بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة في دراسة الفرق الدينية اليهودية القديمة والمعاصرة
الباحث الدكتور عبدالوهاب محمد الجبوري
المقدمة
تقوم الديانة اليهودية ، حسبما يذكر اليهود أنفسهم ، على جملة أصول ، هي عقيدة توحيد الله ، وعقيدة الاختيار الإلهي لبني إسرائيل، وشعب الله المختار، وأبناء الله وأحباؤه ، وعقيدة توريث الأرض المقدسة فلسطين لإبراهيم عليه السلام ونسله من بني إسرائيل ، وعقيدة المخلص المنتظر أو المسيا أو الماشيح كما يسمونه ..
وحسب التيار اليهودي العام، وكما ذكر موسى بين ميمون، والذي يُعدُّ أحد أعظم علمائهم وفقهائهم، فإن اليهود يؤمنون بأن الله واحد ليس له مثيل، وأن العبادة تليق به وحده، وأنه مُنـزّه عن التجسيد وعن أعراض الجسد، وأنه الأول والآخر، وأنه عالمٌ بأحوال البشر، وأنه يجازي الذين يحفظون وصاياه ويعاقب من يخالفها، وأن هناك حياة بعد الموت ، وأن اليهود يؤمنون بشريعة موسى، وأنها غير قابلة للنسخ ..
كما يؤمنون بعقيدة المخلّص المنتظر، ولا تزال الأصول الثلاثة عشر للدين اليهودي، التي ذكرها موسى بن ميمون، تمثل مرجعاً أساسياً لليهود لفهم دينهم، غير أن دراسةً أكثر دقة لعقائد اليهود وفرقهم وتوراتهم وتلمودهم مع العودة إلى ما ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم في القرآن الكريم، ستظهر مدى التشويه الذي لحق بمفهوم التوحيد، ومدى تحريف التصور عن الله سبحانه، كما سنرى في دراستنا هذه لأهم العقائد الدينية اليهودية ، وفي دراسات أخرى لاحقة عن التوراة والتناخ ( العهد القديم ) وما لحق بهما من تحريف وتبديل بنص القران الكريم وأدلة أخرى ذكرها المفسرون المسلمون والمؤرخون اليهود والمسيحيون أنفسهم سنوردها في حينه إن شاء الله ، فضلا عن هذا ، فأن الله سبحانه لم يتعهد لليهود بحفظ توراتهم، وعاشوا معظم فترات تاريخهم تحت دول وحضارات مختلفة حاولت فرض هيمنتها عليهم، وتأثروا بالثقافات والتقاليد المتعددة التي عايشوها، في أزمان وبقاع شتى ..
ويدعي اليهود أن عقيدتهم هي عقيدة القلة المثالية المختارة، وأن الرسالة اليهودية العالمية هي نشر السلام بين بني الإنسان، وتنحصر العقيدة اليهودية في بني إسرائيل وحدهم، أي أن هناك تطابقاً بين العقيدة والقومية ، وحسب اختيار التيار العام لليهودية والمتبني في الكيان الإسرائيلي فإن اليهودي هو المولود لأم يهودية بغض النظر عن إيمانه أو تدينه ..
ولقد اخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن افتراق أمة اليهود، وأنهم سيفترقون على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وما زال هذا الافتراق حاصلا إلى عصرنا الحاضر، وإن كنا نراهم يحاولون الاجتماع في دولة غاصبة ، ولكن حقيــقة أمرهم أنهم مفــترقون، وصدق الله العظيم اذ يقول : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر آية 14) .. وفي قراءة متأنية لتاريخ الديانة اليهودية وعقائدها والأحداث التي مرت بها نقرأ عن فرق يهودية كثيرة قديمة ومعاصرة من ابرزها : الفريسيون ، الغيورون ، الصدوقيون ، الاسينيون ( او الاساة او المتقون ) ، البناءون ، المعالجون ( ثيرابيوتاي ) ، المغارية ، عبدة الاله الواحد ، القراءون ، الكــتبة ، السامريون ، القبّالاه ، العيسوية ، اليوذعانية ، الموشكانية ، الحسيدية ، الاصلاحيون ، اليهودية المحافظة ، اليهودية الارثوذوكسية ، اليهودية الليبرالية ، النيولوج ، الدونمة وفرقة اليهود البشرية ، وقبل أن نأتي على كل فرقة أو طائفة كي يكون العرب والمسلمون على بينة من الاتجاهات التي تنتمي إليها هذه الفرق ويكونون واعين بعدوهم المتربص بهم وعارفين بمدى ضعفه وتفرقه على حد سواء ، نشير إلى مسالة الخلافات بين الفرق الدينية اليهودية ..
الخلافات بين الفرق الدينية اليهودية و أزمة اليهودية
ظهر خلال تاريخ اليهود ، القديم والحديث ، الكثير من الفرق الدينية واختلافاتها المتشعبة من حيث المعتقدات والأصول وقدسية أجزاء العهد القديم والنظرة إلى الكون والتعامل في داخل المجتمع اليهودي وخارجه فهي في الواقع ليست كالاختلافات التي توجد بين الفرق المختلفة في الديانات التوحيدية الأخرى ، ومن ثم، فإن كلمة ( فرقة ) لا تحمل في اليهودية الدلالة نفسها التي تحملها في سياق ديني آخر، فلا يمكن، على سبيل المثال، تصوُّر مسلم يرفض النطق بالشهادتين ويُعترَف به مسلماً، أو مسيحي يرفض الإيمان بحادثة الصلب والقيام ويُعترَف به مسيحياً.. أما داخل اليهودية، فيمكن ألا يؤمن اليهودي بالإله ولا بالغيب ولا باليوم الآخر ويُعتبر مع هذا يهودياً حتى من منظور اليهودية نفسها ، وهذا يرجع إلى طبيعة اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تراكمياً يضم عناصر عديدة متناقضة متعايشة دون تمازج أو انصهار، ولذا، تجد كل فرقة جديدة داخل هذا التركيب من الآراء والحجج والسوابق ما يضفي شرعية على موقفها مهما يكن تطرفه .. وأولى الفرق اليهودية التي أدَّت إلى انقسام اليهودية فرقة السامريين التي ظلت أقلية معزولة بسبب قوة السلطة الدينية المركزية المتمثلة في الهيكل ثم السنهدرين .. ولكن، مع القرن الثاني قبل الميلاد، خاضت اليهودية أزمتها الحقيقية الأولى بسبب المواجهة مع الحضارة الهيلينية ، فظهر الصدوقيون والفريسيون، والغيورون الذين كانوا يُعَدون جناحاً متطرفاً من الفريسيين، ثم الأسينيون ..
وقد حققت هذه الفرق ذيوعاً، وأدَّت إلى انقسام اليهودية ، ولكنها اختفت لسببين: أولهما انتهاء العبادة القربانية بعد هدم الهيكل، ثم ظهور المسيحية التي حلت أزمة اليهودية في مواجهتها مع الهيلينية ، إذ طرحت رؤية جديدة للعهد يضم اليهود وغير اليهود ويحرر اليهود من نير التحريمات العديدة ومن جفاف العبادة القربانية وشكليتها..
وجابهت اليهودية أزمتها الكبرى الثانية حين تمت المواجهة مع الفكر الديني الإسلامي ، فظهرت اليهودية القرائية كنوع من رد الفعل، فرفضت الشريعة الشفوية وطرحت منهجاً للتفسير يعتمد على القياس والعقل، أي أنها انشقت عن اليهودية الحاخامية تماماً ، ويمكن أن نضيف إلى الفرق اليهودية يهود الفلاشاه ويهود الهند الذين لا يشكلون فرقاً بالمعنى الدقيق، فهم لم ينشقوا عن اليهودية الحاخامية بقدر ما انعزلوا عنها عبر التاريخ وتطوَّروا بشكل مستقل ومختلف، فهم لا يعرفون التلمود أو العبرية، كما أن كتبهم المقدَّسة مكتوبة باللغات المحلية ..
وتجدر ملاحظة أن ثمة فرقاً صغيرة، مثل الإبيونيين والمغارية والعيسوية والثيرابيوتاي وغيرها، وهي فرق صغيرة لكل منها تصوُّرها الخاص عن اليهودية، ولكنها، نظراً لعزلتها، لم تؤثر كثيراً في مسار اليهودية وقد اختفى معظمها من الوجود.. أما القرّاءون، فإنهم بعد عصرهم الذهبي في القرن العاشر، سقطوا في حرفية التفسير، الأمر الذي قلَّص نفوذهم حتى تحولوا إلى فرقة صغيرة آخذة في الاختفاء..
وقد جابهت اليهودية أزمتها الكبرى الثالثة في العصر الحديث (في الغرب) مع الانقلاب التجاري الرأسمالي الصناعي ، وقد ظهرت إرهـاصات الأزمـة في شـكل ثورة شبتاي تسفي على المؤسسة الحاخامية، فهو لم يهاجم التلمود وحسب، وإنما أبطل الشريعة نفسها، وأباح كل شيء لأتباعه، الأمر الذي يدل على أن تراث القبَّالاه الحلولي، الذي يعادل بين الإله والإنسان، كان قد هيمن على الوجدان الديني اليهودي، وقد وصف الحاخامات تصوُّر القبَّاليين للإله بأنه شرك ، وبعد أن أسلم شبتاي تسفي، هو وأتباعه الذين أصبحوا يُعرفون بالدونمة ظهر جيكوب فرانك الذي اعتنق المسيحية (هو وأتباعه) وحاول تطوير اليهودية من خلال أطر مسيحية كاثوليكية ، وقد تفاقمت الأزمة واحتدمت مع الثورة الفرنسية، حيث إن الدولة القومية الحديثة في الغرب منحت اليهود حقوقهم السياسية، وطلبت إليهم الانتماء السياسي الكامل، الأمر الذي كان يعني ضرورة تحديث اليهود واليهودية وما تسبب عن ذلك من أزمة أدَّت إلى تصدعات جعلت أتباع اليهودية الحاخامية التقليدية (أي اليهود الأرثوذكس) أقلية صغيرة، إذ ظهرت اليهودية الإصلاحية ثم المحافظة ثم التجديدية، وهي فرق أعادت تفسير الشريعة أو أهملتها تماماً، واعترفت بالتلمود أو وجدت أنه مجرد كتاب مهم دون أن يكون مُلزماً.. كما أنها عَدَّلت معظم الشعائر، مثل شعائر السبت والطعام، وأسـقطت بعضـها، وعَدَّلت أيضاً كتب الصلوات وشـكل الصلاة، أي أن فهمها لليهودية وممارستها لها يختلف بشكل جوهري عن اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية ، ومن الواضح أن هذه الفرق الجديدة هي الآخذة في الانتشار، في حين أن الأرثوذكس يعانون من الانحسار التدريجي ، ومنذ أيام الفيلسوف إسبينوزا، ظهر نوع جديد من اليهود لا يمكن أن نقول إنه فرقة ولكن لابد من تصنيفه حيث يشكل الأغلبية العظمى من يهود العالم (نحو 50%). وهذا النوع من اليهود هو الذي يترك عقيدته اليهودية، ولكنه لا يتبنى عقيدة جديدة، وهو لا يؤمن عادةً بإله على الإطلاق، وإن آمن بعقيدة ما فهو يؤمن بشكل من أشكال الدين الطبيعي أو دين العقل أو دين القلب، ولا يمارس أية طقوس ، وهؤلاء يُطلَق عليهم الآن اسم ( اليهود الإثنيون )، أي أنهم لا ينتمون إلى أي فرقة دينية تقليدية أو حديثة، ولكنهم مع هذا يسمون أنفسهم يهوداً لأنهم ولدوا لأم يهودية ، وتنعكس الخلافات بين الفرق اليهودية المختلفة على الدولة الصهيونية الأمر الذي يزيد صعوبة تعريف الهوية اليهودية ..
مما تقدم يؤكد تنوع الهويات اليهودية وعدم وجود هوية يهودية واحدة ، فهناك ثلاث جماعات يهودية أساسية ، يؤمن أعضاؤها باليهودية الحاخامية وهي: السفارد والإشكناز والإسرائيليون .. وتوجد عشرات من الجماعات الصغيرة الهامشية تؤمن بأشكال مختلفة من اليهودية بدرجات متفاوتة ، ورغم تنوع هويات أعضاء الجماعات اليهودية ، يدعى الصهاينة أن ثمة (وحدة يهودية عالمية) ، وهو تصور أبعد ما يكون عن واقع أعضاء الجماعات اليهودية وفرقها وطوائفها ، فمثلاً من الجماعات اليهودية الهامشية توجد أنواع أربعة في الهند ، لا تنتمي إلى أي من الكتل الثلاث الرئيسية ، كما أن جماعة يهود الصين تختلف عن جماعات الهند ، وفي القوقاز هناك يهود جورجيا ويهود بخارى ويهود الجبال ، وهناك ( اليهود السود ) ومنهم الفلاشا والعبرانيون السود ، والنوع الأول يعيش في إثيوبيا.. أما العبرانيون فيعيشون في أميركا .. وهناك أيضا جماعات سوداء يهودية في غرب أفريقيا، بالإضافة إلى اليهود المستعربة، الذين عاشوا في البلاد العربية وأصبحوا عربًا ، وهناك السامريون الذين يعيشون في نابلس الآن ، وهناك أيضا القراؤون ، والدونمة ، ويهود شبه جزيرة القرم واليهود الأكراد ، واليهود الإيرانيون وغيرهم كثير ، مما لا يمكن معه القول بوجود (وحدة يهودية عالمية )، حيث إن هؤلاء لا يختلفون عن أهل المناطق التي يعيشون فيها ، فاليهودي العربي مثلاً يتكلم العربية وهو جزء من الثقافة والحضارة والسلوك في المنطقة ، وهكذا .. فضلا عن ذلك فان الهوية اليهودية تنقسم إلى ثلاثة أقسام أساسية ، كما يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري ، خارج فلسطين المحتلة : وهي هوية ذات ملامح يهودية عرقية أو دينية ، والبعد اليهودي فيها هامشي باهت ، لا يؤثر كثيرًا في سلوك أعضاء الجماعات اليهودية ، وداخل فلسطين المحتلة: وهي هوية جديدة تمامًا لا علاقة لها بكل الهويات السابقة ، وهي جيل ( الصابرا ) , ويتنبأ الدارسون بأن هؤلاء ( الصابرا) (وهم الجيل الذي نشأ في فلسطين المحتلة ولم يأت من الخارج) سيكونون أغيارًا (هو الاسم الذي يطلقه اليهود على غيرهم) يتحدثون العبرية ، لا تربطهم بأعضاء الجماعات اليهودية في العالم سوى روابط واهية لا تختلف كثيرًا عن روابط اليونانيين المحدثين بالإغريق القدامى ، ثم هناك اليهود المتدينون (الأرثوذكس) ، وهم أقلية صغيرة خارج إسرائيل وأقلية كبيرة داخلها . . كل هذا التنوع وكل هذه الأزمات التي مرت بها اليهودية – وما تزال – يشكل تحديا جديا للتجمع الصهيوني داخل فلسطين وخارجها ، وقد تؤدي إلى زعزعته لكنها قد لا تؤدي إلى انهياره من الداخل ، لان المقومات الأساسية لحياة هذا التجمع ووجوده تعتمد أيضا على عنصرين مهمين جدا هما الدعم الأمريكي والغياب العربي ..
(*) من مقدمة كتاب عن( الفرق الدينية اليهودية القديمة والمعاصرة) قيد الانجاز
المراجع
1 . الدكتور عبدالوهاب المسيري ، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ، القاهرة 1999
2 . عبدالوهاب المسيري ، من هم اليهود ؟ وما هي اليهودية ؟ دار الشروق ، القاهرة ، الطبعة الأولى ..
3 . محمد بحر عبدالمجيد ، اليهودية ، مكتبة سعيد رأفت ، القاهرة ، 1978
4 . . الدكتور محمد عمر ، يهود الدونمة ، مؤسسة الدراسات التاريخية ..
5 . الدكتور جعفر هادي حسن ، الدونمة بين اليهودية والإسلام ، شركة دار الوراق ، لندن ، 2008 ، عرض نوافذ ..
6 . الندوة العالمية للشباب الإسلامي ، موقع صيد الفوائد ..
7 . دكتور حنان مصطفى أخميس ، يهود الدونمة ، موقع دنيا الوطن ..
8 . الإمام أبو محمد علي بن احمد بن حزم الظاهري ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ، وبهامشه الملل والنحل للإمام أبي الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني ، طبع على نفقة احمد ناجي الجمالي ومحمد أمين الخانجي وأخيه ، طبع في المطبعة الأدبية ، سوق الخضار القديم ، سنة 1320 هجرية ..
9 . دكتور محسن محمد صالح ، المشروع الصهيوني والكيان الإسرائيلي ، سلسلة دراسات منهجية في القضية الفلسطينية ، موقع المركز الفلسطيني للإعلام ..
منتديات واتا الحضارية / منتدى اللغة العبريةيهود
مقدمة في دراسة الفرق الدينية اليهودية القديمة والمعاصرة
الباحث الدكتور عبدالوهاب محمد الجبوري
المقدمة
تقوم الديانة اليهودية ، حسبما يذكر اليهود أنفسهم ، على جملة أصول ، هي عقيدة توحيد الله ، وعقيدة الاختيار الإلهي لبني إسرائيل، وشعب الله المختار، وأبناء الله وأحباؤه ، وعقيدة توريث الأرض المقدسة فلسطين لإبراهيم عليه السلام ونسله من بني إسرائيل ، وعقيدة المخلص المنتظر أو المسيا أو الماشيح كما يسمونه ..
وحسب التيار اليهودي العام، وكما ذكر موسى بين ميمون، والذي يُعدُّ أحد أعظم علمائهم وفقهائهم، فإن اليهود يؤمنون بأن الله واحد ليس له مثيل، وأن العبادة تليق به وحده، وأنه مُنـزّه عن التجسيد وعن أعراض الجسد، وأنه الأول والآخر، وأنه عالمٌ بأحوال البشر، وأنه يجازي الذين يحفظون وصاياه ويعاقب من يخالفها، وأن هناك حياة بعد الموت ، وأن اليهود يؤمنون بشريعة موسى، وأنها غير قابلة للنسخ ..
كما يؤمنون بعقيدة المخلّص المنتظر، ولا تزال الأصول الثلاثة عشر للدين اليهودي، التي ذكرها موسى بن ميمون، تمثل مرجعاً أساسياً لليهود لفهم دينهم، غير أن دراسةً أكثر دقة لعقائد اليهود وفرقهم وتوراتهم وتلمودهم مع العودة إلى ما ذكره الله سبحانه وتعالى عنهم في القرآن الكريم، ستظهر مدى التشويه الذي لحق بمفهوم التوحيد، ومدى تحريف التصور عن الله سبحانه، كما سنرى في دراستنا هذه لأهم العقائد الدينية اليهودية ، وفي دراسات أخرى لاحقة عن التوراة والتناخ ( العهد القديم ) وما لحق بهما من تحريف وتبديل بنص القران الكريم وأدلة أخرى ذكرها المفسرون المسلمون والمؤرخون اليهود والمسيحيون أنفسهم سنوردها في حينه إن شاء الله ، فضلا عن هذا ، فأن الله سبحانه لم يتعهد لليهود بحفظ توراتهم، وعاشوا معظم فترات تاريخهم تحت دول وحضارات مختلفة حاولت فرض هيمنتها عليهم، وتأثروا بالثقافات والتقاليد المتعددة التي عايشوها، في أزمان وبقاع شتى ..
ويدعي اليهود أن عقيدتهم هي عقيدة القلة المثالية المختارة، وأن الرسالة اليهودية العالمية هي نشر السلام بين بني الإنسان، وتنحصر العقيدة اليهودية في بني إسرائيل وحدهم، أي أن هناك تطابقاً بين العقيدة والقومية ، وحسب اختيار التيار العام لليهودية والمتبني في الكيان الإسرائيلي فإن اليهودي هو المولود لأم يهودية بغض النظر عن إيمانه أو تدينه ..
ولقد اخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن افتراق أمة اليهود، وأنهم سيفترقون على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وما زال هذا الافتراق حاصلا إلى عصرنا الحاضر، وإن كنا نراهم يحاولون الاجتماع في دولة غاصبة ، ولكن حقيــقة أمرهم أنهم مفــترقون، وصدق الله العظيم اذ يقول : (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر آية 14) .. وفي قراءة متأنية لتاريخ الديانة اليهودية وعقائدها والأحداث التي مرت بها نقرأ عن فرق يهودية كثيرة قديمة ومعاصرة من ابرزها : الفريسيون ، الغيورون ، الصدوقيون ، الاسينيون ( او الاساة او المتقون ) ، البناءون ، المعالجون ( ثيرابيوتاي ) ، المغارية ، عبدة الاله الواحد ، القراءون ، الكــتبة ، السامريون ، القبّالاه ، العيسوية ، اليوذعانية ، الموشكانية ، الحسيدية ، الاصلاحيون ، اليهودية المحافظة ، اليهودية الارثوذوكسية ، اليهودية الليبرالية ، النيولوج ، الدونمة وفرقة اليهود البشرية ، وقبل أن نأتي على كل فرقة أو طائفة كي يكون العرب والمسلمون على بينة من الاتجاهات التي تنتمي إليها هذه الفرق ويكونون واعين بعدوهم المتربص بهم وعارفين بمدى ضعفه وتفرقه على حد سواء ، نشير إلى مسالة الخلافات بين الفرق الدينية اليهودية ..
الخلافات بين الفرق الدينية اليهودية و أزمة اليهودية
ظهر خلال تاريخ اليهود ، القديم والحديث ، الكثير من الفرق الدينية واختلافاتها المتشعبة من حيث المعتقدات والأصول وقدسية أجزاء العهد القديم والنظرة إلى الكون والتعامل في داخل المجتمع اليهودي وخارجه فهي في الواقع ليست كالاختلافات التي توجد بين الفرق المختلفة في الديانات التوحيدية الأخرى ، ومن ثم، فإن كلمة ( فرقة ) لا تحمل في اليهودية الدلالة نفسها التي تحملها في سياق ديني آخر، فلا يمكن، على سبيل المثال، تصوُّر مسلم يرفض النطق بالشهادتين ويُعترَف به مسلماً، أو مسيحي يرفض الإيمان بحادثة الصلب والقيام ويُعترَف به مسيحياً.. أما داخل اليهودية، فيمكن ألا يؤمن اليهودي بالإله ولا بالغيب ولا باليوم الآخر ويُعتبر مع هذا يهودياً حتى من منظور اليهودية نفسها ، وهذا يرجع إلى طبيعة اليهودية بوصفها تركيباً جيولوجياً تراكمياً يضم عناصر عديدة متناقضة متعايشة دون تمازج أو انصهار، ولذا، تجد كل فرقة جديدة داخل هذا التركيب من الآراء والحجج والسوابق ما يضفي شرعية على موقفها مهما يكن تطرفه .. وأولى الفرق اليهودية التي أدَّت إلى انقسام اليهودية فرقة السامريين التي ظلت أقلية معزولة بسبب قوة السلطة الدينية المركزية المتمثلة في الهيكل ثم السنهدرين .. ولكن، مع القرن الثاني قبل الميلاد، خاضت اليهودية أزمتها الحقيقية الأولى بسبب المواجهة مع الحضارة الهيلينية ، فظهر الصدوقيون والفريسيون، والغيورون الذين كانوا يُعَدون جناحاً متطرفاً من الفريسيين، ثم الأسينيون ..
وقد حققت هذه الفرق ذيوعاً، وأدَّت إلى انقسام اليهودية ، ولكنها اختفت لسببين: أولهما انتهاء العبادة القربانية بعد هدم الهيكل، ثم ظهور المسيحية التي حلت أزمة اليهودية في مواجهتها مع الهيلينية ، إذ طرحت رؤية جديدة للعهد يضم اليهود وغير اليهود ويحرر اليهود من نير التحريمات العديدة ومن جفاف العبادة القربانية وشكليتها..
وجابهت اليهودية أزمتها الكبرى الثانية حين تمت المواجهة مع الفكر الديني الإسلامي ، فظهرت اليهودية القرائية كنوع من رد الفعل، فرفضت الشريعة الشفوية وطرحت منهجاً للتفسير يعتمد على القياس والعقل، أي أنها انشقت عن اليهودية الحاخامية تماماً ، ويمكن أن نضيف إلى الفرق اليهودية يهود الفلاشاه ويهود الهند الذين لا يشكلون فرقاً بالمعنى الدقيق، فهم لم ينشقوا عن اليهودية الحاخامية بقدر ما انعزلوا عنها عبر التاريخ وتطوَّروا بشكل مستقل ومختلف، فهم لا يعرفون التلمود أو العبرية، كما أن كتبهم المقدَّسة مكتوبة باللغات المحلية ..
وتجدر ملاحظة أن ثمة فرقاً صغيرة، مثل الإبيونيين والمغارية والعيسوية والثيرابيوتاي وغيرها، وهي فرق صغيرة لكل منها تصوُّرها الخاص عن اليهودية، ولكنها، نظراً لعزلتها، لم تؤثر كثيراً في مسار اليهودية وقد اختفى معظمها من الوجود.. أما القرّاءون، فإنهم بعد عصرهم الذهبي في القرن العاشر، سقطوا في حرفية التفسير، الأمر الذي قلَّص نفوذهم حتى تحولوا إلى فرقة صغيرة آخذة في الاختفاء..
وقد جابهت اليهودية أزمتها الكبرى الثالثة في العصر الحديث (في الغرب) مع الانقلاب التجاري الرأسمالي الصناعي ، وقد ظهرت إرهـاصات الأزمـة في شـكل ثورة شبتاي تسفي على المؤسسة الحاخامية، فهو لم يهاجم التلمود وحسب، وإنما أبطل الشريعة نفسها، وأباح كل شيء لأتباعه، الأمر الذي يدل على أن تراث القبَّالاه الحلولي، الذي يعادل بين الإله والإنسان، كان قد هيمن على الوجدان الديني اليهودي، وقد وصف الحاخامات تصوُّر القبَّاليين للإله بأنه شرك ، وبعد أن أسلم شبتاي تسفي، هو وأتباعه الذين أصبحوا يُعرفون بالدونمة ظهر جيكوب فرانك الذي اعتنق المسيحية (هو وأتباعه) وحاول تطوير اليهودية من خلال أطر مسيحية كاثوليكية ، وقد تفاقمت الأزمة واحتدمت مع الثورة الفرنسية، حيث إن الدولة القومية الحديثة في الغرب منحت اليهود حقوقهم السياسية، وطلبت إليهم الانتماء السياسي الكامل، الأمر الذي كان يعني ضرورة تحديث اليهود واليهودية وما تسبب عن ذلك من أزمة أدَّت إلى تصدعات جعلت أتباع اليهودية الحاخامية التقليدية (أي اليهود الأرثوذكس) أقلية صغيرة، إذ ظهرت اليهودية الإصلاحية ثم المحافظة ثم التجديدية، وهي فرق أعادت تفسير الشريعة أو أهملتها تماماً، واعترفت بالتلمود أو وجدت أنه مجرد كتاب مهم دون أن يكون مُلزماً.. كما أنها عَدَّلت معظم الشعائر، مثل شعائر السبت والطعام، وأسـقطت بعضـها، وعَدَّلت أيضاً كتب الصلوات وشـكل الصلاة، أي أن فهمها لليهودية وممارستها لها يختلف بشكل جوهري عن اليهودية الحاخامية الأرثوذكسية ، ومن الواضح أن هذه الفرق الجديدة هي الآخذة في الانتشار، في حين أن الأرثوذكس يعانون من الانحسار التدريجي ، ومنذ أيام الفيلسوف إسبينوزا، ظهر نوع جديد من اليهود لا يمكن أن نقول إنه فرقة ولكن لابد من تصنيفه حيث يشكل الأغلبية العظمى من يهود العالم (نحو 50%). وهذا النوع من اليهود هو الذي يترك عقيدته اليهودية، ولكنه لا يتبنى عقيدة جديدة، وهو لا يؤمن عادةً بإله على الإطلاق، وإن آمن بعقيدة ما فهو يؤمن بشكل من أشكال الدين الطبيعي أو دين العقل أو دين القلب، ولا يمارس أية طقوس ، وهؤلاء يُطلَق عليهم الآن اسم ( اليهود الإثنيون )، أي أنهم لا ينتمون إلى أي فرقة دينية تقليدية أو حديثة، ولكنهم مع هذا يسمون أنفسهم يهوداً لأنهم ولدوا لأم يهودية ، وتنعكس الخلافات بين الفرق اليهودية المختلفة على الدولة الصهيونية الأمر الذي يزيد صعوبة تعريف الهوية اليهودية ..
مما تقدم يؤكد تنوع الهويات اليهودية وعدم وجود هوية يهودية واحدة ، فهناك ثلاث جماعات يهودية أساسية ، يؤمن أعضاؤها باليهودية الحاخامية وهي: السفارد والإشكناز والإسرائيليون .. وتوجد عشرات من الجماعات الصغيرة الهامشية تؤمن بأشكال مختلفة من اليهودية بدرجات متفاوتة ، ورغم تنوع هويات أعضاء الجماعات اليهودية ، يدعى الصهاينة أن ثمة (وحدة يهودية عالمية) ، وهو تصور أبعد ما يكون عن واقع أعضاء الجماعات اليهودية وفرقها وطوائفها ، فمثلاً من الجماعات اليهودية الهامشية توجد أنواع أربعة في الهند ، لا تنتمي إلى أي من الكتل الثلاث الرئيسية ، كما أن جماعة يهود الصين تختلف عن جماعات الهند ، وفي القوقاز هناك يهود جورجيا ويهود بخارى ويهود الجبال ، وهناك ( اليهود السود ) ومنهم الفلاشا والعبرانيون السود ، والنوع الأول يعيش في إثيوبيا.. أما العبرانيون فيعيشون في أميركا .. وهناك أيضا جماعات سوداء يهودية في غرب أفريقيا، بالإضافة إلى اليهود المستعربة، الذين عاشوا في البلاد العربية وأصبحوا عربًا ، وهناك السامريون الذين يعيشون في نابلس الآن ، وهناك أيضا القراؤون ، والدونمة ، ويهود شبه جزيرة القرم واليهود الأكراد ، واليهود الإيرانيون وغيرهم كثير ، مما لا يمكن معه القول بوجود (وحدة يهودية عالمية )، حيث إن هؤلاء لا يختلفون عن أهل المناطق التي يعيشون فيها ، فاليهودي العربي مثلاً يتكلم العربية وهو جزء من الثقافة والحضارة والسلوك في المنطقة ، وهكذا .. فضلا عن ذلك فان الهوية اليهودية تنقسم إلى ثلاثة أقسام أساسية ، كما يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري ، خارج فلسطين المحتلة : وهي هوية ذات ملامح يهودية عرقية أو دينية ، والبعد اليهودي فيها هامشي باهت ، لا يؤثر كثيرًا في سلوك أعضاء الجماعات اليهودية ، وداخل فلسطين المحتلة: وهي هوية جديدة تمامًا لا علاقة لها بكل الهويات السابقة ، وهي جيل ( الصابرا ) , ويتنبأ الدارسون بأن هؤلاء ( الصابرا) (وهم الجيل الذي نشأ في فلسطين المحتلة ولم يأت من الخارج) سيكونون أغيارًا (هو الاسم الذي يطلقه اليهود على غيرهم) يتحدثون العبرية ، لا تربطهم بأعضاء الجماعات اليهودية في العالم سوى روابط واهية لا تختلف كثيرًا عن روابط اليونانيين المحدثين بالإغريق القدامى ، ثم هناك اليهود المتدينون (الأرثوذكس) ، وهم أقلية صغيرة خارج إسرائيل وأقلية كبيرة داخلها . . كل هذا التنوع وكل هذه الأزمات التي مرت بها اليهودية – وما تزال – يشكل تحديا جديا للتجمع الصهيوني داخل فلسطين وخارجها ، وقد تؤدي إلى زعزعته لكنها قد لا تؤدي إلى انهياره من الداخل ، لان المقومات الأساسية لحياة هذا التجمع ووجوده تعتمد أيضا على عنصرين مهمين جدا هما الدعم الأمريكي والغياب العربي ..
(*) من مقدمة كتاب عن( الفرق الدينية اليهودية القديمة والمعاصرة) قيد الانجاز
المراجع
1 . الدكتور عبدالوهاب المسيري ، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ، القاهرة 1999
2 . عبدالوهاب المسيري ، من هم اليهود ؟ وما هي اليهودية ؟ دار الشروق ، القاهرة ، الطبعة الأولى ..
3 . محمد بحر عبدالمجيد ، اليهودية ، مكتبة سعيد رأفت ، القاهرة ، 1978
4 . . الدكتور محمد عمر ، يهود الدونمة ، مؤسسة الدراسات التاريخية ..
5 . الدكتور جعفر هادي حسن ، الدونمة بين اليهودية والإسلام ، شركة دار الوراق ، لندن ، 2008 ، عرض نوافذ ..
6 . الندوة العالمية للشباب الإسلامي ، موقع صيد الفوائد ..
7 . دكتور حنان مصطفى أخميس ، يهود الدونمة ، موقع دنيا الوطن ..
8 . الإمام أبو محمد علي بن احمد بن حزم الظاهري ، الفصل في الملل والأهواء والنحل ، وبهامشه الملل والنحل للإمام أبي الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني ، طبع على نفقة احمد ناجي الجمالي ومحمد أمين الخانجي وأخيه ، طبع في المطبعة الأدبية ، سوق الخضار القديم ، سنة 1320 هجرية ..
9 . دكتور محسن محمد صالح ، المشروع الصهيوني والكيان الإسرائيلي ، سلسلة دراسات منهجية في القضية الفلسطينية ، موقع المركز الفلسطيني للإعلام ..
منتديات واتا الحضارية / منتدى اللغة العبريةيهود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق