فأهرب ، يعدون فأعدو مع العدائين ، أجرب عدوهم ، أجدني أعدو في الإسمنت ،تغوص قدماي في الوحل ، أشعر بأنفاسي مكتومة ،وخطواتي ثقيلة ، ثقيلة ٠٠ أحاول العدو ، أجدني أجر جبلا ، فجسمي نحيل وعضلاتي مترهلة لا تقوى على جر جبل ،أريد اللحاق بركب الهاربين ، مسلوب الإرادة في الهاوية .
أستفيق من غيبوبتي ، أتصبب عرقا ، أرتجف كقشة ، أجدني وحدي أعدو ، وحدي أجري ،وحدي ألهث ،لا هاربين ولا عدائين ،لا أسراب طيور ولا أسراب أسماك ، ولا أسراب حيوان !
بقلم الأستاذ :صالح هشام 
الاثنين 13 أبريل 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق